قُرَّةُ عَيْنِ الأبَوَين في رِِعايَةِ و تَربيَّةِ البَنَاتِ و البَنِين ( الجزء الثّاني ) / نجيب جلواح

المؤلف

بسم الله الرحمن الرحيم

 

قُرَّةُ عَيْنِ الأبَوَين

في رِِعايَةِ و تَربيَّةِ البَنَاتِ و البَنِين

( الجزء الثّاني )
 


الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على نبينا محمد و على آله و صحبه أجمعين :


بعد الكلام المجمـل عن تربيّة الأولاد ورعايتهم ، و الذي سبق في الجزء الأوّل مِن مقال ” قرّة عين الأبوين ” ، ها أنا ذا ألتقي – مرّة أخـرى- بقرّائنا الكرام ، لبسْط القـول ، و تفصيل الكلام ، فيما يتعيّن علـى الوالدين أن يَعلموه و يُعلّموه أبناءهم ، و يُنشئوهم عليه ، فأقولُ – و بالله أستعين – :

أوّل ما يُعلَّم الصّبيّ العقيدة الصّحيحة :

على الآباء أن يغرسوا العقيدة الصّافية الخالصة في نفوس أبنائهم ، و يلقّنوهم كلمة التّوحيد مِن صغرهم , و يربّوهم على مراقبة الله و خوفه في السّرّ و العلانية ، و يُعْلموهم أنّه في السّماء ، و أنّه يسمع كلامهم ، ويرى مكانهم ، و يَعلم سرّهم و نجواهم ، إلى غير ذلك مِن أمور العقيدة الميسّرة ، التي تلائم سنّهم ، و تتناسب مع صغرهم ، و هذا ليتربّوا على معرفة الله و توحيده ، و حفظ حدوده ، فيلجأون إليه في الرّخاء و الشّدّة ، و يسألونه و يستعينون به ويتوكّلون عليه ، لأنّهم لُقِّنوا أنّه لا يملك لهم أحـدٌ – مِن الخلق- نفعاً و لا ضرّاً إلاّ بإذن الله ، و أنّ الله تعالى معهم ، ينصرهم و يؤيّدهـم ، و ييسّر لهم أمورهم ، ماداموا متمسّكين بشرع ربّهم – إخلاصاً و اتّباعاً – و يُستحسن تشويق الصّغار و تهيئتهم بلطف العبارة ، وتنبيههم إلى أهمّية ما يُلقى عليهم ، مع إشعارهم بسهوله حفظه وفهمه ووعيه ، ويكون ذلك بأسلوب مختصر ، و كلام جامـع و مُوجز و واضح ، ليكون أوقع في النّفس . و هذا الذي ركّز عليه لقمان الحكيم في موعظته لابنه ، إذْ بدأها بنهيه عن الشّرك – و هو أمرٌ بالتّوحيد – فقال : }يَا بُنَيَّ لاَ تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ { [ لقمان : 13 ] . و هو ما تجلّى و ظهر في وصيّة رسول الله صلّى الله عليه و سلم لابن عمّه عبد الله بن عبّاس ، و هو فتًى ، إذْ قال – رضي الله عنهما – : ” كنتُ خلف رسول الله صلّى الله عليه و سلم يوما ، فقال : ” يا غلام ! إنّي أعلّمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك إذا سألتَ فاسأل الله ، و إذا استعنتَ فاستعن بالله ، و اعلم أنّ الأمّة لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوك بشيء ، لم ينفعـوك إلاّ بشيء قد كتبه الله لك ، و لو اجتمعـوا على أنْ يضرّوك بشيء ، لم يضرّوك إلاّ بشيء قد كتبه الله عليك ، رُفعـت الأقلام ، و جفّت الصّحف “[1].


قال ابن قيّم الجوزيّة – رحمه الله- : ” فإذا كان وقت نطقهم فليُلقَّنوا ” لا إله إلاّ الله ، محمّد رسول الله ” ولْيَكن أوّل ما يقرع مسامعهم : معرفة الله – سبحانه – و توحيده ، و أنّه – سبحانه – فوق عرشه ، ينظر إليهم ، و يسمع كلامهم ، و هو معهم أينما كانوا “[2].


ولْيَكن تعليم الصّغار توحيد الله قبل أيّ علم آخر ، بل هو مقدّم على تعلّم كتاب الله تعالى ؛ فعن جُندُب بن عبد الله رضي الله عنه قال : ” كنّا غلمانا حزاوِرة [3]مـع رسول الله صلّى الله عليه و سلم فيعلّمنا الإيمان قبل القرآن ، ثمّ يعلّمنا القرآن ، فازددنا به إيمانـا . و إنّكم – اليوم – تعلّمون القرآن قبل الإيمان “[4].


و هذا هو المنهج الذي سار عليه سلف هذه الأمّة ، إذْ كانوا يهتمّون بعقائد أبنائهم ، و يعلّمونهم توحيد الله منذ الصّغر ؛ فعن جعفر عن أبيه قال : ” كان عليّ بن الحسين يعلّم ولده ، يقول : قل : آمنت بالله ، و كفرت بالطّاغوت ” [5].


و كانوا يحذّرونهم مِن مخالطة أهل البدع و الأهواء ، لِما في ذلك من العواقب الوخيمة، و الآثار السّيّئة على عقائدهم ؛ قال سعيد بن جبير رحمه الله : ” لأنْ يصحب ابني فاسقا شاطرا [6] سنّيّا ، أحبّ إليّ مِن أن يصحب عابدا مبتدعا “[7] .


وكانوا يختارون لهم المعلّم السّنيّ ، و المربّي الصّالح ، صاحب الاتّباع و الخُلق الحسن ، لينشأوا على إخلاص العبادة لله ، و متابعة رسوله صلّى الله عليه و سلم . و كانوا يحذّرون مِن وضعه في يد معلِّـم مبتدع ؛ لـ ” أنّ هذا العلم دِين ، فانظروا عمّن تأخذون دينكم “[8]. فكمْ مِن انحراف في الخُلق ، و فساد في الاعتقـاد ، وقع فيه الصّبيّ بسبب معلّمه ؟! ؛ قال أبو إسحـاق الجُبْنَيانيّ : ” لا تُعلّموا أولادكم إلاّ عند الرّجل الحسن الدّين ، فدِين الصّبيّ على دين معلّمه ” [9].

تعليم الطّفل القرآن :



حثّ الإسلام على تعلُّم كتاب الله تعالى و تعليمه ؛
قال رسـول الله صلّى الله عليه و سلم: ” خيركم مَن تعلّم القـرآن وعلّمه “[10].
و عن عمران بن يزيد : حدّثني عبد الله بن عيسى قال : ” لا تزال هذه الأمّة بخير ، ما تعلّم وِلدانها القرآن “[11].


و هذا يشمل التّعليم اللّفظيّ – تلاوةً و حفظاً – و المعنويّ – تفسيراً و شرحاً – كما يشمل الوالد بتعليمه ولده ؛ فعن أبي عبد الرّحمن قال:”حدّثنا مَن كان يُقرئنا مِن أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه و سلم أنّهم كانوا يَقترِئون مِن رسول الله صلّى الله عليه و سلم عشر آيات ، فلا يأخذون في العشر الأخرى حتّى يَعلموا ما في هذه مِن العلم و العمل ، قالوا : فعلِمنا العلم و العمل ” [12].


فإنْ عجز الوالد عن تعليم ولده القرآن ، أو شُغل عن ذلك ، وكّل مَن يقوم به – و لو بأجرة – فإنْ ترَك ذلك لشحّ ، قَبُح فعله .


و قد رتّب الشّرع على هذا التّعليم ثواباً و أجـراً ، لاسيما تعليم الوالد ولده ؛ فقال رسـول الله صلّى الله عليه و سلم :” مَن قرأ القرآن و تعلّمه و عمل به ، أُلبس يوم القيامة تاجاً مِن نور، ضَوؤه مثل ضوء الشّمس ، و يُكسى والداه حلّتين ، لا يقوم بهمـا الدّنيا ، فيقولان : بمَ كُسِينا ؟ فيقال : بأخذ ولدكما القرآن “[13].

و بهذا التّعليم أوصى السّلف ؛ فعن عمرو بن قَيْس السَّكونيّ ، قال : سمعتُ عبد الله بن عمرو بن العاص يقول :” عليكم بالقرآن فتعلّموه ، و علّموه أبناءكم ، فإنّكم عنه تُسألون ، و به تُجزون ، و كفى به واعظا لمن عقل “[14].


و عن أبي الضُّحى قال : قال الضّحّاك بن قَيْس : ” يا أيّها النّاس ! علّموا أولادكم و أهاليكم القرآن ، فإنّه مَن كتب الله عزّ و جلّ له مِن مسلم أنْ يدخل الجنّة إلاّ قيل له : اقرأ و ارتقِ في درج الجنّة ، حتّى ينتهي إلى علمه مِن القرآن “[15].


فكان مِن ذلك أنْ حَفظه صغارهم ، و استظهره فتيانهم ؛ فعن سعيد بن جبير قال : ” إنّ الذي تدعونه المفصّل هو المحكم . قال : و قال ابن عبّاس : ” توفّي رسول الله صلّى الله عليه و سلم و أنا ابن عشر سنين ، و قد قرأتُ المحكم “[16].


و عن ابن أبي مُلَيْكة قال : ” سمعتُ ابن عبّاس – رضي الله عنهما – يقـول : ” سَلوني عن سورة النّساء ، فإنّي قـرأتُ القرآن و أنا صغير “[17].

بل كان مِن أولئك الصّغار مَن يؤمّ الكبار – و هو ابن ستّ أو سبع سنين- لحفظه ، و هو عمرو بن سلمـة- رضي الله عنهما [18].

تعليم الطّفل العلم الشّرعيّ :



بعد أن يغرس الوالد في ابنه العقيدة الصّحيحة ، و يعلّمه القرآن ، ينتقل إلى تعليمه أركان الإسلام ، وما ينفعه مِن العلوم الشّرعيّة ، التي تقوده إلى العمل الصّالح ، فيتعلّم الطّفل أحكام الصّلاة و الصّيام و الحجّ و نحوها .


و لمّا كان للعلم الشّرعي أهميّة كبرى ، و مكانة رفيعة ، كافأ رسول الله صلّى الله عليه و سلم مَن خدمه بأنْ دعا الله له أن يفقّهه في الدّين ؛ فعن عبد الله بن عبّاس – رضي الله عنهما – : ” أنّ النّبيّ صلّى الله عليه و سلم دخل الخلاء ، فوضعتُ له وَضوءا ، قال : ” مَـن وضع هذا ؟ ” فأُخبِر ، فقال : ” اللّهمّ فقِّهه في الدِّين ” [19].


و على المعلّم أن يتدرّج مع الطّفل في تعليمـه ، و لا يُكثر عليه حتّى لا يملّ فيكلّ ؛ قال الشّافعيّ – رحمه الله- و هـو يُوصي أبا عبد الصّمد – مؤدِّب أولاد هارون الرّشيد – : ” … و لا تخرجنّهم مِن علم إلى غيره حتّى يُحكمـوه ، فإنّ ازدحام الكلام في السّمع مَضلّة للفهم ” [20].


و إذا أحسن المؤدّب تعليم الطّفل صغيرا ، حفظ العلم كبيرا ؛ قال مِسكين بن بَكْر : ” مرّ رجل بالأعمش و هو يحدّث ، فقال له : تحدّث هؤلاء الصّبيان ؟! فقال الأعمش : هؤلاء الصّبيان يحفظون عليك دينك “[21].


وعن عبد الله بن عُبيد بن عُمير قال : ” كان في هذا المكان – خَلْف الكعبة- حلْقة ، فمرّ عمرو بن العاص رضي الله عنهيطوف ، فلمّا قضى طوافه جاء إلى الحلْقـة ، فقال : ” مالي أراكم نحّيتم هؤلاء الغلمان عن مجلسكـم ؟ لا تفعلوا ، أوْسِعوا لهم ، و أدْنوهم ، و أفْهموهم الحديث ، فإنّهم اليوم صغار قوم ، و يوشكوا أنْ يكونوا كبار آخرين ، قد كنّا صغار قـوم ، ثمّ أصبحنا كبار آخرين “[22].


قال ابن مُفلح – معلّقا على كلام ابن العاص رضي الله عنه السّابق- : ” و هذا صحيح لا شكّ فيه ، و العلم في الصّغـر أثبت ، فينبغي الاعتناء بصغار الطّلبة ، لا سيما الأذكياء المتيقّظين الحريصين على أخذ العلم ، فلا ينبغي أنْ يجعل – على ذلك – صغرهم ، أو فقرهم و ضعفهم ، مانعا مِن مراعاتهم ، و الاعتناء بهم ” [23] .


و أمّا إذا أهمل الوالد تعليم ولده ما يجب عليه معرفته ، فهو عاصٍ ، لتفريطه في الواجب ؛ قال ابن قيّم الجوزيّة – رحمه الله – : ” وسمعتُ شيخنا – رحمه الله- يقول : تنازع أبوانِ صبيّا عند بعض الحكّام ، فخيّره بينهما ، فاختار أباه ، فقالت له أمّه : سلْه لأيّ شيء يختار أباه ؟ فسأله ، فقال : أمّي تبعثني كلّ يوم للكُتّاب ، و الفقيه يضربني ، و أبي يتركني للّعب مع الصّبيان ، فقضى به للأمّ ، قال : أنتِ أحقّ به . قال شيخنا : و إذا تَرك أحدُ الأبوين تعليم الصّبيّ ، و أمْـره الذي أوجبه الله عليه ، فهو عاصٍ ، و لا وِلاية له عليه ، بل كلُّ مَن لم يقم بالواجب في وِلايته فلا وِلاية له ، بل إمّا أنْ تُرفـع يدُه عن الوِلاية ، و يُقام مَن يفعل الواجب ، و إمّا أن يُضمّ إليه مَن يقومُ معه بالواجب ، إذْ المقصودُ طاعةُ الله ورسولـه بحسب الإِمكان ” [24].


أمْر الصّبيّ بالصّلاة :

على وليّ الطّفل أنْ يأمره بالصّلاة ، و يُعوّده عليها ، و هو مِن حقّ الولد على أبيه ؛ قال – جلّ شأنه- : ]وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصّلاَةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا [[ طه : 132 ] و هذا هو شأن المرسلين مع أهليهم ؛ قال الله تعالى – عن نبيّه إسماعيل عليه السلام – : ]وَ كَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصّلاَةِ وَ الزّكَـاةِ وَ كَانَ عِندَ رَبّهِ مَرْضِيّاً [[ مريم : 55 ] . و هو دأب الصّالحين مع أبنائهم ، فهذا لُقمان الحكيم يخاطب ابنه – وهو يعظه – قائلا : ]يَبُنَيّ أَقِمِ الصّلاَةَ [[ لقمان : 17 ] . و قد دعا خليل الله إبراهيم عليه السلام ربّه – سبحانه – فقال :]رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي [[ إبراهيم : 40 ] .


و قد أمر النّبيّ صلّى الله عليه و سلم أولياء أمور الصّغار بأن يعوّدوهم على الصّلاة في سنّ مبكّرة ، فهي أعظم رُكن مِن أركان الإسلام بعد الشّهادتين ؛


فعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه و سلم : ” مُروا أولادكم بالصّلاة وهم أبناء سبع سنين ، و اضربوهم عليها و هم أبناء عشر ، و فرّقوا بينهم في المضاجع “[25].


قال ابن حجر-رحمه الله- :” فإنّ الأولاد ليسوا بمكلّفين ، فلا يتّجه عليهم الوجوب ، وإنّما الطّلب مُتوجِّه على أوليائهم أنْ يُعلّموهم ذلك ، فهو مطلوب مِن الأولاد بهذه الطّريق ” [26].


لقد نبّه النّبيّ صلّى الله عليه و سلم – في هذا الحديث – على أمرين مهمّين ، في تربيّة الأولاد :
أوّلهما : غرس الصّلاة في الأولاد وهم صغار ، ليتعوّدوها كبارا ، ويتمرّنوا عليها ، ويستأنسوا بها ؛ وكون الغلام يُضرب عليها قبل البلوغ : دليل على إغلاظ العقوبة عليه إذا تركها متعمّدا بعد البلوغ .
الثّاني : غرس الفضيلة و العفّة فيهم ، ليبتعدوا عن الرّذائل ، و يجتنبوا الفواحش ؛ فعن عبد الله بن محمّد بن عبد الحميد قال : حدّثنا بَكْر بن محمّد قال : ” سئل أبو عبد الله : في كم يُؤمر الصّبيّ بالصّلاة ؟ فذكر الجواب ، قال : ويُفرَّق بينهم في المضاجع لعشر، الغلام عن الغلام، و الجارية عن الجارية ، قال : لأنّه يهيج لعشر ” [27] . هذا في الجنس الواحد ،


فكيف إذا كان بين الجنسين – الذّكور و الإناث – ؟لا شكّ أنّه أولى و أحرى .


قال عطيّة سالم – رحمه الله- : ” و قد وصّى صلّى الله عليه و سلم بتربية النّشء في البداية ، و قبل البلوغ عليها ، فقال : ( وذكر الحديث السّابق ثمّ قال ) : فيُعوّد الصّبيّ على الصّلاة ، مِن السّابعة إلى العاشرة ، ثلاث سنوات ، بالتّرغيب وبالتّرهيب ، وبإعطاء الحلوى و الهدايا ، و صُحْبته إلى المسجد ، ثلاث سنوات ، فإذا بلغ العاشرة ، فإنْ كان خيِّرا طيِّبا نقِيّا ، كان ذلك كافيا له في أن يرتاد المسجد وحده ، و إلاّ ضُرب ضَرْب تأديب ، لا ضرْب تشفٍّ ، فإذا رُوّض مِن السّابعة إلى العاشـرة ، ثمّ أُلزم و ضُرب مِن العاشرة إلى الخامسة عشرة ، فلا يجري القلم عليه إلاّ و قد أصبحت الصّلاة جزءاً مِن دمه و لحمـه . و ما جنى إنسان على ولده أكثر مِن ترك تعليمه الصّلاة . فعلى العبد أنْ يفعل ما في وُسعه ، والتّوفيق و الهدايـة مِن الله – سبحانه و تعالى – ” [28].


قال النّووي – رحمه الله- : ” قال الشّافعي في ” المختصر ” : ” و على الآباء و الأمّهات أن يُؤدّبوا أولادهم ، و يُعلّموهم الطّهـارة و الصّلاة ، و يضربوهم على ذلك إذا عقِلوا “، قال أصحابنا : و يأمـره الوليّ بحضور الصّلوات في الجماعة و بالسّواك ، و سائر الوظائف الدّينيّة ، و يُعرّفه تحريم الزّنا و اللّواط و الخمر و الكذب و الغيبة و شبهها ” [29].


كما أنّ على وليّ الطّفل أن يتعهّده و يسأل عنه : هل أدّى صلاته أم ضيّعها ؟ فإنْ كانت الأولى ، شجّعه ليَمضي قُدُما ، و إنْ كانت الأخرى ، ذكّره و حذّره و خوّفه ،كي لا يتعوّد تركها ، ولا يتهاون فيهـا ؛ فعن سعيد بن جبير عن ابـن عبّاس – رضي الله عنهما – قال : ” بِتّ عند خالتي مَيمونة ، فجاء رسول الله صلّى الله عليه و سلم بعدما أمسى فقال : ” أصلّى الغلام ؟” قالوا : نعم ، فاضطجع حتّى إذا مضى مِن اللّيل ما شاء الله ، قـام فتوضّأ ، ثمّ صلّى سبعا أو خمسا ، أوْتر بهنّ ، لم يسلّم إلاّ في آخرهن ” [30]. فأوّل شيء بدأ به النّبيّ صلّى الله عليه و سلم – بعد دخوله البيت- هو أنْ سأل أهله قائلا : ” أصلّى الغـلام ؟ “و في ذلك بيان لما أشرنا إليه .


و إذا علِم وليّ أمْر المسلمين بتهاون بعض الآباء في أداء هذا الواجب الشّرعي ، عاقبهم على ذلك كي لا يعودوا إلى مثله قال شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله – : ” … بل تارك الصّلاة شرّ مِـن السّارق و الزّاني و شارب الخمر و آكـل الحشيشة ، و يجب على كلّ مُطاع أنْ يأمر مَن يُطيعه بالصّلاة ، حتّى الصّغار الذين لم يبلغوا ، قال النّبيّ صلّى الله عليه و سلم : ” مُروهـم بالصّلاة لسبع ، و اضربوهم عليها لعشر ، و فرّقوا بينهم في المضاجع “.و مَن كان عنده صغير مملوك ، أو يتيم أوْ وَلد ، فلم يأمره بالصّلاة ، فإنّه يُعاقب الكبير إذا لم يأمـر الصّغير ، و يُعزّر الكبير على ذلك تعزيـرا بليغا ؛ لأنّه عصـى الله و رسوله “[31].


و لقد كان السّلف يحرصون على أمْر صغارهم بالصّلاة ، و يعاقبونهم على التّفريط فيها و إضاعتها ، و يؤدّبونهم علـى التّهاون فيها أو تأخيرها عن وقتها ، أو تفويتها عن الجماعة ؛ فعن سعيد بن عُفَير : حدّثني يعقوب عن أبيه أنّ عبد العزيز ابن مروان بعث ابنه عمر بن عبد العزيز إلى المدينة يتأدّب بهـا ، فكتب إلى صالح بن كَيْسان يتعاهـده ، فكان يلزمـه الصّلوات ، فأبطأ يوما عن الصّلاة ، فقال : ما حبسك ؟ قال : كانت مُرجّلتي تسكّن شعري ، فقـال : بلغ منك حبّك تسكين شعرك أن تُؤثره على الصّـلاة ؟! فكتب إلى عبد العزيز يذكر ذلك ، فبعث إليه عبد العزيز رسولا ، فلم يُكلّمه حتّى حلق شعره “[32].


و لا يَكتفي الوالد بأمْر صغيره بالصّلاة فحسب ، بل عليه أن يبيّن له أحكامها وكيفيتها ، و يُعلّمه كيف يتوضّأ ، وكيف يُصلّي كما كان رسول الله صلّى الله عليه و سلم يصلّي ، و لعلّ أحسن طريقة للوصول إلى تحقيق هذا التّعليم ، هـو أنْ يقوم الوالد نفسه فيصلّي أمام ولده ، فيتعلّمها الصّغير- قولا و فعلا – . و عليه أن يعوّده على أدائها بشروطها و أركانها وواجباتها ؛ قال ابن رجب الحنبلي : ” … و أمّا أنّ الصّبيّ ممنوعٌ مِن الصّلاة بدون الطّهارة ، فمتّفقٌ عليه ” [33].


وللوالد أنْ يُؤدّب ولده ، متى رأى منه إعراضا عن صلاته ، وله أن يضربه على تركها ضرب تأديب ، لا ضرب تعذيب هذا إنْ كان يعقل ، وإلاّ فلا ؛ قال ابن مُفلح : ” قال إسماعيل بن سعيد : سألتُ أحمد عمّا يجوز فيه ضرب الولد ؟ قال : الولد يُضرب على الأدب . قال : و سألتُ أحمد : هل يُضرب الصّبيّ على الصّلاة ؟ قال : إذا بلغ عشرا . وقال حنبل : إنّ أبا عبد الله قال : اليتيم يؤدَّب و يُضرب ضربا خفيفا . و قال الأثرم : سُئل أبو عبد الله عن ضرب المعلّم الصّبيان ؟ فقال : على قدْر ذنوبهم ، و يتوقّى بجهده الضّرب ، و إنْ كان صغيرا لا يعقل ، فلا يضربه “[34].



تمرين الصّبيان على الصّيام ، و تعويدهم عليه :



لا تجب الطّاعات والفرائض على الصّبيّ إلاّ عند بلوغه ، غير أنّ للوالدين أجرا إنْ درّبا صغارهما على العبادات ، ومرّناه عليها ، كالصّيام – مثلا – و ذلك ليعتادوه كبارا ، و يسهل عليهم أداؤه إذا كُلِّفوا به و لزمهم .


وقد كان السّلف يأمرون أولادهم بالصّيام إذا أطاقوه ، و يدرّبونهم عليه منذ نعومة أظفارهم ، و دور الأمّ في ذلك عظيم فلها أن تُلهي صغارها باللُّعب المباحة حتى يمسكوا عن الطّعام و ينشغلوا بها إلى غروب الشّمس ؛ فعن الرُّبيِّع بنت مُعوّذ قالت: ” أرسل النّبيّ صلّى الله عليه و سلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار: ” مَن أصبح مُفطرا فليُتمّ بقيّة يومه ومَن أصبح صائما فليصم ” قالت : فكنّا نَصومه بعد ، و نُصوِّم صِبياننا ، و نجعل لهم اللّعبة مِن العِهن [35] فإذا بكى أحدهم على الطّعـام أعطيناه ذاك،حتّى يكون عند الإفطار”[36].


وعن ابن جريـج و معمر عن هشام بن عـروة قال : ” كان أبي يأمر الصّبيان بالصّـلاة إذا عقلوهـا ، و الصّيام إذا أطاقوه ” [37].


و صلى الله على نبينا محمد و الحمد لله رب العالمين.


يتبع
____________

[1] رواه التّرمذيّ ( 2516 ) و هو في ” صحيح سُنن التّرمذيّ ” للألبانيّ ( 2043 ) .
[2] ” تٌحفة المودود بأحكام المولود ” ( ص : 231 ) .
[3] جمع حَزْور أو حَزَوَّر : و هو الغلام إذا اشتدّ و قوي و خدم . انظر : ” الصّحاح ” للجوهريّ ( 2 / 629 ) .
[4] أخرجه ابن ماجه ( 61 ) و البيهقيّ في ” الكبرى ” ( 5075 ) – و اللّفظ له – و هو في ” صحيح سُنن ابن ماجه ” للألبانيّ ( 52 ) .
[5] رواه ابن أبي شيبة في ” المصنّف ” ( 3518 ) .
[6] تُستعمل كلمة ” شاطر ” بمعنى : النّبيه و الذّكيّ و الماهر ، و هو خطأ ، و معناها الصّحيح الفصيح : هو الذي أعيى أهله و مؤدّبه خبثا . انظـر: ” كتاب العين ” للفراهيديّ ( 6 / 234 ) .
[7] رواه ابن بطّة في ” الإبانة الصّغرى ” ( ص : 89 ) .
[8] رواه مسلم في ” مقدّمة صحيحه ” ( 1/14 ) عن محمّد بن سيرين . و يُنسب إلىالإمام مالك بن أنس رحمه الله – أيضا- كما في ” أحاديث في ذمّ الكلام و أهله ” لأبي الفضل المقرىء ( 5 / 82 ) .
[9] انظر : ” ترتيب المدارك و تقريب المسالك ” للقاضي عياض ( 1 / 450 ) .
[10] أخرجه البخاريّ ( 5027 ) مِن حديث عثمان بن عفّان t .
[11] رواه ابن أبي الدّنيا في كتاب ” العيال ” ( 309 ) .
[12] أخرجه أحمد في ” المسند ” ( 22482 ) و قال شُعيب الأرنؤوط – في تعليقه على المسند – : ” إسناده حسن ، مِن أجل عطاء ” .
[13] أخرجه الحاكم ( 2086 ) عن بريدة t ، و هو في ” صحيح التّرغيب و التّرهيب ” للألبانيّ ( 1434 ) .
[14] رواه أبو عُبيد القاسم بن سلاّم في ” فضائل القرآن ” ( 12 ) .
[15] رواه سعيد بن منصور في ” سننه ” ( 10 ) .
[16] أخرجه البخاريّ ( 5035 ) [ باب تعليم الصّبيان القرآن ] . و اختُلف في كم كان سنّ ابن عبّاس رضي الله عنهما يوم مات النّبيّ صلّى الله عليه و سلم ؟ فقيل : عشر سنين – لهذا الأثر- و قيل : تُوفّي النّبيّ صلّى الله عليه و سلم و هو ابن خمس عشرة سنة ، وقيل : ثلاث عشرة . انظر لمعرفة الرّاجح مِن هذه الأقوال في ” فتح الباري ” لابن حجر ( 9/84) و ” عُمدة القاري شرح صحيح البخاريّ ” للعينيّ ( 2 / 70 ) .
[17] أخرجه الحاكم في ” المستدرك على الصّحيحين ” ( 3178 ) و قال : ” هذا حديث صحيح على شرط الشّيخين و لم يخرجاه ” و وافقه الذّهبيّ .
[18] انظر : الحديث رقم ( 4302 ) مِن ” صحيح البخاريّ ” .
[19] رواه البخاريّ ( 143 ) .
[20] رواه أبو نُعيم الأصبهانيّ في ” حلية الأولياء و طبقات الأصفياء ” ( 9 / 147 ) و الخطيب البغداديّ في ” تاريخ بغداد ” ( 3 / 187 ) .
[21] رواه الخطيب البغداديّ في ” شرف أصحاب الحديث ” ( ص : 134 )
[22] رواه البيهقي في ” المدخل إلى السّنن الكبرى ” ( 631 ) .
[23] ” الآداب الشّرعيّة ” ( 1 / 244 ) .
[24] ” زاد المعاد في هدي خير العباد ” ( 5 / 475 ) . و يعني ابنُ القيّم – رحمه الله – بقوله : ” و سمعتُ شيخنا ” : شيخ الإسلام ابن تيميّة – رحمه الله – .
[25] أخرجه أبو داود ( 495 ) و هو في ” صحيح سُنن أبي داود ” للألبانيّ ( 466 ) .
[26] ” فتح الباري ” ( 9 / 348 ) .
[27] انظر : ” أحكام النّساء ” لابن الجوزيّ ( ص : 81 ) .
[28] ” شرح الأربعين النّوويّة ” ( دروس صوتيّة مفرّغة ) .
[29] ” المجموع شرح المهذّب ” ( 3 / 11 ) .
[30] أخرجه أبو داود ( 1356) و هو في ” صحيح سُنن أبي داود ” للألبانيّ ( 1208 ) .
[31] ” مجموع الفتاوى ” ( 22 / 50 – 51 ) .
[32] رواه ابن عساكر في ” تاريخ دمشق ” ( 45 / 136 ) .
[33] ” فتح الباري ” ( 5 / 299 ) .
[34] ” الآداب الشّرعيّة ” ( 1 / 477 ) .
[35] هو الصُّوف – مُطلقا – . و قيل : الصُّوف المصبوغ . انظر : ” المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجّاج ” للنّوويّ ( 8 / 14 ) .
[36] أخرجه البخاريّ ( 1960 ) و مسلم ( 1136 ) .
[37] أخرجه عبد الرّزاق في ” المصنّف ” ( 7293 ) .