مسألة بيع العقار والشراء بثمنه شيئا آخر من غير جنسه / عبد الله سنيقرة

المؤلف عبد الله سنيقرة

 




مسألة بيع العقار والشراء بثمنه شيئا آخر من غير جنسه

 


الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:

 


قد كتب الله على كل بني آدم حظه من هذه الدنيا ومضى بذلك قدر الله قبل أن يخلق، وتجده مع هذا يتهافت على الدنيا ويجري وراء حطامها ولو على حساب دينه وأهله وأولاده لا يتورع من حلال ولا حرام، بل لا يفقه أصلا الحلال من الحرام في هذا الباب معاملات محرمة و تعاملات ربوية قد ألبست ألبسة مختلفة فالواجب على المسلم ممن سلك هذا السبيل أن يتفقه في أحكام البيع والشراء ويعرف الحلال من الحرام طلبا لمرضات ربه أولا وسببا في بركة تجارته ورزقه قال الله تعالى “ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب “.


ومما راج سوقه في هذه الأزمان المتأخرة حتى أصبح من أهم الأنشطة التجارية بيع الأراضي والعقار.


فقد ارتبط العقار بالإنسان منذ أن أوجده الله تعالى في هذه الأرض واستخلفه فيها قال تعالى لملائكته (إني جاعل في الأرض خليفة) قال ابن كثير رحمه الله أن المقصود بالخليفة ساكن وعامر يعمرها ويسكنها.
 

فالله تعالى سخر الأرض بما فيها لعباده ليعمروها مستخلفين فيها إلى حين قال تعالى “وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم…”


وفي هذا الباب يأتي ذكر مسألة خفية على كثير من الناس وهي مسألة بيع العقار الذي يملكه المرء ثم الشراء بثمنه شيئا آخر غير عقار لا لضرورة ولا حاجة، وقد ورد في هذه المسألة حديث روي من طرق عدة حتى عده السيوطي من المتواتر فيما نقله عنه المناوي, نحاول في هذا البحث جمع أقوال أهل العلم فيه إجلاء لهذه المسألة وتوضيحا لها، والله ولي التوفيق .
 

نص الحديث:
 

عن أبي عبيدة بن حذيفة عن أبيه حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “من باع داراً ولم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيها”.
 

عن عمرو بن حريث قال : حدثني أخي سعيد بن حريث رضي الله عنه : “قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم: “يقول من باع عقاراً كان قمناً أن لا يبارك له إلا أن يجعله في مثله أو غيره”.

الحديث روي من طرق عدة:


1ـ فقد روي من طريق حذيفة، رواه ابن ماجه ( 2491) والطيالسي ( 1 ــ 56 ) والبخاري في التاريخ (8 ــ 327 ).


2ـ ومن طريق سعيد بن حريث، أخرجه أحمد ( 4ـــ 307 ) وأبو يعلى ( 3 ـــ 42 ) والبيهقي (6 ـ 34).


3ـ ومن طريق معقل بن يسار، أخرجه الطبراني في الأوسط ( 8 ــ 236).


4ـ ومن طريق أبي ذر، رواه الطبراني في الأوسط ( 7 ــ 143).


5ـ ومن طريق سعيد بن زيد، أخرجه أحمد ( 1ـــ 190).


6ـ ومن طريق أبي أمامة أخرجه ابن عدي في الكامل ( 1ــــ 254).


وقد حسنه السخاوي في “الأجوبة المرضية” (264)، و الألباني رحمهما الله في “السلسلة الصحيحة” رقم (2327) (5, 427 )]
 

قال السخاوي رحمه الله تعالى: “ويمكن أن يدخل هنا ما رواه أبو يعلي في “مسنده” عن سعد بن هشام الأنصاري قال: قال سعد: طلقت امرأتي ثم قدمت المدينة ولي به عقار، فأردت أن أبيعه فأجعله في الكراع والسلاح ثم أجاهد الروم حتى أموت، فلقيني رهط من قومي فحدثوني أن رهطًا من قومه أرادوا ذلك على عهد النبي صلى الله عليه وسلم فنهاهم عن ذلك، وقال: “أليس لكم في أسوة حسنة؟ ” قالوا: بلى يا رسول الله!” [الأجوبة المرضية 264] والحديث في مسلم ( 1739 ).
 

والناظر في طرق الحديث يلحظ ذكر الدار تارة، والعقار تارة أخرى، والأرض كذلك، فما المراد بالدار والعقار والأرض؟ هل هما بمعنى واحد بحيث تتداخل معانيها أو لكل منهما معنى يدل عليه؟ لذلك سنبسط القول في معنى العقار حتى يتَّضح الفرق فيه مع غيره لأن في معرفة ذلك أثرا في فهم الحديث وبيان معناه.
 

تعريف العقار:
 

* لغة: الضيعة والنخل والأرض و نحو ذلك و يقال : ماله دار ولا عقار [لسان العرب 4ـ 567 / مختار الصحاح 187]
 

وقال الفيومي: “العقار كل ملك ثابت له أصل كالدار والنخل ” [المصباح المنير 2ـ 421 ]


وقد يطلق العقار في السنة ويراد به النخل كما في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ” لما قدم المهاجرون المدينة من مكة، وليس بأيديهم يعني شيئا وكانت الأنصار أهل الأرض والعقار فقاسمهم الأنصار …” [متفق عليه]
 

وقد يطلق ويراد به الدار كما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ” اشترى رجل من رجل عقارا له، فوجد الرجل الذي اشترى العقار في عقاره جرة فيها ذهب …. ” [متفق عليه] قال ابن حجر رحمه الله (والمراد به هنا الدار)
 

*اصطلاحا: اتفق عامة الفقهاء من أصحاب المذاهب على دخول الأرض في مسمى العقار وحصل الاختلاف فيما عدا الأرض من دور وغراس وغيرها هل تدخل في مسمى العقار؟
 

الحنفية والحنابلة: أن العقار لا يشمل سوى الأرض فقط وأن الغراس والبناء لا يدخلان في مسمى العقار بل يدخلان في ذلك تبعا للأرض فإذا انفصلا عليه فليس بعقار .
 

المالكية والشافعية: أن العقار يطلق على البناء والشجر كما يطلق على الأراضي .
 

ولعل القول الثاني أقرب ـ والله أعلم ـ لأمرين:


1ـ لأنه موافق لما جاء في السنة النبوية من التوسيع في معنى العقار والسياق هو الذي يوضح المعنى المراد .


2ـ لأنه الموافق للمعنى اللغوي الذي يوسع معنى العقار كما سبق بيانه في التعريف اللغوي .


ولعل هذا المراد في الحديث الذي نحن بصدده فيشمل العقار بالمعنى الواسع , خاصة وقد تنوعت الألفاظ في مجموع الروايات السابقة .


قال الملا علي قاري: “من باع منكم دارا أو عقارا وهو الضيعة أو كل مال له أصل من دار أو ضيعة ..” [مرقاة المفاتيح ـ 164 ]


وقال الطحاوي : “ومما قد كان ابن عيينة انتزع فيه أنه وجد الله عز وجل يقول: (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) ، يعني الأرض فكان من باع داراً أو عقاراً فقد باع ما بارك الله عز وجل فيه …) [ شرح مشكل الآثار 10ـ 101]


ـ ففي هذا الحديث يرشد النبي صلى الله عليه وسلم أمته إلى أن من باع دارا أو عقارا ولم يجعل ثمنه في مثله ـ من عقار أو دار ـ “فقمن” أي جدير وحري أن لا يبارك الله له فالبركة تنزع منها إذا بيعت وفرط في ثمنها وجعل في مكسب آخر غير العقار .


قال الملا علي قاري: “من باع منكم دارا أو عقارا وهو الضيعة أو كل مال له أصل من دار أو ضيعة كذا في المغرب فأو للتنويع قمن بفتح القاف وكسر الميم أي جدير وحقيق أن لا يبارك بفتح الراء أي لا يجعل البركة ثمن مبيعه له أي للبائع من غير ضرورة إلا أن يجعله أي ثمن مبيعه في مثله أي مثل ما ذكر من دار وعقار قال المظهر يعني ببيع الأراضي والدور وصرف ثمنها إلى المنقولات غير مستحب لأنها كثيرة المنافع قليلة الآفة لا يسرقها سارق ولا يلحقها غارة بخلاف المنقولات فالأولى أن لا تباع وإن باعها فالأولى صرف ثمنها إلى أرض أو دار ” [مرقاة المفاتيح ـ 164]
 

وقال المناوي: (من باع دارا ثم لم يجعل ثمنها في مثلها لم يبارك له فيها ) لأنها ثمن الدنيا المذمومة ، وقد خلق الله الأرض وجعلها مسكنا لعباده وخلق الثقلين ليعبدوه وجعل ما على الأرض زينة لهم { لنبلوهم أيهم أحسن عملا } فصارت فتنة لهم { إلا من رحم ربك } فعصمه وصارت سببا للمعاصي فنزعت البركة منها فإذا بيعت وجعل ثمنها متجرا لم يبارك له في ثمنها ولأنه خلاف تدبيره تعالى في جعل الأرض مهادا ، وأما إذا جعل ثمنها في مثلها فقد أبقى الأمر على تدبيره الذي هيأه له فيناله من البركة التي بارك فيها فالبركة مقرونة بتدبيره تعالى لخلقه .” [ فيض القدير رقم 8550 ]
 

وقال أبو عبدالله محمد بن الحكم الترمذي في كتابه [ نوادر الأصول 2 ـ 93 ]: (وإنما نزعت البركة من ثمن العقار، لأنه مخالف لتدبير الله تعالى، لأن الله خلق الأرض وجعلها مهادا ومسكنا لا ليتجر فيها، وجعل الجبال أوتادا وبارك فيها وقدر فيها أقواتها وجعل أثمان الأشياء في الذهب والفضة، فإذا اتجر فيما خلق له بورك له فيه وإذا اتجر فيما خلق مهادا ومسكنا نزعت عنه البركة، ولهذا سماه عقدة لأنه مهاد لك قد عقد مسكنا ولم تجعل متجرا)
 

وقال الطحاوي رحمه الله تعالى :”ومما قد كان ابن عيينة انتزع فيه أنه وجد الله عز وجل يقول : (وبارك فيها وقدر فيها أقواتها) ، يعني الأرض فكان من باع داراً أو عقاراً فقد باع ما بارك الله عز وجل فيه فعاقبه بأن جعل ما استبدله به يعني من ما سواه من الآدر والعمارات غير مبارك له فيه” [شرح مشكل الآثار 10ـ 99]
 

قال ابن عبد الهادي: “فينبغي للعاقل أن يحرص جهده في ترك بيع العقار مادام مستغنيا عن ثمنه ” [الاختيار في بيع العقار 17]
 

فإذا احتاج المرء إلى بيعه للاستفادة من ثمنه و ألجأته الحاجة والضرورة إلى ذلك فلا مانع فاعتبار الحاجة والضرورة في الأحكام أصل معتبر دلت عليه نصوص كثيرة من الكتاب والسنة .
 

قال الشيخ فركوس -حفظه الله ـ في فتوى له عن هذا الحديث ـ: “والظاهر أنَّ الحكم لا يلحق المضطرَّ لاختلاف الأحكام العادية والاضطرارية، والتجارة بجزءٍ من ثمنها عند الحاجة لا يدخل في الحكم مراعاةً لشرط الضرورة التي تقدَّر بقدرها، وقد جاء في معنى هذا الحكم حديثُ معقل بن يسار في قوله صَلَّى اللهُ عليه وآله وسلم: «مَنْ بَاعَ عقارا أو َدَارأ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ سَلَّطَ اللهُ عَلَى ثَمَنِهَا تَالِفًا يُتْلِفُهُ»، والحديث وإن ضعَّفه أهل العلم إلاَّ أنه يشهد للمضطرِّ عمومُ النصوص الشرعية الواردة في باب الضرورة ” [الموقع الرسمي للشيخ رقم 963]
 

قال ابن عبد الهادي : “وإذا دعت ضرورة إلى بيع العقار نظر في المصلحة في ذلك فإنه يباع لأمور متعددة وليس هو من الأمور المكروهة …” [ص 17] وذكر رحمه الله ـ ابن عبد الهادي ـ من ذلك قضاء الدين والحج الواجب والزواج والنفقة على النفس و العيال .
 

وكل الذي ذكرناه سابقا من أن بيع العقار بجعل ثمنه في عقار مثله هو من باب التوجيه والإرشاد كما سبق الإشارة إلى ذلك فمن المقرر عند أهل العلم أن الأمر والنهي إن تعلقا بتحصيل مصلحة دنيوية لا تعلق لهما بعبادة فهذا الأمر إرشادي، لا تكليف فيه، فلا ثواب و لا عقاب عليه.
 

قال أبو زرعة العراقي بعد ذكر حديث “لَا تَتْرُكُوا النَّارَ فِي بُيُوتِكُمْ حِينَ تَنَامُونَ» .فيه فَوَائِدُ:
 

(الثَّانِيَةُ) هَذَا النَّهْيُ لَيْسَ لِلتَّحْرِيمِ بَلْ وَلَا لِلْكَرَاهَةِ وَإِنَّمَا هُوَ لِلْإِرْشَادِ فَهُوَ كَالْأَمْرِ فِي قَوْله تَعَالَى {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} وَالْفَرْقُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا كَانَ لِلنَّدْبِ فِي الْفِعْلِ وَلِلْكَرَاهَةِ فِي التَّرْكِ أَنَّ ذَلِكَ لِمَصْلَحَةٍ دِينِيَّةٍ وَالْإِرْشَادَ يَرْجِعُ لِمَصْلَحَةٍ دُنْيَوِيَّةٍ [طرح التثريب 8/118]
 

ولأن القول بأنه يجب على من باع عقارا أن يجعله في مثله قول بعيد ولا قائل به فيما أعلم .
 

والناظر في واقع الناس اليوم يرى أثر من خالف هذا الأثر على الناس وذهاب بركة أرزاقهم وتجاراتهم فخسروا عقاراتهم ولم يبارك لهم في تجاراتهم خسروا الأمرين معا .


قال ابن عبد الهادي رحمه الله : “وهذا الأمر مستقر عند الناس , مشاهد لهم بالعقل , تنطق به ألسنتهم ,من يعرف الحديث ومن لم يعرفه , مجرب عندهم وقد جربته أنا أيضا و رأيت صحته ” [ص18]
وقال أيضا “و كثير من الجهال يبيع العقار ليتجر بثمنه, وقد رأيت ذلك من أسرعه ذهابا وانمحاقا ولا يقيم في أيديهم غالبا” [ ص 18]


قال ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق: “أخبرنا أبو الحسين بن الفراء وأبو غالب وأبو عبد الله ابنا البنا قالوا ثنا أبو جعفر بن المسلمة ثنا أبو طاهر المخلص نا أحمد بن سليمان نا الزبير بن بكار حدثني محمد بن الحسن عن إبراهيم بن محمد بن عبد العزيز عن أبيه قال : قال عبد الله بن أبي أحمد قدمت عند معاوية بثلاثمائة ألف دينار ثم أقمت سنة فحاسبت قوامي فوجدني أنفقت مائة ألف دينار ليس بيدي منها إلا رقيق وغنم وقصور وأثاث ففزعت من ذلك فزعاً شديداً إذ لقيت كعب الأحبار فذكرت ذلك له فقال أين أنت عن النخل فإنها تجدها في كتاب الله المطعمات في المحل الراسيات في الوحل وخير المال النخل بايعها ممحوق ومبتاعها مرزوق مثل من باعها ثم لم يحمل ثمنها في مثلها كمثل رماد على صفوان اشتدت به الريح في يوم عاصف ففزعت للنخل فابتعتها” [ 29 ـ 360 ]


فالعقار له بركة لا يدركها المتأخرون ممن ألفوا الربح السريع , فهو بركة للمرء في حياته وصمام أمان له عند الضيق والحرج وذخرا لأهله و أولاده من بعده ولعل في قصة الزبير بن العوام رضي الله عنه، في صحيح البخاري، ما يشهد لذلك “حيث توفي رضي الله عنه وعليه دين وكان قد ترك بعد وفاته دوراً في المدينة ومكة والبصرة والكوفة ومصر فبيعت من بعده؛ لسداد دينه، فأوفت دينه، ثم كان نصيب الواحدة من زوجاته، وكن أربعاً ألف ألف ومائتي ألف أي كان الثمن من تركته أربعة ملايين وثمانمائة ألف” [ البخاري 3129 ]


وعقب على ذلك ابن حجر في الفتح بقوله: وفيه بركة العقار والأرض لما فيه من النفع العاجل والآجل بغير كثير تعب ولا دخول في مكروه كاللغو الواقع في البيع والشراء . [فتح الباري 6 ـ 282]
 

وهذا من بركة العقار كذلك أنه تجارة رابحة لمن جعل ثمنه في مثله وسعي في تنمية ممتلكاته وتوسيعها وفق ما شرعه الله تعالى كما يدل عليه مفهوم الحديث مع الاستعانة به تعالى و التوكل عليه.
 

قال ابن عبد الهادي: “بل ينبغي للإنسان أن يتخذ العقار وما تحصل منه من ريعه جعله في عقار آخر فإن ذلك يكثر وينميه ويزيد في الرزق والخير الدنيوي والحديث يدل عليه .. وقد شاهدنا ذلك فقد كان عبد الهادي الأرموي يفعل ذلك فصار له به دنيا متسعة” [ ص18]
 

هذا ما تهيأ إعداده وتيسر إيراده من أقوال أهل العلم في هذا الحديث المبارك والله وحده هو الموفق وصلى الله على نبيا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين .

 

 

أبو أحمد عبد الله أزهر سنيقرة
ليلة الأحد 03 ـ 06 ـ 1437
الموافق لـ: 12 ـ 03 ـ 2016