مسألة التجنيس بقلم الشيخ أحمد بن الهاشمي عضو جمعية العلماء المسلمين

المؤلف

 

مسألة التجنيس بقلم الشيخ أحمد بن الهاشمي عضو جمعية العلماء المسلمين

 

 

﴿وَإِن تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾
[محمد:38]

***


جاء في العدد (78) من جريدة الأمة الغراء مقال تحت عنوان : ( زأرة من عرين([1])) ألَمَّ فيه الكاتب الغيور بمسألة التجنيس فاستفزني ما أصبح يهدد القطر من جراء هذا الخطر أن أضم صوتي لصوته آداءً لأمانة العلم و تبرئة للذمة من مسؤولية السكوت.

 

 


تزاحمت أقلام الكتاب في هذه السنين الأواخر على موضوع التجنيس بقدر ما تزاحمت المقتضيات و الدواعي المتنوعة على الترغيب فيه و اجتذاب الأهالي إليه . و لقد دخلت المسألة اليوم في طورٍ أصبح فيه من الفروض العينية على كل من عنده نصيب من الكتاب أن يقول كلمته و يظهر ما عنده ليكون الناس على بصيرة من أمرهم إزاء هذا الامتحان الذي امتحنهم به الدهر.


بصفة كوني أحد أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين أرى أن هذه الرابطة قاضية علي بوضع المسألة على البساط الديني المحض ، و إذا كان القرآن هو منبع الدين و المهيمن عليه فالشأن في كل بحث ديني أن تعرض نتائجه على أصول الكتاب و تعاليمه ليستصفى منها ما كان جديرا بالقول .
قال تعالى : ﴿ لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَذًى كَثِيرًا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ﴾[آل عمران:186]، أخبرت الآية منذ أربعة عشر قرنا أننا سنبلى في أموالنا و أنفسنا و نسمع أذى كثيرا ؛ و إن نصبر و نتقي إزاء هذا الابتلاء فالصبر و التقى من عزم الأمور و التجنيس ليس من الصبر.


و قال تعالى : ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾[الأحزاب:23]، و التجنيس تبديل اختياري و قال تعالى : ﴿وَيَتَّبِعْ([2]) غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾[النساء:115]، و سبيل المؤمنين الذي درجت عليه الأجيال على ممر القرون هو ما رسمه الله على لسان أنبيائه لا ما تخطه عوامل السياسة و ضرورياتها المادية.


نحن لا ننكر ما نحن فيه من أنواع المحن و ما يسد طريق المستقبل في وجوه أولادنا و لكن هذه المحن بلغت ما بلغت لا تخرج في اصطلاح القرآن عن كونها فتنة ، و الصبر على فتنة الناس أهون من التعرض لعذاب الله المشار إليه في قوله تعالى: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾[العنكبوت:10].


كما أننا إذا نظرنا إلى سنة التاريخ في مرآة القرآن و جدنا أن أمة بني إسرائيل يوم كانت في أنكى و أشد نكبتها لم يجعل الله نجاحها في الاندماج في أمة لا تدين بكتابها السماوي بل فتح الله باب النجدة في وجهها بسبب صبرها و تمسكها بما عندها من الآيات كما أفاده قوله تعالى : ﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلا تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيل (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ([3]) أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ﴾[السجدة:23-24]، و ينظر إليه قوله تعالى في سورة الأعراف : ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ﴾[الأعراف:137]، و الكلمة الحسنى هذا هو الوعد الذي وُعدوا به في قوله تعالى : ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً﴾[القصص:5] ، و التجنيس ليس من الصبر و لا هو مقتضى اليقين بآيات الله ذينك الوصفين الذين مدح الله بهما بني إسرائيل في آية السجدة المذكورة آنفا.
كما أن نبي الله موسى عليه السلام عند ما شكا إليه قومه ما كانوا فيه من سوء الحال لم يرشدهم إلى الاندماج في الأقباط و النزول على أحكامهم يرشدك إلى ذلك قوله تعالى : ﴿قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا﴾ [الأعراف:129]، غاية ما أجابهم به أن قال : ﴿قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾[الأعراف:128].


فتحصل من هذه العجالة أن دعاة التجنيس أينما توجهوا و أينما حلوا و ارتحلوا وجدوا الآيات المحكمة سادة لكل سبيل في وجوههم اللهم إلا سبيل الاختيار بين أحد الشقين و إحدى الشيعتين حتى لا يبقى للناس حجة على الله .


أيها الجزائري هذه أصول كتابك المنزل و ها طريق التجنيس قد عرفته ببعض من منوا بسلوكه و لا يدل على الطريق إلا من سلكه فاختر لنفسك ما يحلو.


أما صاحب هذه السطور فقد لوى رأسه تحت طي جناح الصبر و اختار الثبات على طريق أمة أعدتهم العناية الإلهية ليكونوا شهداء على الناس لا ليندمجوا في كل مظاهرة قوة تظاهر به الزمان على أن الأمة الفرنسية التي تولت أمر هذه البلاد أخذت على نفسها احترام دين سكان الوطن بل حتى عوائده ، فالطريق السوي الذي ننشده و لا نزال ندعو إليه سرا و جهرا هو إقامة ميزان العدل من الحكومة بين سائر العناصر بالقسط مع العدل في توزيع الواجبات و الحقوق و مراعاة الكرامة البشرية في شخصية سكان الوطن.


و من جهة أخرى لا ننسى أن الإسلام من حيث هو عقد بين العبد و ربه بنص قوله تعالى : ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا﴾[ المائدة:7] ، و إذا كان عهدا و ميثاقا فما عذر من تطوع له نفسه الخروج عن بعض شروط هذا الميثاق باختياره من غير أن يدفعه إلى ذلك دافع إكراه ؛ و نعني بالإكراه ، الإكراه الشرعي الذي يُسمى في عرف القرآن إكراها لا ما ينتحله كل أحد ، هذا و من ﴿نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَنُوتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[الفتح:10]([4]).

 

 

 

 

أبو العباس أحمد بن الهاشمي
أحد أعضاء جمعية العلماء الجزائريين
عن جريدة الأمة الغراء


=====

[1] : العَرِينُ : مأْوى الأسدِ والضَّبُع والذَّئبِ والحيَّةِ ، جمع : عرن.
[2] : في الأصل : ( و من يتبع غير …).
[3] : في الأصل : ( و جعلناهم أئمة …).
[4] : البصائر : السنة الأولى : شوال 1354- شوال 1355 هـ . ديسمبر 1935 – جانفي 1936م. العدد : (32) ، الصفحة: (5).