الترغيب في اغتنام العشر الأواخر

الشَّيخ: الشَّيخ: أزهر سنيقرة حفظه الله

الملفات الصَّوتية:
الملف الصَّوتي
تحميل
الترغيب في اغتنام العشر الأواخر
التفريغات:
اسم الملف
تحميل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُون}

{يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}

{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)}

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

نحمد الله تبارك وتعالى أولا وآخرا على ما يسَّره لنا في هذه الأيام المباركات والأوقات الفاضلات من التّواصي بالحق والتّواصي بالصبر، كما أمرنا ربنا جل في علاه، ولا شكَّ أنَّ من أجَلِّ أنواع التواصي الحثَّ على الخير وتنبيهَ بعضنا لبعض فيه، وحثَّنا لإخواننا وأخواتنا عليه في هذا الشهر المبارك وفي هذه الأيام الأخيرة منه، ونحن على استقبال أفضله وآخره وهي العشر الأواخر من رمضان، هذه الأواخر التي وافقت هذا الشهر الذي كله خير وبركات، بل إن الله تبارك وتعالى ونبيه عليه الصلاة والسلام قد وصفوه بهذه الصفة الطيبة، فهو شهر مبارك بجميع لياليه، خاصة الليلة العظمى التي قال فيها ربنا تبارك وتعالى: {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْر (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر (2)} تعظيما لمنزلتها ورفعا لقدرها، فهي الليلة التي خصها الله جل وعلا بأعظم خير في هذه الأمة وهو إنزال القرآن الكريم على قلب نبيّه الأمين عليه الصلاة والسلام، فهذه العشر جمعت أجلَّ فضائلِ هذا الشهر، جمعت ليلةَ إنزال القرآن وهي ليلة القدر، {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ}  وصفها الله جل وعلا بهذا الوصف لما فيها من الخير ومن البركات، والتي قال نبينا ﷺ في فضلها وعظيم عطائها وجزيل أجرها: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فهي حقا كما وصفها رب العزة والجلال:  {وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْر}.

فإذا كان حرصنا على تحصيل فضائل هذا الشهر المبارك، فحِرصُنا يشتدُّ أو ينبغي أن يشتدَّ في آخره؛ لأنَّ العبرة بالخواتيم، والعاملُ إذا كان مُخلصا في عمله سائرا على درب نبيّه ﷺ لا يتوانى ولا يفشل في سَيْرِه؛ لأنَّ هذا السَّيرَ لا يُدانيه سيرٌ على الإطلاق، سير إلى الله والدار الآخرة كما قال الشيخ السعدي رحمة الله تبارك وتعالى عليه، وشرط قَبول الأعمال كلِّها عند ربنا تبارك وتعالى هو أنْ يكون خالصا لوجهه الكريم جل في علاه، وأنْ يسير فيه العاملُ على وفق سنة نبيه ﷺ.

فهذا شهر الاجتهاد والعبادة، وينبغي أن نوافق في سيرنا واجتهادنا وعبادتنا لربنا تبارك وتعالى في هذا الشهر وفي سائر الشهور والأيام والأعوام على وفق هدي نبينا ﷺ، فنبينا ﷺ كان سيرُه وكانت عبادتُه وكان عطاؤُه في هذا الشهر متميّزا بكلِّ ما تحمله هذه الكلمة من المعاني، سواء في صلاته وخاصة في قيامه، سواء في صيامه، سواء في تعاهده لغيره وعلى رأسهم الفقراء والمساكين، سواء في عطائه وإحسانه كما وصفه ابن عباس رضي الله عنهما: «كان رسول الله ﷺ أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن فلرسول الله ﷺ أجود بالخيل من الريح المرسلة»، هل مثل هذا الوصف الكريم ينطبق على غير هذا النبي الذي اجتباه الله تبارك وتعالى وقرَّبه ورفع قدره ومنزلته والذي قال في وصفه: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِين} جمع بين حُسن العبادة وصِدْقِ الرحمة للناس جميعا وبأتباعه خاصة، وبأصحابه الذين هم قدوة الناس من بعده، حيث يقوم وقام بإخوانه في بعض ليالي هذا الشهر قياما عجيبا حتى قام بهم في آخر ليلة من هذه الليالي القلائل، حيث قال: «من شهد هذا القيام أو شهد هذه الصلاة» التي هي دليل سنة صلاة التراويح، قال: «قام بنا حتى خشينا ألا ندرك الفلاح»، أي: لا يدركون السحور لطول قيامه وحسنه وبهائه وإخباته لربه تبارك وتعالى فيه، هذه صفة قيامه، ثم غاب عنهم بعد ذلك، فلما سألوه قال: «خشيت أن تفرض عليكم»، أي: تفرض عليكم هذه الصلاة، «ثم لا تطيقونها»، وهذا دليل رحمته كما وصفه ربه جل وعلا: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيم} فداه أبي وأمي.

هذا الشهر الذي قال فيه نبي الهدى عليه الصلاة والسلام: «رغم أنفه من أدرك رمضان ولم يغفر له، قل آمين، قال له جبريل عليه السلام، فقال: قلت: آمين»، قال آمين تأمينا على دعاء جبريل عليه السلام لما فيه من الخير، وهذا الخير هو الذي ينبغي أن يتسابق فيه المتسابقون، وأن يتنافس على خيره وبركته المتنافسون، تحقيقا لقول الله جل وعلا: {وفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون} من أهل الصلاح وأهل التقى، لا يتنافسون على الدنيا وحطامها وزينتها وزخارفها لأنهم أيقنوا أنهم ليسوا من أهلها، ولا خلقوا لأجلها، علموا يقينا أنهم أهل الآخرة، وأنهم خلقوا لأجل الفوز في هذه الآخرة؛ بأن ينالوا رضوان الله تبارك وتعالى؛ يفوزوا بجنته تبارك وتعالى، نسأل الله تبارك وتعالى أن نكون من أهلها وأن لا نحرم خيرها.

قال جل في علاه: {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيرًا}، {وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ} التي بينها لنا ربنا تبارك وتعالى ورغبنا فيها نبينا عليه الصلاة والسلام، {مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى } لأنه لم يميِّز ربنا تبارك وتعالى في هذا الخير العميم بين ذكر أو أنثى جميعهم سواء، يتميزون في غير هذا المقام، ميز بينهم في القوامة  {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ اللّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ }، هذا أصل من الأصول الكونية العظيمة، القوامة لا بد أن تكون لأحدهما ولا يمكن أن تكون للأنثى دون الذكر أو لهما جميعا، لا يمكن هذا أبدا، بل الواجب والأصل أن تكون القوامة للرجل والمرأة تابعة له، معينة له، تتكامل معه، هذا الذي أراده الله جل وعلا وقدّره لبني آدم جميعا، والله جل وعلا فعَّال لما يريد، والله تبارك وتعالى لا يريد لعباده إلا ما يصلح دينهم ودنياهم؛ فلا يتحقق الخير ولا مصالح العباد إلا بطاعة ربهم تبارك وتعالى ومولاهم، ولا يستقيم لهم حال إلا بالتزام أوامره وشرعه، فهذا من فضائل هذا الشهر.

ومما يغفل عنه الكثير من الناس، وخاصة في نصفه الأخير، وخاصة في عشره الأواخر وهي الأفضل لزيادة الخير فيها، وكثرته، فإذا كان التنافس على الخيرات، والتسابق إليها مما رغبنا الله تبارك وتعالى فيه ففي هذه العشر الأواخر زيادة تنافس، وحدة تسابق، وهذا إن دلَّ على شيء فإنما يدلّ على زيادة الفضل والخير وزيادة البركة، يعني الشهر كله مبارك، وأكثره بركةً أواخرُه؛ لأنَّ وظائفَ هذا الشهر كثيرة ولله الحمد والمنة، وكثرتها وتنوعها هذا من أدلة بركة هذه الأيام والليالي.

من هذه البركات: بركة ليلة القدر، وهي من ليالي العشر. من هذه البركات: سنّة الاعتكاف التي كان النبي ﷺ يفعلها في أواخر رمضان، ويداوم عليها. ومن بركاته -وهذه ربما كانت من السنن المهجورة-: الحرص على فضائل العشر، يعني لابد أن يظهر هذا على كل مسلم، يظهر من خلال أعماله ومن خلال زيادة نشاطه، وحرصه، وهي من بركات هذا الشهر أن يظهر عليك هذا الحرص كما ظهر على نبيك ﷺ في أفعاله وفي أحواله كما وصفته أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها -: « كان إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شد مئزره، وأيقظ أهله، وقام ليله»، يعني إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان شدَّ مئزره وهذا كناية عن دخوله المعتكف، ومن شرائط الاعتكاف الشرعي أن لا يقرب النساء، يعني أن يتفرغ ويلزم المسجد للعبادة لذكر الله، ولا يخرج من معتكفه إلا لحاجة، الحاجة البشرية التي من أَجْلِها يخرج الرجل أو ما شابه ذلك، بحيث أنه لو استغنى عن خروجه لكان واجبا عليه ذلك، ولهذا كان النبي ﷺ إذا دخل معتكفه كان يدخل رأسه لحجرة من حجرات نسائه وتغسل له شعره، حتى لا يخرج من معتكفه وهذا حرصا منه على هذه الوظيفة التي هذا وقتها وهذا زمانها في العشر الأواخر من رمضان، لأنه ما أُثِر ولا عُلِم أن النبي ﷺ كان يعتكف في غيرها، ما أُثِر هذا ولا نُقِل عنه فيما نعلم عليه الصلاة والسلام.

فهذه سنة ينبغي أن يرجع إليها المسلمون وأن يحرصوا عليها الحرص الشديد، وهذا من أدلة حرصهم على الخير، وهكذا ينبغي أن يكون المسلم في أحواله كلها اقتداء بنبيه  عليه الصلاة والسلام، «كان أجود الناس وكان أجود ما يكون في رمضان»، وهذا يفيدنا معنى طيّبا في هذا الباب، أنك مهما كنت مجتهدا وحريصا على الخير لنفسك، وحريصا على عبادة ربك تبارك وتعالى ينبغي أن تتميز في مثل هذه المناسبات، كما تميز نبيك، كما وصفه هذا الصحابي الجليل: «وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن»، وهي فضيلة أخرى ووظيفة تابعة لباقي الوظائف.

في هذا الشهر المبارك الزيادة من مدارسة القرآن، سواء بتلاوته أو بسماعه أو بمدارسته مع غيرك، مدارسة لتكون من أجل تثبيت الحفظ أو مدارسة للوقوف على معانيه بمدارسة التفسير وهكذا، فهذا من الخير العظيم العميم.

وسنة أخرى من سنن هذا الشهر، ووظائف هذه العشر: تحري ليلة القدر، ينبغي أن يحمل الصائم همّها ويحرص على الاجتهاد لأجل موافقتها؛ يدلّ عليه سؤال أمنا عائشة - رضي الله عنها – حين سألت نبيها  عليه الصلاة والسلام عما تقوله إذا وافقت هذه الليلة المباركة، فعلمها النبي  عليه الصلاة والسلام أن تدعو بهذا الدعاء: «اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني»، من أعظم الأدعية عفو الله عنك، يحقق لك العفو في الآخرة والسعادة في الدنيا، عشت في الدنيا سعيدا وهذا معنى قوله تبارك وتعالى: {فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً}، الحياة الطيبة هي وجود أو تنعم بهذه السعادة التي لا تكون إلا لمن أطاع الله تبارك وتعالى واستقام على أوامره واتبع هدي نبيه ﷺ، ولهذا كانت مثل هذه المعاني دافعا لكل مؤمن يرجو ما عند الله تبارك وتعالى أن يكون حريصا على الطاعات كلها بدءا بالواجبات وانتهاء إلى المستحبات، فإن عجز المسلم عن الوصول إلى الأكمل فعليه أن يحرص على ما يحقق له أجر هذا وإن لم يبلغه بعمله، كما قال النبي ﷺ في طائفة من هذه الأمة وهم المفَرِّدون، كما قال: «سبق المفرِّدون، قالوا يا رسول الله : من المفرِّدون؟ قال: الذاكرون الله كثيرا والذاكرات»، حافِظْ على الأذكار المسنونة تَضمَنْ أجر هذا، أجر الذاكر لله جل وعلا كثيرا، ومن بلغ هذه الدرجة بلغ درجة الصائم القائم وهي من أعمال هذا الشهر وهذه الليالي.

وفي مقابل هذا، ينبغي ألا تحقر من الخير شيئا، مصداقا لقوله عليه الصلاة والسلام: «لا تحقرن من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق»، خاصة في هذه الأيام التي ابتلي فيها المسلمون بأولئك المنفرة أعمالهم والمفرقة أوصافهم لجماعة المسلمين الذين يمشون بينهم بالنميمة والقطيعة وبالوجوه العبوسة وبالهجر والإفساد والنبي ﷺ يرغبنا جميعا في الخير وأن لا نحقر منه شيئا، حتى قال ﷺ ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق لأنها نوع من أنواع الصدقات والمعروف الذي يجازي عليه ربنا تبارك وتعالى العباد.

فنسأل الله تبارك وتعالى أن يمن علينا بالتوفيق لمثل هذه الخيرات كلها وأن يرزقنا مصاحبة الأخيار ومجانبة الأشرار وأن يجمعنا يوم القيامة بأحبتنا، بنبينا  عليه الصلاة والسلام وأصحابه الكرام، وبأمهاتنا أمهات المؤمنين، وأن يجعل أخواتنا جميعا وبهذه المناسبة بإلقاء هذه الكلمة لأخواتي بهذه القناة التي أسأل الله جل وعلا أن تكون قناة مباركة داعية للخير وقد تسمت بقناة التوحيد أولا، فأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفق القائمات عليها لكل خير، وأن يجعل أعمالهم مثقلة لموازينهم يوم القيامة، وأن يجمعنا كما جمعنا الله جل وعلا في هذه الحياة الدنيا على التوحيد والسنة، أن يجمعنا يوم القيامة تحت ظل عرش ربنا تبارك وتعالى، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم.

أدعو الله تبارك وتعالى لي ولسائر أخواتي بقبول الأعمال، ورفعة الدرجات، كما أسأله جل وعلا ألا يحرمنا من نعيم الجنة، كما أنعم علينا بنعيم الهداية إلى هذا الصراط القويم في الحياة الدنيا أن يجمعنا تحت ظل عرشه يوم القيامة مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا، وبارك الله لي ولسائر أخواتي لما يحبه ويرضاه، وأسأل الله جل وعلا أن يعيد علينا هذا الشهر مباركا متقبلا عنده، وأكتفي بهذا القدر، وأسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقني وإياكم لما يحبه ويرضاه.

وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.