مكانة العلماء 18-6-1438

المُؤلف: أزهر سنيقرة
الملفات الصَّوتية:
اسم الملف الملف الصَّوتي تحميل
خطبة مكانة العلماء 18-6-1438 تحميل
التَّفريغ:

الخُطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مُضلّ له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾.

﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي َتَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً﴾.

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾.

أمّا بعد:
فإنّ أصدق الحديث كتابُ الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشرّ الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.


عباد الله:

إنَّ حاجة البشريَّة للأنبياء والمرسلين لهيَ أعظم وأشدُّ من حاجتهم إلى جميع ضروريَّات حياتهم، هي أَوْلى من حاجتهم إلى الشَّراب والطَّعام، بل هي أَوْلى من حاجتهم إلى النَّفس الذي يتنفَّسونه، لأن الله تبارك وتعالى اختارهم وأرسلهم ليُخرجوا الناس من الظلمات إلى النور؛ من ظلمات الجهل إلى نور العلم ومن ظلمات الظلم والجور إلى نور العدل.

أرسلهم الله جلّ وعلا مُبشِّرين ومنذِرين، يقول الله تبارك وتعالى: ﴿رُسُلًا مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا، وقال تبارك وتعالى: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ.

أرسلهم الله تبارك وتعالى لدعوة الخلق إلى خالقهم أن يعبدوه ويُوحِّدوه، أرسلهم الله جلّ وعلا للغاية التي من أجلها خلقهم ربهم جلّ في علاه، وقد علمنا من دين الله تبارك وتعالى أن هذه السّلسلة المباركة من المصطفين الأخيار على مرِّ تاريخ هذه البشريَّة قد ختمها الله جلّ وعلا بِبِعْثة سيّد الأوّلين والآخرين وخاتم الأنبياء والمرسلين –صلى الله عليه وعلى آله وسلم-؛ إذْ أنَّه لا نبيَّ بعد نبيِّنا إلى قيام الساعة.

لأجل هذا؛ فإن الله تبارك وتعالى جعل هذه الوظيفة العظيمة التي من أجلها كانت حاجة الناس إلى هؤلاء بهذه الدرجة؛ جعلها في علماء هذه الأمة الذينَ قال النبي –صلى الله عليه وسلم- في حقِّهم: (إن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما، إنما ورثوا العلم، فمن أخذ به فقد أخذ بحظ وافر، وإن العلماء ورثة الأنبياء) وكفى بهذه المنزلة منزلةً عند الله تبارك وتعالى، وكفى بهذا التشريف فضيلةً لعلماء هذه الأمة الذين أخذوا هذه التَّرِكة المباركة وقاموا فيها بوظيفة أصحابها؛ أي: بوظيفة النَّبيِّين والمرسلين.

إنَّ فضل هؤلاء عند الله تبارك وتعالى لهو عظيم، وإنَّ أثر هؤلاء على الناس جميعًا بل على خلق الله تبارك وتعالى جميعًا لهو عظيم كذلك.

واسمع إلى كلام إمامٍ من أئمة الإسلام هو إمام السُّنّة في زمانه الإمام أحمد بن حنبل الإمام المُبجَّل الذي امتحن الله جلّ وعلا الناس به في زمانه، من انتسب إليه انتسب للسنة ومن تكلم فيه أو طعن كان هذا دليلا على أنَّه مُناوئ للسُّنّة وأهلها وأنه من أهل البدع والأهواء.

ورحمة الله جلّ وعلا على الأئمَّة الأعلام إذ قرَّروا في هذا الباب أصلا عظيما فقالوا: (إنَّ من علامة أهل البدع والأهواء الوقيعة في علماء أهل السنة) وكذلك يفعلون، وما زالوا يفعلون مادام بالأمة قائمٌ لله جلّ وعلا بالحُجَّة وليس هذا إلا لهؤلاء الذين شرّفهم الله جلّ وعلا ورفع من قدرهم ومنزلتهم وجعلهم مصابيح الدجى في هذه الأمة.

يقول -عليه رحمة الله- في مقدمته العظيمة التي تلقاها أئمة الإسلام بالقَبول العظيم وكانوا يذكرونها ويذكرون صاحبها ويثنون عليه، كانوا يذكرونها في مصنفاتهم وفي مجالسهم وخطبهم، يقول الإمام أحمد -عليه رحمة الله- في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" هذا الكتاب الذي قدَّم له بهذه الكلمات الطيبات العظيمات المُبيِّنة لشرف هؤلاء وحُسن أثرهم وآثارهم في الناس، قال:
(الحمد لله الذي جعل في كل زمان فترة من الرسل بقايا من أهل العلم، يدعون من ضَلَّ إلى الهدى، وَيَصْبِرون منهم على الأذى، يُحْيون بكتاب الله الموتى، ويُبصِّرون بنور الله أهل العمى، فكم من قتيلٍ لإبليسَ قد أَحْيَوْه، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هَدَوْه، فما أحسنَ أثَرَهم على الناس، وما أقبح أثرَ الناس عليهم.

ينفون عن كتاب الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين؛ الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عقال الفتنة، فهم مُخْتلفون في الكتاب، مخالِفون للكتاب، مُجْمِعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله وفي الله وفي كتاب الله بغير علم، يتكلَّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهَّال الناس بما يُشبِّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتنة الضالين).

هذه العبارات العظيمة وهذه الآثار الطّيِّبة المباركة التي بيّنها الإمام -عليه رحمة الله- في هذه الجُمَل الطّيِّبة التي تدلّ على فضلهم وعلوّ منزلتهم وقدرهم، وتدلّ على حاجة الناس إليهم.

وهذا في كل زمان ومكان، وما انتشار الشّرّ إلا بسبب قِلَّتهم في النَّاس، ولا صال وجال أهل البدع والضَّلال وأصبحت لهم العروش وأصبح ولاء الناس إليهم إلا بعد أن قلّ هؤلاء؛ أي: هؤلاء العلماء الرّبّانيُّون الذين بوجودهم يَضْمَحِلُّ هؤلاء ويذوبون كما يذوب الملح إذا صُبّ عليه من الماء.

قال -عليه رحمة الله-: (الحمد لله الذي جعل في كل زمان) وهذا تصديقُ قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (إن الله يبعث على رأس كل مائة عام من يُجدِّد للأمة أمر دينها)، لأن الناس يبتعدون وينحرفون ويضلون سواء السَّبيل فيحتاجون إلى من يردُّهم وإلى من يدعوهم وإلى من يُذكِّرهم، وأهل هذا الشأن هم هؤلاء العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، بقايا من أهل العلم وظيفتهم ما هي؟ ودورهم ما هو؟ وأثرهم في الناس كيف هو؟

(يدعون من ضَلَّ إلى الهدى) من ضلَّ طريقه ووقع في واحدة من هذه المُضِلاَّت مضلات الفتن وما أكثرها؛ فتن الشبهات وفتن الشهوات، ولها من يدعو إليها ولها أئمتها ودعاتها دعاة الفتنة والضلال، نعوذ بالله من شرهم، ونسأل الله تبارك وتعالى أن يعصم الأمة من مكرهم وخداعهم.

فالعلماء يدعون هؤلاء إلى الهدى، لأنَّ دعوتهم قائمة على الكتاب والسُّنّة، لأنَّ دعوتهم قائمة على الدعوة إلى كتاب الله وإلى سُنَّة رسوله، على الدعوة إلى الدِّين الصَّحيح الذي ترك النبيُّ -عليه الصلاة والسلام- أمَّتَه عليه، هذا الدِّين الذي وصفه بقوله: (تركتم على مثل البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك).

تركنا والله على المحجَّة البيضاء، تركنا على ما في كتاب الله، وعلى ما في سُنَّتِه المباركة، وما فَهِمَه وما كان عليه مَنْ كان حوله من أصحابه الطّيِّبين المباركين -رضي الله تعالى عنهم أجمعين-.

هذا دين الله، وهذا هو الهدى الذي جاء به رسول الله، والذي أخبر عنه ربنا جلّ وعلا بقوله: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ.

قال: (ويصبرون منهم على الأذى) لأن هؤلاء يدعونهم إلى الخير وأولئك يؤذونهم بما عندهم من الشر، يؤذونهم بالكلام، يؤذونهم بغمزهم ونعتهم بأشنع النعوت والأوصاف، وهذا ديدنهم وهذا شغلهم، لأنَّ هؤلاء ضيَّقوا عليهم، لأنَّ هؤلاء أَعْيَوهم بما عندهم من الحقِّ، وأهل الضَّلال فارغون من الهدى والحقّ وليس لهم ما يواجهون به هذا الحقَّ إلا الصّراخ والعويل والسِّباب والشَّتم والتَّنقيص والتَّعيير إلى غير ذلك من وسائلهم ومصطلحاتهم.

نسأل الله جلّ وعلا أن يكفي المسلمين شرَّهم، وأن يحفظ علماءنا وأئمتنا بحفظه، وأن يرد كيد الكائدين في نحورهم.

فهم يصبرون منهم على الأذى، ولا يُقابلون السيئة بالسيئة، لأنهم علموا وأيقنوا أن هذا هو الطريق؛ طريق الأنبياء ومن سار على منهج الأنبياء.

الأنبياء أوذوا إيذاء شديدا كما قال نبينا -عليه الصلاة والسلام-: (أشدُّ الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم).

إذا كان هؤلاء بِشَرّهم ومكرهم وباطلهم وصلوا إلى خير خلق الله تبارك وتعالى؛ وصلوا بِشَرِّهم وأذيَّتهم لهؤلاء الأطهار من أنبياء الله جلّ وعلا ورسله فكيف بمن دونهم ممن سار على طريقهم ومن دعا بدعوتهم، لا شَكَّ ولا رَيْب أنَّه يُصيبهم ما أصاب أولئك المتبوعين -عليهم الصلاة والسلام-.

وهم كذلك: (يُحْيون بكتاب الله الموتى) لأنَّ الموت الحقيقيّ هو موت القلوب لا موت الأبدان ﴿إِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى القُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ هذه التي تعمى وهذه التي تموت إنِ خَلَتْ من ذكر الله جلّ وعلا ومن الإيمان به تبارك وتعالى، ولهذا قال -عليه الصلاة والسلام-: (مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكره كمثل الحيّ والميت).

الخطبة الثانية:

الذي لا يذكر ربَّه تبارك وتعالى ميِّت لا شكَّ في ذلك ولا ريب، ولذلك كان دور هؤلاء هو إحياء قلوب العباد بكتاب الله تبارك وتعالى وسنة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، ويُبَصِّرون بنور الله أهل العمى، وأهل العمى هم كل من ضلَّ سبيله من أهل الأهواء والبدع والضلالات.

إلى غير ذلك مما قاله -عليه رحمة الله- في هذا المقدمة الطّيِّبة المباركة بيانا لفضل هؤلاء الذين قال الله جلّ وعلا في فضلهم وبيان منزلتهم وقدرهم ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالمَلائِكَةُ وَأُولُو العِلْمِ قَائِمًا بِالقِسْطِ.
هذه الآية الكريمة كما قال القرطبي والإمام السعدي: جاءت في فضل العلم وأهله، كيف لا؛ والله جلّ وعلا قد قرن شهادتهم بشهادته وشهادة ملائكته على أعظم مشهود ألا وهو توحيد الله تبارك وتعالى.


ولهذا: سيروا على نهج نبيّكم -عليه الصلاة والسلام- وامتثلوا أمره لقوله -صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من لم يرحم صغيرنا ولم يُجلّ كبيرنا ولم يعرف لعالمنا قدره).

(ليس منا) براءةُ رسول الله ممن وقع في مثل هذه العظائم، لم يرحم الصغير ولم يُوقِّر الكبير ولم يعرف قدر العالِم فيه، هذا العالِم الذي أكرمنا الله جلّ وعلا به؛ يُحيي به قلوب العباد ويدلّهم على الخير وينهاهم عن ضده.

ولهذا لا يتطاول على أمثال هؤلاء إلا:
أراذل الناس.
إلا أهل البدع والأهواء.
إلا أولئك الأصاغر الذين يُريدون أن يُعرفوا بالنَّيل في الأكابر.
إلا أولئك الذين كما وقفهم النبي -عليه الصلاة والسلام-: (حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام).
تجد الواحد منهم لما يُنبِّت بعدُ في لحيته ويطعن في أولئك الذين شابت لحاهم في الدعوة إلى الله جلّ وعلا والدّلالة على الخير وتعليم الناس الخير.

نسأل الله جلّ وعلا العفو والعافية، كما نسأله تبارك وتعالى أن يُوفِّقنا لمعرفة قدر كبارنا وأكابرنا الذين أمرنا الله عزّ وجلّ بطاعتهم في قوله تبارك وتعالى: ﴿وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ.
قال ابن عباس -رضي الله تعالى عنهما-: (هم الأمراء والعلماء) العلماء الذين يَرجع إليهم حتى الأمراء وهم لا يرجعون إلى الأمراء، لأن الله عزّ وجلّ أعطاهم وأغناهم بأعظم ما يُعطي عبدا من عباده؛ أعطاهم العلم الذي هو أساس سعادة العباد، أعطاهم العلم الذي هو تركة الأنبياء والمرسلين.

نسأله جلّ في علاه أن يحفظ علماءنا، وأن يُبارك فيهم، وأن يحفظ الأحياء منهم، أن يثبتهم ويُوفِّقهم لما يحبُّه ويرضاه، وأن يدفع عنهم شرّ الأشرار، وكيد الفجار، ونيل الطاعنين، فإنَّ طعنهم لا يعود إلا عليهم بالحقار والوبال.

نسأل الله جلّ وعلا أن يوفقنا لمعرفة قدرهم، والتواضع في مجالسهم، وحسن الأدب معهم، وأن يرزقنا التقرب إليه بحبهم، فإنَّا ندين الله عز وجل بحب أئمتنا وعلمائنا أئمة أهل السنة والجماعة في كل زمان ومكان ونبرأ إلى الله جلّ وعلا من الضَّالِّين المُضِلِّين حتى وإن رفعهم أتباعهم؛ حتى وإن سُلِّطت عليهم الأضواء؛ حتى وإن ضُخِّمت أسماؤهم ولُمِّعت عبارات الثناء عليهم من أولئك الذين ابتُلينا بهم في هذا الزمان، من أولئك الذين هم وراء تلك القنوات؛ القنوات العمياء التي هي قنوات العار والشرور.

نسأل الله جل وعلا أن يكفي المسلمين شرهم.

أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

وسبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.


فرّغه:/ أبو عبد الرحمن أسامة
19 / جمادى الآخرة / 1438هـ