علو الهمة (2) 29-1-1439

المُؤلف: أزهر سنيقرة
الملفات الصَّوتية:
اسم الملف الملف الصَّوتي تحميل
خطبة علو الهمة (2) 29-1-1439 تحميل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن الحمد لله نحمده ونستعينه،ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله:
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله،وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وشر الأمور محدثاتها،وكل محدثة بدعة،وكل بدعة ضلالة.
عباد الله،اتقوا الله  حق التقوى،فإن التقي هو الفائز في الآخرة،والسعيد في الدنيا،وإن مما كان عليه الأتقياء الأولون، من أصحاب نبينا الكريم،ومن تبعهم بإحسان من التابعين وتابعيهم،وعلى رأسهم أئمة الإسلام،الذي نفع الله جل وعلا بهم العباد،وأصلح بهم الأمة لأنهم كانوا هداة مهديين،لأن هممهم في الخير كانت عالية،وهذه سمة من أبرز سماتهم,علو الهمة الذي تميز به سلف هذه الأمة،وبينا أن همتهم كانت في أبواب الخير كلها،كانت في العلم في طلبه وتحصيله،وفي بذله ونشره،كانت في العمل في الطاعة والعبادة،ضربوا بذلك أروع الأمثلة،كانت في جهادهم،وأي أمة جاهدت جهادهم؟وضحت تضحيتهم رضي الله تعالى عنهم؟
كانت همتهم عالية، في الدعوة إلى دين الله جل وعلا،في الدعوة إلى الله ،بل جعلوا حياتهم تدور حول هذه الهمة،رضي الله تعالى عنهم أجمعين.
حققوا قول النبي عليه الصلاة والسلام،لما رغبهم في هذا،وبين لهم أن الله جل وعلا،يحب معالي الأمور ،ويكره سفاسفها،فترفعت نفوسهم عن سفاسفها،وعن دناءتها وارتقت إلى تلك الهمة العالية،التي أثمرت وكان من أثرها الطيب،هذا الخير العميم الذي نقف عليه،نترضى عليهم ونجعلهم قدوة لنا في كل شيء،العبرة ليست بالأعمال فحسب،الصحابة سلف هذه الأمة، تميزوا عن غيرهم لأنهم حققوا الاستقامة،استقامة في المنهج،صحة في الاعتقاد،مواظبة ومداومة على الأعمال،ليسوا كغيرهم،وجد من ربما كان أكثر منهم عملا ،ولكنه من أبعد الناس عن الله  ونيل مرضاته،ألم يخبرنا نبينا عليه الصلاة والسلام،عن شرار هذه الأمة؟
وهم الخوارج،يخاطب أصحابه الكرام،" يحقر أحدكم صلاته إلى صلاته،وصيامه إلى صيامه،يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية".
يخاطب الصحابة،بأنهم يحقرون إذا رأو من صلاة هؤلاء يحقرون هؤلاء،ومن صيام هؤلاء يحقرون صيامهم،ولكن كيف هي قلوبهم؟كيف هي عقيدتهم؟ما هو منهجهم؟
هل حققوا عقيدة الصحابة؟كلا
لأن الصحابة ما كفروا مرتكب الكبيرة،وما تجرءوا في تكفير المسلمين،واستباحة دمائهم بل كانت دماء المسلمين عظيمة في قلوبهم، لأن الله  بين لهم هذا في كتابه،ولأن النبي عليه الصلاة والسلام رباهم على هذا التعظيم،وما فارق هذه الحياة، إلا كانت من آخر وصياه فداه أبي وأمي،" إن دماءَكم وأموالكم حرامٌ عليكم،كحرمةِ يومِكم هذا، في بلدكم هذا ".
هؤلاء الأشرار لم يستبيحوا الدماء فحسب ، استباحوا دماء خير هذه الأمة بعد النبي عليه الصلاة والسلام،على أيديهم الخبيثة سُفك دم أمير المؤمنين ،علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه،قتلة.
ولا يوجد على وجه الأرض حين ذاك أفضل منه،منزلة ومكانة عند الله ،إنه الضلال وإنه الانحراف عن الهدي القويم،والصراط المستقيم،عن المنهج الذي كان عليه خير هذه الأمة،كان عليه الصحابة رضي الله تعالى عنه أجمعين،استباحوا دماء هؤلاء الخيرة، وقتَّلوهم قتلوا علي وطلحة والزبير ،رضي الله تعالى عن أصحاب رسول الله جميعا.
فالعبرة ليست بمجرد الأعمال،العبرة بمثل هذه الأصول، أن تعتقد الاعتقاد الذي كان عليه أصحاب رسول الله،وأن تستقيم على المنهج القويم،الذي سار عليه الأولون،في تعظيمك للكتاب والسنة،في تعظيمك لهدي نبي هذه الأمة،وفي اتباعك لسلف هذه الأمة الكرام.
علو الهمة ،كان عند هؤلاء بهذا المعنى العظيم،وقد عرف علماؤنا علو الهمة بقولهم:هو استصغار ما دون النهاية من معالي الأمور.
كل أمر من معالي الأمور،ينبغي أن يكون عندك صغيرا،أي ينبغي أن تكون لك النية، والعزم الصادق أنك تصل إليه،وأنك تحققه وأنت مُعان بالله ،استعن بالله وسترى العجائب،والله  قال: فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ آل عمران.
إذا عزمت أمرك في أمر من أمور الخير توكل على الله،ولا تتوانى ولا تتكاسل،ولا تقصر،كن ثابت في أمرك،محافظا على عزيمتك،تبتغي في هذا وجه ربك .
لأن صاحب الهمة العالية،همته ليست قاصرة في هذه الدنيا،همته إلى ما بعد الموت،همته أن يرضى عنه ربه جل وعلا،جعل الهموم كلها هما واحدا هو هم الآخرة،كيف يرضى عنه ربه ؟
وهذا مصداقا لقوله جل وعلا: وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ الإسراء.
وهذا حاله،وينبغي أن يكون هذا طريقه،وهذا منهجه في حياته.
ترفعوا يا إخوان،ترفعوا عن هذه الأمور الدنيئة،ولا تجعلوا همكم في هذه الدنيا تتنافسون عليها،وربما تتقاتلون من أجلها،وربما أخذت منكم عقولكم وقلوبكم وأوقاتكم،فماذا أبقيتم للآخرة من هذا كله ؟
ملكت عليكم عقولكم ،لا تفكرون إلا فيها،ولا تخططون إلا لها.
ملكت قلوبكم تحبونها وتعظمونها،وتتنافسون عليها.
ملكت أوقاتكم لم تترك لكم لعمل من أعمال الآخرة شيئا.
وأعداؤنا يخططون لهذه المحاور الثلاث،وقد أفلحوا في جانب كبير من هذا الأمر،نسأل الله ،العفو والعافية.
يقول الحسن البصري عليه رحمة الله:من نافسك في دينك فنافسه،ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره.
من نافسك في دينك،يريد أن يسبقك في الخيرات،هذا السبق الذي أمرنا به ربنا جل وعلا، سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ  الحديد.
نافسه في هذا حاول أن تسبقه،لأن المؤمن في حياته،في أمور دنياه،ينبغي أن ينظر إلى من دونه،إلى من هو أقل منه،وهذا بنص رسول الله ،أما في أمور آخرتك،فانظر إلى من هو فوقك،إلى من هو أضمن منك في أعماله،في سعيه،في الخير كله،حتى تنافسه،حتى تلحق به،هذا الذي أمرنا به ربنا، وَفِي ذَٰلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَالمطففين.
يتنافسون في الخير،في الأعمال الصالحات،في الأعمال النافعة،التي تنفعنا إما في دنيانا،وإما في أُخرانا،نسأله جل وعلا،أن يُعلي همتنا،وأن يرزقنا ما كان عليه سلفنا.
وقال ابن القيم عليه رحمة الله ،في بيان منزلتها،أي منزلة علو الهمة،قال: فمن علت همته،وخشعت نفسه،اتصف بكل خلق جميل.
وعلى هذا كان الأولون،وتميزوا بتلك الصفات الحميدة،والأخلاق الجميلة،أما من دنت همته،أي كانت همته دنيئة،وطغت نفسه،اتصف بكل خلق رذيل،فأصحاب الأخلاق الرذيلة،إنما اتصفوا بهذا لأن هممهم كانت خسيسة،ولأن نفوسهم كانت طاغية،وقعوا في هذا الأمر،نسأل الله  ،أن يجيرنا منه.
علو الهمة دليل وعلامة على كمال العقل،يقول ابن الجوزي عليه رحمة الله:من علامة كمال العقل علو الهمة،والراضي بالدون دنيء.
والراضي بالهمة الدنيئة ،هذا لا يكون إلا على هذا الوصف،أي يكون دنيء حقيرا،نعوذ بالله .
الارتقاء بالهمة جعل الله له أسباب،ينبغي على من أراد الوصول إليها أن يحققها،قال أهل العلم أولها:
العلم والبصيرة:لأن المسلم كلما ازداد علما،كلما ارتقت نفسه،في درجات الكمال،لأن الله جل وعلا،خلق العباد،وجعل فيهم إرادتين،وأمرهم بالتطابق والمنافسة،في الارتقاء بهما،الارادة العلمية والارادة العملية.
الارادة العلمية تكميلها والارتقاء بها إلى درجات الكمال،تحقيقا أو وصولا إلى الهمة العالية،لا يكون إلا بالعلم،العلم النافع الذي أرسل الله به جل وعلا به رسله،وآخرهم نبينا وحبيبنا عليه الصلاة والسلام، هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ التوبة.
الهدى هو العلم النافع،الذي يُبصر الناس،والذي يرقي نفوسهم إلى درجة الكمال،والذي يزيدهم من الله  خشية،ومن كان خاشيا لله ،كان مستقيما على أمره.
من أسبابها كذلك،أن يجعل إرادته في هذه الدنيا،ارادة الآخرة،يريد الآخرة وما عند الله جل وعلا،و يعيش لأجل هذا ويسعى لتحقيق هذا ،لأنه سبب من أعظم أسباب علو الهمة،التي تجعل صاحبها سعيدا في الدنيا،فائزا يوم القيامة.
من الأسباب كذلك،قال أهل العلم،سبب وجهنا إليه نبينا،وأمرنا به،قال: أكثروا من ذكر هادم اللذات.
الإكثار من ذكر الموت،لأن ذكرك للنهاية،يجعلك تفكر في تحسينها،وتسعى لتكون نهايتك على أحسن حال،تعلم العلم اليقين أن العبرة ليست بنقص البداية،إنما العبرة في حسن النهاية،كيف يُختم لك على عمل صالح،ومن كان هذا حاله،كان من الفائزين عند ربه.
من أسبابها كذلك،حُسن الصحبة واختيار القليل،وهذا من أعظم الأسباب،لأنك إذا صاحبت من همته دنيئة،واهتمامه في سفاسف الأمور وحقيرها،ابتلاك الله بما أَبتلي به هذا المرء،وأصبحت مثله في دنو همته،إذا صاحبت من شغله الشاغل،اللغو والكلام الفارغ،والقيل والقال،وتتبع أخبار الرياضة والفريق والفرق وما إلى ذلك،ستقصر همتك على هذا الأمر ولن تتعداه،لأنك لو كنت تخالفه في همتك،ما استطعت أن تصاحبه،ما استطعت أن تصاحبه أبدا،نفسك تفر منه،فلما توافقت هذه النفوس،وتوافقت هذه الهمة،وقعت مثل هذه الصحبة،نسأل الله جل وعلا العفو والعافية.
من أسبابها كذلك،الوقوف على أخبار الصالحين،ملازمة الصالحين،وهذا في حياتهم،والوقوف على أخبارهم من المتقدمين منهم،وهذا فيه فائدة عظيمة،وهو سبب من أعظم أسباب الارتقاء بهمتنا،لأننا نقتدي بهم،ونصبو إلى تحقيق ما حققوه،لأنهم هم أُسوتنا وقدوتنا،الذين أمرنا ربنا جل وعلا بهم.
نسأله ،أن يقوي همتنا في الخير،وأن يجعلنا من أهل الهمم العالية،وأن يرزقنا الاقتداء بسلف هذه الأمة الكرام،الذين عاشوا بها ولقوا ربهم  عليها.
ونسأله جل وعلا،أن يوفقنا للخير كله،وأن يأخذ بأيدينا اليه،كما نسأله جل وعلا ،في هذا اليوم المبارك،أن يُغيثنا وأن يسقينا من عنده.
اللهم اسقينا غيثا مَغيثا مريئا،نافعا غير ضار،عاجلا غير آجل.
اللهم اغثنا،اللهم اغثنا،اللهم اغثنا
اللهم اسقي عبادك وبهائمك، وانشر رحمتك،وانشر رحمتك واحيي بلدك الميت.
نسأله تبارك وتعالى أن يتجاوز عنا،وأن يَّمُن علينا بتوبة نصوح قبل الممات.
كما نسأله جل في عُلاه،أن يرحم موتانا وموتى المسلمين،وأن يغفر لنا ولهم.
وأن يشفي مرضانا،وأن يكون مع إخواننا المستضعفين في كل مكان،أن ينصرهم على أعدائهم،وأن يُبدل خوفهم أمنا،وأن ينصرهم نصرا مؤزرا.
أقول قولي هذا، واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وسبحانك اللهم وبحمدك
أشهد أن لا إله إلا أنت استغفرك وأتوب إليك
 
تفريغ:  أم صهيب السلفية -وفقها الله-