<بسملة1>
ذِكْرُ المَيِّتِ بالشَّرِّ
متى يجوز ومتى يمنع
ذِكْرُ المَيِّتِ بالشَّرِّ
متى يجوز ومتى يمنع
الحمد لله رب العالمين،وصلى الله وسلم على نبينا محمد،وعلى آله وصحبه أجمعين،أما بعد:
فمن المسائل التي تتردد على كثير من الناس أنه إذا مات الميت ممن عرف بالسوء والشر،أو ختم له بسوء الخاتمة،أنهم يمنعون الكلام على الميت بحجة أنه لا يذكر الموتى إلا بالخير،ولا يذكرون بالسوء،ومما يستدلون به على ذلك ما جاء في سنن النسائي برقم 1935 عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم هالك بسوء فقال: (لا تذكروا هَلكاكم إلا بخير).
وفي رواية أوردها النسائي عن عائشة أيضا برقم 1936 بلفظ: (لا تسبوا الأموات،فإنهم أفضوا إلى ما قدموا).
وهذا الاستدلال غير صحيح على إطلاقه،بدليل ما جاء في صحيح البخاري 1367 عن عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ صُهَيْبٍ، قَالَ: سَمِعْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَجَبَتْ» ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ: «وَجَبَتْ» فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: مَا وَجَبَتْ؟ قَالَ: «هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا، فَوَجَبَتْ لَهُ الجَنَّةُ، وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا، فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِي الأَرْضِ»
قال العلامة عبد المحسن العباد في (شرحه على سنن النسائي) في الجمع بين الحديثين: (وذلك أن الحي يمكن أن يتأثر ويمكن أن يتغير؛ لأنه لا يزال على قيد الحياة، وأما الذي مات فإنه قد انتهى إلى ما انتهى إليه، وقدم على ما قدم من خير أو شر، فيذكر بخير، ويدعى له، لكن إذا كان هناك مصلحة في بيان حاله حتى لا يغتر به، وحتى يحذر أن يقلد، وأن يسار على نهجه، فإن السنة قد جاءت فيما يدل على جواز ذلك، وقد مر في بعض الأحاديث القريبة (أن النبي عليه الصلاة والسلام مروا عليه بجنازة، فأثنوا عليها خيراً فقال: وجبت، ومر عليه بجنازة أخرى، فأثنوا عليها شراً فقال: وجبت) وما نهاهم عن ذلك الذكر الذي قال عنه: (وجبت) وقد أجاب بعض العلماء عما قد يظهر بين الحديثين من التعارض: بأن الذي أقر ذكره بالسوء هو الكافر، أو المنافق، أو الذي يخشى أن يغتر به، وأن يتابع على ما هو عليه من بدعة وفسوق إذا لم تبين حاله، فإنه في هذه الحالة لا بأس أن يذكر بما فيه؛ حتى لا يغتر به أحد، وأما إذا كان ليس كذلك، ولا يخشى أن يغتر به أحد، فإنه يدعى له، ويترحم عليه، ولا يذكر إلا بخير، وهذا هو الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم بقوله: [(لا تذكروا هلكاكم إلا بخير)] يعني: فليس كل الهلكى يكونون كذلك، وإنما بعض الهلكى، وأما بعضهم، كالمنافقين، والذين عندهم بدع، ويخشى أن يغتر بهم فإذا بينت حالهم وذكروا بما فيهم حتى تعرف حالهم، وحتى لا يغتر بهم أحد، فإن هذا لا بأس به، وهو الذي تقتضيه النصيحة، ويقتضيه النصح للناس حتى لا يغتروا بمن عنده من سوء وبدع، وأمور منكرة، فلو ذكر بخيرٍ وسكت عما فيه من السوء، فإنه قد يغتر بذلك.
الحاصل: أن التوفيق بين هذا الحديث الذي معنا والأحاديث التي مرت في كون النبي صلى الله عليه وسلم أقر الذين ذكروه بسوء وقال: وجبت، وهنا قال: [(لا تذكروا موتاكم إلا بخير)] هذا يحمل على بعض الموتى، وذاك يحمل على بعض الموتى.
ذكر القرطبي أوجها في الجمع بين الحديثين فقال:
أحدها: أن هذا الذي تحدث عنه بالشرِّ كان مستظهرًا له ومشهورًا به، فيكون ذلك من باب لا غيبة لفاسق
وثانيها: أن محمل النهي إنما هو فيما بعد الدّفن، وأما قبله فمسوغ ليتَّعظ به الفسّاق، وهذا كما يكره لأهل الفضل الصلاة على المعلن بالبدع والكبائر.
وثالثها: أن الذي أثنى عليه الصحابة بالشرِّ يحتمل أن يكون من المنافقين، ظهرت عليه دلائل النفاق فشهدت الصحابة بما ظهر لهم، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم وجبت له النار، والمسلم لا تجب له النار، وهذا هو مختار عياض.
ورابعها: أن يكون النهي عن سبّ الموتى متأخرًا عن هذا الحديث، فيكون ناسخًا.
والثناء - ممدود، مقدَّم الثاء المثلثة على النون - إنما يقال في الخير غالبًا، والذي يقال في الشر هو النثى - بتقديم النون وتأخير الثاء والقصر، إلا أن هذا الحديث جاء في الثناء في الشرِّ لمطابقته للفظ الثناء في الخير. "المفهم" 2 ص 607 - 608.
قال العلامة الإثيوبي في (ذخيرة العقبى 19/117): قال الجامع - عفا اللَّه تعالى عنه -: عندي الوجه الأول أرجح. واللَّه تعالى أعلم.
ونقل ابن حجر في (الفتح 3/259): وَقَالَ بن بَطَّالٍ سَبُّ الْأَمْوَاتِ يَجْرِي مَجْرَى الْغِيبَةِ فَإِنْ كَانَ أَغْلَبُ أَحْوَالِ الْمَرْءِ الْخَيْرَ وَقَدْ تَكُونُ مِنْهُ الْفَلْتَةُ فَالِاغْتِيَابُ لَهُ مَمْنُوعٌ وَإِنْ كَانَ فَاسِقًا مُعْلِنًا فَلَا غِيبَةَ لَهُ فَكَذَلِكَ الْمَيِّتُ.
وقال ابن حجر 3/259: وَاسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى مَنْعِ سَبِّ الْأَمْوَاتِ مُطْلَقًا وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ عُمُومَهُ مَخْصُوصٌ وَأَصَحُّ مَا قِيلَ فِي ذَلِكَ أَنَّ أَمْوَاتَ الْكُفَّارِ وَالْفُسَّاقِ يَجُوزُ ذِكْرُ مَسَاوِيهِمْ لِلتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّنْفِيرِ عَنْهُمْ وَقَدْ أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى جَوَازِ جَرْحِ الْمَجْرُوحِينَ مِنَ الرُّوَاةِ أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا.
فتبين من هذه النقول أنه لا يمتنع من ذكر السوء الذي يكون عليه الميت لأجل مصلحة شرعية.
ثم مما ينبه عليه أنه قد يموت الفاجر فيثني عليه بعض الناس ثناء عطرا،مما يُظن أنه قد دخل في قوله صلى الله عليه وسلم :فأثنوا عليه خيرا،وهذا فهم غلط،لأن المراد بالثناء من أهله الذين تنفع شهادتهم،والتي يبنونها على الاعتبار الصحيح،لا على العواطف والغلو في الثناء والمبالغة فيه حتى صار هؤلاء يثنون على ميتهم بأعمال البر،ونسوا أعظم البر وهو طاعة الله،وميتهم الذين يثنون عليه قد تلبس بترك الواجبات وفعل الكبائر والمحرمات، وقد نقل ابن حجر في (الفتح 3/230) عن الداوديّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: المعتبر في ذلك شهادة أهل الفضل والصدق، لا الفَسَقَة، لأنهم يُثنون على من يكون مثلهم، ولا من بينه وبين الميت عداوة، لأن شهادة العدوّ لا تقبل انتهى.
تعليق