بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله؛ فلا مُضِلَّ له، ومن يضلل؛ فلاهادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله
وبعد :
فإن مسألة رفع اليدين في الدعاء من المسائل التي لطالما يكثر السؤال عنها ويحصل التباحث في مضامينها عند الناس لكن لما حصل القصور في الرجوع إلى تقرير أهل العلم وتفاصيلهم في هذا الموضوع ، كان من آثار ذلك وقوع جملة من الأخطاء ، لذلك كان لزاما شرح أحوال رفع اليدين في الدعاء على ما قرره العلماء من تقسيم وتفصيل به يحل المسألة، ويوضح معالمها، ويجليها، ويتحقق بذلك عند طالب الدليل والهدى التمييز بين ما يشرع وما يمنع، والحقيقة أن مثل هذا المبحث بحاجة إلى زيادة بحث من جوانب متعددة ومسائل متنوعة وإبداء الأقوال و الإعتراضات من المخالفين ومناقشتها ولكن الحال هنا لا يحتمله هذا المختصر ، لكن حسبي هو ذكر التفصيل والتقسيم موافقة لطريقة أهل التحقيق من العلماء أرباب الرسوخ في العلم وتأييد كل موضع بما ينصره الدليل، ويعززه، في جزئية مخصوصة، والله تعالى نسأله التوفيق والإخلاص في القول والعمل .
ولنشرع الان في المقصود:
رفع اليدين في الدعاء له عند العلماء ثلاثة أحوال:
الأولى: عدم النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم رفع اليدين، وحكمه المنع من الرفع لأنه يعد من البدع، ومن المعلوم أن كل عبادة وجدت في عهده صلى الله عليه وسلم، ولم يرفع فيها يديه فإنه لا يشرع لنا أن نرفع أيدينا فيها؛ تأسيا به صلى الله عليه وسلم... والمشروع في حق كل مسلم هو التأسي به صلى الله عليه وسلم في الفعل والترك، كما قال الله عز وجل: { لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [ سورة الأحزاب الآية: (21)] (1) .
والتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في الفعل والترك هذا ما يصطلح عليه العلماء بتسميته بـ " السنة التركية"، وهو من المباحث المهمة، قال الزركشي : " المتابعة كما تكون في الأفعال تكون في التروك" (2)، ومن نفيس تقعيد المحقق العلامة ابن القيم رحمه الله لهذه المسألة قوله : وأما نقلهم لتركه- صلى اللَّه عليه وسلم- فهو نوعان، وكلاهما سنة:
أحدهما: تصريحهم بأنه ترك كذا وكذا ولم يفعله، كقوله في شهداء أحد: "ولم يغسلهم ولم يُصل عليهم" ، وقوله في صلاة العيد: "لم يكن أذانٌ ولا إقامة ولا نداء" ، وقوله في جمعه بين الصلاتين: "ولم يُسبِّح بينهما ولا على إثر واحدة منهما"، ونظائره.
والثاني: عدم نَقْلهم لِما لو فَعَله لتوفرت هممهم ودواعيهم أو أكثرهم أو واحد منهم على نقله، فحيث لم ينقله واحد منهم ألبَتة ولا حدَّث به في مجمع أبدًا علم أنه لم يكن، وهذا كتركه التلفّط بالنية عند دخوله في الصلاة، وتركه الدعاء بعد الصلاة مستقبل المأمومين وهم يؤمّنون على دعائه دائمًا بعد الصبح والعصر أو في جميع الصلوات، وتركه وفع يديه كل يوم في صلاة الصبح بعد رفع رأسه من ركوع الثانية، وقوله: " اللهمّ اهدنا فيمن هديت"، يجهر بها ويقول المأمومون كلهم: "آمين"، ومن الممتنع أن يفعل ذلك ولا ينقله عنه صغيرٌ ولا كبيرٌ ولا رجلٌ ولا امرأةٌ ألبتَّة، وهو مواظب عليه هذه المواظبة لا يخلّ به يومًا واحدًا، وتركه الاغتسال للمبيت بمزدلفة، ولرمي الجمار، ولطواف الزيارة، ولصلاة الاستسقاء والكسوف، وعن هاهنا يُعلم أن القول باستحباب ذلك خلاف السنّة، فإن تَرْكه -صلى اللَّه عليه وسلم- سنة كما أن فِعْله سنة، فإذا أستحببنا قعل ما تَرَكه كان نظير استحبابنا ترك ما فعله، ولا فرق.
فإن قيل: من أين لكم أنه لم يفعله، وعدم النقل لا يستلزم نقل العدم؟ .
فهذا سؤال بعيد جدًا عن معرفة هديه وسنّته، وما كان عليه، ولو صح هذا السؤال وقُبِل لاستحبَّ لنا مستحبٌّ الأذانَ للتراويح، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحبّ لنا مستحب آخر الغُسْلَ لكل صلاة، وقال: من أين لكم أنه لم يُنقل؟ واستحب لنا مستحب آخر النداء بعد الأذان للصلاة: يرحمكمُ اللَّه، ورفع بها صوته، وقال: من أين لكم أنه لم ينقل؟ واستحب لنا آخر لبس السواد والطرحة للخطيب، وخروجه بالشاويش يصيح بين يديه ورفع المؤذنين أصواتهم كلما ذكر اسم اللَّه واسم رسوله جماعة وفُرادى، وقال: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ واستحبّ لنا آخر صلاة ليلة النصف من شعبان، أو ليلة أول جمعة من رجب، وقال: من أين لكم أنّ إحياءَهما لم ينقل؟ وانفتح باب البدعة، وقال: كلُّ من دعا إلى بدعة: من أين لكم أن هذا لم ينقل؟ ومن هذا تركه أخذ الزكاة من الخضروات والمباطخ وهم يزرعونها بجواره بالمدينة كل سنة، فلا يطالبهم بزكاة، ولا هم يؤدّونها إليه. (3) .
وهذا نموذج من تطبيق السلف الصالح لهذا الأصل المهم يزيد بذلك إيضاح "السنة التركية" ويدعمها، فقد جاء عن أبي الشعثاء قال: " ومن يتقي شيئا من البيت؟ " وكان معاوية يستلم الأركان، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: إنه لا يستلم هذان الركنان، فقال: " ليس شيء من البيت مهجورا" وكان ابن الزبير رضي الله عنهما " يستلمهن كلهن"، وزاد الإمام أحمد رحمه الله : ... فقال ابن عباس: {لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة} [سورة الأحزاب الآية: 21] ، فقال معاوية: صدقت " (5) .
قال الإمام الترمذي رحمه الله : " والعمل على هذا عند أكثر أهل العلم: أن لا يستلم إلا الحجر الأسود، والركن اليماني " (6) .
قال الحافظ ابن حجر: " وأجاب الشافعي عن قول من قال: " ليس شيء من البيت مهجورا " بأنا لم ندع استلامهما هجرا للبيت وكيف يهجره وهو يطوف به ولكنا نتبع السنة فعلا أو تركا ولو كان ترك استلامهما هجرا لهما لكان ترك استلام ما بين الأركان هجرا لها ولا قائل به .." (7) .
ومن الأمثلة فيما لم يرد النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم من رفع اليدين في الدعاء هو الآتي:
1 - خطبة الجمعة، ويدل على المنع ما جاء عن حصين بن عبد الرحمن السلمي الكوفي عن عمارة بن رويبة الثقفي رضي الله عنه قال: رأى بشر بن مروان على المنبر رافعا يديه، فقال: " قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة" (8) .
قوله : " قبح الله هاتين اليدين " جاء عند الترمذي في السنن (رقم515) باب : " باب كراهية رفع الأيدي على المنبر": زيادة لفظ : " القُصيرتينِ " تصغير القصيرتين، والظاهر أنه دعاء عليه بالقبح؛ لأن هذا الرفع كان على خلاف السنة وما كان مخالفاً للسنة فهو مردود مقبوح. وقيل إخبار عن قبح صنعه" (9) .
قال العلامة النووي رحمه الله: هذا فيه أن السنة أن لا يرفع اليد في الخطبة وهو قول مالك وأصحابنا وغيرهم، وحكى القاضي عن بعض السلف وبعض المالكية إباحته لأن النبي صلى الله عليه وسلم رفع يديه في خطبة الجمعة حين استسقى وأجاب الأولون بأن هذا الرفع كان لعارض " (10) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " ويكره للإمام رفع يديه حال الدعاء في الخطبة وهو أصح الوجهين لأصحابنا؛ لأن النبي- صلى الله عليه وسلم - إنما كان يشير بأصبعه إذا دعا "(11) .
وقد جاءت آثار- كذلك- تدل على المنع، ومن ذلك الآتي:
أ – عن معمر بن راشد الأزدي عن الزهري رحمه الله قال : " رفع الأيدي يوم الجمعة محدث " (12) .
ب - عن عبد الله بن عون، عن محمد بن سيرين قال: " أول من رفع يديه في الجمعة عبيد الله بن عبد الله بن معمر" (13).
ج - عن عبد الله بن مرة، عن مسروق، قال: " رفع الإمام يوم الجمعة يديه على المنبر، فرفع الناس أيديهم" فقال مسروق: " قطع الله أيديهم" (14) .
2 - بعد الصلوات المفروضة، فإن النبي عليه الصلاة والسلام كان يصلي بالناس دائماً، ولم ينقل عنه أنه رفع يديه بالدعاء بعد الصلاة.
قال العلامة محمد ناصر الدين الألباني رحمه الله : " إنه لم يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه بعد الصلاة - إذا دعا، وأما دعاء الإمام وتامين المصلين عليه بعد الصلاة - كما هو المعتاد اليوم في كثير من البلاد الإسلامية - فبدعة لا أصل لها ... " (15) .
3 - خطبة العيد .
4 – رفع الأيدي عند الطواف حول الكعبة .
5 - رفع اليدين في المسعى .
الحال الثانية: مواضع ثبت فيها رفع اليدين، فيكون رفع الأيدي، من السنة، والمواطن الواردة في السنة كثيرة تختلف بحسب المواقع (16)، وهاك أمثلة أيها القارئ الكريم فمن ذلك:
الموضع الأول: مواضع الحج وهي ستة :
1 - الصفا .
2 - المروة.
3 – وقوف عرفة.
4 – المزدلفة .
5 - الوقوف بعد رمي الجمرات الأولى .
6- الوقوف بعد رمي الجمرات الثانية.
وفي غير الحج :
الموضع الثاني: القنوت في الصلوات الخمس للنازلة دليله ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: "... فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وجد على شيء قط، وجده عليهم،- يعني القراء-، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما صلى الغداة رفع يديه فدعا عليهم " (17) .
قال الشيخ الألباني رحمه الله : وفي الحديث استحباب رفع اليدين في دعاء القنوت، قال النووي في " المجموع ": " وهذا هو الصحيح عند الأصحاب ".
قلت: وعليه الإمام أبو يوسف تلميذ أبي حنيفة - كما حكاه علماؤنا -. وجاء في ترجمة أبي يوسف: " قال أحمد بن أبي عمران الفقيه: ثني فرج مولى أبي يوسف قال: رأيت مولاي أبا يوسف إذا دخل في القنوت للوتر؛ رفع يديه في الدعاء"، قال ابن أبي عمران: كان فرج ثقة ". اهـ من " شرح الهداية " (1/306) .
وبه قال أحمد أيضاً {وإسحاق} - كما في " مسائله " { للمروزي (ص 23) } -، وقد ثبت ذلك عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ كما أخرجه البخاري في " رفع اليدين " (23)، وابن نصر (134)، والبيهقي (2/212) عن أبي عثمان النهدي: كان عمر يقنت بنا في صلاة الغداة، ويرفع يديه؛ حتى يُخرج ضَبْعَيْهِ.
ثم رواه البيهقي عنه من طرق، ثم قال: " وهو صحيح عن عمر، وكذا صححه عنه البخاري "، ثم قال البيهقي:" وروي عن علي رضي الله عنه بإسناد فيه ضعف، وروي عن عبد الله بن مسعود، وأبي هريرة رضي الله عنهما في قنوت الوتر .
فأما مسح اليدين بالوجه عند الفراغ من الدعاء في الصلاة؛ فلم يثبت بخبر
صحيح، ولا أثر ثابت، ولا قياس(18)، فالأولى أن لا يفعله، ويقتصر على ما فعله السلف رضي الله عنهم؛ من رفع اليدين دون مسحهما بالوجه في الصلاة، وبالله التوفيق " [ اهـ. مختصراً] ". (19) .
الموضع الثالث : دعاء الخطيب يوم الجمعة، والرفع يكون في موضعين :
الأولى: عند نزول المطر فإنه يرفع يديه .
والثانية: عند الدعاء بالاستصحاء ( أي : طلب الصحو) .
يدل لذلك ما جاء عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : أن رجلا، دخل المسجد يوم جمعة من باب كان نحو دار القضاء، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم قائما، ثم قال: يا رسول الله، هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يغيثنا، فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: " اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا "قال أنس: ولا والله، ما نرى في السماء من سحاب، ولا قزعة وما بيننا وبين سلع من بيت ولا دار، قال: فطلعت من ورائه سحابة مثل الترس فلما توسطت السماء انتشرت، ثم أمطرت، فلا والله، ما رأينا الشمس ستا، ثم دخل رجل من ذلك الباب في الجمعة، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يخطب، فاستقبله قائما، فقال: يا رسول الله هلكت الأموال وانقطعت السبل، فادع الله يمسكها عنا، قال: فرفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه، ثم قال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب، وبطون الأودية، ومنابت الشجر" قال: فأقلعت، وخرجنا نمشي في الشمس، قال شريك: سألت أنس بن مالك: أهو الرجل الأول؟ فقال: " ما أدري " (20) .
الحال الثالثة: حالات مطلقة ليست من الحالة الأولى ولا الثانية، والحال في ذلك واسع، إن رفع يديه فله ذلك، وإن لم يرفع يديه فله ذلك، وهذا مثل ما يكون بين الأذان والإقامة، ويوم عرفة، ووقت السحر من ساعات الليل، وساعة الإجابة يوم الجمعة، فالأصل في هذه المواطن استحباب رفع اليدين؛ لأن مد اليدين إلى السماء، من آداب الدعاء التي يرجى بسببها إجابته لما فيه من إظهار اللجوء إلى الله عز وجل والافتقار إليه، كما دل عليه حديث سلمان الفارسي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: " إن الله حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين" (21) .
قال العلامة محمد عبد الرحمن المباركفورى رحمه الله : قوله : " إن الله حي" فعيل من الحياء أي: كثير الحياء، ووصفه تعالى بالحياء يحمل على ما يليق به كسائر صفاته نؤمن بها ولا نكيفها، " كريم " هو الذي يعطي من غير سؤال فكيف بعده، " صفرا " بكسر الصاد المهملة وسكون الفاء، أي: خاليتين... وفي الحديث دلالة على استحباب رفع اليدين في الدعاء" (22).
وينبه على أن هذا النوع يقيد بأن لا يواظب المرء على رفع اليدين في الدعاء وذلك حتى لا يظن هو أو غيره أنه من السنة، سئل الإمام العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله: ما حكم رفع اليدين للدعاء بين الأذان والإقامة؟ .
فأجاب رحمه الله: إذا دعا الإنسان ورفع يديه لا بأس، رفع اليدين من أسباب الإجابة لكن ما يكون على سبيل المداومة تارة وتارة؛ لأنه لم يحفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يرفع يديه بين الأذان والإقامة، لكن جنس الرفع من جنس الدعاء مطلوب، وهو من أسباب الإجابة، وإذا رفعها الإنسان بعض الأحيان بين الأذان والإقامة والأوقات الأخرى يدعو ربه، كله لا بأس به ولكن بعد الفريضة؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يرفع يديه بعد الفريضة، ولكن بين الأذان والإقامة أو بعد النوافل أو في بعض الأحيان إذا صلى أو رفع يديه ودعا وكل هذا لا بأس به " (23) .
وقال أيضا رحمه الله: أما صلاة النافلة إذا دعا بعدها ورفع يديه فلا حرج، لكن إذا ترك ذلك بعض الأحيان حتى لا يظن أنه سنة دائمة يكون حسنا؛ لأنه لم يحفظ عنه صلى الله عليه وسلم أنه كان يواظب على رفع اليدين بعد النوافل، فإذا رفع بعض الأحيان فحسن ... " (24) .
ومما يندرج تحت الحالة الثالثة ويقع السؤال عنه مسألة : رفع اليدين بعد صلاة النافلة ويقال في الجواب أنها أيضا لا يمنع فيها من رفع اليدين في بعض الأحيان والأصل في هذا الباب كما قرره أهل العلم أن " الأمور العارضة قد يتسامح فيها بخلاف الأمور المستمرة الدائمة فلا بد من ثبوت أنها سنة " (25) .
قال العلامة عبد العزيز بن باز رحمه الله في جواب السائل عن الدعاء بعد النافلة: " أما بعد النافلة فلا أعلم بعد التتبع الكثير لا أعلم أنه رفع يديه بعد النافلة عليه الصلاة والسلام، ولكن عموم الأحاديث الدالة على أن رفع اليدين من أسباب الإجابة يقتضي أنه لا مانع من رفعها بعض الأحيان ولا يكون دائماً كما يرفعها إذا عنت له حاجة يرفع يديه ويدعو ولو من دون صلاة، فإذا صلى ورفع يديه يطلب المغفرة ويطلب حاجته التي عنت له فلا بأس بذلك.
أما اتخاذ هذا عادة كلما صلى رفع يديه فالأولى ترك ذلك، بل ورد في حديث ضعيف لا يتعلق به، ولكن ينبغي أن يكون ذلك تارة وتارة، ولا يستديم ذلك؛ لأن الرسول ﷺ ما كان يفعل هذا، ولو كان سنة لفعله ﷺ، فلما لم يفعله دل ذلك على أنه ليس بسنة فلا يداوم عليه، وإذا فعله بعض الأحيان للحاجة لطلب ما ينفع في الدنيا والآخرة، أو فعل رفع اليدين من دون صلاة عندما يدعو، فهذا كله طيب ورفع اليدين من أسباب الإجابة... ". (26) .
ومن المسائل المهمة التي يحسن التنبيه عليها: صفة الرفع لليدين وهي ثلاث صفات حسب نوع الدعاء، وقد أتى ما يدل عليه من حديث ابن عباس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: " المسألة أن ترفع يديك حذو منكبيك، أو نحوهما، والاستغفار أن تشير بأصبع واحدة، والابتهال أن تمد يديك جميعا " (27)، وفي لفظ: " هكذا الإخلاص - يشير بإصبعه التي تلي الإبهام - وهذا الدعاء - فرفع يديه حذو منكبيه - وهذا الابتهال - فرفع يديه مدا –" (28) .
قال العلامة بكر أبو زيد رحمه الله في تعليقه على هذا الحديث وقد أجاد وأفاد: " وقد جاءت الأحاديث من فعل النبي صلى الله عليه وسلم مبينة مقام كل حالة من هذه الصفات الثلاث لا أنها من اختلاف التنوع، فليتنبه .
وبيانها كالآتي:
المقام الأول: مقام الدعاء العام، ويسمى: المسألة، ويقال: الدعاء، وهو رفع اليدين إلى المنكبين أو نحوهما ضاماً لهما، بساطاً لبطونهما نحو السماء وظهورهما إلى الأرض، وإن شاء قنّع بهما وجهه وظهورهما نحو القبلة. وهذه هي الصفة العامة لرفع اليدين حال الدعاء مطلقاً، وفي قنوت الوتر والاستسقاء أو في مواطن رفعهما في المواضع الستة في الحج، وغير ذلك .
المقام الثاني: الاستغفار ويقال :الإخلاص، وهو رفع إصبع واحدة وهي السبابة من اليد اليمنى، وهذه الصفة خاصة بمقام الذكر والدعاء حال الخطبة على المنبر وحال التشهد في الصلاة وحال الذكر والتمجيد والهيللة خارج الصلاة، وعلى هذه الصفة في هذا المقام تحمل الصفة الثانية في حديث ابن عباس المتقدم، كما في حديث عمارة بن رويبة أنه رأى بشر بن مروان على المنبر رافعاً يديه ، فقال: " قبح الله هاتين اليدين، لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يزيد على أن يقول بيده هكذا، وأشار بإصبعه المسبحة" رواه مسلم .
وأحاديث رفع الإصبع حال التشهد داخل الصلاة وخارجها معلومة شهيرة .
المقام الثالث: الابتهال وهو: التضرع والمبالغة في المسألة ويسمى أيضاً دعاء الرهب.
وصفته: رفع اليدين مداً نحو السماء حتى تُرى عفرة إبطيه: أي بياضهما، ويقال في وصفه: حتى تبدو عضداه، أي يرتفعان من المبالغة في الرفع.
وهذه الصفة أخص من الصفتين السابقتين في المقام الأول، والثاني .
وهي خاصة في حال الشدة والرهبة، كحال الجدب والنازلة بتسلط العدو ونحو ذلك من مقامات الرهب " (29).
وفي ختام هذا الموضوع أختم بلطيفة مليحة مستلة من تراجم الإمام الحافظ ابن حبان، وهذا من كتابه النفيس الفذ الموسوم بـ " المسند الصحيح على التقاسيم والأنواع من غير وجود قطع في سندها ولا ثبوت جرح في ناقليها" وهي في الدعاء وما ينطوي عليه من آداب وأحكام مرشدة إلى ما تحلى به الحافظ البستي أبي حاتم من فقه عميق وفهم دقيق، ودونكم التراجم وعددها تسعة :
1 - ذكر الإخبار عما يستحب للمرء عند إرادة الدعاء رفع اليدين .
2 - ذكر الإباحة للمرء أن يرفع يديه عند الدعاء لله جل وعلا .
3 - ذكر البيان بأن رفع اليدين في الدعاء يجب أن لا يجاوز بهما رأسه .
4 - ذكر البيان بأن باطن الكفين يجب أن يكون للداعي قبل وجهه إذا دعا .
5 - ذكر استجابة الدعاء للرافع يديه إلى بارئه جل وعلا .
6 - ذكر البيان بأن الله جل وعلا إنما يستجيب دعاء من رفع إليه يديه إذا لم يدع بمعصية أو يستعجل الإجابة، فيترك الدعاء .
7 - ذكر وصف الإشارة للمرء بإصبعه عند إرادته الدعاء لله جل وعلا .
8 - ذكر البيان بأن المرء إذا أراد الإشارة في الدعاء يجب أن يشير بالسبابة اليمنى بعد أن يحنيها قليلا .
9 - ذكر الزجر عن الإشارة في الدعاء بالأصبعين .
هذا والله سبحانه وتعالى أعلى وأعلم، وصلى اللَّه على عبده ورسوله محمَّد النبيّ الصَّادق الكريم وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين والحمد للَّه رب العالمين .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــ
(1) : مجموع فتاوى ابن باز (26/144) بتصرف .
(2) : البحر المحيط (6/61) .
(3) : إعلام الموقعين (4/264-265) .
(4) : أخرجه البخاري في صحيحه كتاب الحج، باب من لم يستلم إلا الركنين اليمانيين ( 1608) .
(5) : المسند (3/369) ( 1877) .
(6) : السنن (3/204) .
(7) : فتح الباري (3/474-475) .
(8) : أخرجه مسلم في صحيحه (874) .
(9) : انظر: تحفة الأحوذي (3/38) ومرعاة المفاتيح لأبي الحسن عبيد الله المباركفوري(4/510-511) .
(10) : شرح النووي على مسلم (6/162) .
(11) : الفتاوى الكبرى (5/356) .
(12) : أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/475) (5492) و(7/250) (35775)، وإسناده صحيح .
(13) : أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/475) (5492) و(7/250) (35776) وإسناده صحيح .
(14) : أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف (1/475) (5492) بإسناد صحيح .
(15) : السلسلة الضعيفة (6/ 60) .
(16) : قد أفرد هذا الموضوع بالـتأليف وممن صنف فيه الحافظ السيوطي وعد ما جاء من الأحاديث الواردة في رفع اليدين عند الدعاء حد التواتر المعنوي، قال : " ومنه ما تواتر معناه كأحاديث رفع اليدين في الدعاء.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم نحو مائة حديث، فيه رفع يديه في الدعاء، وقد جمعتها في جزء لكنها في قضايا مختلفة؛ فكل قضية منها لم تتواتر، والقدر المشترك فيها وهو الرفع عند الدعاء، تواتر باعتبار المجموع ". [ تدريب الراوي (2/632) ] .
وعنوان الجزء الذي أشار إليه السيوطي هو: " فض الوعاء في أحاديث رفع الأيدي في الدعاء" جاء في مقدمته (ق 1 وجه أ – مخطوط -) قوله : " فقد بلغني عن بعض أنه قال : " ليس في رفع اليدين في الدعاء حديث صحيح " ، فعجبت لذلك، فإن الأحاديث فيه مشهورة بل متواترة كثيرة المسالك، فجمعتها في هذا الجزء لينتفع بها من يقف عليها، ولا يتكلم في السنة النبوية بغير علم من لم يصل رتبته إليها فأقول : وقع لنا في رفع اليدين في الدعاء من فعل النبي صلى الله عليه وسلم وأمره نيف وأربعون حديثا منها الصحيح والحسن والضعيف من رواية بضع وعشرين من الصحابة رضي الله عنهم ... " .
(17) : أخرجه أحمد في المسند (19/394) ]، قال الشيخ الألباني في أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (3/957) " وهذا إسناد صحيح، رجاله كلهم ثقات؛ رجال الشيخين والأربعة " .
(18) : علق الشيخ في الحاشية قائلا : فهو بدعة، وأما خارج الصلاة؛ فلم يصح، وكل ما روي في ذلك ضعيف، وبعضه أشد ضعفاً من بعض؛ كما حققته في " ضعيف أبي داود " (262)، و " الأحاديث الصحيحة" (597)، ولذلك قال العز بن عبد السلام في بعض فتاويه " لا يفعله إلا الجهال " .
(19) : أصل صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم (3/958-959) .
(20) : أخرجه البخاري في صحيحه (1014) ومسلم في صحيحه (897) .
(21) : أخرجه أبو داود في سننه (1488) والترمذي في سننه (3556) وصححه الشيخ الألباني في صحيح الترغيب والترهيب (1635) .
(22) : تحفة الأحوذي (9/381-382) .
(23) : مجموع الفتاوى (26/142) .
(24) : فتاوى نور على الدرب للعلامة ابن عثيمين رحمه الله الشريط (رقم 208) .
(25) : فتاوى نور على الدرب (2/1071-1072) .
(26) : فتاوى نور على الدرب (9/150) بعناية الشويعر .
(27) : أخرجه أبوداود في سننه (1489-1491)، ومن طريقه البيهقي في " الدعوات الكبير" (313)، وضياء المقدسي في الأحاديث المختارة (9/486) (468)، وصح الحديث مرفوعا وموقوفا، قال الشيخ الألباني رحمه الله: " وللعباس بن عبد الله بن معبد فيه شيخان :
الأول: عكرمة، وهذا رواه عن ابن عباس موقوفًا .
والآخر: أخوه إبراهيم بن عبد الله، وقد رواه عن ابن عباس مرفوعًا .
والرفع زيادة، وهي من ثقة فيجب قبولها لا سيما ومثله لا يقال بمجرد الرأي ". [صحيح سنن أبي داود (5/229)] .
(28) : أخرجه الطبري في الدعاء ( 208) والحاكم في المستدرك (4/356) وعنه البيهقي في السنن الكبرى (2796) .
(29) : تصحيح الدعاء (ص116-117-118) .
تعليق