إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ -الحَلْقَةُ التَّاسعَةُ-

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ -الحَلْقَةُ التَّاسعَةُ-

    إِرْشَادُ العَابِدِ السَّاجِدِ إِلَى بَعْضِ أَحْكَامِ وَآدَابِ المَسَاجِدِ

    الحَلْقَةُ التَّاسعَةُ






    تشبيكُ الأصابع في الصَّلاة أو عندَ قصدِها









    بِسْمِ اللهِ وَالصَّلَاةُ والسَّلَامُ عَلَى رسولِ اللهِ وعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ وَالاهُ:

    أمَّا بعدُ:



    فمنَ الأخطاء التي تخفى على كثيرٍ من المصلِّين وروَّادِ بيوت الله، وتراهم لا يجِدُون في فعلِهم لها حرجًا، هو تشبيكُهم لأصابِعِهم، مع أنَّ نصوصَ الشَّرعِ صريحةٌ في النَّهي عن ذلك وعن فعله:
    فعن أبي هريرة-رضي الله عنه- قال: قَالَ أَبُو الْقَاسِمِ -صلَّى الله عليه وسلَّم-: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ فِي بَيْتِهِ ثُمَّ أَتَى الْمَسْجِدَ كَانَ فِي صَلَاةٍ حَتَّى يَرْجِعَ، فَلَا يَقُلْ هَكَذَا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ)) [ 1].
    وعن كعب بنِ عجرة-رضي الله عنه- قال: سمعت رسول الله-صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: ((إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ، فَأَحْسَنَ وُضُوءَهُ، ثُمَّ خَرَجَ عَامِدًا إِلَى الصَّلَاةِ، فَلَا يُشَبِّكْ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَإِنَّهُ فِي الصَّلَاةِ)) [2]. وفي رواية[3] قال:دَخَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمَسْجِدَ وَقَدْ شَبَّكْتُ بَيْنَ أَصَابِعِي، فَقَالَ لِي: ((يَا كَعْبُ إِذَا كُنْتَ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَا تُشَبِّكْ بَيْنَ أَصَابِعِكَ، فَأَنْتَ فِي صَلَاةٍ مَا انْتَظَرْتَ الصَّلَاةَ)).

    فوائد ومسائل متعلِّقةٌ بالحديثَين:
    الأُولى: قال الخطّابي-رحمه الله-: (تَشْبِيكُ اليَدِ: هو إدخالُ الأصابع بعضِها في بعض والاشتباكُ بها، وقد يفعله بعضُ النّاس عبثًا، وبعضُهم ليفرقعَ أصابعَه عند ما يجده من التَّمدُّد فيها، وربَّما قعد الإنسان فشبَّك بين أصابعه واحتبى بيديه يريد به الاستراحة، وربّما استجلب به النَّوم فيكون ذلك سببا لانتقاض طهره، فقيل لمن تطهَّر وخرج متوجِّها إلى الصَّلاة: (لا تشبِّك بين أصابعك) لأنَّ جميع ما ذكرناه من هذه الوجوه على اختلافها لا يُلائم شيءٌ منها الصَّلاة ولا يُشاكل حالَ المصلِّي)[4].
    الثَّانية: اتِّفق العلماء على كراهةِ تشبيك الأصابع في حال الصَّلاة[5]، أمَّا تشبيكها عند قصدِ الصّلاة أو عند انتظارِها ففيه خلاف:
    فَقَدْ قَال الجمهور من الْحَنَفِيَّةِ [6] وَالشَّافِعِيَّةِ[7] وَالْحَنَابِلَةِ[8] بِكَرَاهَةِ التَّشْبِيكِ حِينَئِذٍ كذلك، لأِنَّ المرء في صلاة ما انتظر الصَّلاة.
    وخصَّ المالكيَّةُ الكراهة في حال الصَّلاة فقط[9].
    ولا شكّ بأنَّ قول الجمهور هو الحقُّ لصراحة الأحاديث في ذلك، وإنَّما لم يأخذ بها مالك-رحمه الله- لأنَّه لم يصحَّ عنده من هذا كلِّه إلَّا النَّهي عن تشبيك الأصابع في الصَّلاة خاصَّة، فأخذ بذلك ولم ير بما سواه بأسا[10].
    الثَّالثة: قال المُناوي -رحمه الله -: (إنَّ مفهوم الشَّرط ليس قيدا معتبرا، حتَّى إنَّه إنَّما يُنهى عن التَّشبيك من توضّأ فأحسن وضوءه، بل من توضّأ فأسبغ الواجب، وترك المندوب، فهو مأمور بذلك، وكذا من خرج من بيته غير متوضِّئ، ليتوضَّأ في طريقه، أو عند المسجد، لأنّه قاصد للصَّلاة في المسجد، وفائدة ذكره الشَّرط: أنّ الآتي بصفات الكمال، من توضّئِه قبل خروجه من بيته، وإحسانِه للوضوء، وذهابِه للمسجد، أنّه لا يأتي بما يخالف ما ابتدأ به عبادتَه، من العبث في طريقه إلى المسجد، بتشبيك اليدين بغير ضرورة، بل ينبغي أن يواظب على صفات الكمال في خروجه، ودخوله المسجد، وصلاته، وخروجه منه، حتّى يرجع إلى بيته، ليكونَ آخر عبادتِه مناسبا لأوَّلها، والنَّهي عن التَّشبيك في الصَّلاة، لا يتقيَّد بكونه في المسجد، بل لو صلَّى في بيته، أو سوقه فكذلك، لتعليله النَّهي عن التَّشبيك في الصَّلاة إذا خرج من بيته بأنَّه في صلاة، فإذا نهى من يُكتب له أجر المصلِّي لكونه قاصدها، فحالة الصّلاة الحقيقيّة أولى بترك العبث، سواء كانت الصَّلاة بالمسجد أو غيره)[11].
    الرَّابعة/ قوله: ((فَلَا يَقُلْ هَكَذَا)) معناه: (فلا يفعل هكذا)، وفيه إطلاق القول على الفعل وهذا جائز، وعكسه وهو إطلاق الفعل على القول جائز كذلك، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}[الأنعام: 112].

    تنبيه مهم:
    وردت أحاديث ظاهرها يفيد جواز تشبيك الأصابع في المسجد، منها:
    حديث أَبِي مُوسَى-رضي الله عنه- عَنْ النَّبِيِّ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: ((إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ))[12].
    وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ-رضي الله عنه- قَالَ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللَّهِ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِحْدَى صَلَاتَيْ الْعَشِيِّ، [قَالَ ابْنُ سِيرِينَ سَمَّاهَا أَبُو هُرَيْرَةَ، وَلَكِنْ نَسِيتُ أَنَا]، قَالَ: فَصَلَّى بِنَا رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَقَامَ إِلَى خَشَبَةٍ مَعْرُوضَةٍ فِي الْمَسْجِدِ، فَاتَّكَأَ عَلَيْهَا كَأَنَّه غَضْبَانُ، وَوَضَعَ يَدَهُ الْيُمْنَى عَلَى الْيُسْرَى، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ، وَوَضَعَ خَدَّهُ الْأَيْمَنَ عَلَى ظَهْرِ كَفِّهِ الْيُسْرَى، وَخَرَجَتْ السَّرَعَانُ[13]... )[14].
    فحَدِيثَ أَبِي مُوسَى، دَالٌّ عَلَى جَوَازِ التَّشْبِيك مُطْلَقًا، وَحَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَة دَالٌّ عَلَى جَوَازِهِ فِي الْمَسْجِدِ، وَإِذَا جَازَ فِي الْمَسْجِدِ فَهُوَ فِي غَيْرِهِ أَجْوَزُ[15]، وقد جمع بينها أهل العلم بعدَّة أقوال منها:
    الأوَّل:النَّهي خاصّ بالأمّة، والجواز من خصوصيّاته-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. قاله الشَّوكاني[16].
    والثَّاني: النَّهي عن فعله على وجه العبث ولغير قصد. وهو لاِبْن الْمُنير حيث قال: (التَّحْقِيق أَنَّهَا لَا تعارضها، إِذ المنهي عَنهُ فعله على وَجه الولع والعبث، وَالَّذِي فِي الحَدِيث إِنَّمَا هُوَ لمقصود التَّمْثِيل، وتصوير الْمَعْنى فِي النَّفس بِصُورَة الْحس. وَنَحْو ذَلِك من الْمَقَاصِد الصَّحِيحَة)[17].
    قال الحافظ ابنُ حجر-رحمه الله-: (هُوَ فِي حَدِيثِ أَبِي مُوسَى وَابْن عُمَر كَمَا قَالَ، بِخِلَافِ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَة)[18].
    والثَّالث: النَّهي عن فعله في الصَّلاة أو عند قصدها. إِذْ مُنْتَظِر الصَّلَاةِ فِي حُكْمِ الْمُصَلِّي وَهو جَمْعُ الْإِسْمَاعِيلِيّ، ورجَّحه كثيرون.
    قال الحافظ ابن ُرجب -رحمه الله-: (وقد ذكر أبو بكر الإسماعيلي في (صحيحه) المخرّج على (صحيح البخاري)[19] أنَّ حديث كعبِ بنِ عجرةَ وما في معناه لا ينافي حديث أبي هريرة الذي خرَّجه البخاري في هذا الباب، وأنَّه يمكن الجمع بينهما، بأنَّه إنَّما يكره التَّشبيك لمن كان في صلاة، أو حكمه حكم من كان في صلاة، كمن يمشي إلى المسجد أو يجلس فيه لانتظار الصَّلاة، فأمَّا من قام من الصَّلاة وانصرف منها، كما فعل النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لمَّا سلَّم من ركعتين وقام إلى الخشبة المعترضة، فإنَّه صار منصرفا من الصَّلاة لا منتظرا لها، فلا يضرّه التَّشبيك حينئذ)[20].
    و قال الحافظ ابنُ حجر-رحمه الله-: (وَأَحَادِيث الْبَاب الدَّالَّة عَلَى الْجَوَازِ خَالِيَة عَنْ ذَلِكَ[21]: أَمَّا الْأَوَّلَانِ[22] فَظَاهِرَانِ، وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَة فَلِأَنَّ تَشْبِيكَهُ إِنَّمَا وَقَعَ بَعْدَ اِنْقِضَاء الصَّلَاة فِي ظَنِّهِ، فَهُوَ فِي حُكْمِ الْمُنْصَرِفِ مِنْ الصَّلَاةِ)[23].
    قال الشّيخ ابنُ باز-رحمه الله-: ( يكره للمسلم أن يشبِّك بين أصابعه إذا خرج إلى الصَّلاة، وهكذا حال انتظاره للصَّلاة، وهكذا في الصَّلاة؛ لأنَّه جاء عن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- ما يدلُّ على كراهة ذلك، فإذا خرج إلى الصَّلاة فإنَّه في صلاة، فلا يشبّك بين أصابعه، وهكذا في المسجد إذا كان ينتظر الصَّلاة لا يشبِّك بين أصابعه، كلُّ هذا مكروه، وهكذا في نفس الصَّلاة لا يشبِّك بين أصابعه، أمَّا بعد الصَّلاة فلا حرج، ولو كان في المسجد بعد الصَّلاة لا بأس أن يشبِّك وإن كان في المسجد، فقد ثبت عنه -صلَّى الله عليه وسلَّم- في الصَّحيحين أنَّه لمَّا سلَّم من الصَّلاة يظنُّ أنَّه أتمَّها تقدَّم وجلس في مقدَّم المسجد، وشبَّك بين أصابعه -عليه الصَّلاة والسَّلام، فالحاصل أنَّ التَّشبيك بعد الصَّلاة ولو في المسجد لا حرج فيه)[24].

    2- الحكمة في النَّهي عن التَّشبيك:
    اخْتُلِفَ فِي حِكْمَة النَّهْي عَنْ التَّشْبِيكِ:
    - فَقِيلَ: لِكَوْنِهِ مِنْ الشَّيْطَانِ. وقد جاء ذلك في حديث أبي سعيد الخدري-رضي الله عنه- الذي رواه أحمد[25] وابنُ أبي شيْبة[26]، ولكنَّ إسنادَه ضعيفٌ لا يثبُت[27].
    - وَقِيلَ: لِأَنَّ التَّشْبِيكَ يَجْلِبُ النَّوْمَ، وَهُوَ مِنْ مَظَانّ الْحَدَثِ. وهذا غير لازم، بل كالنَّادر.
    - وَقِيلَ: لِأَنَّ صُورَةَ التَّشْبِيكِ تُشْبِهُ صُورَةَ الِاخْتِلَافِ، فَكُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ هُوَ فِي حُكْمِ الصَّلَاةِ، حَتَّى لَا يَقَعَ فِي الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، وَهُوَ قَوْلُهُ-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِلْمُصَلِّينَ: ((وَلَا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ)) [28].
    قال ابنُ رجب-رحمه الله- رادًّا على هذا القول: (وهو مناسبة بعيدة جدا، فإنَّ التَّشبيك، كما مُثِّل به الاختلافُ والافتراقُ، فقد مثِّل به الائتلاف والتَّعاون والتَّناصر، كما في حديث أبي موسى الذي خرَّجه البخاري في أوَّل الباب[29]، فليس كراهته لمشابهته لمثل الافتراق، بأولى من عدم كراهته لمشابهته لمثل التَّعاون والتَّعاضد والتَّناصر) [30].
    - وقيل: لأنَّ فيه مشابهةً لأهل الكتاب. ويدلُّ على هذا ما رواه أبو داود بسنده[31] عَنْ إسماعيل بْنِ أُمَيَّةَ سَأَلْتُ نَافِعًا عَنْ الرَّجُلِ يُصَلِّي وَهُوَ مُشَبِّكٌ يَدَيْهِ؟ قَالَ: قَالَ ابْنُ عُمَرَ: (تِلْكَ صَلَاةُ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ)[32].
    - وقيل: لأنّه فعلٌ يدلُّ على العبث الذي ينبغي أن تنزّه عنه الصّلاة. وهذا وارد كذلك، لذلك قال الحافظ ابنُ رجب-رحمه الله- مرجِّحا القولين الأخيرين:(وكلامُ ابنِ عمر يدلُّ على أنَّه كُرِه لِمَا فيه من مشابهة أهل الكتاب، وهو-أيضا- من نوع العبث الذي تنزَّه عنه الصَّلاة) [33].

    فائدتان مهمتان:
    الأولى: قال شيخُنا الفاضل محمَّد علي فركوس-حفظه الله-: (وإذا كانت علَّة النَّهي عن تشبيك الأصابع في المسجد هي العبث على أرجح الأقوال، فإنَّه يمكن توسيع دائرة الكراهة من المسجد إلى سائر مواضع العبادات كالسَّعي والطَّواف وغيرِها، ومجالسِ العلمِ والذّكرِ والمدارسةِ؛ لأنَّ العبثَ لا يتجانس مع مضمون العبادة والدِّيانة، ويقوِّي ذلك أنّ تشبيك الأصابع يُنهى عنه في الصَّلاة سواء في المسجد أو خارجه،...
    هذا، وإذا كان التَّشبيك المُنهى عنه من أجل العبث، فإنَّه يخرج عن النَّهي ما كان سبيله التَّعليم والبيان، فقد ثبت عن النبيِّ -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم- أنّه قال: «دَخَلْت العُمْرَة فِي الحَجِّ وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»[34]، وكذا في قوله -صَلَّى اللهُ عليه وآله وسَلَّم-: «المُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا، وَشَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ»[35]، ففي الحديثين وجهٌ للتشبيه والمبالغة في البيان )[36].
    الثَّانية: ممَّا يلحق بالتَّشبيك من جهة كراهيّة فعله في الصَّلاة هو (فرقعةُ الأصابع)، فإنَّ فيه في الغالب- تشبيكا وزيادة[37]، ولأنَّه عمل لغير مصلحة الصَّلاة، وقد نصَّ فقهاءُ المذاهب الأربعة[38] وغيرُهم على كراهيَّة ذلك[39].
    فالفرقعةُ كالتَّشبيك تُكره لأنّها من العبث الذي تنزَّه عنه العبادة، إلَّا أنَّ بين التَّشبيك والفرقعة فرقًا من جهتين:
    الأُولى: أنَّ كراهيَّة الفرقعة إذا فعلت بغير التَّشبيك خاصٌّ بحال الصَّلاة فقط، وهي مباحةٌ عند قصدها وانتظارها أو بعد الفراغ منها، بخلاف التَّشبيك كما مرّ.
    الثَّانية: أنَّ الفرقعةَ وإن كانت جائزةً في المسجد بعدَ الصَّلاة، إلَّا أنَّه إن خشيَ أن تشوِّش على مَن حوله فلا يفعل، بخلاف التَّشبيك ففعله بعد الصَّلاة لا يضرّ.
    وبهذا أفتى العالمان الجليلان: الألباني[40] وابن عثيمين[41] -رحمهما الله-.




    اتِّخَاذُ المَسَاجِدِ طُرُقًا




    وهذا الفعل كذلك من الأخطاء الّتي تحدثُ باستمرار في مساجدنا، ولا تكاد تجد من ينكرُها إلّا قليلا ممّن وفقهم الله
    والمقصود بـ(اتّخاذ المساجد طرقًا): أن يدخلَ الرَّجل من بابٍ ويخرجَ من بابٍ آخر عابرا لحاجته من غير أن يصلّيَ فيه[42].
    قال الصَّنعاني-رحمه الله-: (وهذا مُشاهد في أعظم بيوت الله، وهو الحرم المكيّ، فإنَّه كالطَّريق لأهل مكَّة يعبرون لحاجاتهم منه إلى مساكنهم،...) [43].
    وهذا من أشراط السّاعة كما أخبر نبيُّنا-صلَّى الله عليه وسلَّم- في الحديث الذي رواه عنه ابنُ مسعودٍ-رضي الله عنه-: (( إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يَمُرَّ الرَّجُلُ فِي الْمَسْجِدِ لَا يُصَلِّي فِيهِ رَكْعَتَيْنِ...))[44].
    وقد نُهي عن هذا الفعل لمنافاته للتَّعظيم الواجب لشعائر الله، فالمساجدُ ما جُعلت لمرور النَّاس من خلالها، وإنَّما جعلت للعبادة، ولم يتوقَّف الأمر عند هذا الحدّ، بل وصل الأمر في بعض بلاد المسلمين أن أصبحت المساجدُ آثارًا سياحيَّة، يدخلُها من لا يُراعي لها أيَّ حرمة. والله المستعان.
    وقد جاء النَّهي عن هذا الفعل في السُّنَّة الصَّحيحة:
    فعن عبدِ الله بنِ عمر-رضي الله عنهما- أَنَّ النَّبِيَّ -صلَّى الله عليه وسلَّم- قَالَ: ((لَا تَتَّخِذُوا الْمَسَاجِدَ طُرُقًا، إِلَّا لِذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ))[45].
    تنبيه: قد جاء ما يدلُّ على جواز المرور في المسجد:
    فعَنْ أَبِي مُوسَى-رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، قَالَ: ((إِذَا مَرَّ أَحَدُكُمْ فِي مَسْجِدِنَا، أَوْ فِي سُوقِنَا، وَمَعَهُ نَبْلٌ، فَلْيُمْسِكْ عَلَى نِصَالِهَا بِكَفِّهِ، أَنْ يُصِيبَ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْهَا بِشَيْءٍ))[46].
    إلَّا أنَّ هذا الدّليل على الجواز حملَه أهلُ العلم على الحاجة والنُّدرة حيث لا يؤدّي إلى استطراق المسجد المنهيّ عنه كما سبق[47].
    قال ابنُ كثير-رحمه الله-: (أَمَّا أَنَّهُ (لَا يُتَّخَذُ طَرِيقًا) فَقَدْ كَرِهَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُرُورَ فِيهِ إِلَّا لِحَاجَةٍ إِذَا وَجَد مَنْدُوحَةً عَنْهُ)[48].
    وقد أشار -صلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسلَّم- إلى هذا المعنى حين قال: ((...سُدُّوا عَنِّي كُلَّ خَوْخَةٍ فِي هَذَا المَسْجِدِ، غَيْرَ خَوْخَةِ[49] أَبِي بَكْرٍ))[50].
    قال القُرطبي-رحمه الله-: ( فَأَمَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِسَدِّ الْأَبْوَابِ لَمَّا كَانَ يُؤَدِّي ذَلِكَ إلى اتخاذ الْمَسْجِدِ طَرِيقًا وَالْعُبُورِ فِيهِ، وَاسْتَثْنَى خَوْخَةَ أَبِي بَكْرٍ إِكْرَامًا لَهُ وَخُصُوصِيَّةً، لِأَنَّهُمَا كَانَا لَا يَفْتَرِقَانِ غَالِبًا)[51].
    وقال النَّووي-رحمه الله-: ( فِيهِ أَنَّ الْمَسَاجِدَ تُصَانُ عَنْ تَطَرُّقِ النَّاسِ إليها فِي خَوْخَاتٍ وَنَحْوِهَا إِلَّا مِنْ أَبْوَابِهَا إِلَّا لِحَاجَةٍ مُهِمَّةٍ)[52].
    وقال ابنُ كثير-رحمه الله-: ( وَهَذَا قَالَهُ فِي آخِرِ حَيَاتِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، عِلْمًا مِنْهُ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ، -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- سَيَلِي الْأَمْرَ بَعْدَهُ، وَيَحْتَاجُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الْمَسْجِدِ كَثِيرًا لِلْأُمُورِ الْمُهِمَّةِ فِيمَا يَصْلُحُ لِلْمُسْلِمِينَ، فَأَمَرَ بِسَدِّ الْأَبْوَابِ الشَّارِعَةِ إِلَى الْمَسْجِدِ إِلَّا بَابَهُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-)[53].
    وللحديث بقية في حلقاتٍ أخَريسَّر الله إتمامَها
    والحمدُ لله ربِّ العالمين



    مصطفى قالية
    14ذو الحجة 1433هـ
    الجزائر العاصمة











    [1] أخرجه ابن خزيمة في الصحيح برقم (439)، والحاكم في المستدرك برقم (744). وهو في صحيح الجامع برقم (445).
    [2] أخرجه أحمد في المسند برقم (18103)، والدّارمي في المسند برقم (1444)، وأبو داود في السّنن برقم (562)، والتّرمذي في الجامع برقم (386). وهو في صحيح التّرغيب برقم (294).
    [3] أخرجها أحمد في المسند برقم (18130). وهو في صحيح الترغيب برقم (294).
    [4] معالم السُّنن (1/162).
    [5] حاشية ابن عابدين على الدرِّ المختار (1/642)، والموسوعة الفقهيَّة الكويتيَّة (12/15).
    [6] البحر الرَّائق (2/22)، وحاشية ابن عابدين (1/642).
    [7] المجموع شرح المهذب (4/544)، وأسنى المطالب في شرح روض الطَّالب (1/270).
    [8] المغني (1/328-329)، وكشف القناع (1/324)، والشَّرح الكبير على المقنع (1/500).
    [9] النَّوادر والزِّيادات على ما في المدوَّنة (1/238)، والبيان والتَّحصيل لابن رشد (1/364)، والذَّخيرة للقرافي (2/151)، والفواكه الدَّواني (1/139)، وحاشية العدوي (1/191).
    [10] البيان والتَّحصيل لابن رشد(1/364)
    [11] فيض القدير(1/321).
    [12] أخرجه البخاري في الصّحيح برقم(467)، وهو عند مسلم في الصحيح برقم (573) ولكن ليس فيه ذكر التّشبيك.
    [13] قَالَ النَّوَوِيُّ-رحمه الله- في شرح مسلم (5/68) عن لفظة: (السَّرعان): (بِفَتْحِ السِّينِ وَالرَّاءِ هَذَا هُوَ الصَّوَابُ الَّذِي قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَهْلِ الْحَدِيثِ وَاللُّغَةِ وكَذَا ضبَطَه الْمُتْقِنُونَ، والسَّرَعَانُ: المُسْرِعُونَ إلى الخُروجِ، وضبَطَه الأصيلي في البُخاري بضمِّ السِّين وإسكانِ الرَّاء).
    [14] أخرجه البخاري في الصحيح برقم (468).
    [15] انظر فتح الباري (1/566).
    [16] انظر نيل الأوطار (2/388). وهذا مبنيّ على ما اختاره الشّوكاني-رحمه الله- عند تعارض قوله وفعله-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- من أنّه يجعل القول للأمّة والفعل من خصوصّياته-صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-. انظر إرشاد الفحول (1/114) .
    [17] انظر المتواري على أبواب البخاري (90).
    [18] انظر فتح الباري(1/566).
    [19] مستخرج الإسماعيلي من الكتب الّتي فقدت، وإن كان كثير من مادّته قد حفظ في كتب أهل العلم، وبالخصوص في كُتب أربعةِ أعلامٍ من مشاهير شُرَّاح صحيح البُخاري وهم :
    1. الكَرماني (ت 786 هـ)، في شرحه الذي سَمَّاهُ: (الكواكب الدّراري في شَرْح صحيح البخاري).
    2. ابن حجر(ت 852 هـ)، في شرحه: (فتح الباري شَرْح صحيح البخاري).
    3. العيني (ت 855 هـ)، في شرحه: (عمدة القاري شرح صحيح البخاري).
    4. القَسْطلاني (ت 923 هـ)، في شرحه: (إرشاد السَّاري لشرح صحيح البخاري).
    انظر الدّراسة والتّحليل الّتي قام بها: محمد بن زين العابدين رستم حول مستخرج الإسماعيلي، مقال منشور في: مجلة جامعة الإِمام محمّد بن سعود الإِسلاميّة [العدد 36/ص 183].
    [20] انظر فتح الباري له(3/423).
    [21] أي: ليس فيها أنَّ التَّشبيك وقع في حال الصّلاة أو عند قصدها.
    [22] الحديث الأوّل أورده البخاري بسنده عن عَنِ ابْنِ عُمَرَ، أَوْ ابْنِ عَمْرٍو: ((شَبَكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَصَابِعَهُ))، والحديث الثَّاني هو حديث أبي موسى المذكور سابقا.
    [23] انظر فتح الباري(1/566).
    [24] فتاوى نور على الدّرب (9/241)
    [25] في المسند برقم (11385).
    [26] في المصنّف برقم (4824).
    [27] انظر سلسلة الأحاديث الضّعيفة والموضوعة (6/135)(2628).
    [28] مسلم(432).
    [29] سبق ذكره.
    [30] انظر فتح الباري له(3/424).
    [31] في السّنن برقم (993)، ومن طريقه أخرجه البيهقي في السّنن الصّغرى برقم (852)، والكبرى برقم (3573). وإسناده صحيح. انظر إرواء الغليل(2/102)(380).
    [32] قلت: هذه الرِّواية الصَّحيحة عن ابن عمر-رضي الله عنه- تُبطِل ما نُسِب إليه وإلى ابنه سالم كذلك من أنّهما كَانَا يُشَبِّكَانِ بَيْنَ أَصَابِعِهِمَا فِي الصَّلَاةِ، وتؤكِّد في الوقت ذاتِه الاتِّفاقَ الّذي نقله بعضُهم من كراهيّة التّشبيك حال الصّلاة، وإثباتَ الخلاف في غيرها كما مرّ.والله أعلم.وانظر حسن التَّسليك في حكم التَّشبيك للسُّيوطي مطبوع ضمن الحاوي للفتاوي له (2/13).
    [33] انظر فتح الباري له(3/426).
    [34] أخرجه مسلم في «صحيحه» كتاب الحج، باب حجة النبي صلى اللهُ عليه وآله وسَلَّم: (2950)، من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
    [35] أخرجه البخاري في «صحيحه» كتاب المظالم، باب نصر المظلوم: (2314)، ومسلم في «صحيحه» كتاب البر والصلة، باب تراحم المؤمنين وتعاطفهم وتعاضدهم: (6585)، من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه.
    [36] الفتوى رقم: (929) الصِّنف: فتاوى أصول الفقه والقواعد الفقهيّة.
    [37] انظر: الذّخيرة للقرافي (2/151)، .
    [38] انظر: البناية شرح الهداية (2/437)، والبحر الرّائق (2/22)، والذّخيرة للقرافي (2/151)، ومواهب الجليل (1/550)، والمجموع (8/46)، وتحفة المحتاج (2/165)، والمغني (2/9)، والإقناع (1/112).
    [39] انظر:المحلّى لابن حزم (2/368)، وإرشاد أولي البصائر والألباب للسِّعدي (ص 87)، وفتاوى نور على الدّرب لابن باز (13/320)، ومجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين (13/305)، وفتاوى اللّجنة الدّائمة- المجموعة الثّانية (5/266)- السُّؤال الثَّاني من الفتوى رقم (21349).
    [40] سلسلة الهدى والنُّور/ الشَّريط: 822 / الدَّقيقة: 43.
    [41] الشَّرح الممتع (3/235)، وسلسلة نور على الدَّرب / الشّريط رقم: 325 / الوجه: ب / الدَّقيقة: 16.
    [42] انظر: التيسير بشرح الجامع الصغير للمناوي (2/380).
    [43] التنوير شرح الجامع الصغير للصّنعاني (9/583).
    [44] أخرجه عبد الرزاق في المصنّف برقم (1678)، وابن خزيمة في الصّحيح برقم (1326)، والطّبراني في الكبير برقم (9488)، والبيهقي في شعب الإيمان برقم (8399). والحديث في سلسلة الأحاديث الصّحيحة (2/249)(649).
    [45] أخرجه الطّبراني في المعجم الكبير برقم (13219)، وفي الأوسط برقم (31). وإسناده حسن كما قال الألباني في سلسلة الأحاديث الصّحيحة (3/3)(1001).
    [46] أخرجه البخاري في الصّحيح برقم (452)، ومسلم في الصّحيح برقم (2615).
    [47] انظر الثّمر المستطاب للألباني-رحمه الله- (2/727).
    [48] تفسير ابن كثير (6/64).
    [49] قال ابنُ الأثير-رحمه الله-: (الخَوْخَةُ: بابٌ صغِيرٌ كالنَّافِذَة الكَبِيرَة، وتكُون بَيْن بَيْتَيْن يُنْصَبُ عَلَيْهَا بابٌ). انظر النِّهاية في غريب الحديث والأثر (2/86).
    [50] أخرجه البخاري في الصّحيح برقم (467).
    [51] تفسير القرطبي (5/207).
    [52] شرح مسلم (15/153).
    [53] تفسير ابن كثير (2/311).
    التعديل الأخير تم بواسطة أبو معاذ محمد مرابط; الساعة 2012-11-03, 10:14 AM.

  • #2
    أحسن الله إليكم ووفقكم لما فيه صلاح وخير
    وبارك الله لكم في علمكم يا شيخ
    اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
    وسيم بن أحمد قاسيمي -غفر الله له-

    تعليق


    • #3
      جَزَاكُمُ اللهُ خَيْرًا، وَبَارَكَ فِي أَعْمَالِكُمْ، ويَسَّرَ لَكُمْ إِتْمَامَ بَقِيَّةَ الحَلَقَاتِ.

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيكم ، نسأل الله أن يوفقكم لفعل الخير .

        تعليق


        • #5
          جزاك الله خيرا ياشيخ .

          تعليق


          • #6
            بارك الله فيكم إخوتي الكرام، ووفقكم لمرضاته.

            تعليق


            • #7
              جزاك الله خيرا شيخ مصطفى على هذه السلسلة الماتعة
              فوائد جميلة بطريقة سهلة
              أسأل الله أن يثيبك عليها
              وننتظر دائما المزيد

              تعليق


              • #8
                بارك الله فيك شيخنا على هذا الموضوع و وفقك إلى البر و التقوى و أسكنك دار كرامته

                تعليق


                • #9
                  جزاك الله خيرا على هذا المقال الطيب و بارك الله في علمكم و نحن في إنتظار المزيد من الفوائد

                  تعليق


                  • #10
                    بارك الله فيك أخي الشيخ مصطفى وزاك الله علما وعملا ورزق الإخلاص
                    ويسر الله عليك أمورك
                    نسأل الله أن تكرر زيارة لسعيدة إن شاء الله

                    تعليق


                    • #11
                      جزاكم الله خيرا إخوتي الكرام، وبارك فيكم.

                      تعليق

                      الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
                      يعمل...
                      X