تغريد
<بسملة1>
سلسلة:
أصول منهجية وقواعد سنية من آثار سلفية
الأثر الثالث:
قال اللالكائي رحمه الله في شرح أصول اعتقاد أهل السنّة والجماعة أخبرنا الحسن بن عثمان قال: أخبرنا أحمد بن الحُسَين قال حدَّثنا سليمان بن الأشعث قال: حدَّثنا أبو توبة قال حدَّثنا سلمة - يعني ابن كلثوم - عن الأوزاعي قال: "من اسْتَتر عنَّا بِبدعة لم تَخْفَ أُلفته (ج 1 /ص 154 ،رقم 257 طبعة دار طيبة تحقيق أحمد بن سعد بن حمدان الغامدي) وأخرجه ابن بطة بلفظ : "مَنْ سَتَر عنَّا بِدعته لم تخْفَ علينا أُلْفَته" (الإبانة الكبرى رقم 420 ) وأخرج ابن بطة في الشرح و الإبانة عن ابن المبارك رحمه الله أنه قال:" منْ خَفِيتْ علينَا بدعته لم تخْفَ علينا أُلْفَته "(ص 172 رقم 173 طبعة مكتبة العلوم والحكم ، تحقيق رضا بن نعسان معطي ).
فهذان الإمامان السَّلفيان، والعلمان السُّنيان، أصَّلا أصْلاً منهجيا عظيما، وقعدا قاعدة سلفيَّة متينة، وهو أن المرء يحكم عليه بقرينه وصاحبه، ويلحق بِخَدَنِه وخليله؛ وقد دل على هذا الأصل كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه الصلاة والسلام وآثار السلف
قال الله تعالى:"وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي الكِتَٰبِ أَنۡ إِذَا سَمِعتُمۡ ءَايَٰتِ للَّهِ يُكفَرُ بِهَا وَيُستَهزَأُ بِهَا فَلَا تَقعُدُواْ مَعَهُمۡ حَتَّىٰ يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيرِهِۦٓ إِنَّكُمۡ إِذٗا مِّثلُهُمۡۗ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ المُنَٰفِقِينَ وَالكَٰفِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا١٤٠" .
قال ابن الحاج المالكي في كتابه حزّ الغلاصم في إفحام المتخاصم نقلا عن كتاب "إجماع العلماء على الهجر والتحذير من أهل الأهواء "لخالد الظفيري ص 116 -118 :"فبين سبحانه بقوله : " وَقَدۡ نَزَّلَ عَلَيۡكُمۡ فِي الكِتَٰبِ " ما كان أَمَرَهُم به مِنْ قوله في السورة المكية " فَلَا تَقعُدۡ بَعدَ الذِّكرَىٰ مَعَ القَوۡمِ الظَّٰلِمِينَ٦٨" ثمَّ بين في هذه السورة المدنية أن مجالسة من هذه صِفَتُه لُحُوقٌ به في اعتقاده (وقد ذهب قوم من أئمة هذه الأمة إلى هذا المذهب ، وحكم بموجب هذه الآيات في مُجَالِس أهل البدع على المعاشرة و المخالطة منهم أحمد بن حنبل ، والأوزاعي وابن المبارك ، فإنَّهم قالوا :يُنهَى عن مجالستهم فإن انتهى وإلاَّ ألحِق بهم يعنون في الحكم ؛قيل لهم فإنه يقول إني أجالسهم لأُبَاينهم و أرد عليهم ؛ قالوا : يُنهى عن مجالستهم فإن لم ينته أُلحق بهم)".
وروى مسلم في" صحيحه" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الأرواح جنود مُجنَّدة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف" قال النووي رحمه الله: "فيميل الأخيار إلى الأخيار والأشرار إلى الأشرار (شرح مسلم كتاب البر والصلة والآداب، باب الأرواح جنود مُجنَّدة رقم: 2638).
وروى أحمد وأبو داود والترمذي وغيرهم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الرجل على دين خليله فَلْيَنْظُر أحدكم من يُخَالل" (الصحيحة 927)
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: "اعْتَبِروا النّاس بأَخْدَانهم، المسلم يتبع المسلم والفاجر يتبع الفاجر" (الإبانة 502) وقال أيضا رضي الله عنه: "إنَّما يُماشي الرجل ويُصاحِبُ مَنْ يُحبّه ومنْ هو مِثْلهُ" وقال رضي الله عنه:" اعْتَبروا الرّجُل بِمن يُصاحبُ فإنَّما يُصاحِب مَنْ هو مثله" قال شعبة: " وجدته مكتوباً عندي فإنَّما يُصاحب الرجل منْ يُحبّ" (الإبانة 499 - 500).
وقال أبو الدرداء رضي الله عنه:" مِنْ فِقْه الرَّجل مَمشاه ومَدْخَله ومَخْرجه ومَجلسه" ثم قال أبو قِلابة: قاتل الله الشاعر حين يقول " (عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه)" (الإبانة 398 وابن أبي شيبة (8/400).
وإذا رُؤيَ أحد من أهل السنة مع أحد من أهل البدع فينبغي نُصحه وتحذيره ، لأنّه ربَّما يكون جاهلا بحاله ،غَير عالم ببدعته فإن أصَرَّ على مجالسته ومخالطته بعد النصح والبيان ، فإنه يُلحق به، بهذا أفتى أئمة الإسلام و الفقهاء الأعلام ، قال أبو داود السِّجستَاني رحمه الله : "قُلْتُ لأبي عبد الله أحمد بن حنبل أرى رجلا من أهل السنة مع رجل من أهل البدعة -أترك كلامه؟ قال :لا ،أَوْ( أي:" بَلْ "كما قال الشيخ محمد بن هادي المدخلي حفظه الله) تُعْلِمُه أن الرجل الذي رأيته معه صاحب بدعة ، فإن ترك كلامه فكلمه ، وإلا فَأَلحِقه به ، قال ابن مسعود المرء بِخَدَنِه" ( طبقات الحنابلة 216 بواسطة الدرُّ المنثور من القول المأثور للشيخ جمال الحارثي (ص176 – 177)) .
قال الإمام البربهاري رحمه الله في شرح السنة: "وإذا رأيت الرجل جالسا مع رجل من أهل الأهواء فحَذِّرْه وعَرِّفْه، فإن جلس معه بعدما عَلِمَ فاتَّقِه، فإنه صاحب هوى" قال الشيخ العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله : " هذا من مَوازِين أهل السنة ، فالذي يجالس أهل البدع في الغالب أن يكون منهم وقد ينخدع مَنْ ظَاهرُه السُّنَّة بهم فيجالسهم أو يجالس بعض أفرادهم، لأنّه قد يخفى عليه أنّ جليسه هذا مبتدع ومن باب النصيحة له فحَذِّرْهُ ولا تُبَدِّعْه ولا تَهْجُرْه ابتداءً ،وإنما تُسْدي له النصيحة فإن سمع فذاك ن وإذا أصر على مجالسة
أهل الأهواء، فاعلم أنه صاحب هوى، فإنه لا يبالي بدينه" ( عون الباري ببيان ما تضمَّنه شرح السنة للإمام البربهاري (2/345)) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :"ومنْ كان مُحسِنًا للظن بهم ،وادعى أنه لم يعرف حالهم عُرِّف حالهم فإن لم يُباينهم ، ويُظهر لهم الإنكار و إلاَّ أُلْحِق بهم ، وجُعل منهم" (مجموع الفتاوى 2/133).
فمهما حاول أحد أن يخفي بدعته وأن يستر ضلالته فَضَحَهُ الله بأصحابه وخِلاَّنِه، ومُجَالِسِيه وأَخْدَانِه؛
قال معاذ بن معاذ ليحيى بن سعيد رحمهما الله: "يا أبا سعيد الرَّجل وإن كتم رأيه لم يخف ذاك في ابنه ولا صديقه ولا في جلِيسه" (الإبانة 509).
وقال محمد بن عبيد الله الغلابي رحمه الله :" يتَكَاتمُ أهل الأهواء كل شيءٍ إلاَّ التآلف والصُّحبة "( الإبانة 510) ومن عُمْق فقه السلف وشدَّة فِطنتهم وتيقظهم أنهم كانوا إذا خفيت عليهم حال أحد من النَّاس سألوا عن جُلسائِه وأصحابه فيلحقونه بهم ؛ قال يحيى بن سعيد القطان رحمه الله: لـمَّا قدم سفيان الثوري البصرة ؛ جعل ينظر إلى أمرِ الربيع يعني: ابن صُبَيْح وقَدْرِه عند النَّاس ؛ سأل أيّ شيءٍ مذهبه ؟ قالوا :ما مذهبه إلاَّ السنَّة؛ قال من بطانته؟ قالوا: أهل القدر قال :(هو قدريٌّ) (الإبانة421).
قال ابن بطة معلّقًا:"رحمةُ الله على سفيان الثوري لقد نَطَقَ بالحِكْمة رحمه الله فصدَق، وقال بِعِلْم فوَافَق الكتاب والسنَّة، وما تُوجِبُه الحكمة ويُدْركه العيان، ويعرفه أهلُ البصيرة والبيان"(الإبانة 421).
قال أبو حاتم: " وقَدم موسى بن عقبة الصوري بغداد فَذُكِر لأحمد بن حنبل فقال: انظروا على منْ نَزَل وإلى من يَأوِي" (الإبانة 514).
فهذا منهج سلفيّ سويّ وسبيل سنيّ قويّ وهو معالمة الذي يُماشي أهل البدع ويُخالطهُم كما يعاملون
قال هشام بن حسان الأزدي رحمه الله: إنَّ أيوب السّختياني دُعِيَ إلى غَسْلِ مَيِّت؛ فخَرج مع القوم، فلَّما كَشَفَ عن وجه الميّت عَرَفَهُ فقال: "أَقْبِلُوا قِبَلَ صاحبكم فلست أغسّله (رأيته يُمَاشِي صاحب بدعة) " (الإبانة 498).
قال الإمام ابن بطّة العُكْبَرِي رحمه الله:" ومن السنّة مُجانبة كلّ منِ اعتقد شيئا ممَّا ذكرناه (أي البدع) وهجرانه، والمقت له وهجران مَنْ والاه ونَصَرَه وذَبَّ عنه (وصاحَبَهُ وإن كان الفاعل لذلك يظهر السنة)"
قال ابن حبَّان:" وأنْشَدَنِي المُنْتَصِر بنُ بلال الأنصاري:
يَـزينُ الفــــــتى في قومـــــــــــــــــه ويَـشِـيـنُــــه وفي غيرهم أخْدَانُه ومَدَاخِلُه
لكل امرئ شَكْلٌ من النَّاس مثله وكل امرئ يهوي إلى من يشاكله". (روضة العقلاء ص203)
وقال على ابن أبي طالب رضي الله عنه لِرَجُل رآه يَصْحَب رجلا كرهه له:لكل امرئ شَكْلٌ من النَّاس مثله وكل امرئ يهوي إلى من يشاكله". (روضة العقلاء ص203)
ولا تَصْحَب أخا الجهل وإيّاكَ وإيَاهُ
فكم مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقاسُ الـمَرْءُ بالـمَرْءِ إذا مَا هُو مَاشَاهُ
ولِلْشَيْءِ على الشَيْءِ مَقَايِيسٌ وأشْبَاهُ
وللرٌوح على الرُوح دَليلٌ حِينَ يَلْقَاهُ (الإبانة 461)
وقال ابن حبَّان رحمه الله :" وما رأيتُ شيئا أدل على شيء ولا الدُّخان على النار مثل الصاحب على الصاحب" ( روضة العقلاء وما يحتاج إليه الملوك والنبلاء ص202 ). وقال أيضا رحمه الله: "العاقل يجتنب مُماشاة المُريب في نفسه ويُفارق صحبة المتَّهمِ في دينه( لأنَّ من صحب قوما عُرف بهم ومن عاشر امرأً نُسب إليه ،والرَّجل لا يُصاحب إلا مثله أو شَكله) فإذا لم يجد المرء بُدًّا مِنْ صُحبة الناس تحرى من زانه إذا صحبه، ولم يَشِنْه إذا عُرف به ....."(روضة العقلاء ص203)فكم مِنْ جَاهِلٍ أَرْدَى حَلِيمًا حِينَ آخَاهُ
يُقاسُ الـمَرْءُ بالـمَرْءِ إذا مَا هُو مَاشَاهُ
ولِلْشَيْءِ على الشَيْءِ مَقَايِيسٌ وأشْبَاهُ
وللرٌوح على الرُوح دَليلٌ حِينَ يَلْقَاهُ (الإبانة 461)
وقال جعفر بن سليمان الضُّبَعِيُّ سمعت مالكا رحمه الله يقول : " النَّاس أشكال كأجناس الطير الحمام مع الحمام ، والغراب مع الغراب والبطّ مع البطِّ والصَّعْوُ مع الصَّعْو ( وهو عصفور صغير أحمر الرأس ) وكل إنسان بشكْلِه (روضة العقلاء ص202).
قال ابن بطة رحمه الله:" فانظروا- رحمكم الله- مَنْ تَصحبُون وإلى مَنْ تجلسون، واعرفوا كل إنسان بِخِدْنِه وكُلَّ أحد بِصَاحِبِه أعاذنا الله وإياكم من صحبة المفتونين، ولا جعلنا وإيَّاكم من إخوان العابثين ولا من أقْرَان الشياطين وأَسْتَوْهِبُ الله لي ولكم عِصْمَةً مِنَ الضَلال وعافيةً من قَبِيح الفِعال الإبانة الكبرى.
هذا والله أعلم وسبحانك اللهمّ وبحمدك أشهد أن لا إله إلاّ أنت أستغفرك وأتوب إليك.
الخميس 19 جمادى الآخرة 1441.
أبو ريحانة عتو ساحي
أبو ريحانة عتو ساحي
تعليق