إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نقد تعريف المعجزة عند السيوطي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نقد تعريف المعجزة عند السيوطي

    بسم الله الرحمن الرحيم


    نقد تعريف المعجزة
    عند السيوطي

    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وبعد:
    فإن الإعجاز في القرآن والسنة مما اشتغل به كثير من الباحثين في هذا العصر ومنذ زمن بعيد، ورغم كثرة المؤلفات فيه إلا أن أغلب المؤلفين لم يضبطوا تعريف المعجزة، فتجدهم يعتمدون تعريف السيوطي (هي الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، السالم من المعارضة) من غير وعي لحقيقته ومن غير إدراك للوازمه، وفي هذا البحث المتواضع سأحاول بيان حقيقته وبعض لوازمه وكلام الأئمة فيه خاصة من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله.

    المطلب الأول:
    أصل اصطلاح المعجزة وتعريفه عند السيوطي

    الفرع الأول:
    أصل اصطلاح المعجزة

    لا يوجد في الكتاب والسنة استعمال لفظ (المعجزة) أو (الإعجاز) ولا في كلام أهل القرن الأول والثاني كما قرره أهل العلم، فكان العلماء من السلف يستعملون المصطلحات القرآنية كالآية والبرهان، ثم ظهر في القرن الثالث الهجري استعمال مصطلح (الإعجاز) و(المعجزة) (1) على اختلاف في المعنى المستعمل له، وفيما يلي ذكر أول من استعمل هذا اللفظ، على أنه لا يعرف على وجه القطع من أول من استعمله:
    1- إبراهيم النظام (220): قال: "الآية والأعجوبة في القرآن ما فيه من اللإخبار بالغيب، فأما التأليف والنظم فقد كان يجوز أن يقدر عليه العباد لولا أن الله منعهم بمنع وعجز أحدثه فيهم"(2) ، وقوله هذا يقرر فيه القول بالصرفة ومعلوم عند أهل السنة بطلان هذا المعتقد.
    2- 3- هشام الفوطي، وعباد بن سليمان والمعتزلة عموما: أشار إلى ذلك أبو الحسن الأشعري حيث قال: "والمعتزلة على نقيض قوله هذا إلا هشاما الفوطي وعباد بن سليمان، أما سائرهم فهم على أن تأليف القرآن ونظمه معجز محال وقوعه منهم كاستحالة إحياء الموتى منهم"(3)
    4- عمرو بن بحر الجاحظ (255): واستعماله للفظ الإعجاز وتعريفاته مبثوث في كتبه. (4)
    5- ابن الراوندي (298): وقد كان من المعتزلة ثم فارقهم وصار يناظرهم في إعجاز القرآن الكريم وألحد وتزندق. (5)
    ثم بدأ التأليف في إعجاز القرآن الكريم، فألف الجاحظ " حجج النبوة" و"نظم القرآن"، هذا في القرن الثالث، وفي القرن الرابع شاع التأليف فيه، فمن هذه المؤلفات: "إعجاز القرآن ونظمه وتأليفه" لمحمد بن زيد الواسطي المعتزلي، و"نظم القرآن" لأبي بكر السجستاني، و" نظم القرآن" لأبي زيد البلخي، وهو يرى رأي الفلاسفة، و"نظم القرآن" لابن الإخشيد المعتزلي، وغيرها كثير.
    وأما السلف أسحاب الحديث فقد استعملوا لفظ (المعجزة) خلاف ما استعمله فيه من سبق ذكرهم.
    قال ابن تيمية -وهو من أهل الاستقراء التام-: " وَالسَّلَفُ - كَأَحْمَدَ وَغَيْرِهِ - كَانُوا يُسَمُّونَ هَذَا وَهَذَا مُعْجِزًا، وَيَقُولُونَ لِخَوَارِقَ الْأَوْلِيَاءِ: إِنَّهَا مُعْجِزَاتٌ، إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي اللَّفْظِ مَا يَقْتَضِي اخْتِصَاصَ الْأَنْبِيَاءِ بِذَلِكَ. بِخِلَافِ مَا كَانَ آيَةً وَبُرْهَانًا عَلَى نُبُوَّةِ النَّبِيِّ، فَإِنَّ هَذَا يَجِبُ اخْتِصَاصُهُ." (6)
    مما سبق يعلم أن أول ما استعمل فيه لفظ الإعجاز كان بمعنى الصرفة، كما في قول النظّام السابق، ثم استعمله المعتزلة في وصف القرآن بأنه آية عجز الناس عن الإتيان بمثلها، وأن أصحاب الحديث استعملوه استعمالا مغايرا للمعتزلة. والله أعلم.




    الفرع الثاني:
    تعريف السيوطي للمعجزة ومن سبقه إليه:
    قبل إيراد تعريف السيوطي للمعجزة يجب ضبط المعنى اللغوي لها.
    المعجزة لغة: هي اسم فاعل من (عَجَزَ)، والعجز: الضعف، وبابه: ضرب، وأعجزه الشيء: فاته، وعجزه تعجيزا: ثبطه أو نسبه إلى العجز، والمعجزة: واحد معجزات الأنبياء. (7)
    تعريف السيوطي للمعجزة:
    ذكر السيوطي في الإتقان، في "النوع الرابع والستون: في إعجاز القرآن" تعريفَ المعجزة هي: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة". وقسم المعجزة إلى قسمين: حسية وعقلية؛ فالحسية كما كانت أكثر معجزات بني إسرائيل، والعقلية كمعجزات هذه الأمة .(8)
    ذكر من سبق السيوطي لهذا التعريف: ونورد بعضها هنا لا على سبيل الحصر:
    عرفها الفخر الرازي بأنها: "أمر خارق للعادة، مقرون بالتحدي، مع عدم المعارضة" . وهو مطابق لتعريف السيوطي. (9)
    وقال ابن حمدان في نهاية المبتدئين: " الْمُعْجِزَةُ هِيَ مَا خَرَقَ الْعَادَةَ مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ إِذَا وَافَقَ دَعْوَى الرِّسَالَةِ وَقَارَنَهَا وَطَابَقَهَا عَلَى جِهَةِ التَّحَدِّي ابْتِدَاءً بِحَيْثُ لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَيْهَا وَلَا عَلَى مِثْلِهَا، وَلَا عَلَى مَا يُقَارِبُهَا"(10).
    ونسبه شيخ الإسلام ابن تيمية في كتاب النبوات إلى الأشاعرة والمعتزلة قبلهم، وحصرهم في هذا البحث عسير مستعص فنكتفي بما نقلنا وبقول شيخ الإسلام وهو من أهل الاستقراء التام.

    الفرع الثالث:
    شرح التعريف:
    قال التفتازاني شارحا تعريف الفخر الرازي: "إِنَّمَا قَالَ أَمْرٌ لِيَتَنَاوَلَ الْفِعْلَ كَانْفِجَارِ الْمَاءِ مِنْ بَيْنِ أَصَابِعِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَيَتَنَاوَلَ عَدَمَهُ أَيْ عَدَمَ الْفِعْلِ كَعَدَمِ إِحْرَاقِ النَّارِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَاحْتَرَزُوا بِقَيْدِ الْمُقَارَنَةِ لِلتَّحَدِّي عَنْ كَرَامَاتِ الْأَوْلِيَاءِ، وَالْعَلَامَاتِ الْإِرْهَاصِيَّةِ الَّتِي تَتَقَدَّمُ الْبَعْثَةَ النَّبَوِيَّةَ وَعَنْ أَنْ يَتَّخِذَ الْكَاذِبُ مُعْجِزَةَ مَنْ مَضَى مِنَ الْأَنْبِيَاءِ أَوْ مَا تَقَدَّمَ لَهُ فِي السِّنِينَ الْمَاضِيَةِ حُجَّةً لِنَفْسِهِ، وَبِقَيْدِ عَدَمِ الْمُعَارَضَةِ عَنِ السِّحْرِ وَالشَّعْوَذَةِ."
    قال السفاريني: " قَوْلُ ابْنِ حَمْدَانَ: (وَطَابَقَهَا) ؛ لِيُخْرِجَ مَا إِذَا قَالَ: مُعْجِزَتِي نُطْقُ هَذَا الْحَجَرِ، فَنَطَقَ بِأَنَّهُ كَذَّابٌ مُفْتَرٍ، وَكَمَا تَفَلَ مُسَيْلِمَةُ فِي بِئْرٍ فَغَارَ مَاؤُهَا، وَمَسَحَ عَلَى رَأْسِ غُلَامٍ فَصَارَ أَقْرَعَ وَنَحْوُ ذَلِكَ." (11)
    تنبيه!
    ذِكر السفاريني لتعريفات من سبق في كتابه (لوامع الأنوار) ليس دليلا على مطابقة رأيه لرأيهم، ويدل على ذلك نقله لكلام شيخ الإسلام بن تيمية بعده من كتابه الجواب الصحيح، وفيه: " الْآيَاتُ وَالْبَرَاهِينُ الدَّالَّةُ عَلَى نُبُوَّةِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَثِيرَةٌ مُتَنَوِّعَةٌ، وَهِيَ أَكْثَرُ وَأَعْظَمُ مِنْ آيَاتِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ."
    فلو كان يتبنى التعريف كمن سبق ذكرهم لناقض ذلك كثرة الآيات والبراهين المذكور في كلام شيخ الإسلام كما سيأتي إن شاء الله، بل وقد نقل من كلام شيخ الإسلام ما يناقض تلك التعريفات، وإنما يظهر أنه أوردها لشهرتها والله أعلم.

    المطلب الثاني:
    نقد تعريف المعجزة للسيوطي
    يتم نقد التعريف بنقد شروطه واحدا واحدا، ولا يقال: من الانتقادات أن المعنى اللغوي للمعجزة لا يدل على الشروط؛ لأن استعمال لفظ المعجزة لم يكن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وليس مجمعا عليه، لذلك فبناء النقاد على هذا الأساس إقرار ضمني لصحة استعمال هذا اللفظ وأنه مرادف لغة لكلمة (آية) أو (البرهان)، وهذا ظاهر البطلان، فلو قيل: لفظ (آية) لا يدل لغة على تلك الشروط لصح، ولا يصح ذلك في المعجزة، وإنما يشتبه ذلك على بعض من قصر نظره فتنبه.
    وفيما يلي نقد الشروط الثلاثة:
    نقد شرط خرق العادة:
    ونقدها يكون من وجوه:
    1- أن كون الآية خارقة للعادة هو وصف لم يصفه القرآن ولا الحديث ولا السلف، قال شيخ الإسلام: " وكون الآية خارقة للعادة، أو غير خارقة: هو وصفٌ لم يصفه القرآن، والحديث، ولا السلف.
    وقد بيّنا في غير هذا الموضع أنّ هذا وصفٌ لا ينضبط، وهو عديم التأثير؛ فإنّ نفس النبوة معتادة للأنبياء، خارقة للعادة بالنسبة إلى غيرهم.
    إنّ كون الشخص يخبره الله بالغيب خبراً معصوماً هذا مختصّ بهم، وليس هو موجوداً لغيرهم، فضلاً عن كونه معتاداً.
    " (12)
    2- أن كون المعجزة خارقة للعادة ليس أمرا مضبوطا، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " فكونه خارقا للعادة ليس أمرا مضبوطا، فإنّه إن أريد به أنّه لم يوجد له نظير في العالم، فهذا باطلٌ؛ فإن آيات الأنبياء بعضها نظير بعض، بل النوع الواحد منه؛ كإحياء الموتى: هو آية لغير واحد من الأنبياء.
    وإن قيل: إنّ بعض الأنبياء كانت آيته لا نظير لها؛ كالقرآن، والعصا، والناقة، لم يلزم ذلك في سائر الآيات.
    ثمّ هب أنّه لا نظير لها في نوعها، لكن وجد خوارق العادات للأنبياء غير هذا، فنفس خوارق العادات معتادٌ جنسه للأنبياء، بل هو من لوازم نبوتهم، مع كون الأنبياء كثيرين؛ وقد روي أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألف نبيّ وما يأتي به كلّ واحد من هؤلاء، لا يكون معدوم النظير في العالم، بل ربما كثر نظيره وإن عني بكون المعجزة هي الخارق للعادة: أنّها خارقة لعادة أولئك المخاطبين بالنبوة؛ بحيث ليس فيهم من يقدر على ذلك، فهذا ليس بحجة؛ فإنّ أكثر الناس لا يقدرون على الكهانة، والسحر، ونحو ذلك.
    " (13)
    فبين أن جرد ذلك مشترك بين الأنبياء وغيرهم كالكهان والسّحرة، فدخل في التعريف غير الأنبياء وبذلك بطل الشرط.
    3- أن كون الشيء معتادا أو غير معتاد أمر نسبي "فأهل كلّ بلدٍ لهم عادات في طعامهم، ولباسهم، وأبنيتهم، لم يعتدها غيرهم. فما خرج عن ذلك فهو خارق لعادتهم، لا لعادة من اعتاده غيرهم." (14)
    غير أنه يجب التنبه أن الانتقادات السابقة تورد في حالة اشتراط مجرد خرق العادة غي الآية أو المعجزة، قال شيخ الإسلام: " فلهذا لم يكن في كلام الله، ورسوله، وسلف الأمة، وأئمتها وصف آيات الأنبياء بمجرد كونها خارقة للعادة، ولا يجوز أن يجعل مجرد خرق العادة هو الدليل؛ فإنّ هذا لا ضابط له، وهو مشتركٌ بين الأنبياء وغيرهم. ولكن إذا قيل: من شرطها أن تكون خارقة للعادة؛ بمعنى أنها لا تكون معتادة للناس فهذا ظاهر يعرفه كل أحد." (15)
    ثم إن أصحاب التعريف لما أدركوا الإلزامات التي ذكرها شيخ الإسلام ابن تيمية تفرقوا إلى طرفين؛
    الطرف الأول: ما قاله المعتزلة من عدم تجويز خوارق العادات على يد غير الأنبياء، قال شيخ الإسلام: " والمعتزلة قبلهم ظنّوا أنّ مجرّد كون الفعل خارقاً للعادة، هو الآية على صدق الرسول، فلا يجوز ظهور خارقٍ إلاّ لنبيٍّ. والتزموا طرداً لهذا: إنكار أن يكون للسحر تأثيرٌ خارجٌ عن العادة؛ مثل أن يموت ويمرض بلا مباشرة شيءٍ. وأنكروا الكهانة، وأن تكون الجن تُخبر ببعض المغيبات، وأنكروا كرامات الأوليا." (16)
    يقول القاضي عبد الجبار: "إن العادة لا تخرق إلا عند إرسال الرسل، ولا تخرق لغير هذا الوجه؛ لأن خرقها لغير هذا الوجه يكون بمنزلة العبث". (17)
    وقال عبد القاهر البغدادي عنهم:"وأنكرت القدرية كرامات الأولياء لأنهم لم يجدوا في بدعتهم ذا كرامة" (18)
    وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية في النبوات أن الذين أنكروا الكرامات هم المعتزلة، وابن حزم، وأبو إسحاق الإسفراييني، وأبو محمد بن زيد، ورد عليهم في الكتاب نفسه وفي كتاب شرح الأصفهانية، كما أورد السبكي في طبقات الشافعية شبهاتهم ورد عليها.
    الطرف الثاني: أثبتوا الخوارق لغير النبي ونفوا أن يقرن بدعوى النبوة، قال الجويني: "فإن المعجزة لا تدل بعينها، وإنما لتعلقها بدعوى النبوة"، وقال أيضا: "جنس المعجزة يقع من غير دعوى وإنما الممتنع وقوعه على حسب دعوى الكاذب"(19) ، وبهذا القول أيضا يقول الباقلاني في البيان، وتفصيل هذا يطول والمقام لا يسمح، غير أننا نذكر إلزاما عقليا ودليلا حسيا يكفيان لإبطال هذا القول:
    الدليل الحسي:
    وهو أنّه قد ادّعى جماعةٌ من الكذّابينَ النبوّة، وأتوا بخوارق من جنس خوراق الكُهّان والسحرة، ولم يعارضهم أحدٌ في ذلك المكان والزمان، وكانوا كاذبين؛ فبطل قولهم إنّ الكذّاب إذا أتى بمثل خوارق السحرة والكهان، فلا بد أن يمنعه الله ذلك الخارق، أو يُقَيِّض له من يعارضه وهذا كالأسود العنسيّ الذي ادّعى النبوّة باليمن في حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم، واستولى على اليمن، وكان معه شيطانان؛ سُحَيْق، ومُحَيْق. وكان يخبر بأشياء غائبة من جنس أخبار الكهان، وما عارضه أحدٌ. وعُرف كذبه بوجوه متعدّدة، وظهر من كذبه، وفجوره؛ ما ذكره الله بقوله: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلُ عَلى كلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}.
    وكذلك مسيلمة الكذاب، وكذلك الحارث الدمشقي، ومكحول الحلبي، وبابا الرومي، لعنة الله عليهم، وغير هؤلاء؛ كانت معهم شياطين كما هي مع السحرة والكهان. (20)
    الإلزام العقلي:
    من المعروف عند الأشاعرة أنهم ينفون الحكمة والتعليل من أفعال الله تعالى، فيقال لهم: قد يأتي من يخرق العادة ويدعي النبوة.
    فيقولون: لا يمكن أن يقترن هذا بهذا وإلا بطلت النبوة.
    فيقال لهم: أن تجوزون فعل كل مقدور لأنكم تنفون الحكمة والتعليل عن أفعال الله تعالى، وخلق الخارق مع دعوى النبوة على يد الكذاب مقدور، فبطلت دعواكم، فيلزمكم أت تتراجعوا عن إحداهما، وفي هذا الدليل كفاية لإلزامهم، وسيأتي مزيد تفصيل في نقد الشرط الثاني.

    نقد شرط التحدي:
    والانتقادات على هذا الشرط نجملها فيما يلي:
    1- اشتراط التحدي ليس عليه دليل: وقد شق عليهم هذا الاعتراض حتى وجدوا مخرجا كما قال بعضهم: "التحدي لا يوجد في معنى المعجزة غير أن الصواب ان نقول: تحداهم فأعجزهم، لذلك فالصواب اشتراط التحدي في المعجزة"، ولم أجد من سبقه إلى هذا القول، وبيان بطلانه كما يلي:
    ذكر العلامة محمد الأمين الشنقيطي (21) من شروط المعرف أن يكون مطردا منعكسا، والطرد هو المنع، والعكس هو الجمع.
    ويجب أن تعلم أولا أن الطرد في الاصطلاح هو الملازمة والثبوت، وقضيته: كلما وجد الحد وجد المحدود، فإن صدقت قضيته لزم منع غير المحدود من الدخول قطعا، وإيضاحه أن النسبة بين الحد والمحدود إن كانت المساواة كان جامعا مانعا كتعريف الإنسان بأنه حيوان ناطق، وإن كان الحد أعم من المحدود كان جامعا غير مانع كتعريف الإنسان بأنه الحيوان، وإن كان الحد أخص من المحدود كان مانعا غير جامع، كتعريف الحيوان بأنه الناطق، فإنه مانع من دخول غير الحيوان؛ إذ لا ناطق إلا وهو حيوان، ولكنه غير جامع لأن من أفراد الحيوان ما ليس بناطق.
    واشتراط التحدي في حد المعجزة من جنس الحالة الثالثة؛ أي أن الحد أخص من الحدود؛ فالقول إن المعجزة هي ما كان متحدى به مانع من دخول غير المعجزة؛ إذ لا متحدى به إلا وهو معجزة، ولكنه غير جامع لأن من أفراد المعجزة ما ليس متحدى به، وهذا كثير في آيات الأنبياء وخاصة نبينا صلى الله عليه وسلم.
    وأصل الخلل أن المشترطين لهذا الشرط نظروا إلى أعظم معجزة وهي القرآن الذي تحدى به الله تعالى المشركين، ووضعوا له تعريفا منطبقا عليه وهو: "الخارق للعادة، المقرون بالتحدي، السالم من المعارضة"، ثم جعلوه هو تعريف المعجزة فلم يعم باقس آيات النبي
    صلى الله عليه وسلم، فكان مانعا غير جامع، وحين تطبيق على الآيات بدؤوا بإخراجها واحدة واحدة من حيز المعجزات.
    ثم إن بعضهم قسم الآيات إلى معجزات فخصها بالكفار، وإلى آيات غير متحدى بها وخصها بالمؤمنين، وهذا التقسيم باطل يرده قول النبي
    صلى الله عليه وسلم من حديث أبي هريرة: " مَا مِنَ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مَا مِثْلهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ" رواه البخاري.
    فقوله: البشر. عم كل مخلوق ولم يخص المؤمن أو الكافر، فهي تدخل الكافر في الإسلام وتزيد المؤمنين إيمانا، والله أعلم.
    2- أكثر معجزات النبي
    صلى الله عليه وسلم كانت بلا تحد، بل لم يتحد بغير القرآن، قال شيخ الإسلام:" ومما يلزم أولئك أنّ ما كان يظهر على يد النبيّ صلى الله عليه وسلم في كل وقت من الأوقات ليست دليلاً على نبوّته؛ لأنّه لم يكن كلما ظهر شيءٌ من ذلك احتجّ به، وتحدّى الناس بالإتيان بمثله، بل لم ينقل عنه التحدي إلا في القرآن خاصّة، ولا نُقل التحدي عن غيره من الأنبياء."(22) وقد سبق في الاعتراض السابق الإشارة إلى هذا.
    3- أن آيات الانبياء ليس من شرطها استدلال النبي
    صلى الله عليه وسلم بها ولا تحديه بالإتيان بمثلها، بل هي دليل على نبوته وإن خلت عن هذين القيدين، وهذا كإخبار من تقدم بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم؛ فإنه دليل على صدقه وإن لم يعلم هو بما أخبروا به ولم يستدل به، وأيضا فما كان يظهره الله على يديه من الآيات مثل تكثير الطعام والشراب مرات كنبع الماء من بين أصابعه غير مرة، وتكثير الطعام القليل حتى كفى أضعاف من كان محتاجا إليه وغير ذلك كله من دلائل نبوته ولم يكن يظهرها للاستدلال بها ولا يتحدى بمثلها، بل لحاجة المسلمين إليها، وكذلك إلقاء الخليل في النار إنما كان بعد نبوته ودعائه لهم إلى التوحيد، "فالدليل الدالّ على المدلول عليه، ليس من شرط دلالته استدلال أحدٍ به، بل ما كان النظر الصحيح فيه موصلاً إلى علمٍ، فهو دليل، وإن لم يستدلّ به أحدٌ؛ فالآيات أدلةٌ وبراهين تدلّ سواءٌ استدلّ به النبيّ، أو لم يستدلّ. وما لا يدلّ إذا لم يُستدلّ به لا يدلّ إذا استدلّ به، ولا ينقلب ما ليس بدليلٍ دليلاً إذا استدلّ به مدّعٍ لدلالته." (23)
    نقد شرط عدم المعارضة:
    وهي ألا يأتي أحد بمثل ما أتى به المتحدي على وجه المعارضة، أو ألا يظهر بين المرسل إليهم ذلك الخارق المعجز على يد غير نبي. (24)
    قال شيخ الإسلام: "وأما قولهم: خاصّة المعجز عدم المعارضة5: فهذا باطلٌ، وإن كان عدم المعارضة لازماً له، فإنّ هذا العدم لا يعلم، إذ يمكن أن يعارضه من ليس هناك إذا كان مما يعلم أنّه معتاد؛ مثل خوارق السحرة، والكهان؛ فإنّه وإن لم يمكن أن يُعارض في هذا الموضع، ففي السحرة والكهان من يفعل مثلها، مع أنه ليس بنبي؛ فالعنسي، ومسيلمة لم يعارَضا في مكانهم، ووقت إغوائهم.
    وإن قال: لا يُعارَض البتة. فمن أين يعلم هذا العدم؟
    " (25)
    وزاد بعضهم (26) شرطا رابعا وهو: أن يظهر الخارق من نبي، وإنما أُحدِث هذا الشرط بعد كشف عوارهم، فيرد عليهم بقولنا:
    الغاية من تحديد تعريف المعجزة هو معرفة الدليل الذي تصح به نبوة مدعي النبوة، والذي سميتموه: المعجزة. ولا يمكن اشتراط كون الآتي بالشروط الثلاثة نبيا لأن إثبات نبوته هو الغاية والمطلوب، وفي هذا الدليل كفاية لمن بصره الله تعالى.

    الفرع الثاني:
    التعريف الصحيح عند أهل السنة.
    بعد البحث والتفتيش وجدت أمثل تعريف هو ما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية من أن آية الأنبياء أو ما يسمى بالمعجزة هي: الخوارق التي تخرق عادة جميع الثقلين؛ فلا تكون لغير الأنبياء، ولغير من شهد لهم بالنبوة. وهذا كلامٌ صحيحٌ فصلتم به بين آيات الأنبياء، وغيرهم بفصلٍ مطّرد منعكس، بخلاف من قال: هي خرق العادة، ولم يُميّز بينها وبين غيرها، وتكلّم في خرق العادة بكلامٍ متناقضٍ؛ تارة يمنع وجود السحر والكهانة، وتارة يجعل هذا الجنس من الآيات، ولكن الفرق عدم المعارضة. لكن لم يذكروا الفرق في نفس الأمر، ونفس كونها معجزة.
    قد يقال: لماذا كان هذا التعريف هو الأمثل؟ وما هو الوصف الذي امتاز به حتى صارت الآية بهذا العريف دليلا دون غيره؟
    فنقول: لا بُد أن تكون مما يعجز عنها الإنس والجن؛ فإنّ هذين الثقلين بُعث إليهم الرسل؛ كما قال تعالى: {يَا مَعْشَرَ الجِنِّ وَالإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ}
    وقال تعالى: {وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ العَذَابِ عَلَى الكَافِرِينَ}
    والإنس والجنّ منهم من آمن بالرسل، ومنهم من كذّبهم، فلا بُد أن يكون مما لا يقدر عليها جنس الإنس والجنّ.
    ثمّ الكرامات يخص بها المؤمنين من الطائفتين، وأمّا آيات الأنبياء التي بها تثبت نبوتهم، وبها وجب على الناس الإيمان بهم، فهي أمرٌ يخص الأنبياء، لا يكون للأولياء، ولا لغيرهم، بل يكون من المعجزات الخارقة للعادات الناقضة لعادات جميع الإنس والجن غير الأنبياء.
    فما كان الإنس أو الجن يقدرون عليه، فلا يكون وحده آية للنبي. (27)

    هذا والله أعلم،
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    -----------------------------------
    1 إعجاز القرآن الكريم بين الإمام السيوطي والعلماء لمحمد موسى شريف ص50 و 62
    2 مقالات الإسلاميين لأبي الحسن الأشعري ص 225
    3 مقالات الإسلاميين للأشعري ص225 و وينظر: إعجاز القرآن للباقلاني ص 65
    4 انظر: إعجاز القرآن الكريم بين الإمام السيوطي والعلماء لمحمد موسى شريف ص 74 وما بعدها
    5 انظر: الوافي بالوفيات ج8 ص 232
    6 الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح ج5 ص419
    7 مختار الصحاح لمحمد بن ابي بكر الرازي مادة (ع ج ز)
    8 انظر: الإتقان ج4 ص3
    9 لوامع الأنوار البهية للسفاريني ج2 ص290
    10 المصدر السابق، الصفحة نفسها.
    11 المصدر الشابق، الصفحة نفسها.
    12 النبوات ج1 ص172
    13 النبوات ج1ص172
    14 النبوات ج1ص173
    15 النبوات ج1ص173
    16 النبوات ج1ص484
    17 رسائل العدل والتوحيد ص 237
    18 أصول الدين ص175
    19 انظر: الإرشاد ص319 وص328
    20 النبوات ج1 ص498
    21 انظر: آداب البحث والمناظرة لمحمد أمين الشنقيطي ص60 وما بعدها
    22 النبوات ج1 ص541
    23 النبوات ج1 ص500
    24 إعجاز القرآن بين السيوطي والعلماء ص38
    25 النبوات ج2 ص775 و795
    26 في موقع أ. مها بنت عبد الرحمن العيفان من غير عزو، محاضرة "تعريف المعجزة"
    27 النبوات ج2 ص863-864 بتصرف يسير

    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2020-01-15, 09:03 AM.

  • #2
    اللهم بارك،، جزاك الله خيرا أخانا علي القسنطيني
    ونأمل منك ومن إخواننا مزيدا من النشاط في البحوث العلمية المؤصلة.

    تعليق


    • #3
      أحسن الله إليك وبارك فيك أخي عبد العزيز

      تعليق


      • #4
        ما شاء الله بارك الله فيك أخي عليّ

        تعليق

        الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
        يعمل...
        X