<بسملة1>
زَجْرُ البُلدَاء عَنِ الطَعنِ فِي العلَمَاء...
[الحَلَقَة الثَالِثَة وَالأَخِيرَة]
[الحَلَقَة الثَالِثَة وَالأَخِيرَة]
لتحميل المقال كاملا على صيغة بي دي آف: (https://bit.ly/2qsnaGH).
اَلنُّقْطَةُ الثَّانِيَةُ:
قَالَ الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ -: «وَإِنَّ أَصْحَابَ هَذِهِ الْبِدْعَةِ – وَعَلَىٰ رَأْسِهِمُ الشَّيْخُ فَرْكُوسٌ – لَيْسَ لَهُمْ سَلَفٌ فِي مَنْهَجِهِمْ وَمَفْهُومِ اصْطِلَاحِهِمُ الْمُحْدَثِ إِلَّا أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ الَّذِينَ شَابَهُوا الْيَهُودَ، فَهُمُ الَّذِينَ أَحْدَثُوا هَذِهِ الْبِدْعَةَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَصْرِفُوا وُجُوهَ النَّاسِ عَنِ الْحَقِّ وَأَلَّا يَنْكَشِفَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ، فَيَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ أَهْلُ حَقٍّ، ثُمَّ إِذَا جَاءَ الْحَقُّ بِمَا يُخَالِفُ أَهْوَاءَهُمْ تَنَكَّرُوا لَهُ وَقَالُوا: «لَا يَكُونُ مِنَ الْحَقِّ إِلَّا مَا جَاءَ مِنْ عِنْدِنَا»» اهـ.
اَلْبِدْعَةُ الَّتِي يَقْصِدُهَا الْبُلَيْدِيُّ هِيَ «بِدْعَةُ الْإِقْصَاءِ» الَّتِي يَرْمِي بِهَا شَيْخَنَا تَحْتَ تَخْدِيرِ وَتَأْثِيرِ الرَّمَضَانِيِّ الْكَبِيرِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ أَعْلَاهُ أَنَّهُ يُغَرِّدُ خَارِجَ السَّرْبِ، وَأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْمِثَالِ أَنَّهُ بَعْدَ ظُهُورِ الْحَقِّ بِدَلَائِلِهِ، وَانْفِضَاحِ الْبَاطِلِ وَحَبَائِلِهِ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَىٰ كَثْرَةِ النَّاعِقِينَ، وَلَا يُهْتَمُّ بِتَشْوِيشِ الْمُعَانِدِينَ، بَلْ يَجْعَلُهُمْ فِي الْهَامِشِ لِخُرُوجِهِمْ عَنْ جَوْهَرِ الْخِلَافِ، وَعَدَمِ تَحْرِيرِهِمْ لِمَوْطِنِ النِّزَاعِ، حَتَّىٰ لَا يُعِيقُوهُ عَنْ إِدْرَاكِ بُلْغَتِهِ، وَلَا يُعَرْقِلُوا نَشَاطَهُ فِي دَعْوَتِهِ، -بِاعْتِرَاضَاتٍ يَشُوبُونَ فِيهَا قَلِيلًا مِنَ الْحَقِّ الْمَدْخُولِ بِسُوءِ النِّيَّةِ وَقُصُورِ الْفَهْمِ بِكَثِيرٍ مِنَ الْبَاطِلِ-، وَهَذَا حِفَاظًا عَلَىٰ الْوَقْتِ، وَانْشِغَالًا بِالْأَهَمِّ فَالْمُهِمِّ، لِأَنَّ «الْمَشْغُولَ لَا يُشَغَّلُ».
وَفِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَعْنَىٰ الْمُبَارَكِ، وَالْمَفْهُومِ الْأَصِيلِ، نَسُوقُ لِلْبُلَيْدِيِّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ – كَلَامًا لِأَهْلِ الْعِلْمِ مِمَّنْ سَبَقَ، وَأَمْثِلَةً لِأَهْلِ الْفَضْلِ مِمَّنْ صَدَقَ، لَعَلَّهُ يُقِرُّ بِجَهْلِهِ، وَيَعْتَرِفُ بِخَطَلِهِ.
قَالَ السِّعْدِيُّ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: ﴿وَلَىِٕنۡ أَتَیتَ الَّذِینَ أُوتُوا۟ الكِتَـٰبَ بِكُلِّ ءَایَةࣲ مَّا تَبِعُوا۟ قِبلَتَكَۚ﴾ [اَلْبَقَرَةُ: 145]: «وَكَذَلِكَ إِذَا تَبَيَّنَ الْحَقُّ بِأَدِلَّتِهِ الْيَقِينِيَّةِ، لَمْ يَلْزَمِ الْإِتْيَانُ بِأَجْوِبَةِ الشُّبَهِ الْوَارِدَةِ عَلَيْهِ، لِأَنَّهَا لَا حَدَّ لَهَا، وَلِأَنَّهُ يُعْلَمُ بُطْلَانُهَا، لِلْعِلْمِ بِأَنَّ كُلَّ مَا نَافَىٰ الْحَقَّ الْوَاضِحَ، فَهُوَ بَاطِلٌ، فَيَكُونُ حَلُّ الشُّبَهِ مِنْ بَابِ التَّبَرُّعِ» اهـ.
إِذَا كُنْــــــــــــتَ ذَا عِلْمٍ وَمَــــــــاراكَ جَــــــاهِــلٌ ::: فَــــــأَعْرِضْ فَــــــفِي تَــــــرْكِ الْجَوَابِ جَوَابُ
وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فِي الْقَوْلِ فَاسْكُتْ فَإِنَّمَا ::: سُكُوتُكَ عَنْ غَيْرِ الصَّوَابِ صَوَابُ(1)
وَإِنْ لَمْ يُصِبْ فِي الْقَوْلِ فَاسْكُتْ فَإِنَّمَا ::: سُكُوتُكَ عَنْ غَيْرِ الصَّوَابِ صَوَابُ(1)
وَمِنْ أئِمَّةِ السَّلَفِ الَّذِينَ ذَكَرُوا هَذَا الْمَعْنَى الْإمَامُ الْآجُرِّيُّ – رَحِمَهُ اللهُ- حَيثُ قَالَ فِي كِتَابِ الشَّرِيعَةِ (2/451) تَحْتَ بَابِ ذَمِّ الْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ: «فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ قَدْ عَلَّمَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ عِلْمًا فَجَاءَهُ رَجُلٌ يَسْأَلُهُ عَنْ مَسْأَلَةٍ فِي الدِّينِ، يُنَازِعُهُ فِيهَا وَيُخَاصِمُهُ، تُرَىٰ هَلْ لَهُ أَنْ يُنَاظِرَهُ، حَتَّىٰ تَثْبُتَ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ، وَيَرُدَّ عَلَيْهِ قَوْلَهُ؟ قِيلَ لَهُ: هَذَا الَّذِي نُهِينَا عَنْهُ، وَهُوَ الَّذِي حَذَّرَنَاهُ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَاذَا نَصْنَعُ؟
قِيلَ لَهُ: فَإِنْ كَانَ الَّذِي يَسْأَلُكَ مَسْأَلَتُهُ: مَسْأَلَةُ مُسْتَرْشِدٍ إِلَىٰ طَرِيقِ الْحَقِّ لَا مُنَاظَرَةً، فَأَرْشِدْهُ بِأَلْطَفِ مَا يَكُونُ مَعَ الْبَيَانِ بِالْعِلْمِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَقَوْلِ الصَّحَابَةِ، وَقَوْلِ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَإِنْ كَانَ يُرِيدُ مُنَاظَرَتَكَ وَمُجَادَلَتَكَ، فَهَذَا الَّذِي كَرَّهَ الْعُلَمَاءُ، فَلَا تُنَاظِرْهُ، وَاحْذَرْهُ عَلَىٰ دِينِكَ، كَمَا قَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنْ أَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ إِنْ كُنْتَ لَهُمْ مُتَّبِعًا.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَنَدَعُهُمْ يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَنَسْكُتُ عَنْهُمْ؟
قِيلَ لَهُ: سُكُوتُكَ عَنْهُمْ وَهِجْرَتُكَ لِمَا تَكَلَّمُوا بِهِ أَشَدُّ عَلَيْهِمْ مِنْ مُنَاظَرَتِكَ لَهُمْ، كَذَا قَالَ مَنْ تَقَدَّمَ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِنْ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ» اهـ.
فَقُلْ لِي بِرَبِّكَ يَا بُلَيْدِيُّ، وَإِنِّي سَائِلُكَ: اِجْعَلْ مَا ذَكَرْتُهُ لَكَ مِنْ مَعْنَىٰ التَّهْمِيشِ نُصْبَ عَيْنَيْكَ، ثُمَّ اعْرِضْهُ عَلَىٰ كَلَامِ الْآجُرِّيِّ أَعْلَاهُ، فَإِنْ لَمْ تُقِرَّ بِأَنَّهُ مُطَابِقٌ انْطِبَاقًا تَامًّا، فَسَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَدْعُو لَكَ رَبِّي أَنْ يَرْزُقَكَ عَقْلًا وَيَمْنَحَكَ فَهْمًا تَصِلُ بِهِ إِلَىٰ مَصَافِّ الْعُقَلَاءِ.
وَإِنْ لَمْ تُوَفَّقْ لِلْإِقْرَارِ بِمَا ذَكَرْتُهُ لَكَ، فَدُونَكَ كَلَامُ الشَّيْخِ – الَّذِي يَتُوبُ عِنْدَهُ مَشَايِخُكَ فِي بَيْتِهِ مِنْ أَخْطَاءَ أَعْلَنُوا عَلَيْهَا حَرْبًا فِي الْجَزَائِرِ – الْعَلَّامَةِ رَبِيعِ بْنِ هَادِي – حَفِظَهُ اللَّهُ –، حَيْثُ عَلَّقَ عَلَىٰ بَابِ الْجِدَالِ الَّذِي أَوْرَدَهُ الْآجُرِّيُّ تَعْلِيقًا وَاقِعِيًّا نَفِيسًا، وَكَأَنَّهُ أَحَسَّ بِشُؤْمِ خُرُوجِ تَنْظِيمِ الصَّعَافِقَةِ الْخَبِيثِ، وَوَصَفَ حَالَهُ قَبْلَ ظُهُورِهِ وَصْفًا دَقِيقًا شَامِلًا، فَقَالَ:
«أَوْرَدَ الْإِمَامُ الْآجُرِّيُّ فِي هَذَا الْبَابِ «بَابُ ذَمِّ الْجِدَالِ وَالْخُصُومَاتِ فِي الدِّينِ»، أَوْرَدَ حَوَالَيْ ثَلَاثِينَ مَا بَيْنَ حَدِيثٍ وَأَثَرٍ.
صَدَّرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ»، ثُمَّ تَلَا قَوْلَهُ تَعَالَىٰ: ﴿مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلَۢاۚ بَلۡ هُمۡ قَوۡمٌ خَصِمُونَ﴾ [اَلزُّخْرُف: 58].
وَمِصْدَاقُ هَذَا الْحَدِيثِ وَالْآيَةِ: مَا يَقُومُ بِهِ الْيَوْمَ أُنَاسٌ فِي ظَاهِرِهِمْ عَلَىٰ الْهُدَىٰ، فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ، وَأَصْبَحُوا مِنْ أَشَدِّ النَّاسِ جَدَلًا بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالْخِيَانَاتِ، ثُمَّ مَا زَالُوا يَنْحَدِرُونَ مِنْ مُنْحَدَرٍ إِلَىٰ مُنْحَدَرٍ أَسْوَأَ مِنْهُ.
بَدَأُوا بِالدِّفَاعِ عَنِ الْبَاطِلِ وَأَهْلِهِ، وَالتَّأْصِيلِ الْفَاجِرِ الْمُضَادِّ لِمَنْهَجِ السَّلَفِ وَأُصُولِهِمْ، وَتَمَادَوْا فِي هَذَا الِانْحِدَارِ إِلَىٰ أَنْ وَصَلُوا إِلَىٰ الدِّفَاعِ عَنِ الدُّعَاةِ إِلَىٰ وِحْدَةِ الْأَدْيَانِ وَحُرِّيَّةِ الْأَدْيَانِ وَأُخُوَّةِ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَمَحَبَّتِهِمْ، إِلَىٰ ضَلَالَاتٍ أُخْرَىٰ.
وَيُزَكُّونَ هَذِهِ الْأَصْنَافَ وَيُحَارِبُونَ أَهْلَ السُّنَّةِ، وَيَطْعَنُونَ فِيهِمْ بِأَخْبَثِ الطُّعُونِ وَأَكْذَبِهَا؛ فَهَؤُلَاءِ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَىٰ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن یُجَـٰدِلُ فِی اللَّهِ بِغَیرِ عِلمࣲ وَلَا هُدࣰى وَلَا كِتَـٰبࣲ مُّنِیرࣲ﴾ [اَلْحَج: 08]، وَقَوْلِهِ تَعَالَىٰ: ﴿وَجَـٰدَلُوا۟ بِالبَـٰطِلِ لِیُدۡحِضُوا۟ بِهِ الحَقَّ فَأَخَذۡتُهُمۡۖ فَكَیفَ كَانَ عِقَابِ﴾ [غَافِر: 05]، وَقَوْلِهِ تَعَالَىٰ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن یُعجِبُكَ قَوۡلُهُۥ فِی الحَیَوٰةِ الدُّنیَا وَیُشهِدُ اللَّهَ عَلَىٰ مَا فِی قَلبِهِۦ وَهُوَ أَلَدُّ الخِصَامِ (٢٠٤) وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِی الأَرۡضِ لِیُفسِدَ فِیهَا وَیُهلِكَ الحَرۡثَ وَالنَّسلَۚ وَاللَّهُ لَا یُحِبُّ الفَسَادَ (٢٠٥) وَإِذَا قِیلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتهُ العِزَّةُ بالإِثمِۚ فَحَسبُهُۥ جَهَنَّمُۖ وَلَبِئسَ المِهَادُ﴾ [اَلْبَقَرَة: 204 – 206]، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ أَبْغَضَ الرِّجَالِ إِلَىٰ اللَّهِ الْأَلَدُّ الْخَصِمُ».
وَمَعَ كُلِّ هَذِهِ الْبَلَايَا الْمُدَمِّرَةِ تَجِدُ مَنْ يَتَوَلَّاهُمْ، وَيَنْحَازُ إِلَيْهِمْ، وَيَتَعَصَّبُ لَهُمْ، وَيَشْهَدُ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ ﴿سَتُكتَبُ شَهَـٰدَتُهُمۡ وَیُسـَٔلُونَ﴾ [اَلزُّخْرُف: 19].
مَا رَأَيْتُ مِثْلَ هَذِهِ الْفِرْقَةِ فِي الْجَدَلِ بِالْبَاطِلِ الْمُسْتَمِرِّ الَّذِي لَا يَنْقَطِعُ – وَقَطْعُهُ يَكُونُ بِسَيْفِ الْإِعْرَاضِ وَدَواءِ التَّهْمِيشِ كَمَا سَيَأْتِي فِي نَصِيحَةِ الْعَلَّامَةِ رَبِيعٍ أَدْنَاهُ فَتَرَقَّبْهَا بَعْدَ حِينٍ -.
لَقَدْ نَاقَشْتُ وَغَيْرِي أُنَاسًا مِنْ مُخْتَلَفِ الْفِرَقِ، فَإِذَا سُقْتَ الْأَدِلَّةَ وَالْبَرَاهِينَ عَلَىٰ بُطْلَانِ مَا يُخَالِفَكَ فِيهَ انْقَطَعَ وَوَقَفَ عِنْدَ حَدِّهِ، أَمَّا هَذِهِ الْفِرْقَةُ فَصَارَ الْجِدَالُ بِالْبَاطِلِ وَالْكَذِبُ أَهَمَّ مَا فِي دِينِهَا وَمَنْهَجِهَا، فَلَا تَقِفُ عِنْدَ حَدٍّ، بَلْ تَتَمَادَىٰ فِي هَذَا الْبَاطِلِ وَتَسْتَمِرُّ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مِنْ بَيْنِ أَهَمِّ أَسْبَابِ هَذَا الِاسْتِمْرَارِ: اَلطَّمَعُ فِي تَدَفُّقِ الْأَمْوَالِ عَلَيْهِمْ مِمَّنْ جَنَّدَهُمْ» (اَلذَّرِيعَةُ إِلَىٰ بَيَانِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ لِلْآجُرِّيِّ (01/312)) اهـ.
وَمِنْ أَوْضَحِ الْأَمْثِلَةِ الْعَمَلِيَّةِ الْمُنْطَبِقَةِ تَمَامًا عَلَىٰ الْمَعْنَىٰ السَّابِقِ، تَعَامُلُ الْإِنْسَانِ مَعَ آفَاتِ النَّفْسِ الَّتِي طُبِعَتْ عَلَيْهَا، حَيْثُ ذَكَرَ ابْنُ الْقَيِّمِ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي «مَدَارِجِ السَّالِكِينَ بَيْنَ مَنَازِلِ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ» (02/232)، تَحْتَ فَصْلِ: (تَغْيِيرُ الْأَخْلَاقِ الَّتِي طُبِعَتِ النُّفُوسُ عَلَيْهَا): «وَسَأَلْتُ يَوْمًا شَيْخَ الْإِسْلَامِ ابْنَ تَيْمِيَّةَ – رَحِمَهُ اللَّهُ – عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، وَقَطْعِ الْآفَاتِ، وَالِاشْتِغَالِ بِتَنْقِيَةِ الطَّرِيقِ وَتَنْظِيفِهَا؟
فَقَالَ لِي جُمْلَةَ كَلَامِهِ: اَلنَّفْسُ مِثْلُ الْبَاطُوسِ – وَهُوَ جُبُّ الْقَذَرِ – كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ، وَلَكِنْ إِنْ أَمْكَنَكَ أَنْ تَسْقَفَ عَلَيْهِ، وَتَعْبُرَهُ وَتَجُوزَهُ، فَافْعَلْ، وَلَا تَشْتَغِلْ بِنَبْشِهِ، فَإِنَّكَ لنْ تَصِلَ إِلَىٰ قَرَارِهِ، وَكُلَّمَا نَبَشْتَ شَيْئًا ظَهَرَ غَيْرُهُ.
فَقُلْتُ: سَأَلْتُ عَنْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ بَعْضَ الشُّيُوخِ؟ فَقَالَ لِي: مِثَالُ آفَاتِ النَّفْسِ مِثَالُ الْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ الَّتِي فِي طَرِيقِ الْمُسَافِرِ، فَإِنْ أَقْبَلَ عَلَىٰ تَفْتِيشِ الطَّرِيقِ عَنْهَا، وَالِاشْتِغَالِ بِقَتْلِهَا: اِنْقَطَعَ، وَلَمْ يُمْكِنْهُ السَّفَرُ قَطُّ. وَلَكِنْ لِتَكُنْ هِمَّتُكَ الْمَسِيرَ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْهَا، وَعَدَمَ الِالْتِفَاتِ إِلَيْهَا، فَإِذَا عَرَضَ لَكَ فِيهَا مَا يَعُوقُكَ عَنِ الْمَسِيرِ فَاقْتُلْهُ، ثُمَّ امْضِ عَلَىٰ سَيْرِكَ.
فَاسْتَحْسَنَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ذَلِكَ جِدًّا، وَأَثْنَىٰ عَلَىٰ قَائِلِهِ» اهـ.
وَهَذَا نَظِيرُ مَا نَحْنُ بِصَدَدِهِ حَذوَ الْقذَّةِ بِالْقذَّةِ، فَالسَّائِرُ إِلَىٰ اللَّهِ، الْمُسَافِرُ فِي طَرِيقِ رِضَاهُ، هُوَ صَاحِبُ الْحَقِّ الْعَامِلُ بِهِ الدَّاعِي إِلَيْهِ، وَأَصْحَابُ الْعِنَادِ، وَالْمُعْتَرِضُونَ عَلَىٰ الْحَقِّ، وَالْمُشَوِّشُونَ عَلَىٰ الْهُدَىٰ، كَآفَاتِ النَّفْسِ الَّتِي إِنْ فَتَّشْتَ عَنْهَا وَانْشَغَلْتَ بِنَفْيِهَا قَطَعْتَ سَيْرَكَ إِلَىٰ اللَّهِ وَالدَّارِ الْآخِرَةِ، وَهُمْ كَالْحَيَّاتِ وَالْعَقَارِبِ الَّتِي تَعْتَرِضُ طَرِيقَ الْمُسَافِرِ، بَلْ هُمْ كَالْبَاطُوسِ الَّذِي كُلَّمَا نَبَشْتَهُ ظَهَرَ وَخَرَجَ.
فَخُذْ ثَلَاثَةَ أَمْثِلَةٍ عِلْمِيَّةٍ تُوَضِّحُ لَكَ الْمَقْصُودَ، وَتُرْشِدُكَ إِلَىٰ الْمَطْلُوبِ، إِنْ بَقِيَ فِي وَجْهِكَ صَبْغَةُ حَيَاءٍ جَرَّاءَ جَزْمِكَ بِنَفْيِ هَذَا الْمَعْنَىٰ عَنِ السَّلَفِ وَنِسْبَتِهِ لِأَهْلِ الْبِدَعِ.
وَأَخْتِمُ لَكَ هَذِهِ الْأَمْثِلَةَ النَّيِّرَةَ بِمِثَالٍ تَطْبِيقِيٍّ وَاقِعِيٍّ، نَصَحَ بِهِ الْعَلَّامَةُ رَبِيعُ بْنُ هَادِي – حَفِظَهُ اللَّهُ – سَابِقًا كُتَّابَ شَبَكَةِ سَحَابٍ فِي فِتْنَةِ فَالِحٍ الْحَرْبِيِّ، فَقَالَ:
[نَصِيحَةٌ نَافِعَةٌ مِنَ الشَّيْخِ رَبِيعٍ – حَفِظَهُ اللَّهُ – إِلَىٰ كُتَّابِ شَبَكَةِ سَحَابٍ السَّلَفِيَّةِ]
«اَلْحَمْدُ لِلَّهِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ رَسُولِ اللَّهِ وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ، أَمَّا بَعْدُ:فَإِلَىٰ الْإِخْوَةِ السَّلَفِيِّينَ مِنْ كُتَّابِ شَبَكَةِ سَحَابٍ السَّلَفِيَّةِ – وَفَّقَهُمُ اللَّهُ وَسَدَّدَ خُطَاهُمْ -: اَلسَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ.
أَمَّا بَعْدُ: فَكَمْ مَرَّةً أَعْزِمُ عَلَىٰ تَوْجِيهِ نَصِيحَةٍ لَكُمْ بِالْكَفِّ عَنْ مُجَارَاةِ كُتَّابِ (شَبَكَةِ الْأَثَرِيِّ)، وَعَلَىٰ رَأْسِهِمْ فَالِحٌ الْحَرْبِيُّ، ثُمَّ أَرَىٰ مِنْهُمْ مَا لَا يَسَعُنَا السُّكُوتُ عَنْهُ.
وَلَا تَرَىٰ مِنْهُمْ إِلَّا الرَّغْبَةَ فِي تَطْوِيلِ أَمَدِ الْفِتْنَةِ إِلَىٰ غَيْرِ حَدٍّ لِأَنَّهُمْ قَدْ جَنَّدُوا أَنْفُسَهُمْ لِذَلِكَ.
فَلَوِ اسْتَمْرَرْنَا فِي رَدِّ مَقَالَاتِهِمُ الْبَاطِلَةِ، والَّتِي تَدُورُ حَوْلَ أَشْيَاءَ افْتَعَلُوهَا قَدْ بَيَّنَّا مَرَّاتٍ وَكَرَّاتٍ بُطْلَانَهَا، وَالْقَوْمُ لَا هَمَّ لَهُمْ إِلَّا مُشَاغَلَتُنَا عَنْ أَهْدَافِنَا السَّامِيَةِ مِنْ نَشْرِ الدَّعْوَةِ السَّلَفِيَّةِ عَقِيدَةً وَعَمَلًا وَمَنْهَجًا وَأَخْلَاقًا، مَعَ سَائِرِ جَوَانِبِ الْإِسْلَامِ الْعَظِيمَةِ؛ لَوِ اسْتَمْرَرْنَا فِي الرُّدُودِ عَلَيْهِمْ لَضَيَّعْنَا كَثِيرًا مِنْ هَذِهِ الْأَهْدَافِ.
فَأَوَدُّ مِنْ إِخَوَانِنَا الْإِعْرَاضَ عَنْهُمْ وَالْإِقْبَالَ بِجِدٍّ عَلَىٰ الْقِيَامِ بِالدَّعْوَةِ السَّامِيَةِ - وَإِنْ كَانَ الْإِخْوَةُ – وَلِلَّهِ الْحَمْدُ – قَائِمِينَ بِذَلِكَ، إِلَّا أَنَّ الْمُشَاغَلَةَ بِهِمْ يُفَوِّتُ مَا تَكْمُلُ بِهِ دَعْوَتُهُمْ -.
فَدَعُوهُمْ وَمَا رَسَمُوهُ لِأَنْفُسِهِمْ، وَلَا يَضِيرُنَا وَلَا يَضِيرُ دَعْوَتَنَا ذَلِكَ، لَاسِيَّمَا وَالسَّلَفِيُّونَ فِي كُلِّ مَكَانٍ مُقْتَنِعُونَ بِأَنَّنَا عَلَىٰ الْحَقِّ، وَخُصُومُنَا عَلَىٰ الْبَاطِلِ.
وَصَلَّىٰ اللَّهُ عَلَىٰ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَىٰ آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ.
وَكَتَبَهُ:
رَبِيعُ بْنُ هَادِي بْنِ عُمَيْرٍ الْمَدْخَلِيُّ
فِي 26 مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِعَامِ 1426هـ» اهـ (2)
رَبِيعُ بْنُ هَادِي بْنِ عُمَيْرٍ الْمَدْخَلِيُّ
فِي 26 مِنْ شَهْرِ رَبِيعٍ الْأَوَّلِ لِعَامِ 1426هـ» اهـ (2)
فَخُذْ هَذَا الْمَعْنَىٰ وَاعْرِضْهُ عَلَىٰ لُبِّ عَقْلِكَ وَعُصَارَةِ فِكْرِكَ، ثُمَّ قَارِنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَعْنَىٰ التَّهْمِيشِ الَّذِي ذَكَرْتُهُ لَكَ أَعْلَاهُ، وَأَتَحَدَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ لِي وَجْهَا وَاحِدًا فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا، فَإِنْ فَعَلْتَ – وَلَنْ تَفْعَلَ – كُنْتُ لَكَ مِنَ الْمُنْبَريْن، وَلِبَاطِلِكَ مِنَ الدَّاحِضِين.
وَنَصِيحَةُ الْعَلَّامَةِ رَبِيعٍ مِنْ أَنْفَعِ مَا يَكُونُ، حَيْثُ يَظْهَرُ فِيهَا بِجَلَاءٍ صِدْقُ مَنْ صَحَّحَ مَقُولَةَ «اَلتَّارِيخُ يُعِيدُ نَفْسَهُ»، بِقَوْلِهِ: «اَلْأَغْبِيَاءُ يُعِيدُونَ التَّارِيخَ»، فَهَا أَنْتُمْ تُعِيدُونَ تَارِيخَ أَتْبَاعِ فَالِحٍ الَّذِي لَفَحَتْكُمْ فِتْنَتُهُ سَابِقًا بِطَيْشِكُمْ وَغَبَائِكُمْ، وَلُدِغْتُمْ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ بِفُحْشِكُمْ وَعَدَائِكُمْ.
غَيْرَ أَنَّهُ يَحْسُنُ التَّنْبِيهُ عَلَىٰ تَرْجِيحِ مَصْلَحَةِ الْبَيَانِ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالرَّدِّ عَلَىٰ الْبَاطِلِ – اسْتِثْنَاءً – إِذَا عَلِمْنَا أَنَّ السُّكُوتَ يُؤَدِّي إِلَىٰ ظَنِّ الْبَعْضِ كَوْنَ افْتِرَاءَاتِهِمْ حَقِيقَةً وَوَاقِعاً، وَفِي ضِمْنِ ذَلِكَ يَقُولُ عَلَّامَةُ الْجَزَائِرِ عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ بَادِيسَ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: «وَإِنِّي أُوصِيكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي حَقِّكُمْ شَاغِلٌ لَكُمْ عَنْ بَاطِلِ الْمُبْطِلِينَ، فَإِذَا قَامَ حَقُّكُمْ وَاسْتَوَىٰ قَضَيْتُمْ عَلَىٰ الْمُبْطِلِينَ وَبَاطِلِهِمْ، وَإِنَّنَا نُشْهِدُ اللَّهَ وَالْمُنْصِفِينَ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَىٰ أَنَّنَا مَاضُونَ فِي بَيَانِ الْحَقِّ، وَأَنَّ مَبْدَأَنَا الْإِصْلَاحِيَّ التَّهْذِيبِيَّ قَدْ مَلَكَ عَلَيْنَا حَوَاسَّنَا وَأَوْقَاتَنَا، فَإِذَا بَدَرَ مِنَّا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ كَلَامٌ عَلَىٰ بَاطِلِ الْمُبْطِلِينَ فَلَيْسَ ذَلِكَ عَنْ قَصْدٍ لَهُ وَحَفْلٍ بِهِ، وَلَكِنْ لِأَنَّهُ صَادَمَنَا وَتَوَقَّفَ إِثْبَاتُ حَقِّنَا عَلَىٰ نَفْيِهِ»اهـ (جَرِيدَةُ الشَّعْبِ 01/07).
فَإِذَا لَمْ تَقْبَلْ كَلَامَ مَنْ مَاتَ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَىٰ السُّنَّةِ وَالْهُدَىٰ، فَكَيْفَ تُنْكِرُ عَلَىٰ الشَّيْخِ نُصْحَهُ بِالتَّهْمِيشِ وَقَدْ وَافَقَهُ عَلَيْهِ عُلَمَاء أَحْيَاء أَجِلَّاءُ، وَطَلَبَةُ عِلْمٍ فُطَنَاءُ، كَالْعَلَّامَةِ مُحَمَّدِ بْنِ هَادِي الْمَدْخَلِيِّ، وَالْعَلَّامَةِ عَبْدِ الرَّحْمَـــٰنِ مُحْيِي الدِّينِ -حَفِظَهُمَا الله-.
وَ مِمَن وَافَقَهُ الْعَلَّامَةُ الْمُبَارَكُ – مِنْ أَفْقَهِ أَهْلِ الزَّمَانِ – صَالِحٍ الْفَوْزَانُ – حَفِظَهُ اللَّهُ وَرَعَاهُ – حَيْثُ نَصَحَ الشَّيْخَ فَرْكُوسًا – حَفِظَهُ اللَّهُ – بِتَرْكِ هَؤُلَاءِ وَعَدَمِ الِانْشِغَالِ بِهِمْ، فَقَدْ ذَكَرَ الْأَخُ الْفَاضِلُ عَبْدُ الْحَمِيدِ الْهِضَابِيُّ الْمَكِّيُّ، أَنَّهُ «سَأَلَ شَيْخَنَا صَالِحًا الْفَوْزَانَ – حَفِظَهُ اللَّهُ – أَنَّ بَعْضَهُمْ فِي دَوْلَةِ الْجَزَائِرِ انْتَقَدَ الشَّيْخَ مُحَمَّدًا فَرْكُوسًا – حَفِظَهُ اللَّهُ – لَمَّا ذَكَرَ فِي بَعْضِ كُتُبِهِ تَرْجَمَةَ بَعْضِ الْأَعْلَامِ وَالْمَشْهُورِينَ مِمَّنْ لَهُمْ بَعْضُ الْمُخَالَفَاتِ كَابْنِ رُشْدٍ الْمَالِكِيِّ وَغَيْرِهِ، وَقَدْ ذَكَرَ فِي ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ حَسَنَاتِهِمْ وَسَيِّئَاتِهِمْ، وَهَذَا الَّذِي عَلَيْهِ أَهْلُ السُّنَّةِ فِي أَنَّهُ يَجُوزُ فِي بَابِ التَّرْجَمَةِ مَا لَا يَجُوزُ فِي بَابِ الرَّدِّ ...، فَأَجَابَ – وَفَّقَهُ اللَّهُ -: بِأَنَّ هَذَا مَعْرُوفٌ عَنِ السَّلَفِ كَمَا فَعَلَهُ الْإِمَامُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الذَّهَبِيُّ فِي السِّيَرِ وَغَيْرِهِ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ، وَعَلَيْهِ – أَيْ: مُحَمَّدٌ فَرْكُوسٌ – أَنْ يَتْرُكَهُمْ وَلَا يَنْشَغِلَ بِهِمْ» اهـ.
وَإِنْ تَعْجَبْ فَاعْجَبْ مِنَ الْبُلَيْدِيِّ – دَعِيِّ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ – يُطَالِبُ الشَّيْخَ فَرْكُوسًا بِمِثَالٍ عِلْمِيٍّ عَلَىٰ التَّهْمِيشِ، وَيُنْكِرُ عَلَيْهِ تَنَزُّلَهُ فِي الْخِطَابِ مَعَ عُمُومِ السَّلَفِيِّينَ – الَّذِينَ فَهِمُوهُ وَعَقِلُوهُ وَعَمِلُوا بِهِ وَتَجَاوَزُوهُ إِلَىٰ مَا يَنْفَعُهُمْ -، وَهُوَ يَتَخَبَّطُ فِي غَيَاهِبِ ظُلُمَاتِ الْجَهْلِ، وَيَتَرَدَّىٰ فِي مَهَاوِي دَرَكَاتِ الْعَيِّ، فَلَمْ يَفْهَمِ الْمُرَادَ، وفَضَحَ نَفْسَهُ عَلَىٰ رُؤُوسِ الْأَشْهَادِ.
وَلَقَدْ تَقَرَّرَ فِي الْعُقُولِ السَّوِيَّةِ أَنَّ مَنِ اشْتَغَلَ بِشَيْءٍ أَعْرَضَ عَنْ غَيْرِهِ، وَمَنْ أَقْبَلَ عَلَىٰ أَمْرٍ أَدْبَرَ عَمَّا سِوَاهُ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ فِي الصَّلَاةِ لَشُغْلًا» [أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ (1199)].
قَالَ الْمُنَاوِيُّ فِي «فَيْضِ الْقَدِيرِ» (05/569): ««إِنَّ فِي الصَّلَاةِ شُغْلًا»،... فَكَأَنَّهُ قَالَ: «شُغْلًا كَافِيًا أَوْ مَانِعًا مِنَ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ».
وَقَالَ غَيْرُهُ: تَنْكِيرُهُ يَحْتَمِلُ التَّنْوِيعَ، أَيْ أَنَّ شُغْلَ الصَّلَاةِ: قِرَاءَةُ الْقُرْآنِ، وَالتَّسْبِيحُ، وَالدُّعَاءُ، لا الْكَلَامُ، أَيْ شُغْلًا، أَيْ شُغْلٌ لِأَنَّهَا مُنَاجَاةٌ مَعَ اللَّهِ وَاسْتِغْرَاقٌ فِي خِدْمَتِهِ، فَلَا تَصْلُحُ لِلشُّغْلِ ...، قَالَ بَعْضُ الْأَوْلِيَاءِ: وَقل مَنْ يَشْتَغِلُ بِرِعَايَةِ مَخَارِجِ الْحُرُوفِ وَالتَّرْقِيقِ وَالتَّفْخِيمِ وَالْإِدْغَامِ وَالْإِقْلَابِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، إِلَّا اشْتَغَلَ عَنِ الصَّلَاةِ وَفَاتَهُ الْحُضُورُ مَعَ اللَّهِ الَّذِي هُوَ رُوحُهَا، لِأَنَّ النَّفْسَ لَيْسَ فِي إِمْكَانِهَا الِاشْتِغَالُ بِشَيْئَيْنِ مَعًا» اهـ.
قَالَ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ – فِي شَرْحِهِ لِقَوْلِهِ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنِّي أَظَلُّ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي»، فِي حَدِيثِ النَّهْيِ عَنِ الْوِصَالِ:
«وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لِانْشِغَالِ قَلْبِهِ بِذِكْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَعَلُّقِهِ بِهِ اسْتَغْنَىٰ عَنِ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ، لِأَنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا اشْتَغَلَ قَلْبُهُ بِشَيْءٍ نَسِيَ الطَّعَامَ وَالشَّرَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ، أَرَأَيْتُمْ رَجُلًا الْتَقَىٰ بِصَدِيقٍ لَهُ بَعْدَ مُدَّةٍ طَوِيلَةٍ، ثُمَّ جَلَسَا يَتَحَدَّثَانِ مِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الظُّهْرِ، فَإِذَا بِأَذَانِ الْعَصْرِ يُؤَذِّنُ، وَفِي الْعَادَةِ أَنَّهُ يَتَغَدَّىٰ بَعْدَ الظُّهْرِ، هَلْ يَجِدُ أَلَمَ الْجُوعِ؟ اَلْجَوَابُ: لَا يَجِدُهُ، لِأَنَّ قَلْبَهُ مُنْشَغِلٌ عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ، فَيَقُولُونَ: إِنَّ الرَّسُولَ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَهُ حَالُ تَعَلُّقٍ بِاللَّهِ لَا يَبْلُغُهَا النَّاسُ، وَلِهَذَا كَانَ فِي مُنَاجَاةِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، كَانَ يَقِفُ حَتَّىٰ تَتَوَرَّمَ قَدَمَاهُ وَتَنْفَطِرَ، وَهَذَا لَا يَتَحَمَّلُهُ أَحَدٌ ...» اهـ (شَرْحُ نَظْمِ الْوَرَقَاتِ لِابْنِ عُثَيْمِينٍ، ص: 145).
وَقَدْ قَالَ النَّضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ – رَحِمَهُ اللَّهُ -: «لَنْ تَجِدَ لَذَّةَ الْعِلْمِ حَتَّىٰ تَجُوعَ وَتَنْسَىٰ أَنَّكَ جَائِعٌ» اهـ.
وَمِنْ طِيَارِ(3) شِعْرِ الشَّنَاقِطَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ الْمُفِيدَ لِعُمُومِ طَلَبَةِ الْعِلْمِ عَدَمُ الْجَمْعِ بَيْنَ الْعُلُومِ:
وَإِنْ تُرِدْ تَحْــصِـــيـــــــلَ فَـــــنٍّ تَمِّمَــهْ ::: وَعَنْ سِوَاهُ قَبْـــلَ الِانْتِهَـاءِ مَهْ
وَفِي تَرَادُفِ الْعُلُومِ الْمَنْعُ جَا ::: إِنْ تَوْأَمَانِ اسْتَبَقَا لَنْ يَخْرُجَـا
وَفِي تَرَادُفِ الْعُلُومِ الْمَنْعُ جَا ::: إِنْ تَوْأَمَانِ اسْتَبَقَا لَنْ يَخْرُجَـا
فَإِذَا تَصَوَّرْتَ مَا قَرَّرْتُهُ لَكَ، وَنَقَشْتَهُ فِي صَفْحَةِ ذَاكِرَتِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّ شَيْخَنَا – حَفِظَهُ اللَّهُ – كَالطَّيْرِ مُرْتَفِعٌ بِعِلْمِهِ، مُحَلِّقٌ بِحِلْمِهِ، كُلَّمَا عَلَا وَارْتَفَعَ كُلَّمَا سَلِمَ مِنَ الْآفَاتِ وَالْعِلَلِ، وَهُوَ قَائِمٌ بِأَمْرِ اللَّهِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَيْهِ بِالتَّأْلِيفِ وَالْكِتَابَةِ، وَالْإِفْتَاءِ وَالْإِجَابَةِ، وَالْوَعْظِ وَالتَّذْكِيرِ، وَالتَّنْبِيهِ وَالتَّحْذِيرِ، ضَنِينٌ بِوَقْتِهِ كَمَا يَضِنُّ الْمُنْفِقُ بِدِرْهَمِهِ، وَمَشَارِيعِهِ الْعِلْمِيَّةِ الْمُحَرَّرَةِ، وَتَطَلُّعَاتِهِ الشَّرْعِيَّةِ الْمُسَطَّرَةِ، تَسْتَلْزِمُ مِنْهُ الْإِقْبَالَ عَلَىٰ الْعُقَلَاءِ، وَالْإِدْبَارَ عَلَىٰ السُّفَهَاءِ، وَالِانْشِغَالَ بِالنَّافِعِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنِ الضَّارِّ، وَهَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حَالُ كُلِّ مَنْ أُلْهِمَ الصَّوَابَ، وَانْقَشَعَتْ عَنْهُ سَحَائِبُ الضَّبَابِ.
وَمِنْ رَائِقِ شِعْرِ الشَّافِعِيِّ فِي هَذَا:
وَمَنْزِلَــــــةُ السَّـــفِـــيـــهِ مِنَ الْفَـــقِـــيــــــهِ ::: كَــمَنْزِلَةِ الْفَقِـــيـــهِ مِنَ السَّفِيـــهِ
فَــــهَــــــذَا زَاهِـــدٌ فِي قُــــــــرْبِ هَــــــــذَا ::: وَهَــــــذَا أَزْهَــــــدُ مِــــــنْــــــهُ فِــــــيــــــــهِ
إِذَا غَـلَـبَ الشَّقَـــاءُ عَلَىٰ سَفِـــيـــهٍ ::: تَنَـــطَّـــعَ فِي مُخَــــــالَـــفَـــةِ الْفَقِـــيــهِ
فَــــهَــــــذَا زَاهِـــدٌ فِي قُــــــــرْبِ هَــــــــذَا ::: وَهَــــــذَا أَزْهَــــــدُ مِــــــنْــــــهُ فِــــــيــــــــهِ
إِذَا غَـلَـبَ الشَّقَـــاءُ عَلَىٰ سَفِـــيـــهٍ ::: تَنَـــطَّـــعَ فِي مُخَــــــالَـــفَـــةِ الْفَقِـــيــهِ
وَمَا حَالُهُ مَعَ مَنْ تَنَكَّرَ لَهُ وَنَاصَبَ لَهُ الْعَدَاءَ، وَكَالَ لَهُ السَّبَّ وَالشَّتْمَ وَالْإِيذَاءَ، إِلَّا كَحَالِ «الْأَحْنَفِ – رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ -، وَهُوَ مَضْرُوبٌ بِهِ الْمَثَلُ فِي الْحِلْمِ، سَبَّهُ رَجُلٌ وَمَشَىٰ خَلْفَهُ يَسُبُّهُ، وَالْأَحْنَفُ لَا يَلْتَفِتُ إِلَيْهِ، سَفِيهٌ!
لَوْ كُلُّ كَلْبٍ عَوَىٰ أَلْقَمْتَهُ حَجَرًا ::: لَأَصْبَحَ الصَّخْرُ مِثْقَالًا بِدِينَارٍ
فَمَا أَكْثَرَ الْكِلَابَ الْعَاوِيَةَ!فَخَلِّ عَنْكَ، فَهَذَا يَسُبُّهُ وَهُوَ لَا يَلْتَفِتُ، فَلَمَّا اقْتَرَبَ مِنَ الْحَيِّ، قَالَ: «يَا أَخِي، إِنْ كَانَ قَدْ بَقِيَ مَعَكَ مِنَ السَّبِّ شَيْءٌ، فَأَفْرِغْ مَا فِي جَعْبَتِكَ؛ لِأَنَّا سَنَدْخُلُ الْحَيَّ، وَفِتْيَانُ الْحَيِّ إِذَا سَمِعُوكَ تَسُبُّ سَيِّدَهُمْ فَلَنْ يَتْرُكُوكَ»، فَهُوَ مُشْفِقٌ عَلَىٰ السَّابِّ، خَائِفٌ عَلَيْهِ أَنْ يُؤْذَىٰ، فَيَقُولُ لَهُ عَجِّلْ بِمَا مَعَكَ، هَذَا السَّبُّ الَّذِي مَعَكَ حِمْلٌ ثَقِيلٌ عَلَيْكَ، سَتَرْتَاحُ إِذَا مَا طَرَحْتَهُ عَنْكَ؟ هَاتِهِ! هَاتِهِ حَتَّىٰ تَسْتَرِيحَ، وَلَكِنِ احْذَرْ؛ لِأَنَّنَا سَنَدْخُلُ الْحَيَّ، وَفِتْيَانُ الْحَيِّ لَا يَقْبَلُونَ أَنْ يُسَبَّ سَيِّدُهُمْ وَهُمْ يَسْمَعُونَ، يَعْنِي سَيَنَالُكَ مِنْهُمْ أَذًى كَبِيرٌ، فَعَجِّلْ بِمَا لَدَيْكَ، - رَحِمَهُ اللَّهُ رَحْمَةً وَاسِعَةً -» اهـ (مُفَرَّغَةٌ مِنْ صَوْتِيَّةٍ لِلشَّيْخِ رَسْلَانٍ – حَفِظَهُ اللَّهُ -).
يُخَاطِبُنِي السَّفِيهُ بِكُلِّ قُبْحٍ ::: فَأَكْرَهُ أَنْ أَكُونَ لَهُ مُجِيبًــا
يَزِيدُ سَفَـــاهَةً وَأَزِيدُ حِلْمًــــا ::: كَعُودٍ زَادَهُ الْإِحْرَاقُ طِيبًا
فَاجْعَلْ يَا بَلِيدُ – وَمَنْ مَعَكَ – قِصَّةَ الْأَحْنَفِ نُصْبَ عَيْنَيْكَ، وَاحْذَرْ أَنْ تَغِيبَ عَنْكَ قِيْدَ أَنْمُلَةٍ، وَاعْلَمْ أَنَّنَا لَنْ نَتْرُكَكُمْ تَسُبُّونَ شَيْخَنَا وَكَبِيرَنَا وَعَالِمَنَا وَسَيِّدَنَا، فَصُونًوا أَسمَاعَنَا عمَّا تُفرِغُونَهُ مِن جُعْبَتِكُمُ الْمَسْمُومَةِ، وَتَتَقَيئُونَهُ مِن أَحْقَادَكُمُ الْمَشْؤُومَةَ، فَإِنْ أَصْرَرْتُمْ وَتَمَادَيْتُمْ فَاسْتَعِدُّوا لِلْمُبَارَزَةِ، وَتَهَيَّؤُوا لِلْمُنَازَلَةِ، فَإِنَّ نُحُورَنَا دُونَ نَحْرِهِ، وَأَعْرَاضَنَا دُونَ عِرْضِهِ، وَسَتَرَوْنَ مِنَّا مَا يَسُوؤُكُمْ، وَسَتَسْمَعُونَ مِنَّا مَا يَشِينُكُمْ، حَتَّىٰ تَذُوبُوا أَوْ تَتُوبُوا.يَزِيدُ سَفَـــاهَةً وَأَزِيدُ حِلْمًــــا ::: كَعُودٍ زَادَهُ الْإِحْرَاقُ طِيبًا
اَلنُّقْطَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ –: «وَمِنْ آثَارِ هَذِهِ الْبِدْعَةِ الْخَطِيرَةِ مَا رَأَيْنَاهُ مِنْ جَمَاعَةِ الشَّيْخِ فَرْكُوسٍ مِنْ إِقْصَاءٍ لِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ وَرَفْضٍ لِنَصَائِحِهِمْ، حَيْثُ قَامَ لَزْهَرُ سْنِيقْرَةَ وَمَعَهُ عَبْدُ الْمَجِيدِ جُمُعَةَ بِحَذْفِ نَصَائِحِ الشَّيْخَيْنِ رَبِيعٍ الْمَدْخَلِيِّ وَعُبَيْدٍ الْجَابِرِيِّ، وَقَامَا بِطَرْدِ مَنْ نَشَرَ نَصَائِحَهُمَا» اهـ.
ثُمَّ انْتَقَلَ الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ – فِي كَلَامِهِ الْمُعْوَجِّ إِلَىٰ بَيَانِ بَعْضِ آثَارِ التَّمْيِيزِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ، وَأَهْلِ السُّنَّةِ الْوَاضِحِينَ، وَأَصْحَابِ الْمَصَالِحِ الْمُخَالِفِينَ، وَلَوْ أَنَّهُ اقْتَصَرَ عَلَىٰ حَقِيقَةِ هَذِهِ الْآثَارِ لَمَا أَنْكَرْنَا عَلَيْهِ لِأَنَّهَا أُمُورٌ وَاقِعِيَّةٌ نَفْتَخِرُ بِهَا كَوْنَهَا مِنْ صَمِيمِ الْمَنْهَجِ السَّلَفِيِّ – أَعْنِي مُفَارَقَةَ أَهْلِ الْبَاطِلِ وَالْبُعْدَ عَنْ أَصْحَابِ الِانْحِرَافِ -، لَكِنَّهُ كَعَادَةِ جَمَاعَتِهِ فِي إِضْرَامِ نَارِ الْفِتْنَةِ بِوَقُودِ الْكَذِبِ وَالْبُهْتَانِ، رَاحَ يَذْكُرُ أُمُورًا تَمَّ الْجَوَابُ عَنْهَا بِمَا يَفْضَحُهُمْ وَيَكْشِفُهُمْ وَيُبَيِّنُ عَوَارَهُمْ وَكَذِبَهُمْ، وَلَوْ كَانَ عَاقِلًا فِي انْحِرَافِهِ لَمَا أَعَادَ ذِكْرَهَا وَإِثَارَتَهَا مِنْ جَدِيدٍ، وَلَكِنَّ غَلَبَةَ السَّفَهِ وَطُغْيَانَ الْهَوَىٰ يَعْمَلَانِ عَمَلَهُمَا.
فَكَانَ مِنْ أَوَّلِ مَا ذَكَرَ فَضِيحَةُ كَذِبِهِمْ عَلَىٰ الْعَلَّامَةِ عُبَيْدٍ لَمَّا طَرَحُوا عَلَيْهِ سُؤَالًا لِيَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حُكْمًا عَلَىٰ مُنْتَدَيَاتِ التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ بِالِانْحِرَافِ، وَقَدْ نَجَحُوا فِي ذَلِكَ وَوَصَلُوا إِلَىٰ مُبْتَغَاهُمْ، لَكِنَّ الْفَضِيحَةَ ظَلَّتْ تُطَارِدُهُمْ، وَالْبَيِّنَاتُ عَلَىٰ كَذِبِهِمْ تُلَاحِقُهُمْ، بَعْدَ كِتَابَتِي لِمَقَالٍ رَدًّا عَلَىٰ صَوْتِيَّتِهِمْ بِعُنْوَانِ: «هَلِ انْحَرَفَتِ التَّصْفِيَةُ وَالتَّرْبِيَةُ حَقًّا؟ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا»، وَالَّذِي لَمْ يَجِدُوا لَهُ الْجَوَابَ، بَلْ عُدِمُوا فِي رَدِّهِ الصَّوَابَ، وَلَا بَأْسَ أَنْ نُعِيدَ فَضْحَهُمْ، وَنُكَرِّرَ زَجْرَهُمْ، بِمَا لَبَّسُوا بِهِ عَلَىٰ الْعَلَّامَةِ عُبَيْدٍ – حَفِظَهُ اللَّهُ – لَمَّا ذَكَرُوا لَهُ أَنَّ مِنْ أَسْبَابِ انْحِرَافِ مُنْتَدَيَاتِ التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ: «حَذْفُ نَصَائِحِ الْعُلَمَاءِ الدَّاعِيَةِ لِلَمِّ الشَّمْلِ وَرَأْبِ الصَّدْعِ»، وَقَدْ قُلْتُ حِينَهَا فِي دَفْعِ فِرْيَتِهِمْ: «اَلْعِبَارَةُ الَّتِي وَرَدَتْ فِي السُّؤَالِ تُوحِي بِأَنَّ هَذَا دَيْدَنُ مُشْرِفِي التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ، وَقَدْ أَصْبَحَ مَنْهَجًا يَسِيرُونَ عَلَيْهِ وَيُنَافِحُونَ عَنْهُ، وَهَذَا مِنَ التَّلْبِيسِ الْوَاضِحِ وَالتَّدْلِيسِ الْفَاضِحِ.
وَلِبَيَانِ ذَلِكَ أَذْكُرُ هُنَا بَعْضَ الْمَقَالَاتِ الْمَنْشُورَةِ فِي مُنْتَدَىٰ التَّصْفِيَةِ وَالتَّرْبِيَةِ لِلْعَالِمَيْنِ الْكَبِيرَيْنِ الشَّيْخِ رَبِيعِ بْنِ هَادِي وَالشَّيْخِ عُبَيْدٍ الْجَابِرِيِّ – حَفِظَهُمَا اللَّهُ – الدَّاعِيَةِ لِلَمِّ الشَّمْلِ وَرَأْبِ الصَّدْعِ، وَالَّتِي مِنْهَا:
1) مَقَالٌ لِلشَّيْخِ رَبِيعِ بْنِ هَادِي – حَفِظَهُ اللَّهُ – بِعُنْوَانِ: «مَنْزِلَةُ إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ فِي الْإِسْلَامِ».
2) [جَدِيدٌ]: نَصِيحَةُ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ رَبِيعِ بْنِ هَادِي الْمَدْخَلِيِّ حَفِظَهُ اللَّهُ تَعَالَىٰ لِلسَّلَفِيِّينَ بِلُزُومِ مَنْهَجِ السَّلَفِ وَالْحَذَرِ مِنَ الْفُرْقَةِ.
3) [نَصِيحَةٌ ثَانِيَةٌ] مِنَ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ رَبِيعٍ الْمَدْخَلِيِّ – حَفِظَهُ اللَّهُ – لِلْجَزَائِرِيِّينَ خَاصَّةً وَالسَّلَفِيِّينَ عَامَّةً (سُجِّلَتْ يَوْمَ السَّبْتِ 19 رَبِيعٍ الْآخِرِ 1439هـ).
4) نِدَاءٌ مِنَ الشَّيْخِ الْعَلَّامَةِ عُبَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْجَابِرِيِّ – حَفِظَهُ اللَّهُ – إِلَىٰ إِخْوَانِهِ وَأَبْنَائِهِ فِي الْجَزَائِرِ.
قَالَ الشَّيْخُ لَزْهَرُ – حَفِظَهُ اللَّهُ – مُعَلِّقًا عَلَىٰ هَذَا الْمَوْضُوعِ مُرَحِّبًا بِنَصَائِحِ الْعُلَمَاءِ خِلَافًا لِمَا يُصَوِّرُهُ الْقَوْمُ: «جَزَىٰ اللَّهُ خَيْرًا الشَّيْخَ رَبِيعًا وَالشَّيْخَ عُبَيْدًا – حَفِظَهُمَا اللَّهُ – عَلَىٰ نَصَائِحِهِمَا لِأَبْنَائِهِمَا، غَيْرَةً عَلَىٰ هَذِهِ الدَّعْوَةِ الْمُبَارَكَةِ، وَعَلَيْهِ: فَعَلَىٰ أَبْنَائِنَا جَمِيعًا أَنْ يَكُونَ اهْتِمَامُهُمْ وَعِنَايَتُهُمْ بِهَا، وَحِرْصُهُمْ عَلَىٰ بَقَائِهَا». اهـ
وَالْآنَ بَعْدَمَا سَطَعَتْ شَمْسُ الْحَقِّ بِسِرَاجِهَا الْوَهَّاجِ، فَأَحْرَقَتْ مَا خَطَّطَ لَهُ الْقَوْمُ مِنَ الْمُرَاوَغَاتِ الْحَقِيرَةِ وَالْمُنَاوَرَاتِ الْخَطِيرَةِ، حَتَّىٰ وَصَلَ بِهِمُ الْأَمْرُ أَنْ يُشَبَّهُوا مِنْ هَذَا الْوَجْهِ بِمُسْتَرِقِي السَّمْعِ، نَسُوقُ الْآنَ كَلَامَ الشَّيْخِ أَزْهَرَ سْنِيقْرَةَ – حَفِظَهُ اللَّهُ – فِي الْجَوَابِ عَلَىٰ مَا أَوْرَدُوهُ، حَيْثُ قَالَ فِي بَيَانِهِ الْأَخِيرِ:
«أَمَّا ادِّعَاؤُهُ حَذْفَنَا لِوَصَايَا الْعُلَمَاءِ فَهَذِهِ أَيْضًا مِنَ الْمُغَالَطَاتِ، بَلْ أَبْقَيْنَا عَلَىٰ الْبَعْضِ مِنْهَا وَثَبَّتْنَاهُ، وَأَمَّا الْبَعْضُ الْآخَرُ فَرَأَيْنَا الْمَصْلَحَةَ فِي عَدَمِ نَشْرِهِ، وَالْمُشْرِفُ الْعَامُّ هُوَ الْوَحِيدُ الَّذِي يُقَدِّرُ الْمَصْلَحَةَ فِي ذَلِكَ، وَقَدْ يُصِيبُ وَقَدْ يُخْطِئُ»». اهـ
قال الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ –: «وَمِنْ آثَارِ مَا يَعِيشُهُ أَتْبَاعُ الشَّيْخِ فَرْكُوسٍ مِنْ تَخَبُّطٍ بِسَبَبِ الْجَهْلِ الَّذِي أَفْضَوْا إِلَيْهِ جَرَّاءَ مُقَاطَعَتِهِمْ لِقِرَاءَةِ الْحَقِّ الَّذِي قَالَهُ الْعُلَمَاءُ وَالْمَشَايِخُ وَطَلَبَةُ الْعِلْمِ...» اهـ.
أَمَّا مَا افْتَرَاهُ بِخُصُوصِ أَتْبَاعِ الْحَقِّ الَّذِي عَلَيْهِ شَيْخُنَا فَرْكُوسٌ وَمَنْ مَعَهُ –حَفِظَهُمُ اللَّهُ– مِنْ تَخَبُّطِهِمْ بِالْجَهْلِ جَرَّاءَ مُقَاطَعَتِهِمْ لِكَلَامِ الْعُلَمَاءِ، فَهَذَا كَذِبٌ أَصْلَعُ لَهُ قَرْنَانِ، لِأَنَّ «الْحَقَّ يُعْرَفُ بِدَلَائِلِهِ لَا بِمَنْزِلَةِ قَائِلِهِ»، وَ«الْحَقُّ يُدْرَكُ بِالْأَدِلَّةِ لَا بِكَلَامِ الْأَجِلَّةِ»، وَأَتْبَاعُ الْحَقِّ قَرَأُوا وَنَظَرُوا وَتَمَعَّنُوا فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ فِي هَذَا الْبَابِ، وَعَلِمُوا يَقِينًا أَنَّهُمْ قَدْ جَانَبُوا الصَّوَابَ، وَخَفِيَتْ عَلَيْهِمُ الْحَقَائِقُ، وَغُيِّبَتْ عَنْهُمُ الْوَقَائِعُ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْحَقُّ أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنْ قَوْلِ كُلِّ أَحَدٍ كَائِنًا مَنْ كَانَ.
قال الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ –: «وَمِنْ آثَارِهِمُ الْخَطِيرَةِ أَنْ أَفْتَىٰ بَعْضُ رُؤُوسِهِمْ بِالتَّفْرِيقِ بَيْنَ الرَّجُلِ وَزَوْجَتِهِ، وَالرَّجُلِ وَصِهْرِهِ، وَالْأَخِ وَأَخِيهِ، وَالِابْنِ وَأَبِيهِ، وَعَدِّدْ أَسَالِيبَهُمْ وَلَا تَعْجَبْ، وَاللَّهُ حَسْبُنَا فِيهِمْ» اهـ.
ثُمَّ تَطَرَّقَ الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ – إِلَىٰ نَصِيحَةِ بَعِضِ مَشَايِخِنَا لِإِحْدَىٰ الْأَخَوَاتِ بِفِرَاقِ زَوْجِهَا الطَّعَّانِ فِي الْعُلَمَاءِ بَعْدَ عِنَادِهِ وَإِصْرَارِهِ وَالْيَأْسِ مِنْهُ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَسَبَهُ جُمْلَةً لِمَشَايِخِنَا، وَالْجَوَابُ عَلَىٰ ذَلِكَ مِنْ أَربَعِ جِهَاتٍ:
اَلْجِهَةُ الْأُولَىٰ: أَنَّ مِنْ أُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ تَرْكَ الْمُنْحَرِفِينَ، وَهَجْرَ الْمُخَالِفِينَ، وَالْبُعْدَ عَنِ الْمُعْتَدِينَ؛ وَأَيُّ انْحِرَافٍ وَاعْتِدَاءٍ أَعْظَمُ مِنْ سَبِّ الْعُلَمَاءِ، وَالطَّعْنِ فِي الْمَشَايِخِ، وَعَيْبِهِمْ وَالشَّمَاتَةِ بِهِمْ وَاحْتِقَارِهِمْ، وَالْحَطِّ مِنْ أَقْدَارِهِمْ؟! فَفَتْوَىٰ بَعْضِ مَشَايِخِنَا بِفِرَاقِ مَنْ كَانَ هَذَا حَالُهُ مُوَافِقَةٌ لِأُصُولِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ، فَلَا يَصِحُّ الْإِنْكَارُ عَلَيْهِمْ.
اَلْجِهَةُ الثَّانِيَةُ: اَلْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ – بِإِنْكَارِهِ لِهَاتِهِ الْفَتْوَىٰ يُؤَكِّدُ أَقْوَالَ عُلَمَائِنَا أَنَّ جَمَاعَةَ الْمَصَالِحِ جَمَاعَةُ احْتِوَاءٍ لِلْمُخَالِفِينَ، وَتَمْيِيعٍ مَعَ الْمُنْحَرِفِينَ، إِذْ كَيْفَ لِامْرَأَةٍ سَلَفِيَّةٍ تَتَنَفَّسُ الْمَنْهَجَ السَّلَفِيَّ الْمُبَارَكَ، وَتَتَفَيَّأُ ظِلَالَهُ، أَنْ تَعِيشَ مَعَ زَوْجٍ هُوَ أَقَلُّ دَرَجَةً مِنَ الْحَيَوَانِ(4)، وَهُوَ شَرٌّ مِنَ الزَّانِي وَالسَّارِقِ وَالسِّكِّيرِ، بِطَعْنِهِ فِي خِيَارِ الْأُمَّةِ، وَأَفَاضِلِ الْمُسْلِمِينَ، وَكَيْفَ لَهَا أَلَّا تَخَافَ عَلَىٰ دِينِهَا الَّذِي هُوَ شَحْمُهَا وَلَحْمُهَا وَدَمُهَا وَهِيَ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ مَعَ مَنْ هَذَا حَالُهُ؟! إِذِ «الْمَرْأَةُ عَلَىٰ دِينِ زَوْجِهَا غَالِبًا»، وَكَيْفَ يَكُونُ حَالُهَا وَمَوْقِفُهَا وَهِيَ تَسْمَعُ أَقْذَعَ الشَّتَائِمِ فِي مَشَايِخِهَا وَعُلَمَائِهَا لَيْلًا وَنَهَارًا؟! فَمَنْ كَانَتْ صَادِقَةً فِي انْتِمَائِهَا لِمَنْهَجِهَا، مُخْلِصَةً فِي انْتِسَابِهَا لِدِينِهَا، لَا تَسْتَطِيعُ تَحَمُّلَ كُلِّ هَذِهِ الْمَآسِي، وَلَا تَقْدِرُ عَلَىٰ مُوَاجَهَةِ كُلِّ هَذِهِ التَّجَاوُزَاتِ، وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ وَعَلَيْهِ التُّكْلَانُ.
اَلْجِهَةُ الثَّالِثَةُ: نقلِبُ عَلَى الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ –كَلَامَهُ بأَنَّ الصَّعَافِقَةَ أَنْفُسَهُمْ لَا يَرْضَوْنَ بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ تَحْتَ سَقْفٍ وَاحِدٍ – وَهَذَا مِمَّا يُشَرِّفُنَا وَيَزِيدُنَا فَخْرًا وَيَقِينًا بِأَنَّنَا عَلَىٰ الْحَقِّ -، وَلَعَلَّ هَذَا مِمَّا يَنْدَرِجُ تَحْتَ أَجَنْدَاتِهِمُ الْخَفِيَّةِ فِي تَنْظِيمِهِمُ السِّرِّيِّ، وَالَّتِي لَا يُعْلِنُونَهَا عَلَىٰ الْمَلَإِ إِلَّا عَلَىٰ اسْتِحْيَاءٍ، حَيْثُ ظَهَرَ مِنْ نَتَائِجِ ذَلِكَ مَا كَتَبَهُ الصُّعْفُوقُ أَبُو الْبَرَاءِ الْمَغْرِبِيُّ عَلَىٰ حِسَابِهِ فِي الْفَيْسْبُوكْ فَقَالَ: «لَأَنْ أَضُمَّ إِلَىٰ صَدْرِي أَفْعَىٰ مُجَلْجَلَةً خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَضُمَّ إِلَيْهِ زَوْجَةً مُصَعْفِقَةً» اهـ.
وَمَنْ لَمْ تَقُمْ بِأَمْرِ اللهِ فِي مُفَارَقَةِ أهْلِ الإنحراف، فَقَدْ تَكُونُ مُعَرَّضَةً لِذَلِكَ كَمَا جَاءَ علَى لِسَانِ الصعفوق الْمَغْرِبِيَّ جَزَاءً وِفَاقًا.
وَعَلَى طَرِيقَتِهِ مَشَى صِنْوُهُ -مَنْهَجاً وَوَطَناً-رِضَا أَبُو شَامَة المَغْرِبِي حيَثُ قَالَ أَيْضَا عَلَى حِسَابِهِ فِي الفَيْسبُوك: «أَتَزَوَجُ مُدْمِنَةَ خَمْرٍ تُصَلِي وَلَا أَتَزَوَجُ مَرْجُوجُةَ تُقَدِسُ القَاذِف وَثُلَاِثي الفُرْقَة وَتَتَهِمُ مَنْ سِوَاهُمْ مِنْ أَهْلِ العِلْم بِالصَعْفَقَة» اهـ.
فَهَا قَدْ تَبيَنَ بِمًا لَا يَدَعُ مَجَالاً لِلشَكِ أَنَّ الصَعَافِقَةَ أَنْفُسُهُمْ حَرِيصُونَ عَلَى المُفَارقَة مُجْتهِدُونَ فِي ذَلِك فِي كُهُوفِهِم المُظْلِمة –وَإنْ نَفَوهُ عَنْ أَنَفُسِهِمْ إِعْلَامِياٍ تَلْمِيعاٍ لِصُورَتِهِم وَتشْوِيهاً لِمُخَالِفيهِم زَعَمُوا-.
اَلْجِهَةُ الرَّابِعَةُ: عَوْدًا عَلَىٰ بَدْءٍ أَقُولُ:
كُنْتُ قَدْ أَوْرَدْتُ احْتِمَالًا فِي بِدَايَةِ الْمَقَالِ مَفَادُهُ أَنَّ جَمَاعَةَ الْمَصَالِحِ لَمْ يَنْشُرُوا إِقْرَارَ الشَّيْخِ عُبَيْدٍ لِمَقَالِ الْبَلِيدِ صَوْتِيًّا أَوْ خَطِّيًّا كَمَا هِيَ عَادَتُهُمْ، وَأَنَا الْآنَ أَتَحَدَّىٰ الْبُلَيْدِيَّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ – وَمَنْ مَعَهُ أَنْ يُخْرِجُوا لَنَا أَثَارَةً مِنْ إِقْرَارِ الْعَلَّامَةِ عُبَيْدٍ – حَفِظَهُ اللَّهُ – لِقَرِينَةٍ أُخْرَىٰ زَادَتْ مِنْ قُوَّةِ هَذَا الِاحْتِمَالِ، وَهِيَ أَنَّهُ حَسْبَ اطِّلَاعِي عَلَىٰ مَا يُنْشَرُ فِي وَسَائِلِ التَّوَاصُلِ مِنْ كَلَامِ مَشَايِخِنَا الْفُضَلَاءِ فِي هَذَا الْخِلَافِ، فَإِنَّ نَصِيحَةَ بَعْضِ مَشَايِخِنَا الْمُومَىٰ إِلَيْهَا قَبْلَ قَلِيلٍ لِمَنْ تَعِيشُ مَعَ صُعْفُوقٍ طَعَّانٍ فِي الْعُلَمَاءِ بِمُفَارَقَتِهِ وَتَرْكِهِ إِنَّمَا نُشِرَتْ فِي الْأَيَّامِ الْأَخِيرَةِ مِنْ رَمَضَانَ 1440هـ، فَإِمَّا أَنْ يُخْرِجَ لَنَا مَا نُشِرَ مِنْ فَتْوَىٰ بَعْضِ مَشَايِخِنَا قَبْلَ جُمَادَىٰ الْأُولَىٰ – تَارِيخُ كِتَابَتِهِ لِمَقَالِهِ وَإقْرَارَ الشَّيْخِ عَبِيدَ عَلَيْهِ -وَهَذَا مُسْتَبْعَدٌ، وَإِمَّا أَنَّهُمْ تَصَرَّفُوا فِي الْمَقَالِ زِيَادَةً وَنَقْصًا خِيَانَةً وَخِدَاعًا لِشَيْخِنَا عُبَيْدٍ – حَفِظَهُ اللَّهُ -، وَإِمَّا أَنَّهُمُ افْتَرَوْا عَلَىٰ الشَّيْخِ عُبَيْدٍ وَلَمْ يَعْرِضُوا عَلَيْهِ الْمَقَالَ أَصْلًا وَلَمْ يُقِرَّهُمْ عَلَيْهِ.
قال الْبُلَيْدِيُّ – أَصْلَحَهُ اللَّهُ –: «كُلُّ هَذَا لَيْسَ لَهُ تَفْسِيرٌ إِلَّا أَنَّهُمْ أَفْلَسُوا مِنَ الْعِلْمِ وَالْأَدَبِ، وَانْتَهَجُوا طَرِيقَةَ فَرْكُوسٍ الَّتِي تَنْتَهِي بِهِمْ إِلَىٰ الْجَهْلِ وَالسَّبِّ وَالضَّرْبِ، وَهِيَ طَرِيقٌ تَنْتَهِي فِي الْغَالِبِ إِلَىٰ التَّكْفِيرِ وَالتَّقْتِيلِ!، وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ» اهـ.
أَمَّا طَعْنُكَ فِي طَرِيقَةِ شَيْخِنَا بِأَنَّهَا: «تَنْتَهِي بِأَبْنَائِهِ إِلَىٰ الْجَهْلِ وَالسَّبِّ وَالضَّرْبِ، وَالتَّكْفِيرِ وَالتَّقْتِيلِ غَالِبًا»، فَهُوَ مِنْ بَابِ:
1) «رَمَتْنِي بِدَائِهَا وَانْسَلَّتْ» مِنْ جِهَةٍ، فَمَا رَأَيْنَاهُ مِنَ الْجَهْلِ الذَّرِيعِ بِقَوَاعِدِ الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَمُحَاوَلَةِ تَقْعِيدِ الْقَوَاعِدِ الْمُحْدَثَةِ نُصْرَةً لِأَهْوَائِكُمْ، وَدِفَاعًا عَنْ ذَوَاتِكُمْ إِلَّا مِنْ قِبَلِكُمْ، وَمَا قَرَأْنَاهُ مِنَ السَّبِّ الْقَبِيحِ وَالشَّتْمِ الصَّرِيحِ فِي عُلَمَائِنَا وَمَشَايِخِنَا إِلَّا مِنْ غِلْمَانِكُمْ وَمُرِيدِيكُمْ – وَمَا الْعَكْرِمِيُّ وَالدَّامُوسِيُّ وَأَبُو جَمِيلٍ وَمَنْ عَلَىٰ شَاكِلَتِهِمْ عَنْكَ بِبَعِيدٍ -، وَأَمَّا التَّكْفِيرُ فَلَوْ تَذَكَّرْتَ أَثْنَاءَ كِتَابَتِكَ لِهَاتِهِ الْعِبَارَاتِ الْقَبِيحَةِ فَضِيحَةَ شَيْخِكَ الْمَاضِي لَمَّا رَمَىٰ طَلَبَةَ الْعِلْمِ السَّلَفِيِّينَ بـ «خَوْفِ السِّرِّ»، وَهُوَ تَكْفِيرٌ صَرِيحٌ لَهُمْ لَمْ يُعْلَمْ لَهُ تَوْبَةٌ مِنْهُ وَلَا رُجُوعٌ حَتَّىٰ الْآنَ، لَعَلِمْتَ عَظِيمَ الْخِزْيِ، وَمِقْدَارَ الصَّغَارِ الَّذِي نِلْتَهُ بِتَسْوِيدَتِكَ هَاتِهِ، وَأَمَّا التَّقْتِيلُ فَهُوَ مِنْ جِنْسِ قَوْلِ الشَّاعِرِ:
مِمَا يُقَـالُ وَلَا حَقِـيقَةَ تَحـتَهُ ::: مَعـقُولَةً تَدنُـو إِلَى الأَفـهَامِ
الكَسبُ عِندَ الأَشعَريِّ وَالحَالُ عِنـ::: ـدَ البَهشـَمِيِّ وَطَـفرَةُ النَّظّامِ
2) وَمِنْ جِهَةٍ أُخْرَىٰ: «هِيَ صَحِيفَتُكَ فَامْلَأْهَا بِمَا شِئْتَ»، لَكِنِ احْذَرْ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، وَاتَّقِ زَفْرَةَ الْمَكْلُومِ، فَإِنَّ لَهَا عِنْدَ اللَّهِ حِسَابًا، وَيَوْمَ الْجَزَاءِ عِقَابًا.الكَسبُ عِندَ الأَشعَريِّ وَالحَالُ عِنـ::: ـدَ البَهشـَمِيِّ وَطَـفرَةُ النَّظّامِ
وَأَخِيرًا؛ هَذِهِ وَقَفَاتٌ فَاضِحَاتٌ، وَمَحَطَّاتٌ كَاشِفَاتٌ، نَحَرْتُ فِيهَا شُبُهَاتِ الرَّجُلِ، وَدَحَرْتُ بِهَا تَلْبِيسَاتِ قَلِيلِ الْوَجَلِ، وَاللَّهُ الْمَسْؤُولُ أَنْ يَهْدِيَهُ إِلَىٰ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَنْ يُنَجِّيَهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، إِنَّهُ وَلِيُّ ذَلِكَ وَالْقَادِرُ عَلَيْهِ.
---------------------------------------------------------------
الهامش:
(1): قَالَهُ الْقَاضِي مَنْصُورٌ الْأَزْدِيُّ كَمَا فِي دُمْيَةِ الْقَصْرِ لِأَبِي الْحَسَنِ الْبَاخَرْزِيِّ (02/102).
(2): http://www.rabee.net/ar/articles.php?cat=8&id=122
(3): طِيَارُ الشِّعْرِ: هُوَ مَا انْتَشَرَ وَلَمْ يُعْلَمْ نَاظِمُهُ.
(4): قَالَ الشَّيْخُ سُلَيْمَانُ الرُّحَيْلِيُّ – حَفِظَهُ اللَّهُ -:
«وَمِمَّا أَعْجَبَنِي مِنْ كَلَامِ مَشَايِخِي؛ وَصِيَّةٌ أَوْصَانِي بِهَا أَحَدُ مَشَايِخِي، فَقَالَ: «يَا سُلَيْمَانُ! لَا تَرْضَ لِنَفْسِكَ أَنْ تَكُونَ أَقَلَّ دَرَجَةً مِنَ الْحَيَوَانِ»، قُلْتُ: كَيْفَ؟ قَالَ: «إِيَّاكَ أَنْ تَتَنَقَّصَ الْعُلَمَاءَ الرَّبَّانِيِّينَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ بِالسُّنَّةِ وَالتَّوْحِيدِ، بَلْ لِيَكُنْ شَأْنُكَ دَائِمًا أَنْ تَذْكُرَ فَضْلَهُمْ وَأَنْ تَسْتَغْفِرَ لَهُمْ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّىٰ اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، حَتَّىٰ الْحِيتَانُ فِي الْمَاءِ»».
وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرَ: «إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ وَأَهْلَ السَّمَاوَاتِ وَأَهْلَ الْأَرْضِ، حَتَّىٰ النَّمْلَةُ فِي جُحْرِهَا، وَحَتَّىٰ الْحُوتُ لَيُصَلُّونَ عَلَىٰ مُعَلِّمِ النَّاسِ الْخَيْرَ» (شَرْحُ الْوَصِيَّةِ الصُّغْرَىٰ، ص: 105).
تعليق