إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ّ"فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ّ"فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك"

    بسم الله الرحمن الرحيم

    "فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك"
    إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.

    أما بعد، فمن باب قوله تعالى: " وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين"، ولما رأيت من واقع الساحة الدعوية الجزائرية، أحببت أن أذكر إخواني بعبر من قصة سفيان بن وكيع مع وراقه وأثره الشنيع عليه، وهي قصة قصيرة فيها عبر كثيرة بإذن الله، لمن تدبر وتأمل.

    وسفيان هذا هو ابن وكيع بن الجراح الرؤاسي، أبو محمد الكوفي، «روى عن عبد الأعلى السامي وعبد الوهاب الثقفي وأبي بكر بن عياش وجرير ابن عبد الحميد وحفص بن غياث وابن إدريس، روى عنه محمد بن مسلم بن وارة وقال حدثنا قديما»(1)، «توفي يوم الأحد لأربع عشرة بقيت من ربيع الآخر سنة 247ه »(2)
    وقد كان سفيان بن وكيع هذا محله الصدق والعدالة الدينية، قال عبد الله بن أحمد: سئل (يعني أباه) عن سفيان بن وكيع قبل أن يموت بأيام عشرة، أو أقل، يكتب عنه؟ فقال: «نعم، ما أعلم إلا خيرا»(3)
    وقال ابن حبان: «كان شيخا فاضلا صدوقا» ونقل عن ابن خزيمة أنه قال عنه: «وهو من الضرب الذي ذكرته مرارا أن لو خر من السماء فتخطفه الطير أحب إليه من أن يكذب على رسول الله <صلى الله عليه وسلم> »(4)
    وكان كثير الحديث، قال ابن عدي: «ولسفيان بن وكيع حديث كثير »(5) وقال الذهبي عنه: « الحافط بن الحافظ محدث الكوفة، كان من أوعية العلم»(6)
    ومع هذه الاستقامة وكثرة الرواية ترك المحدثون التحديث عنه، قال أبو عبيد الآجري: «حضرت أبا داود يُعرض عليه الحديث عن مشايخه فعُرض عليه حديث عن سفيان بن وكيع فأبى أن يسمعه»(7) وقد أُتهم بالكذب ، « قيل لأبي زرعة: كان يكذب؟ قال: كان أبوه رجلا صالحا. قيل له: كان يتهم بالكذب؟ قال: نعم»(8). بل بلغ الأمر أن قال عنه النسائي: «ليس بشيء»(9).

    فما سبب ذلك؟ ولما بالغ الأئمة في رد حديثه؟


    قال ابن أبي حاتم الرازي: « سمعت أبي يقول: جاءني جماعة من مشيخة الكوفة، فقالوا: بلغنا أنك تختلف إلى مشايخ الكوفة تكتب عنهم وتركت سفيان بن وكيع أما كنت ترعى له في أبيه؟ فقلت لهم: إني أوجب له وأحب أن تجرى أموره على الستر وله وراق قد أفسد حديثه، قالوا: فنحن نقول له أن يبعد الوراق عن نفسه، فوعدتهم أن أجيئه، فأتيته مع جماعة من أهل الحديث وقلت له: إن حقك واجب علينا في شيخك وفي نفسك، فلو صنت نفسك وكنت تقتصر على كتب أبيك، لكانت الرحلة إليك في ذلك، فكيف وقد سمعت؟ قال: ما الذي ينقم عليَّ؟ فقلت: قد أدخل وراقك في حديثك ما ليس من حديثك. فقال: فكيف السبيل في ذلك؟ قلت: ترمي بالمخرجات وتقتصر على الأصول، ولا تقرأ إلا من أصولك، وتنحي هذا الوراق عن نفسك، وتدعو بابن كرامة وتوليه أصولك، فإنه يوثق به، فقال: مقبول منك.
    وبلغني أن وراقه كان قد أدخلوه بيتا يتسمع علينا الحديث، فما فعل شيئا مما قاله، فبطل الشيخ، وكان يحدث بتلك الأحاديث التي قد أدخلت بين حديثه، وقد سرق من حديث المحدثين»(10)
    و لهذا قال ابن حبان:« إلا أنه ابتلي بوراق سوء، كان يدخل عليه الحديث، وكان يثق به فيجيب فيما يقرأ عليه، وقيل له بعد ذلك في أشياء منها فلم يرجع، فمن أجل إصراره على ما قيل له استحق الترك»(11).
    وقال الحاكم: «سمعت أبا عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ يقول: سمعت محمد بن إسحاق - يعني: ابن خزيمة - وقيل له: لم رويت عن أحمد بن عبد الرحمن بن وهب وتركت سفيان بن وكيع؟ فقال: «لأن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها عن آخرها، إلا حديث مالك، عن الزهري، عن أنس: «إذا حضر العشاء ... » ، فإنه ذكر أنه وجده في درج من كتب عمه في قرطاس، وأما سفيان بن وكيع: فإن وراقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه، فلم يرجع عنها، فاستخرت الله، وتركت الرواية عنه»(12).
    وروى الخطيب البغدادي بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي قال: «سمعت أبي يقول: دخلت الكوفة فحضرني أصحاب الحديث وقد تعلقوا بوراق سفيان بن وكيع فقالوا: أفسدت علينا شيخنا وابن شيخنا قال: فبعثت إلى سفيان بتلك الأحاديث التي أدخلها عليه وراقه، ليرجع عنها , فلم يرجع عنها, فتركته»(13)


    وهذه القصة يمكن أن نستخرج منها عبرا كثيرة ودررا ثمينة، ومن أهمها:
    • أن المحدثين قد سعوا سعيا حثيثا لحفظ دين الله <عزوجل> وصيانته من الدس والتحريف، بتحري أحوال النقلة وتقصي أخبارهم، وهذا فيه رد على الحداثيين والعقلانيين وغيرهم من أذناب المستشرقين.
    • أن فيها تذكيرا بقاعدة أصيلة من قواعد الجرح والتعديل وهي: "أن من علم حجة على من لم يعلم"، "وأن الجرح المفسر مقدم على التعديل المجمل"، فهذا إمام أهل السنة أحمد بن حنبل يُسئل قبل موته بأيام قليلة هل يكتب عن سفيان ، فيقول: « نعم ما أعلم إلا خيرا»، ومع ذلك تركه الأئمة بعده، قال ابن أبي حاتم: «كتب عنه أبي وأبو زرعة وتركا الرواية عنه»(14)
    أن على المرء ألا يُحابي أحدا في دين الله <عزوجل> ولو كان أقرب قريب وأحب حبيب؛ وقد قال مشيخة الكوفة لأبي حاتم: « أما كنت ترعى له في أبيه؟» فذكروه بحق الإمام وكيع عليه، ورد عليهم: «إني أوجب له وأحب أن تجري أموره على الستر» ثم ذكر سبب تركه: « وله وراق قد أفسد حديثه».
    فيها منقبة الرجوع إلى الحق والعاقبة الطيبة على الراجع إليه في الدنيا والآخرة، وقد أُستنكر على ابن خزيمة روايته عن أحمد بن عبد الرحمن وتركه سفيان بن وكيع فقال: «فإن أحمد بن عبد الرحمن لما أنكروا عليه تلك الأحاديث رجع عنها عن آخرها ... وأما سفيان بن وكيع: فإن وراقه أدخل عليه أحاديث، فرواها، وكلمناه، فلم يرجع عنها».
    وفيها أن الله <عزوجل> يُسخر لحفظ دينه من يشاء من طلبة العلم والعلماء الصادقين والمتقبلين للحق والساعين إليه، وأما من يُبيّن له خطؤه بالحجة والبرهان، ويُبذلُ له النصح والبيان، ويأبى إلا العناد والنكران، والتلبيس والروغان، فإنه استحق الترك والنسيان، ليسلم منه أشرف الأديان.
    وفيها أثر البطانة السيئة على العالم، والعاقبة الوخيمة لقربها منه، فإن صنيع وراق ابن وكيع قد رجع عليه بالأثر الشنيع، في صرف المحدثين عنه في الدنيا، ونقص أجر التحديث عنه في الآخرة.
    هذا ما ظهر لي من فوائد بيّنة لا تحتاج لإعمال فكر ولا إلى إطالة نظر، ويمكن لطالب العلم المتمكن أو العالم المتبحر أن يستنبط غيرها كثير، أما صاحب البضاعة المزجاة فإن حقه ألا يعرضها في سوق أصحابه سلعهم ناتجة وبضائعهم رائجة، والله المستعان وعليه التكلان.
    وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

    هوامش:
    (1) «الجرح والتعديل» (4/231)
    (2) «الكامل في ضعفاء الرجال» (4/479)
    (3) «العلل ومعرفة الرجال» (2/47)
    (4) « كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين» (1/359)
    (5) «الكامل في ضعفاء الرجال» (4/482)
    (6) «سير أعلام النبلاء» (9/512)
    (7) « سؤالات أبي عبيد الآجري أبا داود السجستاني في الجرح والتعديل» (ص 95)
    (8) «الجرح والتعديل» (4/231)
    (9) «الضعفاء والمتروكون» (ص 55)
    (10) «الجرح والتعديل» (4/231)
    (11) «كتاب المجروحين من المحدثين والضعفاء والمتروكين» (1/359)
    (12) «تهذيب الكمال» (1/388-389).
    (13) «الكفاية في علم الرواية» (ص150)
    (14) «الجرح والتعديل» (4/231).


    كتبه: أبو محمد صدام رغدي البسكري
    صبيحة يوم الاثنين التاسع من شهر رجب سنة تسع وثلاثين وأربعمائة بعد الألف.

  • #2
    جزاكم الله خيرا أخي صدام، نفع الله بكم.

    تعليق


    • #3
      بضاعة طيبة مبارك أن شاء الله فجزاك الله خيرا أخي الكريم أبا محمد.

      تعليق


      • #4
        جزُيت خيرًا أبٙا مُحمّٙد

        تعليق


        • #5
          آمين وإياكم إخواني
          وفقنا الله وإياكم لما يحب ويرضى

          تعليق


          • #6
            بارك الله فيك أبا محمد على هذا الانتقاء الطيب، وفقك الله لطاعته ومرضاته
            اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
            وسيم بن أحمد قاسيمي -غفر الله له-

            تعليق

            الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
            يعمل...
            X