<بسملة1>
التلبية وبراهين التوحيد
في صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه في صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم قال: فَأَهَلَّ بِالتَّوْحِيدِ «لَبَّيْكَ اللهُمَّ، لَبَّيْكَ، لَبَّيْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ لَبَّيْكَ، إِنَّ الْحَمْدَ وَالنِّعْمَةَ لَكَ، وَالْمُلْكَ لَا شَرِيكَ لَكَ»
فسمى رضي الله عنه التلبية التي كان يلبي بها نبينا صلى الله عليه وسلم توحيدا،وحق لهذه الكلمات المباركات أن تسمى بهذا الاسم لما تحمله من المعاني العظيمة والبراهين الساطعة والحجج القاطعة على توحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، قال الإمام ابن القيم في مختصر االصواعق: فَهَذَا تَوْحِيدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ، وَلِإِثْبَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُنْعِمًا، وَلِإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَى وَالْغِنَى وَالْجُودِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ مُلْكِهِ.
ومما ينبغي أن يتأمل ويستحضر في هذا الذكر تلكم البراهين التي تدل على توحيد الله:فسمى رضي الله عنه التلبية التي كان يلبي بها نبينا صلى الله عليه وسلم توحيدا،وحق لهذه الكلمات المباركات أن تسمى بهذا الاسم لما تحمله من المعاني العظيمة والبراهين الساطعة والحجج القاطعة على توحيد الله سبحانه وأنه المستحق للعبادة وحده دون ما سواه، قال الإمام ابن القيم في مختصر االصواعق: فَهَذَا تَوْحِيدُ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمُتَضَمِّنُ لِإِثْبَاتِ صِفَاتِ الْكَمَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ، وَلِإِثْبَاتِ الْأَفْعَالِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا أَنْ يَكُونَ مُنْعِمًا، وَلِإِثْبَاتِ الْقُدْرَةِ وَالْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ وَالتَّصَرُّفِ وَالْغَضَبِ وَالرِّضَى وَالْغِنَى وَالْجُودِ الَّذِي هُوَ حَقِيقَةُ مُلْكِهِ.
1-التلبية في قوله:لبيك اللهم لبيك لبيك لا شريك لم لبيك:وهذه الاستجابة تكون لله خالصة لوجهه الكريم.
قال العلامة ابن عثيمين في شرح جابر: ولبيك كلمة إجابة والدليل على هذا ما ورد في الصحيح «أن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا آدم فيقول: لبيك» وتحمل معنى الإقامة من قولهم ألبَّ بالمكان: أي أقام فيه فهي متضمنة للإجابة والإقامة. الإجابة لله والإقامة على طاعته ولهذا فسرها بعضهم بقوله: لبيك أي أنا مجيب لك مقيم على طاعتك وهذا تفسير جيد.
فإذا قال قائل: أين النداء من الله حتى يلبيه المحرم؟
قلنا: هو قوله تعالى: (وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً) أي أعلم الناس بالحج أو ناد فيهم بالحج و (يَأْتُوكَ رِجَالاً)، أي: على أرجلهم وليس المعنى ضد الإناث والدليل على أنهم على أرجلهم ما بعدها (وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ).انتهى
2-برهان الحمد في قوله:إن الحمد:وذلك أن المحمود على كمال صفاته ونعوت جلاله هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له،وفي الحج من حمد الله الكثير بما شرعه الله من هذه العبادة التي يحمد عليها،وبما يجريه الله من أنواع التدبيرات والتقديرات على عباده مما هو من آثار ربويته التي يحمد عليها سبحانه،مما يدل استحقاقه للعبادة،ولهذا ذكر ربنا تعالى حمده في مقام تقرير التوحيد والدليل عليه.
قال تعالى: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
قال ابن السعدي: تدبر هذه الآيات الكريمات، الدالة على سعة رحمة الله تعالى وجزيل فضله، ووجوب شكره، وكمال قدرته، وعظيم سلطانه، وسعة ملكه، وعموم خلقه لجميع الأشياء، وكمال حياته، واتصافه بالحمد على كل ما اتصف به من الصفات الكاملة، وما فعله من الأفعال الحسنة، وتمام ربوبيته، وانفراده فيها، وأن جميع التدبير في العالم العلوي والسفلي في ماضي الأوقات وحاضرها، ومستقبلها بيد الله تعالى، ليس لأحد من الأمر شىء، ولا من القدرة شيء، فينتج من ذلك، أنه تعالى المألوه المعبود وحده، الذي لا يستحق أحد من العبودية شيئًا، كما لم يستحق من الربوبية شيئًا، وينتج من ذلك، امتلاء القلوب بمعرفة الله تعالى ومحبته وخوفه ورجائه، وهذان الأمران -وهما معرفته وعبادته- هما اللذان خلق الله الخلق لأجلهما، وهما الغاية المقصودة منه تعالى لعباده، وهما الموصلان إلى كل خير وفلاح وصلاح، وسعادة دنيوية وأخروية، وهما اللذان هما أشرف عطايا الكريم لعباده، وهما أشرف اللذات على الإطلاق، وهما اللذان إن فاتا، فات كل خير، وحضر كل شر.
فنسأله تعالى أن يملأ قلوبنا بمعرفته ومحبته، وأن يجعل حركاتنا الباطنة والظاهرة، خالصة لوجهه، تابعة لأمره، إنه لا يتعاظمه سؤال، ولا يحفيه نوال.انتهى
3-برهان النعم:فالله الذي أنعم على عباده النعم السابغة،النعم الدينية والدنيوية هو المستحق للعبادة، وكم من النعم التي له الفضل والمنة وحده يجريها على عباده في الحج،حيث يرزقهم أموالا وصحة وأوقاتا وعافية يتمكنون بها من أداء هده الشعائر.
وكم من النعم في تيسير الوصول إلى البيت العتيق يجريها عليهم.
وكم من النعم في توفير الأرزاق والخيرات ولابركات والوسائل لأداء مناسكهم.
فالذي يتفضل بهذه الفضائل هو المستحق للعبادة دون ما سواه،ولهذا ذكر الله في سورة النحل التي تسمى بسورة النعم نعما كثيرة على عباده ختمها تعالى بقوله: كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81)فالمقصود من معرفة النعم واستحضارها هو إفراد الله بالعبادة وإحلاص الدين له،ولهذا قال البغوي في تفسيره: تُخْلِصُونَ لَهُ الطَّاعَةَ.
4-برهان الملك:فالله هو الملك المالك لكل شيء،جميع خلقه تحت تدبيره وقهره وتصرفه لا أحد يخرج عن ذلك برا كان أو فاجرا،مسلما أو كافرا،مما يدل أنهم مملوكون مربوبون لا يستحقون شيئا من العبادة قال تعالى: {قُلْ لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} .
قال العلامة السعدي:أي: قل لهؤلاء المكذبين بالبعث، العادلين بالله غيره، محتجا عليهم بما أثبتوه، وأقروا به، من توحيد الربوبية، وانفراد الله بها، على ما أنكروه من توحيد الإلهية والعبادة، وبما أثبتوه من خلق المخلوقات العظيمة، على ما أنكروه من إعادة الموتى، الذي هو أسهل من ذلك.
{لِمَنِ الأرْضُ وَمَنْ فِيهَا} أي: من هو الخالق للأرض ومن عليها، من حيوان، ونبات وجماد وبحار وأنهار وجبال، المالك لذلك، المدبر له؟ فإنك إذا سألتهم عن ذلك، لا بد أن يقولوا: الله وحده. فقل لهم إذا أقروا بذلك: {أَفَلا تَذَكَّرُونَ} أي: أفلا ترجعون إلى ما ذكركم الله به، مما هو معلوم عندكم، مستقر في فطركم، قد يغيبه الإعراض في بعض الأوقات. والحقيقة أنكم إن رجعتم إلى ذاكرتكم، بمجرد التأمل، علمتم أن مالك ذلك، هو المعبود وحده، وأن إلهية من هو مملوك أبطل الباطل ثم انتقل إلى ما هو أعظم من ذلك، فقال: {قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ} وما فيها من النيرات، والكواكب السيارات، والثوابت {وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} الذي هو أعلى المخلوقات وأوسعها وأعظمها، فمن الذي خلق ذلك ودبره، وصرفه بأنواع التدبير؟ {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي: سيقرون بأن الله رب ذلك كله. قل لهم حين يقرون بذلك: {أَفَلا تَتَّقُونَ} عبادة المخلوقات العاجزة، وتتقون الرب العظيم، كامل القدرة، عظيم السلطان؟ وفي هذا من لطف الخطاب، من قوله: {أَفَلا تذكرون} {أفلا تَتَّقُونَ} والوعظ بأداة العرض الجاذبة للقلوب، ما لا يخفى ثم انتقل إلى إقرارهم بما هو أعم من ذلك كله فقال: {قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ} أي: ملك كل شيء، من العالم العلوي، والعالم السفلي، ما نبصره، وما لا نبصره؟. و " الملكوت "ب صيغة مبالغة بمعنى الملك. {وَهُوَ يُجِيرُ} عباده من الشر، ويدفع عنهم المكاره، ويحفظهم مما يضرهم، {وَلا يُجَارُ عَلَيْهِ} أي: لا يقدر أحد أن يجير على الله. ولا يدفع الشر الذي قدره الله. بل ولا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} أي: سيقرون أن الله المالك لكل شيء، المجير، الذي لا يجار عليه.
{قُلْ} لهم حين يقرون بذلك، ملزما لهم، {فَأَنَّى تُسْحَرُونَ} أي: فأين تذهب عقولكم، حيث عبدتم من علمتم أنهم لا ملك لهم، ولا قسط من الملك، وأنهم عاجزون من جميع الوجوه، وتركتم الإخلاص للمالك العظيم القادر المدبر لجميع الأمور، فالعقول التي دلتكم على هذا، لا تكون إلا مسحورة، وهي - بلا شك- قد سحرها الشيطان، بما زين لهم، وحسن لهم، وقلب الحقائق لهم، فسحر عقولهم، كما سحرت السحرة أعين الناس.انتهى
وتأمل في ظهور آثار ملك الله في الحج من جهات عديدة من كون الرب العزيز والإله الحق المبين يختار من عباده من يكونون عمارا لبيته العتيق،فيأتون من كل فج عميق يشهدون منافع الحج،تتعلق قلوبهم بتلك البقاع،وتنجذب لها نفوسهم مع أنها أرض قفراء جرداء ليس فيها شيء يدعو إلى التعلق بها،وهي في واد غير ذي زرع تحيطها الجبال،فهده الأرض الصعبة،تساق إليها الأرزاق،ويأمها الناس بالملايين،وتتيسر لهم فيها عباداتهم،أليس ذلك دليل على ملك الله وقدرته وعظمته وجلاله التي بها يستحق أن يعبد دون ما سواه من المملوكين الذين لا يملكون لأنفسهم فضلا عن غيرهم نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا.
فهذا بعض البراهين المستفادة من تلك الكلمات،وكل ما في الحج إلا ويعمق معنى التوحيد في القلوب،ويقوي الاستجابة لله حتى إذا وفق العبد للحج المبرور كان من عباد الله المستقيمين على أمر الله الموحدين له تعالى، قال ابن القيم في مفتاح دار السعادة: فالبيت الْحَرَام قيام الْعَالم فَلَا يزَال قيَاما مَا زَالَ هَذَا الْبَيْت محجوجا فالحج هُوَ خَاصَّة الحنيفة ومعونة الصَّلَاة وسر قَول العَبْد لَا إِلَه إِلَّا الله فَإِنَّهُ مؤسس على التَّوْحِيد الْمَحْض والمحبة الْخَالِصَة وَهُوَ استزارة المحبوب لأحبابه ودعوتهم إِلَى بَيته وَمحل كرامته وَلِهَذَا إِذا دخلُوا فِي هَذِه الْعِبَادَة فشعارهم لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك إِجَابَة محب لدَعْوَة حَبِيبه وَلِهَذَا كَانَ لِلتَّلْبِيَةِ موقع عِنْد الله وَكلما أَكثر العَبْد مِنْهَا كَانَ أحب إِلَى ربه وأحظى فَهُوَ لَا يملك نَفسه أَن يَقُول لبيْك لبيْك حَتَّى يَنْقَطِع نَفسه، وَأما أسرار مَا فِي هَذِه الْعِبَادَة من الْإِحْرَام وَاجْتنَاب العوائد وكشف الرَّأْس وَنزع الثِّيَاب الْمُعْتَادَة وَالطّواف وَالْوُقُوف بِعَرَفَة وَرمى الْجمار وَسَائِر شَعَائِر الْحَج فمما شهِدت بحسنه الْعُقُول السليمة وَالْفطر المستقيمة انتهى.
فنسأل الله من فضله، وأن يمن علينا حج بيته وتحقيق توحيده إنه سميع مجيب.
تعليق