الإجماع على نسخ قتل شارب الخمر في الرابعة
<بسملة 2>
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد فإن من الحدود التي شرعها الله سبحانه وتعالى لعباده حفظا لمصالحهم ودرءا للمفاسد عنهم حد جلد شارب الخمر, وقد ثبت في سنة نبينا صلى الله عليه وسلم الأمر بقتل شارب الخمر إذا حُدّ ثلاث مرات ثمّ عاد, إلا أن بعض العلماء نقلوا الإجماع على أنّ هذا الحكم منسوخ, وفيما يأتي محاولة دراسة هذا الإجماع وتحقق ثبوته من عدمه. <بسملة 2>
الفرع الأول: مستند الإجماع
عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: « إِنَّ مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فَاجْلِدُوهُ، فَإِنْ عَادَ فِي الرَّابِعَةِ فَاقْتُلُوهُ»، قال: ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله(1).
الفرع الثاني: حكاية العلماء الإجماع في المسألة:
1. قال الشافعي (204هـ): « والقتل منسوخ بهذا الحديث وغيره وهذا ممّا لا اختلاف فيه بين أحد من أهل العلم علمته»(2).
2. قال الترمذي (279هـ) : « ثم أُتي النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك برجل قد شرب الخمر في الرابعة فضربه ولم يقتله, وكذلك روى الزهري، عن قبيصة بن ذؤيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم نحو هذا قال: فرفع القتل، وكانت رخصة،والعمل على هذا الحديث عند عامّة أهل العلم لا نعلم بينهم اختلافا في ذلك في القديم والحديث»(3).
3. قال ابن المنذر(319هـ): « ثم أزيل القتل عن الشارب في المرة الرابعة بخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبإجماع عوام أهل العلم من أهل الحجاز، والعراق، والشام، ومصر، وكل من نحفظ عنه من أهل العلم إلا شاذا من الناس(4) لا يٌعدّ خلافهم خِلافاً»(5).
4. قال الخطابي (388هـ): « وقد يحتمل أن يكون القتل في الخامسة واجبا ثم نسخ لحصول الإجماع من الأمّة على أنّه لا يُقتل»(6).
5. قال القاضي عياض (544هـ): « أجمع المسلمون على وجوب الحد في الخمر، وأجمعوا أنّه لا يُقتل إذا تكرّر منه ذلك، إلّا طائفة شاذة قالوا: يُقتل بعد حدّه أربع مرات، الحديث الوارد في ذلك وهو عند الكافّة منسوخ...ودلّ على نسخه إجماع الصحابة على ترك العمل به»(7).
6. قال ابن الصلاح (643هـ): « ثم إن ناسخ الحديث ومنسوخه ينقسم أقساما:...ومنها: ما يُعرف بالإجماع، كحديث قتل شارب الخمر في المرة الرابعة، فإنّه منسوخ، عُرف نسخه بانعقاد الإجماع على ترك العمل به، والإجماع لا ينسخ ولا يُنسخ، ولكن يدلّ على وجود ناسخ غيره»(8).
7. قال النووي (676هـ): « وهذا الذي قاله الترمذي في حديث شارب الخمر هو كما قاله فهو حديث منسوخ دلّ الإجماع على نسخه»(9).
8. قال الطيبي (743هـ): « أجمع المسلمون على تحريم شرب الخمر وعلى وجوب الحدّ على شاربها سواء شرب شرباً قليلاً أو كثيراً، وعلى أنّه لا يقتل وإن تكرر ذلك منه. وحكى القاضي عياض عن طائفة شاذة أنّهم قالوا: يُقتل بعد جلده أربع مرّات لهذا الحديث، وهو باطل مخالف للإجماع، والحديث منسوخ»(10).
9. قال ابن حجر (852هـ): « وقد استقرّ الإجماع على ثبوت حدّ الخمر وأنّ لا قتل فيه»(11).
10. قال الصنعاني (1182هـ): « قوله: "في حديث ابن عمر فاقتلوه" اتفقوا على نسخ القتل بالحديث الذي بعده وهو قوله "فرُفع القتل وكان رخصة"»(12).
الفرع الثالث: الخلاف في المسألة
ردّ الإجماع جماعة من أهل العلم وهم على أقسام:
أ- قسم ذهب إلى أن القتل في الرابعة حكم ثابت محكم، يجب الأخذ به فِي كلّ حال منهم ابن حزم والسيوطي وتبعهما أحمد شاكر.(13)
ب- وقسم ذهب إلى أنّه تعزير بحسب المصلحة وهو ابن القيم وتبعه الألباني ومحمد علي آدم الإثيوبي.(14)
ت- قسم ردّ الإجماع فقط دون إظهار اختيار للنسخ أو للقتل منهم العراقي(15).
أدلتهم:
1. ما روي عن عبد الله بن عمرو أنّه قال: «ايتوني برجل أقيم عليه حد الخمر فإن لم أقتله فأنا كذّاب«(16) و مثله عن عبد الله بن عمر(17)
2. حكاية القتل في الرابعة أيضا عن عثمان رضي الله عنه وعن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري(18).
3. أنّ مخالفة أهل الظاهر تنقض الإجماع(19).
مناقشة أدلة المخالفين:
1. لم يُروَ هذا القول عن ابن عمر -فيما اطلعت عليه- وإنّما عن ابن عمرو وحده بإسناد منقطع فالحسن البصري لم يسمع من عبد الله بن عمرو فلا تقوم به حجة(20)، إلّا أنّ أحمد شاكر قال: « هذا لا يؤثّر في الاحتجاج به لنقض ما ادّعي من الإجماع؛ لأنّه إذا لم يكن قول عبد الله بن عمرو كان على الأقلّ مذهب الحسن البصري؛ لأنّه لو كان يرى غير ذلك لبين أنّ هذا الحكم الذي نسبه لعبد الله بن عمرو حكم منسوخ أداءً لأمانة العلم، وذلك الظنّ به»(21)، ونسبة هذا القول للحسن بعيدة، ودفع الإجماع بها أبعد، والذي يظهر أنّ أحمد شاكر ردّ الإجماع لأنّه يرى أنّه لا إجماع إلّا في المسائل المعلومة من الدين بالضرورة(22)
هذا من جهة السند أمّا من جهة المتن فإنّ:
- هذا القول ليس فيه تصريح بالقتل في الرابعة بل ظاهره قتل من أقيم عليه الحدّ مرّة واحدة ولا قائل به.
- قتل شارب الخمر في الرابعة خاص بولي الأمر, فكيف لعبد الله رضي الله عنه أن يقول هذا.
2. ما حُكي عن عثمان رضي الله عنه و عمر بن عبد العزيز والحسن البصري لم يثبت(23).
3. خلاف الظاهرية مسبوق بالإجماع فلا عبرة به, والقاعدة تقول: « وَصْف كُلِّيَّةِ الْأُمَّةِ حَاصِلٌ لِكُلٍّ مِنْ الْمَوْجُودِينَ فِي كُلِّ وَقْتٍ « (24).
قال ابن حجر: «وحينئذ لم يبق لمن ردّ الإجماع على ترك القتل مُتمسَك» (25).
الخلاصة:ثبوت الإجماع على نسخ قتل شارب الخمر في الرابعة إلّا أنّ الإجماع ظني.
------------------------------------------------
(1)رواه أبو داود، كتاب الحدود، باب إذا تتابع في شرب الخمر، (رقم: 4482).(4/164)،والترمذي، أبواب الحدود، باب ما جاء من شرب الخمر فاجلدوه، ومن عاد في الرابعة فاقتلوه، (رقم: 1444).(4/48). وابن ماجه، كتاب الحدود، باب من شرب الخمر مرارا.(رقم: 2573).(2/859). قال الترمذي:
(2) الأم.(6/155-156).
(3) سنن الترمذي.(4/49).
(4) قال ابن حجر: « وكأنّه أشار إلى بعض أهل الظاهر فقد نُقل عن بعضهم واستمرّ عليه ابن حزم منهم » فتح الباري (12/80).
(5) الإشراف.(7/336).
(6) معالم السنن.(3/339).
(7) إكمال المعلم.(5/540-541).
(8) مقدمة ابن الصلاح.(383).
(9) شرح مسلم.(5/218).
(10) الكاشف عن حقائق السنن.(8/2541).
(11) فتح الباري.(12/75).
(12) التحبير.(3/606).
(13) انظر الإحكام في أصول الأحكام.(4/120). قوت المغتذي على جامع الترمذي.(1/383). حاشية أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد.(5/457-461)
(14) انظر حاشية ابن القيم على عون المعبود.(12/57)، سلسلة الأحاديث الصحيحة (3/348)، ذخيرة العقبى.(40/271).
(15) انظر التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح.(281).
(16) انظر المحلى.(12/374)، قوت المغتذي على جامع الترمذي.(1/383). حاشية أحمد شاكر على مسند الإمام أحمد.(5/457-461)
(17) الإحكام في أصول الأحكام.(4/120). عون المعبود ومعه حاشية ابن القيم.(12/57).
(18)انظر التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح.(281)،فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للسخاوي.(281)،
(19)انظر التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح.(281).
(20) فتح الباري لابن حجر.(12/80).
(21) حاشية مسند الإمام أحمد.(5/457-458).
(22) انظر كلام أحمد شاكر في حاشيته على كلّ من مسند الإمام أحمد(5/458)، الأحكام لابن حزم .(4/142-144).
(23)انظر التقييد والإيضاح شرح مقدمة ابن الصلاح.(281)، فتح المغيث بشرح ألفية الحديث للسخاوي.(281).
(24) المستصفى للغزالي.(150).
(25) فتح الباري.(12/80).
تعليق