إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الدعوة السلفية السُّنِّيَّة وعَقَباتٌ في طريق النهوض بها لفضيلة شيخنا العلامة الدكتور محمد علي فركوس حفظه الله

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الدعوة السلفية السُّنِّيَّة وعَقَباتٌ في طريق النهوض بها لفضيلة شيخنا العلامة الدكتور محمد علي فركوس حفظه الله

    <بسملة1>


    الدعوة السلفية السُّنِّيَّة
    وعَقَباتٌ في طريق النهوض بها




    الحمد لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

    فإنَّ دِينَ الإسلامِ الذي رَضِيَهُ اللهُ لخَلْقِه يُثْبِتُ ـ في باب الاعتقاد ـ دعوةَ التوحيدِ وينفي الكفرَ والشركَ والإلحادَ والنفاق، كما ينفي ـ في باب الاتِّباع ـ الأهواءَ والبِدَعَ والحوادث، ويأمر باتِّباعِ السنَّة والْتزامِ مَضامينِها؛ فذاك مقتضى الشهادتين، والناظرُ في التسلسل التاريخيِّ للأحداث وعوامِلِ ظهور الاتِّجاه السنِّيِّ السلفيِّ يُدْرِكُ أنَّ اللهَ تعالى لمَّا أَكْمَلَ دِينَه ببعثة نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم الذي أَرْسَله بالهدى ودِينِ الحقِّ بين يدَيِ الساعة بشيرًا ونذيرًا وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، تَرَكَ أمَّتَه على مثلِ البيضاء ليلُها كنهارها لا يَزيغُ عنها إلَّا هالكٌ، ثمَّ قامَ بالدِّين ـ بَعْدَه ـ أصحابُه رضي الله عنهم؛ فكانوا يسمعون القرآنَ ويَتْلُونَه ويفهمون معناهُ ويعملون بشرائعه؛ فكانوا ـ حقًّا ـ أَصْدَقَ الأمَّةِ إيمانًا، وأَبَرَّها قلوبًا، وأَعْظَمَها عقولًا، وأَعْمَقَها علمًا، وأَحْسَنَها بيانًا، وأَحَدَّها أذهانًا، وأَكْثَرَها فهومًا، وأَلْطَفَها إدراكًا، وأَقَلَّها تكلُّفًا، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ بعد أَنْ ذَكَرَ قولَ عمر بنِ الخطَّاب رضي الله عنه: «إِنَّمَا تُنْقَضُ عُرَى الإِسْلَامِ عُرْوَةً عُرْوَةً إِذَا نَشَأَ فِي الإِسْلَامِ مَنْ لَا يَعْرِفُ الجَاهِلِيَّةَ»(١): «ولهذا كان الصحابةُ أَعْرَفَ الأمَّةِ بالإسلام وتفاصيلِه وأبوابِه وطُرُقِه، وأَشَدَّ الناسِ رغبةً فيه، ومَحَبَّةً له، وجهادًا لأعدائه، وتكلُّمًا بأعلامه، وتحذيرًا مِنْ خلافه؛ لكمالِ عِلْمِهم بضدِّه؛ فجاءهم الإسلامُ وكُلُّ خصلةٍ منه مُضادَّةٌ لكُلِّ خصلةٍ ممَّا كانوا عليه، فازدادوا له معرفةً وحُبًّا، وفيه جهادًا بمعرفتهم بضِدِّه»(٢)؛ فنَشَرُوا الإسلامَ، وبيَّنوا عقيدتَه وأحكامَه أَحْسَنَ بيانٍ، وأيَّدوا قواعدَ الإسلامِ وأُسُسَ الإيمانِ بالدليل والبرهان، ومَضَوْا على المَحَجَّةِ البيضاء التي تَرَكَهم عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فأَلْقَوْا إلى التابعين لهم بإحسانٍ ما تلقَّوْهُ مِنْ مشكاة النبوَّة مِنْ نصوص القرآن والسنَّة والإيمان، فاقتفى صراطَهم المستقيمَ الرعيلُ الأوَّلُ مِنْ أتباعهم؛ فأقاموا الحقَّ وأشادوا ركائزَه؛ فأضاءُوا نورَه، فسارَتْ به ركائبُه، دون تقديسٍ للرجال، أو تعصُّبٍ للآباء، أو تشبُّهٍ بالأعداء، أو اتِّباعٍ للبِدَعِ والأهواء؛ فشَرْعُ اللهِ أَعْظَمُ وأَحَبُّ إليهم مِنْ أَنْفُسِهم، وأجَلُّ مِنْ أَنْ يُقدَّمَ عليه قولُ كائنٍ مَنْ كان مِنَ البشر، وأَكْبَرُ مِنْ أَنْ يُعارِضَه رأيٌ أو قياسٌ أو نظرٌ أو استدلالٌ؛ فهُدُوا ـ بفضل الله ـ إلى الطيِّب مِنَ القول وهُدُوا إلى صراط الحميد.

    ◙ أهمُّ أسباب الانحراف عن المنهج السُّنِّيِّ السلفيِّ:
    هذا، وكان لدخولِ كثيرٍ مِنَ الأعاجم مِنْ أهل الدياناتِ الأخرى الإسلامَ، واختلاطِهم بالمسلمين بعد الفتوحات الإسلامية، واتِّساعِ رقعة العالَمِ الإسلاميِّ الأثرُ السلبيُّ البالغُ في ضعفِ اللغة العربية والجهلِ بمُصْطلَحاتها وأسرارِها بسبب العجمة المُهْلِكة(٣)؛ فنَتَجَ عن سوءِ فهمِ اللسان العربيِّ اضطرابٌ في فهمِ معاني نصوص الكتاب والسنَّة والمسائلِ المتعلِّقة بها مِنْ جهةٍ، وسهَّل ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ انتشارَ ما كانوا عليه قبل إسلامهم مِنْ مُعْتَقَداتٍ وتشريعاتٍ ومَذاهِبَ مُخالِفةٍ ـ في مفاهيمها ومَناهِجِها ـ للإسلام ومَقاصِدِه الشرعية، ثمَّ جَدَّ في المجتمع المسلم الفسيحِ فِتَنٌ عظيمةٌ ومِحَنٌ مَقِيتةٌ وأحداثٌ سياسيةٌ كبرى هزَّتْ كيانَه وصدَّعَتْ صفوفَه، وتَبَلْوَرَ فيها الجدلُ العقديُّ والسياسيُّ العقيم، وانقلب ـ فيما بعدُ ـ إلى تفرُّقٍ عَقَديٍّ وصراعٍ دمويٍّ عكَّرَ صفوَ حياةِ المسلمين ولبَّس عليهم أَمْرَ دِينِهم، كان مِنْ ورائِه خُلُوفٌ ظَهَرَتْ فيهم البِدَعُ والضلالات؛ ﻓ ﴿فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم]، ويأتي في طليعةِ الضلالات التي ظهَرَتِ:

    · الغُلُوُّ في الدِّين الذي يُمثِّلُه مذهبُ الخوارج والشيعة والمرجئة.

    فالخوارج بفِرَقِهم المتعدِّدة غَلَوْا في فهمِ آيات الوعيد وأَعْرَضوا عن آيات الرجاء والوعدِ بالمغفرة والتوبة، وكان مِنْ نتيجةِ غُلُوِّ الخوارج: اجتماعُهم على تكفيرِ عثمان وعليٍّ رضي الله عنهما، وأصحابِ الجَمَل والحَكَمَين، ومَنْ رَضِيَ بالتحكيم وصوَّبَ الحَكَمين أو أحَدَهما، وظهورُ مبدإ الخروج على السلطان الجائر، وإجماعُهم على أنَّ كُلَّ كبيرةٍ كفرٌ إلَّا النَّجَدَاتِ(٤) فإنها لا تقول بذلك(٥).

    وبالمُقابِلِ فقَدْ كان الغُلُوُّ ـ أيضًا ـ أحَدَ الأسبابِ في ظهور الشيعة الروافض، تَجَسَّدَ ـ ابتداءً ـ في حامِلِ لواءِ الغُلُوِّ فيها: عبدِ الله بنِ سَبَإٍ اليهوديِّ، فقَدْ غَالَى في عليٍّ رضي الله عنه وادَّعى له الوصيَّةَ بالخلافة، ثمَّ غَالَى فيه حتَّى رَفَعَه إلى مرتبة الألوهية، ثمَّ تعدَّدَتْ ـ فيما بَعْدُ ـ فِرَقُ الشيعةِ وإِنِ اختلفَتْ مَقالاتُهم المُحْدَثةُ إلَّا أنها وَرِثَتْ مُخلَّفاتِ ابنِ سَبَإٍ في القول بإمامةِ عليٍّ رضي الله عنه وخلافتِه نصًّا ووصيةً، ثمَّ راجَتْ بدعةُ الشيعة ـ بعدها ـ في القول بالوصيَّة والرجعة والغَيْبة، وهكذا بَقِيَ خطُّ التشيُّع مُسْتمِرًّا في الانحراف عن الجادَّة حتَّى بَلَغَ الغُلُوُّ فيهم ذروتَه في رفعِ الأئمَّة إلى درجة النبوَّة، بل إلى مَقام الألوهية(٦).

    ثمَّ تَلَا ذلك غُلُوُّ المُرْجِئةِ في الظهور كرَدِّ فعلٍ مُقابِلٍ لغُلُوِّ الخوارج في تكفيرِ مُرْتَكِبِ الكبيرة؛ ففَصَلُوا بين الإيمان والعمل، وأخَّروا العملَ عن الإيمان، وقالوا: لا تضرُّ مع الإيمان معصيةٌ ولا ينفع مع الكفر طاعةٌ؛ فكان غُلُوُّهم في فهمِ آيات الوعد والرجاء والبشارة والعمل بها، والإعراضِ عن آيات الوعيد والإنذار بالتأويل والردِّ.

    ومِنْ أسباب ظهورِ الضلالات ـ أيضًا ـ وما انجرَّ عنها مِنَ الفتن:

    · تعريبُ كُتُبِ الفلسفة اليونانية والهندية والفارسية مِنْ كُتُبِ العقائد الوثنية وغيرِها؛ فاشتغلَتْ بها طائفةٌ مِنْ عُقَلاءِ المسلمين قراءةً وتحليلًا ومُناقَشةً؛ فانخدعوا بمَناهِجِها ومُقرَّراتِها في البحث، ووَلِعُوا بالعلوم الكلامية والمنطقية اليونانية، وأُشْرِبَتْ قلوبُهم حُبَّها؛ فانعكسَتْ آثارُها السَّلبيةُ في إقحام الفلسفة في الحياة الفكرية للعالَمِ الإسلاميِّ، والاشتغالِ بها عن التبصُّر في نصوص الوحيين وما عليه السلفُ الصالح، واتِّخاذِها ميزانًا للحقائق الشرعية؛ الأمرُ الذي أدَّى إلى إضعافِ أثرِ العقيدة الإسلامية في النفوس إلى حَدٍّ كبيرٍ، وانحرافٍ ظاهرٍ في مسائل الاعتقاد بما لاقَتِ الآياتُ القرآنية المُعارِضةُ للكُتُبِ المُتَرْجَمةِ مِنْ شحنةٍ عارمةٍ مِنَ التبديل والتأويل والتحريف، كما تعرَّضَتِ السنَّةُ النبويةُ ـ هي الأخرى ـ لأنواعِ الانتحال والوضع والردِّ والإبطال؛ حتَّى يتمَّ لهم التوافقُ بينها وبين المقرَّرات الفلسفية والقواعدِ المنطقية المُسْتَحْدَثة.

    · فأَفْرَطوا في تحكيمِ العقل في قضايَا العقيدة، وبنَوْا إثباتَ المَطالِبِ الإلهية على الأقيسة وإعمالِ البراهين المنطقية، وقدَّموا العقلَ على الشرع، وأوَّلوا النصوصَ الشرعية بأنواع المَجازات، وما أعقب ذلك مِنَ المُؤثِّرات الأخرى؛ فكان أَنْ تَمَيَّزَ الخلفُ بهذه القواعد الكبرى التي تَنَكَّروا فيها لسَلَفِهم الصالح، ودنَّسُوا عقائدَهم بأدرانِ عِلْمِ الكلام اليونانيِّ وتُرَّهاتِ الفلاسفة التائهين، وانحرفوا بها عن سواء السبيل، سواءٌ مِنْ أنصار العقل كالجهمية والمعتزلة والأشعرية والرافضة والخوارج، أو مِنْ أرباب العاطفة ونحوِهم ممَّنْ دلَّتْ نصوصُ الوحيين وإجماعُ سَلَفِ الأمَّةِ على ذَمِّ طرائِقِهم ومسالِكِهم العَقَدية والسلوكية، وقد جاءَ التحذيرُ القرآنيُّ مِنْ مُخالَفةِ سبيلِ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء].

    ◙ ظهور قواعد المنهج السلفيِّ ومميِّزاته:
    هذا، وأمامَ تفرُّقِ الأمَّةِ الإسلامية، وتعدُّدِ الاتِّجاهات العَقَدية والفكرية فيها، وخاصَّةً بعد فتنة القول بخَلْقِ القرآن، بَدَأَ الشعورُ بالخطر على دِينِ الله الحقِّ يَقْوَى تُجاهَ المَذاهب الضالَّة، وظهرَتِ الحاجةُ مُلِحَّةً إلى استعادةِ المسلك الذي كان عليه السلفُ الصالح وما كانَتْ عليه عقائدُهم، والانتسابِ إليهم، والعودةِ بالإسلام إلى صَفائِهِ الأوَّل؛ الأمرُ الذي دَعَا علماءَ السنَّةِ الأثباتَ وأساطينَها الأعلامَ لنصرة الحقِّ ورَفْعِ رايتِه وتحذيرِ الأمَّةِ مِنْ ضلالاتِ أرباب الأهواء والابتداعِ وانحرافاتهم في مقالاتهم العَقَدية على اختلافِ مَراتِبِ حُكْمِها. ولقَطْعِ باب الحوادث والضلال على كُلِّ مَنِ ابتدع بدعةً يَتوصَّلُ بها إلى القَدْح في سلامة المَفاهيم العَقَدية، فقَدْ شمَّر لذلك أئمَّةُ الإسلامِ العدولُ عن ساعِدِ الجِدِّ لتلخيصِ الأصول العُظْمى وترتيبِ القواعد الكبرى للمذهب السنِّيِّ السلفيِّ؛ حيث تَمَيَّزَ منهجُهم في تقرير الأمور الاعتقادية بمنهجِ عَرْضِ العقيدة الصحيحة مِنَ الكتاب والسنَّة وأقوالِ الصحابة والتابعين لهم بإحسانٍ مِنْ جهةٍ، وبمنهج الردِّ على المُنْحَرِفين عنها ـ مِنْ جهةٍ أخرى ـ صيانةً للدِّين وحفظًا للسنَّة؛ وذلك بعَرْضِ شُبَهِ الخصوم وبيانِ الحقِّ فيها مُدعَّمًا بالأدلَّةِ النقلية مِنَ الوحيين وأقوال الصحابة والتابعين؛ فاجتهدوا في إنقاذِ عقائِدِ الإسلام مِنَ الديانات الضالَّةِ ذاتِ الأصول الوثنية، وانبرَوْا لنَقْدِ كُلِّ جوانِبِ التيَّاراتِ الفلسفية ومُعْتقَداتِ الصوفية المُتَفَلْسِفَةِ، والتيَّاراتِ الباطنية مِنْ أرباب الفِرَقِ الغالية، والديانات المُحرَّفة، ومُعْتقَداتِ المُتكلِّمين مِنَ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرِهم، كما عَمِلوا على تصفيةِ عقائِدِ الإسلام مِنْ مَظاهِرِ التعقيد العَقَديِّ، ومِنْ كُلِّ دخيلٍ فيها يُؤدِّي ـ بطريقٍ أو بآخَرَ ـ إلى زعزعةِ عقائدِ المسلمين.

    وامتازَ المذهبُ السلفيُّ ـ في تقرير العقيدة عَرْضًا ورَدًّا على الخصوم ـ بقواعِدَ سليمةٍ وخواصَّ شريفةٍ؛ فمِنْ قواعِدِه الكبرى المُميِّزةِ له:

    · أوَّلًا: الاستدلال بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية، والاسترشادُ بفهم السلف الصالح مِنَ الصحابة والتابعين وتابِعِيهم ومَنِ الْتزَمَ بنهجهم واقتفى آثارَهم، ويظهر ذلك في العناية بالكتاب والسنَّة حفظًا وتدوينًا ودراسةً وتفسيرًا وتجويدًا واستنباطًا لأحكام الشرع منهما، والردِّ عند التنازع إليهما، ومُراعاةِ ألفاظهما عند بيانِ العقيدة، وتركِ الألفاظ المُجْمَلة والمُصْطلَحات المُوهِمةِ غيرِ الشرعية.

    · ثانيًا: اتِّخاذُ الكتاب والسنَّةِ ميزانًا للقَبول والردِّ، وأخذُ مَطالِبِ الدِّين مِنْ قِبَلِهما؛ لأنَّ بهما يتجلَّى الهدى مِنَ الضلال، والحقُّ مِنَ الباطل، والصوابُ مِنَ الخطإ، وما سِواهُمَا مِنْ أقوالِ الرجال وأعمالِهِم وآرائهم واجتهاداتهم ومُعْتقَداتهم تُعْرَضُ عليهما؛ فما وافَقَ الكتابَ والسنَّةَ قُبِلَ وعُمِلَ به، وما خالَفَهما رُدَّ على أصحابه مهما كانَتْ منزلتُهم، قال ابنُ تيمية ـ رحمه الله ـ: «جِماعُ الفرقانِ بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، والرشاد والغيِّ، وطريقِ السعادة والنجاة وطريق الشقاوة والهلاك: أَنْ يُجْعَلَ ما بَعَثَ اللهُ به رُسُلَه وأَنْزَلَ به كُتُبَه هو الحقَّ الذي يجب اتِّباعُه، وبه يحصل الفرقانُ والهدى والعلمُ والإيمان؛ فيُصَدَّقُ بأنه حقٌّ وصِدْقٌ، وما سِواهُ مِنْ كلامِ سائرِ الناس يُعْرَضُ عليه؛ فإِنْ وافَقَهُ فهو حقٌّ، وإِنْ خالَفَهُ فهو باطلٌ»(٧).

    · ثالثًا: تقديم الشرع على العقل مع أنَّ العقل الصحيح لا يُنافي النصَّ الصحيح ولا يُعارِضُه، بل هو مُوافِقٌ له، قال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «لا ينبغي للعقل أَنْ يتقدَّمَ بين يدَيِ الشرع؛ فإنه مِنَ التقدُّم بين يدَيِ اللهِ ورسوله، بل يكون مُلبِّيًا مِنْ وراءَ وراءَ، ثمَّ نقول: إنَّ هذا هو المذهبُ للصحابةِ رضي الله عنهم وعليه دَأَبُوا، وإيَّاهُ اتَّخذوا طريقًا إلى الجنَّة فوَصَلوا»(٨)، وقال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «قد ثَبَتَ أنَّ الله ـ سبحانه ـ قد أَنْزَلَ الكتابَ والميزان؛ فكلاهما في الإنزال أخَوانِ، وفي معرفة الأحكام شقيقان، وكما لا يَتناقَضُ الكتابُ في نَفْسِه فالميزانُ الصحيحُ لا يَتناقضُ في نَفْسِه، ولا يَتناقضُ الكتابُ والميزانُ؛ فلا تَتناقضُ دلالةُ النصوصِ الصحيحة، ولا دلالةُ الأقيسة الصحيحة، ولا دلالةُ النصِّ الصريحِ والقياسِ الصحيح، بل كُلُّها مُتصادِقةٌ مُتعاضِدةٌ مُتناصِرةٌ يُصدِّقُ بعضُها بعضًا، ويشهد بعضُها لبعضٍ؛ فلا يُناقِضُ القياسُ الصحيحُ النصَّ الصحيحَ أبدًا»(٩).

    · رابعًا: ويدخل في مَعْنَى هذه القاعدةِ والتي قبلها: الاعتمادُ على الكتاب والسنَّة، وعدمُ مُعارَضتِهما بما دونهما مِنْ رأيٍ أو ذَوْقٍ أو عقلٍ أو وَجْدٍ أو قياسٍ، ورَفْضُ الأوهام والخُرافات ونَبْذُ البِدَعِ والشركيات، كما تقتضيه الفِطَرُ القويمةُ والعقول السليمة؛ تحقيقًا لقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تُقَدِّمُواْ بَيۡنَ يَدَيِ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦۖ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَۚ إِنَّ ٱللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٞ ١﴾ [الحُجُرات]؛ فأهلُ السنَّةِ لم يُهْمِلوا ـ بمَنْهَجِهم ـ العقلَ ولم يُعطِّلوا وظيفتَه، بل أَعْمَلوه في مَجالِه فاستخدموا الأدلَّةَ العقلية والأقيسة الشرعيةَ مُسْتنبَطةً مِنْ نصوصِ الكتاب والسنَّة، كما أَعْمَلوا التفكُّرَ والتدبُّرَ في دلائلِ الهداية وبواعِثِ الإيمان، والتدبُّرَ والنظرَ في الآيات الكونية والمسموعة، هذا مِنْ جهةٍ، ولانتفاءِ التعارُضِ بين النصوصِ الشرعيةِ مِنْ جهةٍ ثانيةٍ؛ لأنَّ الشارع حكيمٌ، والتناقض يُنافي الحكمة، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «وأمَّا حديثان صحيحان صريحان مُتناقِضان مِنْ كُلِّ وجهٍ، ليس أحَدُهما ناسخًا للآخَر؛ فهذا لا يُوجَدُ أصلًا، ومَعاذَ اللهِ أَنْ يُوجَدَ في كلام الصادق المصدوق الذي لا يخرج مِنْ بين شفتَيْهِ إلَّا الحقُّ، والآفةُ مِنَ التقصير في معرفة المنقول والتمييزِ بين صحيحه ومعلوله، أو مِنَ القصور في فهمِ مُراده صلَّى الله عليه وسلَّم، وحملِ كلامِه على غيرِ ما عَناهُ به، أو منهما معًا»(١٠)، وقال الشاطبيُّ ـ رحمه الله ـ: «بعد أَنْ نُقدِّمَ مُقدِّمةً لا بُدَّ مِنْ ذِكْرِها، وهي: أنَّ كُلَّ مَنْ تَحقَّقَ بأصول الشريعةِ فأَدِلَّتُها عنده لا تكاد تَتعارَضُ، كما أنَّ كُلَّ مَنْ حقَّقَ مَناطَ المسائل فلا يكاد يَقِفُ في مُتشابِهٍ؛ لأنَّ الشريعة لا تَعارُضَ فيها ألبتَّةَ؛ فالمتحقِّقُ بها متحقِّقٌ بما في نَفْسِ الأمر؛ فيَلْزَمُ أَنْ لا يكون عنده تعارُضٌ؛ ولذلك لا تجد ألبتَّةَ دليلين أَجْمَعَ المسلمون على تَعارُضِهما بحيث وَجَبَ عليهم الوقوفُ؛ لكِنْ لمَّا كان أفرادُ المجتهدين غيرَ معصومين مِنَ الخطإ أَمْكَنَ التعارضُ بين الأدلَّة عندهم»(١١).

    · خامسًا: قَبولُ أخبارِ الآحاد التي رواها عدلٌ ضابطٌ ـ واحدًا كان أو أَكْثَرَ ما لم يبلغ حَدَّ التواتر ـ عن مِثْلِه بسندٍ مُتَّصِلٍ إلى مُنتهاهُ وسَلِمَ مِنَ الشذوذ والعِلَّةِ القادحة، ولم يُعارِضْه نصٌّ مِثلُه، ووجوبُ العمل بها، قال ابنُ عبد البرِّ ـ رحمه الله ـ: «وأَجْمَعَ أهلُ العلم مِنْ أهل الفقه والأثر في جميعِ الأمصار ـ فيما عَلِمْتُ ـ على قَبولِ خبرِ الواحد العدل وإيجابِ العمل به إذا ثَبَتَ ولم ينسخه غيرُه مِنْ أثرٍ أو إجماعٍ، على هذا جميعُ الفُقَهاءِ في كُلِّ عصرٍ مِنْ لَدُنِ الصحابةِ إلى يومِنا هذا إلَّا الخوارجَ وطوائفَ مِنْ أهل البِدَع»(١٢)، كما يُحْتَجُّ بأخبار الآحاد في مسائل العقيدة وغيرِها مِنْ مسائلِ الدِّين، قال ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ: «ولم يَزَلِ الصحابةُ والتابعون وتابِعُوهم وأهلُ الحديثِ والسنَّة يحتجُّون بهذه الأخبارِ في مسائل الصفات والقَدَرِ والأسماء والأحكام، لم يُنْقَلْ عن أحَدٍ منهم ألبتَّةَ أنه جوَّزَ الاحتجاجَ بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله وأسمائه وصِفَاته»(١٣).

    · سادسًا: رَفْضُ التأويل الكلاميِّ المذموم، وهو تأويلُ المتكلِّمين للنصوص الشرعية بما يقتضي التحريفَ والتغيير، حيث يُؤوِّلُ أهلُ الباطلِ نصوصَ الكتابِ والسنَّةِ على غيرِ تأويلها، ويدَّعُونَ صَرْفَ اللفظِ عن مدلوله إلى غيرِ مدلوله بغيرِ دليلٍ يُوجِبُ ذلك؛ لأنَّ الحقَّ ـ عندهم ـ ما عَرَفوهُ بعقولهم ووصلوا إليه بأقيستهم، فإذا ما حَصَلَ تعارُضٌ بين النصوص الشرعية ومُقرَّراتِهم العقلية صَرَفُوا النصوصَ عن ظاهِرِها على وجه الباطل لتُسايِرَ أهواءَهم وتُوافِقَ عقولَهُم، وسَمَّوُا التحريفَ تأويلًا تزيينًا له وزخرفةً، وقد ذَمَّ اللهُ تعالى الذين زخرفوا الباطلَ في قوله تعالى: ﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا شَيَٰطِينَ ٱلۡإِنسِ وَٱلۡجِنِّ يُوحِي بَعۡضُهُمۡ إِلَىٰ بَعۡضٖ زُخۡرُفَ ٱلۡقَوۡلِ غُرُورٗا﴾ [الأنعام: ١١٢].

    ولا يخفى خطورةُ التأويلِ المذمومِ وما يُخلِّفُه مِنْ عظيمِ الآفاتِ والفِتَنِ والجنايات على الإسلام وأهلِه؛ فهو أصلُ كُلِّ فسادٍ ومَضَرَّةٍ، وقد أَفْصَحَ ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ عن الآثار السيِّئة الناجمة عن التأويل الفاسد بما نصُّه: «إذا تَأمَّلَ المُتأمِّلُ فسادَ العالَمِ وما وَقَعَ فيه مِنَ التفرُّق والاختلاف وما دفع إليه أهل الإسلام وَجَدَهُ ناشئًا مِنْ جهةِ التأويلات المُخْتلِفةِ المُسْتعمَلةِ في آيات القرآن وأخبارِ الرسول التي تَعلَّقَ بها المُخْتلِفون على اختلافِ أصنافهم في أصول الدِّين وفروعه؛ فإنها أَوْجَبَتْ ما أَوْجَبَتْ مِنَ التباين والتحارُبِ، وتفرُّقِ الكلمة، وتشتُّتِ الأهواء، وتصدُّع الشمل، وانقطاعِ الحبل، وفسادِ ذاتِ البَيْنِ؛ حتَّى صارَ يُكفِّرُ ويلعن بعضُهم بعضًا، وترى طوائفَ منهم تسفك دماءَ الآخَرِين وتَسْتحِلُّ منهم أَنْفُسَهم وحُرَمَهم وأموالَهُم ما هو أَعْظَمُ ممَّا يرصدهم به أهلُ دار الحرب مِنَ المُنابِذين لهم؛ فالآفاتُ التي جَنَتْها ويَجْنِيها ـ كُلَّ وقتٍ ـ أصحابُها على المِلَّةِ والأمَّةِ مِنَ التأويلات الفاسدة أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى أو يبلغها وصفُ واصفٍ أو يُحيطَ بها ذِكْرُ ذاكرٍ، ولكنَّها في جملةِ القول أصلُ كُلِّ فسادٍ وفتنةٍ، وأساسُ كُلِّ ضلالٍ وبدعةٍ»(١٤)، ثمَّ يزيد ـ رحمه الله ـ القولَ وضوحًا عند ذِكْرِ بعضِ وجوه الفِتَنِ والمِحَنِ التي لَحِقَتْ دارَ الإسلامِ مِنْ وراءِ التأويل الفاسد بقوله: «ومِنْ جناياتِ التأويلِ ما وَقَعَ في الإسلام مِنَ الحوادث بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وإلى يومِنا هذا، بل في حياته صلواتُ اللهِ وسلامُه عليه؛ فإنَّ خالد بنَ الوليد قَتَلَ بني جَذيمةَ بالتأويل، ولهذا تَبرَّأَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم مِنْ صُنْعِه وقال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَبْرَأُ إِلَيْكَ مِمَّا صَنَعَ خَالِدٌ»(١٥)، ومَنَعَ الزكاةَ مَنْ مَنَعَها مِنَ العرب بعد موت رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بالتأويل وقالوا: «إنما قال اللهُ لرسوله: ﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَٰلِهِمۡ صَدَقَةٗ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيۡهِمۡۖ إِنَّ صَلَوٰتَكَ سَكَنٞ لَّهُمۡ﴾ [التوبة: ١٠٣]، وهذا لا يكون لغيره»؛ فجَرَى بسببِ هذا التأويلِ الباطلِ على الإسلام وأهلِه ما جَرَى، ثمَّ جَرَتِ الفتنةُ التي جَرَّتْ قَتْلَ عثمانَ بالتأويل، ولم يَزَلِ التأويلُ يأخذ مَأْخَذَهُ حتَّى قُتِلَ به عثمانُ؛ فأخَذَ بالزيادة والتولُّدِ حتَّى قَتَلَ به بين عليٍّ ومُعاويةَ بصِفِّينَ سبعين ألفًا أو أَكْثَرَ مِنَ المسلمين، وقُتِلَ أهلُ الحَرَّةِ بالتأويل، وقُتِلَ يومَ الجملِ بالتأويل مَنْ قُتِلَ، ثمَّ كان قَتْلُ ابنِ الزبير ونَصْبُ المنجنيق على البيت بالتأويل، ثمَّ كانَتْ فتنةُ ابنِ الأشعث وقُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنَ المسلمين بدِيرِ الجماجم بالتأويل، ثمَّ كانَتْ فتنةُ الخوارجِ وما لَقِيَ المسلمون مِنْ حروبهم وأذاهم بالتأويل، ثمَّ خروجُ أبي مسلمٍ وقَتْلُه بني أُمَيَّةَ وتلك الحروبُ العِظامُ بالتأويل، ثمَّ خروج العلويِّين وقَتْلُهم وحَبْسُهم ونفيُهم بالتأويل، إلى أضعافِ أضعافِ ما ذَكَرْنا مِنْ حوادثِ الإسلام التي جرَّها التأويلُ، وما ضُرِبَ مالكٌ بالسياط وطِيفَ به إلَّا بالتأويل، ولا ضُرِبَ الإمامُ أحمدُ بالسياط وطُلِبَ قَتْلُه إلَّا بالتأويل، ولا قُتِلَ أحمد بنُ نصرٍ الخُزَاعيُّ إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على نُعَيْمِ بنِ حمَّادٍ الخُزاعيِّ ما جَرَى وتَوجَّعَ أهلُ الإسلام لمُصابِه إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على محمَّد بنِ إسماعيل البخاريِّ ما جَرَى ونُفِيَ وأُخْرِجَ مِنْ بلدِه إلَّا بالتأويل، ولا قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْ خُلَفاءِ الإسلام وملوكه إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على شيخ الإسلام عبد الله أبي إسماعيل الأنصاريِّ ما جَرَى وطُلِبَ قَتْلُه بضعةً وعشرين مرَّةً إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على أئمَّةِ السنَّةِ والحديثِ ما جَرَى حين حُبِسوا وشُرِّدُوا وأُخْرِجُوا مِنْ ديارهم إلَّا بالتأويل، ولا جَرَى على شيخ الإسلام ابنِ تيمية ما جَرَى مِنْ خصومه بالسَّجْنِ وطَلَبِ قَتْلِه أَكْثَرَ مِنْ عشرين مرَّةً إلَّا بالتأويل؛ فقاتَلَ اللهُ التأويلَ الباطلَ وأهلَه، وأخَذَ حَقَّ دِينِه وكتابِه ورسولِه وأنصارِه منهم»(١٦).

    هكذا أقامَ السلفُ دِينَ اللهِ بالحفظ والتعظيم والعمل دون تحريفٍ أو تأويلٍ، وكان فَضْلُهم على الخلف كبيرًا، وضِمْنَ هذا المنظورِ قال الشيخ محمَّد البشير الإبراهيميُّ(١٧) ـ رحمه الله ـ: «أقامَ سَلَفُنا الصالحُ دِينَ اللهِ كما يجب أَنْ يُقامَ، واستقاموا على طريقته أَتَمَّ استقامةٍ، وكانوا يَقِفُون عند نصوصه مِنَ الكتاب والسنَّة، لا يتعدَّوْنَها ولا يتناولونها بالتأويل، وكانَتْ أدواتُهم لفَهْمِ القرآن: روحَ القرآن، وبيانَ السنَّة، ودلالةَ اللغة، والاعتباراتِ الدينيةَ العامَّة، ومِنْ وراءِ ذلك فطرةٌ سليمةٌ، وذوقٌ متمكِّنٌ، ونظرٌ سديدٌ، وإخلاصٌ غيرُ مدخولٍ، واستبراءٌ للدِّينِ قد بَلَغَ مِنْ نفوسهم غايتَه، وعزوفٌ عن فتنة الرأي وفتنةِ التأويل، أدَّبهم قولُه تعالى: ﴿أَنۡ أَقِيمُواْ ٱلدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ﴾ [الشورى: ١٣]، وقولُه تعالى: ﴿فَإِن تَنَٰزَعۡتُمۡ فِي شَيۡءٖ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ﴾ [النساء: ٥٩]؛ فكانوا أَحْرَصَ الناسِ على وفاقٍ، وكانوا كُلَّما طافَ بهم طائفُ الخلافِ في مسألةٍ دينيةٍ بادَرُوهُ بالردِّ إلى كتاب الله وإلى سنَّةِ رسوله؛ فانحسم الداءُ وانجابَتِ الحيرةُ»(١٨).

    تلك هي بعضُ نماذِجِ قواعدِ المنهج السلفيِّ القائم على خاصِّيةِ الشمول، وفَتْحِ باب الاجتهاد، وذَمِّ الهوى، ونبذِ الجمود الفكريِّ والتعصُّبِ للمذاهب وآراءِ الرجال، وذَمِّ التشبُّه بالكُفَّار.

    · والمنهج السلفيُّ مُؤسَّسٌ ـ أيضًا ـ على التوسُّط والاعتدال بين المَناهج الأخرى في الاعتقاد والقول والعمل؛ لذلك كان الانتسابُ إلى السلف رمزًا للافتخار؛ لأنَّ منهجهم يُمثِّلُ الإسلامَ في ذاته الذي كان عليه الرعيلُ الأوَّلُ، مِنْ غيرِ تحريفٍ أو تبديلٍ، وعلامةً على العدالة في الاعتقاد؛ لأنَّ منهجهم يعكس ـ بوضوحٍ ـ الإشعاعَ العلميَّ قديمًا وحديثًا، ويُجسِّدُ أصالةَ الفكر الإسلاميِّ وعقيدةِ الإسلام.

    ◙ عَقَباتٌ في طريق المنهج السلفيِّ:
    هذا، وإذا كان أبناءُ الأمَّةِ المُخْلِصون وعُلَماؤُها العاملون أَنْفَقُوا أوقاتَهم وكرَّسوا جهودَهم عبر المَراحِلِ التاريخية المُتَسَلْسِلَةِ في مسيرتهم الدعويةِ لإحياء المنهج السلفيِّ السنِّيِّ، واستعادةِ مسلك الرعيل الأوَّل، والنهوضِ بالدعوة للعودة بالإسلام إلى صفائه الأوَّل ـ قديمًا وحديثًا ـ إلَّا أنَّ عَقَباتٍ عائقةً تعتري طريقَهم اليومَ وتعوق مسيرةَ الدعوةِ وانتشارَها، وتحول دون النهوضِ بالمسلمين وانبعاثِ حضارتهم مِنْ جديدٍ، وخاصَّةً في هذا العصرِ الذي استفحل فيه الصراعُ بين المَذاهب الفكرية والمناهجِ العَقَدية المُخْتلفةِ والإيديولوجيات الغربية المُتبايِنة، ومِنْ هذه العَقَبات والعوائق ما يأتي:

    · أوَّلًا: هيمنة العلمانيةِ المُنْتشِرة في العالَمِ الإسلاميِّ بمَظاهِرِ الحضارة المادِّيَّةِ ذاتِ المفاهيمِ المُناهِضةِ لعقيدة المسلمين، والمناهِجِ المُناوِئةِ لأحكام الدِّين، تلك العلمانيةُ المفروضةُ على أبناءِ أمَّةِ الإسلامِ قائمةٌ على الإلحاد بوجهه الصريحِ وإبعادِ الدِّينِ عن الدولة والحياة(١٩)، بل تسعى إلى هدمِ صَرْحِ الدِّينِ في المجتمع أو إخراجه إخراجًا كاملًا مِنْ مَضامِينِه وقِيَمِهِ، وتعمل على تحطيمِ سدودِ قِيَمِه الأخلاقية التي تحول دون استشراءِ الإباحيَّة والإلحاد؛ فكان هدفُ العلمانيةِ الأوَّلُ هو احتواءَ التربيةِ والتعليمِ مِنْ أجلِ بَعْثِ أجيالٍ لا تعرف الدِّينَ ولا الأخلاق، وساعَدَ سريانَ العلمانيةِ في العالَمِ الإسلاميِّ انحرافُ كثيرٍ مِنَ المسلمين عن العقيدة السليمة، وانتشارُ البِدَعِ والأهواء، وضآلةُ الفقهِ في الدِّين، وانبهارُ المسلمين بتقدُّمِ الغرب الواسع في ميدانِ العلم المادِّيِّ والقُوَّة العسكرية، خاصَّةً بعد ضعفِ شوكة المسلمين واحتلالِ الغرب الغاشم لأراضيه وأوطانِه التي عَمِلَ فيها على إقصاء الإسلام وإبعاده مِنْ واقعِ الحياة وسياسةِ الدولة والحكم، وترسيخِ الركائز العلمانية، وإحلالِ المناهج الإلحادية مَحَلَّها، وتَمكَّنَ الغربُ مِنْ دَعْمِ المخدوعين مِنْ ذوي الثقافات الغربية وأصحابِ الاتِّجاهات المُنْحرِفةِ بمَزاعِمِ الكُفَّارِ بأنَّ الدِّينَ مُعيقٌ للعلم، وأنَّ تَقدُّمَ بلادهم مُتوقِّفٌ على فصلِ الدِّين عن الدولة والحياة، وغالبيةُ المسلمين يجهلون حقيقةَ العلمانية لتَسَتُّرِها بأَقْنِعةٍ مُخْتَلِفةٍ كالوطنية والاشتراكية والقومية وغيرِها مِنَ الأفكار والإيديولوجيات السياسية، كما تختفي العلمانيةُ وراءَ النظريات الهدَّامة كالفرويدية والداروينية التطوُّرية؛ فالعلمانية تجعل القِيَمَ الروحية قِيَمًا سلبيةً، وتفتح المجالَ لانتشارِ الإلحاد والاغتراب، وإشاعةِ الفواحش والشذوذ والإباحية والفوضى الأخلاقية، ومُحارَبةِ الحدود الشرعية، والاستهانةِ بالسنن، وتدعو إلى تحريرِ المرأةِ تماشيًا مع الأسلوب الغربيِّ الذي لا يُدِينُ العلاقاتِ المحرَّمةَ بين الجنسين؛ الأمرُ الذي ساعَدَ على فَتْحِ الأبواب على مِصْرَاعَيْها للمُمارَساتِ الدنيئة التي أَفْضَتْ إلى هَدْمِ كيان الأسرة وتشتيتِ شَمْلِها، وبهذا النَّمَطِ والأسلوب تُرَبَّى الأجيالُ تربيةً لا دِينيةً في مُجْتمَعٍ يغيب فيه الوازعُ الدِّينيُّ ويعدم فيه صوتُ الضمير الحيِّ، ويَحِلُّ مَحَلَّه هيجانُ الغرائز الدنيويةِ كالمنفعة والطمع والتَّنَازُعِ على البقاء وغيرِها مِنَ المَطالِب المادِّيةِ دون اعتبارٍ للقِيَمِ الروحية، تلك هي العلمانيةُ التي انتشرَتْ في العالَمِ الإسلاميِّ والعربيِّ بتأثير الاستعمار وحَمَلاتِ التنصير والتبشير، وبغفلةٍ مِنَ المغرورين مِنْ بني جِلْدَتِنا الذين رَفَعُوا شِعارَها، ونفَّذُوا مخطَّطاتِ واضِعِيها ومُؤيِّدِيها، الذين لبَّسوا على العوامِّ شُبُهاتٍ ودَعَاوَى غايةً في الضلال.

    · ثانيًا: اعتمادُ مُعْظَمِ الدراسات والبحوثِ الإسلامية على آراء المُسْتَشْرِقين الذين كان لهم السَّبْقُ في العناية الماكرة بالفِرَقِ المُخالِفَةِ لأهل السنَّةِ وإيجادِ الصِّلَاتِ بين مُخْتَلَفِ مُعْتَقَداتِها مِنْ جهةٍ، وإبرازِ المقالات العَقَدية الخلافية لهذه الفِرَقِ الغالية المُنشقَّة كالخوارج والشيعة الروافض والقَدَريةِ والجبرية والجهمية والمعتزلة والأشاعرة وفِرَقهم، وبيانِ أنَّ مَصادِرَ مقالاتِها خارجيةٌ مُسْتمَدَّةٌ مِنْ عقائدَ ودياناتٍ قائمةٍ على فلسفاتٍ يونانيةٍ وفارسيةٍ وهندوسيةٍ وغيرِها، ثمَّ تصوير التاريخ الإسلاميِّ مِنْ خلالِ تلك المُعْتقَداتِ الفاسدةِ والآثارِ السلبيةِ مُتمثِّلةً في الجدل والخلاف العقيم، وما تُخلِّفُه مِنِ انقسامٍ وشقاقٍ عريضٍ.

    ولم تَحْظَ المدرسةُ السُّنِّيَّةُ السلفيةُ بالقَدْرِ الكافي في دراسةِ منهجها في الاستدلال على أصول الدِّين، ولم تُعْطَ الوجهَ الصافيَ في بيانِ خصائص المنهج السنِّيِّ السلفيِّ ومميِّزاته وطريقته في عَرْضِ العقيدة والنقاش والردِّ على المُخالِفين، بل أظهرَتْ تلك الدراساتُ المَدارسَ السُّنِّيَّةَ والمنهجَ السلفيَّ بصُوَرٍ مُضلِّلةٍ بعيدةٍ عن الحقِّ والإنصاف.

    وكثيرٌ مِنْ بَنِي جِلْدَتِنا سَلَكوا في دراساتهم وبحوثِهم مَسْلَكَ الدراسات الاستشراقية، وتَعمَّقُوا في دراسة المَدارِسِ الفكرية للمُتكلِّمين مِنَ المعتزلة والأشعرية، وكذا مُعْتقَدات الصوفية المُتَفَلْسِفَة وغيرها:

    ـ إمَّا ظنًّا أنَّها دِينُ اللهِ الإسلامُ، وعَمِيَ عليهم المنهجُ الربَّانيُّ الحقُّ وَسَطَ خُزَعْبلات المَناطقة وتُرَّهات الفلاسفة وتَمَحُّلات المُتكلِّمين وشَطَحات الصوفية.

    ـ وإمَّا أَنْ تكون الدراساتُ الإسلاميةُ مُتأثِّرةً بالدراسات الاستشراقية، فتعكس ـ في جوهرها ـ تطبيقَ العلمنة على التعليم ومَناهِجِه، وعدَمَ تصفيةِ مَصادِرِه ومَوارِدِه؛ الأمرُ الذي تَبَلْوَرَ في سلوكياتِ بني جِلْدَتِنا في تنشئتهم الجامعية، مُتشبِّعين في ذلك بزخمِ ثقافة القويِّ المتبوع.

    · ثالثًا: تَقمُّصُ بعضِ الحركات التكفيرية والأحزابِ المشبوهةِ ثوبَ أهل السنَّة والجماعة وتَغَلْغُلُها في الساحة الدعويَّة باسْمِ السلفية الجهادية أو السلفية الحزبية ـ زَعَمُوا ـ وغيرِهما مِنَ الأسماء؛ ليُعْطوا المصداقيةَ لحركاتهم الثورية القائمةِ على نَزْعِ اليد مِنْ طاعة الحاكم، وترويعِ الآمنين، وسَفْكِ الدماء وقَتْلِ الأبرياء، وإتلافِ المُنْشآت وتخريبِ المُمْتلَكات، وإحداثِ الفوضى الاجتماعية والاضطرابات الأمنية لزعزعةِ كيان الدولة المسلمة، ثمَّ نِسْبتها إلى السلفية؛ تشويهًا للحقِّ وتضليلًا للناس، وترسًا للتعمية في مُخادَعةٍ خطَّافةٍ مِنْ أعداء أهل السنَّة لمُغالَطةِ ضُعَفاءِ البصيرة أو القلوب غيرِ الواعية، الفاقدةِ لمَعاييرِ التمييز بين الحقِّ والباطل(٢٠).

    · رابعًا: تَسلُّلُ تقسيماتٍ اصطلاحيةٍ باطلةٍ ابتدعها المُغْرِضُونَ للدعوة السلفية والمُناوِئون لها، وأهلُ أحزاب المَناهِجِ الدعوية وشِيعَتُهم يعملون على تفعيلها في وسط الساحة الدعوية: كتقسيم السلفية إلى: سلفيةٍ وطنيةٍ، أي: المُوالِية للسلطة، وتُقابِلها: السلفية الجهادية، أي: المُعادِية لها؛ وسلفيةٍ تجديديةٍ أي: الداخلة في مُعْترَكِ السياسة والأحزاب، وتُقابِلُها: سلفيةٌ تقليديةٌ وهي السلفية العلمية، ناهيك عن الألقاب والنعوت والمَعايِبِ الكاذبة التي ما أَنْزَلَ اللهُ بها مِنْ سلطانٍ، وأَكْثَرُها انتشارًا كلمةُ: «الوهَّابية»، ثمَّ صِيرَ بعدها إلى كلمةِ «الجاميَّة» ﻓ «المدخليَّة»؛ كُلُّ ذلك بُغيةَ إضعافِ تأثيرِ الدعوة السلفية في نفوس المَدْعُوِّينَ، وتنفيرِ العامَّة وإبعادِهم عنها، وشَقِّ الصفِّ السلفيِّ؛ جريًا على القاعدة الاستعمارية: «فَرِّقْ تَسُدْ»، قال محمَّد البشير الإبراهيميُّ ـ رحمه الله ـ فاضحًا هذا الأسلوبَ في مُحارَبةِ دعوة الحقِّ بما نصُّه: «يقولون عنَّا: إنَّنا وهَّابيون، كلمةٌ كَثُرَ تَرْدادُها في هذه الأيَّام الأخيرة حتَّى أَنْسَتْ ما قبلها مِنْ كلماتٍ: عبداويِّين وإباضيِّين وخوارج، فنحن ـ بحمد الله ـ ثابتون في مكانٍ واحدٍ وهو مُسْتقَرُّ الحقِّ، ولكنَّ القومَ يصبغوننا في كُلِّ يومٍ بصبغةٍ، ويَسِمُونَنَا في كُلِّ لحظةٍ بِسِمَةٍ، وهُمْ يتَّخِذون مِنْ هذه الأسماء المُخْتلِفةِ أدواتٍ لتنفير العامَّة منَّا وإبعادِها عنَّا، وأسلحةً يُقاتلوننا بها، وكُلَّما كَلَّتْ أداةٌ جاءوا بأداةٍ، ومِنْ طبيعةِ هذه الأسلحةِ الكَلالُ وعدمُ الغَناء، وقد كان آخِرُ طرازٍ مِنْ هذه الأسلحةِ المفلولةِ التي عَرَضوها في هذه الأيَّام كلمةُ: «وهَّابيٍّ»، ولعلَّهم حَشَدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها، وحَفَلوا بها ما لم يحفلوا بسواها، ولعلَّهم كافَأوا مُبْتدِعَها بلقبِ: «مُبْدعٍ كبيرٍ»»(٢١)، وقال ـ رحمه الله ـ ـ أيضًا ـ: «يا قومِ!! إنَّ الحقَّ فوق الأشخاص، وإنَّ السنَّةَ لا تُسمَّى باسْمِ مَنْ أحياها، وإنَّ الوهَّابيِّين قومٌ مسلمون يشاركونكم في الانتساب إلى الإسلام، ويفوقونكم في إقامة شعائره وحدوده، ويفوقون جميعَ المسلمين في هذا العصرِ بواحدةٍ، وهي: أنهم لا يُقِرُّون البدعة، وما ذَنْبُهم إذا أنكروا ما أَنْكَرَهُ كتابُ اللهِ وسنَّةُ رسوله وتَيسَّرَ لهم مِنْ وسائل الاستطاعة ما قَدَرُوا به على تغيير المُنْكَر؟ أإذا وافَقْنا طائفةً مِنَ المسلمين في شيءٍ معلومٍ مِنَ الدِّينِ بالضرورة وفي تغييرِ المُنْكَرات الفاشيةِ عندنا وعندهم ـ والمُنْكَرُ لا يختلف حكمُه بحكم الأوطان ـ تنسبوننا إليهم تحقيرًا لنا ولهم، وازدراءً بنا وبهم، وإِنْ فرَّقَتْ بيننا وبينهم الاعتباراتُ؛ فنحن مالكيُّون برغم أنوفكم، وهُمْ حنبليون برغم أنوفكم، ونحن في الجزائر وهُمْ في الجزيرة، ونحن نُعْمِلُ في طريق الإصلاح الأقلامَ وهُمْ يُعْمِلون فيها الأقدام، وهُمْ يُعْمِلون في الأضرحة المَعاوِلَ ونحن نُعْمِلُ في بانيها المَقاوِلَ»(٢٢).

    علمًا أنَّ: «أهل السنَّة السلفيِّين ـ والحمدُ لله ـ لا يُداهِنُون وُلَاةَ الأمر بباطلٍ، ولا يمدحونهم على معصيةٍ بنفاقٍ، ولا يُزيِّنون لهم الباطلَ، ولا يُتاجِرُون بعلمهم، وإنما عُرِفوا بالصدق في مُناصَحةِ الحُكَّام؛ لأنَّ مُناصَحتَهم مُنافِيةٌ للغِلِّ والغِشِّ، كما عُرِفُوا بالصدع بالحقِّ وبيانِه بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة مِنْ غيرِ تعنيفٍ ولا تحريضٍ على الخروج ولا اغتيالٍ ولا تفجيرٍ، ولا يرضَوْن بهذه الأمور إلَّا ما كانَتِ الشدَّةُ والغلظةُ في مجالها الحقِّ الصحيح وبالوجه المشروع»(٢٣).

    كما يَتجاسرُ أهلُ المَناهِجِ الدعويةِ المُخالِفةِ للدعوة السلفية والمُوالون لهم مِنَ الأحزاب وأصحاب الصُّحُفِ وغيرِها على اصطناعِ أخبارٍ مُلفَّقةٍ كاذبةٍ وبياناتٍ مُغْرِضةٍ ونقاشٍ للحقائق هزيلٍ؛ ﴿يَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِيكُمۡ سَمَّٰعُونَ لَهُمۡ﴾ [التوبة: ٤٧]، وهذا أمرٌ جَرَتْ عليه سُنَّةُ المُبْطِلين الطاعنين في أهل السنَّة السلفيِّين، قال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: «وأصحابُ الحديثِ عِصَامةٌ مِنْ هذه المَعايب، وليسوا إلَّا أهلَ السيرة المَرْضيَّة، والسُّبُلِ السويَّة، والحُجَجِ البالغة القويَّة، قد وفَّقهم اللهُ جَلَّ جلالُه لاتِّباع كتابه، ووحيِه وخطابِه، والاقتداءِ برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أخباره التي أَمَرَ فيها أُمَّتَه بالمعروف مِنَ القول والعمل، وزَجَرَهم فيها عن المُنْكَرِ منهما، وأعانَهم على التمسُّك بسيرته، والاهتداءِ بمُلازَمةِ سُنَّته»(٢٤).

    · خامسًا: ومِنَ العَقَبات العائقةِ عن النهوض بالدعوة إلى الله على وجه التمام: تصلُّبُ بعضِ الدُّعاةِ المُنْتَسِبين للسلفية على مَواقِفَ وآراءٍ مُجانِبةٍ للصواب يقضي الشرعُ ببطلانها، ومع ذلك لا يرجعون إلى الحقِّ ولو أَمْدَدْتَهم بألفِ دليلٍ، بل يَتعصَّبون لآرائهم ويَسْتميتون عليها، ويُحرِّكون أنصارَهم المُوالِينَ لهم للدفاع عنها بما أَنْكَرَهُ السلفُ مِنَ الجدل المذموم والخوضِ في المِراءِ والخصومات المُشْتمِلةِ على تأسيساتٍ كاذبةٍ وإيحاءاتٍ وظنونٍ وهميةٍ وقراءاتٍ ما بين السطور ـ زَعَموا ـ وأخرى بلا سطورٍ، وغالبًا ما تكون مُخالِفةً للحقِّ والواقع، واللهُ المستعانُ.

    وآخَرُون مِنْ طلبةِ العلم لم يَلْتَزِموا بقواعدِ العُلَماء، ولم يَتقيَّدُوا بمنهجهم في بيانِ أحوال الرجال؛ لذلك لم يسلكوا سبيلَ النزاهة والأمانة في الحكم، ولا سبيلَ الحيطة والأدب في نَقْدِهم، وهذا ما يجري في مَناطِقَ عِدَّةٍ مِنْ بلادنا؛ فأَشْبَهَ الوقيعةَ بغير حقٍّ في مَقامِ التجريح، وهو أَقْرَبُ إلى التشنيع المدفوع بِدَاءِ الحسد والغَيْرة، أو بِدَاءِ الهوى والبغي، ونحوِ ذلك مِنَ العداوات الدنيوية.

    وقد اتَّسَعَ الخَرْقُ في هذا المَجال بما أَسْهَمَ به ـ بشكلٍ مُلاحَظٍ ـ كثيرٌ مِنَ المُشارِكين في المُنْتَدَيَات الإسلامية ـ في عالَمِ الإنترنت ـ في تأجيجِ الوضع على الساحة الدعوية بالجدل والخصومات والتحدِّي، وفَتْحِ مجالاتها للنَّيْل مِنْ رجالِ الدعوة إلى الله مِنْ هذه الأمَّةِ، ورَمْيِ عُلَمائها وخِيارِها وصفوتها بالجهل والنقص وسوء الظنِّ، وتقزيمِ رسالتهم الدعوية ومَهَمَّتِهم التربوية؛ الأمرُ الذي أَحْدَثَ ضغائنَ وعداواتٍ وبَغْضاءَ، وخلَّف تقاطعًا وتدابرًا، وفَتَحَ بابَ فتنةٍ وهَلَكةٍ، وأعداءُ الإسلامِ يسعدون في كُلِّ مكانٍ بما آلَتْ إليه الدعوةُ السُّنِّيَّةُ السلفيةُ بسببهم.

    وهذه المنتدياتُ ـ بمُخْتلَفِ عناصرِها وأشكالِهَا ـ تَتحمَّلُ المسئوليةَ المُلْقاةَ على عاتِقِها وأوزارَ حصيلةِ جِنايتِها في تصدُّعِ أركان الصفِّ السلفيِّ وتمزيقِ وحدته، وإعاقةِ الدعوة وتَقَهْقُرِها.

    وقد ظَنَّ أهلُ المنتديات أنَّ كثرةَ المَقال والجدال، والكلامِ والخصام، والتوسُّعَ في القِيلِ والقال، ونحو ذلك يدلُّ على الأحَقِّية والأعلمية؛ فهذا ـ بلا شكٍّ ـ جهلٌ مُبينٌ.

    وقد وضَّح ابنُ القيِّم ـ رحمه الله ـ حقيقةَ العلمِ المطلوب بقوله: «فليس العلمُ بكثرة النقل والبحثِ والكلام، ولكِنْ نورٌ يُميَّزُ به صحيحُ الأقوالِ مِنْ سقيمها، وحَقُّها مِنْ باطِلِها، وما هو مِنْ مشكاة النبوَّةِ ممَّا هو مِنْ آراء الرِّجال»(٢٥).

    وزاد ابنُ رجبٍ ـ رحمه الله ـ تأكيدًا لهذا المعنى بقوله: «وقَدْ فُتِنَ كثيرٌ مِنَ المُتأخِّرِين بهذا فظنُّوا أنَّ مَنْ كَثُرَ كلامُه وجِدالُه وخِصامُه في مَسائلِ الدِّينِ فهو أَعْلَمُ ممَّنْ ليس كذلك، وهذا جهلٌ محضٌ، وانْظُرْ إلى أكابِرِ الصحابةِ وعُلَمائِهم كأبي بكرٍ وعمر وعليٍّ ومُعاذٍ وابنِ مسعودٍ وزيد بنِ ثابتٍ: كيف كانوا؟ كلامُهم أَقَلُّ مِنْ كلام ابنِ عبَّاسٍ وهُمْ أَعْلَمُ منه، وكذلك كلام التابعين أَكْثَرُ مِنْ كلام الصحابة والصحابةُ أَعْلَمُ منهم، وكذلك تابِعُو التابعين كلامُهم أَكْثَرُ مِنْ كلام التابعين والتابعون أَعْلَمُ منهم؛ فليس العلمُ بكثرة الرواية ولا بكثرة المَقال، ولكنَّه نورٌ يُقْذَفُ في القلب يَفْهَمُ به العبدُ الحقَّ ويُميِّزُ به بينه وبين الباطل، ويُعبِّرُ عن ذلك بعباراتٍ وجيزةٍ مُحصِّلةٍ للمَقاصد»(٢٦)، وقال ـ أيضًا ـ: «فما سَكَتَ مَنْ سَكَتَ عن كثرة الخصام والجِدال مِنْ سَلَفِ الأمَّةِ جهلًا ولا عجزًا، ولكِنْ سَكَتوا عن علمٍ وخشيةٍ لله، وما تَكلَّمَ مَنْ تَكلَّمَ وتَوسَّعَ مَنْ تَوسَّعَ بَعْدَهم لاختصاصه بعلمٍ دونَهم، ولكِنْ حبًّا للكلام وقِلَّةَ وَرَعٍ»(٢٧).

    ◙ خاتمة:
    تِلْكُمْ هي أَهَمُّ التنبيهات الأَخَوية المُسْتحضَرة، ضمَّنْتُها هذه الكلمةَ على وجه النصيحة قَصْدَ الاعتبار وبُغْيةَ التغيير إلى ما هو أَحْسَنُ؛ عملًا بقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ [الرعد: ١١]؛ فإِنْ وُفِّقْتُ فذلك بفضل الله وكَرَمِه، وإِنْ كانَتِ الأخرى فعزائي أنِّي نصحتُ، وحَسْبي ـ في ذلك ـ قولُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «أَلَا لَا يَمْنَعَنَّ رَجُلًا هَيْبَةُ النَّاسِ أَنْ يَقُولَ بِحَقٍّ إِذَا عَلِمَهُ»(٢٨).

    وأخيرًا، نسأل اللهَ تعالى أَنْ يَهْدِيَنَا للحقِّ ويُقيمَنا عليه، ويَرْزُقَنا الإخلاصَ في السرِّ والعَلَن، والاتِّباعَ في العمل، والسدادَ في القول، وأَنْ يُعيذَنا مِنَ الفِتَنِ ما ظَهَرَ منها وما بَطَنَ، وأَنْ يُصْلِحَ أَمْرَ آخِرِ هذه الأمَّةِ كما أَصْلَحَ أوَّلَها، وأَخْتِمُ بكلام اللَّالَكائيِّ ـ رحمه الله ـ وهو يَصِفُ أهلَ السنَّةِ والحديثِ في ثباتهم على الحقِّ المُبين وسلامةِ اعتقادهم ووحدةِ منهجهم بما نصُّه: «والحمد لله الذي كمَّل لهذه الطائفةِ سهامَ الإسلام، وشرَّفهم بجوامعِ هذه الأقسام، وميَّزَهم مِنْ جميع الأنام؛ حيث أعَزَّهم اللهُ بدِينِه، ورَفَعَهم بكتابه، وأعلى ذِكْرَهم بسُنَّتِه، وهداهم إلى طريقته وطريقةِ رسوله؛ فهي الطائفةُ المنصورة، والفِرْقةُ الناجية، والعُصْبةُ الهادية، والجماعةُ العادلة المتمسِّكةُ بالسنَّة، التي لا تُريدُ برسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم بديلًا، ولا عن قوله تبديلًا، ولا عن سُنَّتِه تحويلًا، ولا يَثْنِيهم عنها تَقلُّبُ الأعصار والزمان، ولا يَلْوِيهم عن سَمْتِها تغيُّرُ الحدثان، ولا يصرفهم عن سَمْتِها ابتداعُ مَنْ كادَ الإسلامَ ليَصُدَّ عن سبيل الله ويَبْغِيَها عِوَجًا، ويَصْرِفَ عن طُرُقِها جدلًا ولجاجًا، ظنًّا منه كاذبًا، وتَمَنِّيًا باطلًا أنه يُطْفِئُ نورَ الله، ﴿وَٱللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِۦ وَلَوۡ كَرِهَ ٱلۡكَٰفِرُونَ ٨﴾ [الصف]»(٢٩).

    وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا.

    الجزائر في: ١٦ مِنْ ذي القعدة ١٤٣٦ﻫ
    المـوافق ﻟ: ٣١ أوت ٢٠١٥م




    (١) أخرجه ابنُ أبي شيبة في «المصنَّف» (٣٢٤٧٢)، والحاكم في «المستدرك» (٨٣١٨) وصحَّحه، ووافقه الذهبيُّ، ولفظُه: «قَدْ عَلِمْتُ ـ وَرَبِّ الْكَعْبَةِ ـ مَتَى تَهْلِكُ الْعَرَبُ»، فَقَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَقَالَ: «مَتَى يَهْلِكُونَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ؟» قَالَ: «حِينَ يَسُوسُ أَمْرَهُمْ مَنْ لَمْ يُعَالِجْ أَمْرَ الجَاهِلِيَّةِ، وَلَمْ يَصْحَبِ الرَّسُولَ صلَّى الله عليه وسلَّم».

    (٢) «مفتاح دار السعادة» لابن القيِّم (٢/ ٢٨٨).

    (٣) قال الحسن البصريُّ ـ رحمه الله ـ: «إِنَّمَا أَهْلَكَتْكُمُ العُجْمَةُ» [انظر: «صون المنطق» للسيوطي (١/ ٤٢)].

    (٤) هُمْ أتباعُ نَجْدَةَ بنِ عامرٍ الحنفيِّ الحَرُوريِّ، مِنْ فِرَقِ الخوارج، [انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١/ ١٦٢)، «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني (١/ ١٦٤)، «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (٦٥)].

    (٥) انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١/ ١٥٦)، «الفَرْق بين الفِرَق» للبغدادي (٧٣).

    (٦) انظر: «مقالات الإسلاميِّين» للأشعري (١/ ٨٥)، «المِلَل والنِّحَل» للشهرستاني (٢/ ٩).

    (٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٣/ ١٣٥).

    (٨) «الاعتصام» للشاطبي (٢/ ٣٣١).

    (٩) «إعلام الموقِّعين» لابن القيِّم (١/ ٣٣١).

    (١٠) «زاد المَعاد» لابن القيِّم (٤/ ١٤٩).

    (١١) «المُوافَقات» للشاطبي (٤/ ٢٩٤).

    (١٢) «التمهيد» لابن عبد البرِّ (١/ ٢).

    (١٣) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم ـ باختصار الموصلي ـ (٢/ ٥٠٩).

    (١٤) «الصواعق المُرْسَلة» لابن القيِّم (١/ ٣٤٨).

    (١٥) أخرجه البخاريُّ في «المغازي» بابُ بَعْثِ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم خالدَ بنَ الوليد إلى بني جَذيمة (٤٣٣٩)، وفي «الدعوات» ـ معلَّقًا ـ باب رفعِ الأيدي في الدعاء، وفي «الأحكام» باب: إذا قضى الحاكم بجَوْرٍ أو خلاف أهل العلم فهو ردٌّ (٧١٨٩)، مِنْ حديثِ عبد الله بنِ عمر رضي الله عنهما.

    (١٦) المصدر السابق (١/ ٣٧٦).

    (١٧) هو محمَّد البشير بنُ محمَّد السعدي بنِ عمر بنِ عبد الله بنِ عمر الإبراهيميُّ، أحَدُ أعضاء جمعية العُلَماء المسلمين الجزائريِّين، يَرْتفِعُ نَسَبُه إلى إدريس بنِ عبد الله مُؤسِّسِ دولةِ الأدارسة بالمغرب الأقصى، كان ـ رحمه الله ـ عالِمًا فذًّا وإمامًا مِنْ أئمَّةِ السلفية وأديبًا مُرَبِّيًا، ومُجاهِدًا مُصْلِحًا، شَمِلَتْ كتاباتُه قضايَا الوطنِ العربيِّ، وهمومَ العالَمِ الإسلاميِّ. تُوُفِّيَ بالجزائر سنة: (١٣٨٥ﻫ).

    انظر ترجمته في: مقالة الإبراهيمي تحت عنوان: «أنا» في: «مجلَّة مَجْمَع اللغة العربية» (٢١/ ١٣٥)، مقالة الهاشمي التيجاني نَشَرَها بمجلَّة: «التهذيب الإسلامي» (ع: ٥، ٦ س/ ١)، «البشير الإبراهيمي، نضالُه وأدَبُه» لمحمَّد المهداوي، رسالة ماجستير بعنوان: «البشير الإبراهيمي أديبًا» قدَّمها السيِّد عبَّاس محمَّد بكُلِّيَّة الآداب ـ جامعة بغداد سنة: (١٩٨٣)، «الأعلام» للزركلي (٧/ ٥٤).

    (١٨) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٦٤).

    (١٩) انظر: رسالة: «العلمانية، حقيقتُها وخطورتُها» للمؤلِّف.

    (٢٠) انظر جوانبَ الافتراق والتقاطع مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية مِنْ حيثياتٍ عديدةٍ في: الكلمة الشهرية رقم: (٨٣) الموسومة ﺑ: «شرف الانتساب إلى مذهب السلف».

    (٢١) «آثار الإمام محمَّد البشير الإبراهيمي» (١/ ١٢٣).

    (٢٢) المصدر السابق (١/ ١٢٤).

    (٢٣) انظر: الكلمة الشهرية رقم: (٨٣) الموسومة ﺑ: «شرف الانتساب إلى مذهب السلف».

    (٢٤) «عقيدة السلف» للصابوني (١٠٧).

    (٢٥) «اجتماع الجيوش الإسلامية» لابن القيِّم (٨٠).

    (٢٦) «بيان فضل علم السلف» لابن رجب (٦٢).

    (٢٧) المصدر السابق (٦٠).

    (٢٨) أخرجه الترمذيُّ في «الفتن» بابُ ما جاء ما أَخْبَرَ النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم أصحابَه بما هو كائنٌ إلى يوم القيامة (٢١٩١)، وابنُ ماجه في «الفتن» باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (٤٠٠٧)، مِنْ حديثِ أبي سعيدٍ الخدريِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١٦٨).

    (٢٩) «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» للَّالَكائي (١/ ٢٥ ـ ٢٦).
    رابط المقال : https://ferkous.com/home/?q=art-mois-104



    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2019-02-25, 09:10 AM.

  • #2
    الكلمة الشهرية رقم: ٨٣ شرف الانتساب إلى مذهب السلف
    وجوانب الافتراق مع ما يُسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية للشيخ العلامة محمد علي فركوس حفظه الله

    الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاة والسلام على مَن أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد: المحور الأول
    شرف الانتساب إلى مذهب السلف أولا: نشأة التسمية بالسلفية.

    فالمسلمون الأوَّلون كانوا على الإسلام الصحيح قولًا وعملًا وسلوكًا وأخلاقًا لم يَدِبَّ فيهم الخلافُ العقديُّ والطائفيُّ، لذلك سُمُّوا بالمسلمين تمييزًا لهم عن أصحابالملل الأخرى من اليهود والنصارى والصابئة والمشركين، فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ ﴾ [الحج: ٧٨] ينطبق عليهم اسمًا ومسمًّى، قلبًا وقالبًا، ظاهرًا وباطنًا، لأنهم كانوا على الإسلام الذي شرعه الله لعباده مجرَّدًا عن الشركيات والبدعيات، وخاليًا من الحوادث والمنكرات، في العقيـدة والمنهج والفرعيات، فلم توجَد مسوِّغاتٌ حاجيةٌ إلى اتِّخاذ بديـلٍ عن التسمية بالمسلمين لأنهم كانـوا يمثِّلون الإسلامَ بحقٍّ.

    لكن بعد ظهور الاختلافات العقدية والانحرافات السلوكية بين عموم المسلمين تمخَّض عنها وجود فِرَقٍ مختلفةٍ وطوائفَ عقديةٍ متناحرةٍ من الخوارج والشيعة والقدرية والجهمية والمعتزلة والأشعرية وغيرِهم، كلٌّ منها تدَّعي الحقَّ وأنها على الهدى والسيرَ على نهج الكتاب والسنَّة، وترمي غيرَها بالزيغ والضلال والانحراف عن سواء السبيل، مع أنها ـ*جميعًا*ـ تفتقر إلى الاتِّصاف بالوصف الذي بيَّنه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم مخبرًا أمَّتَه عن حال هذه الفِرَق فقال: «تَفْتَرِقُ هَذِهِ الأُمَّةُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً»، قَالُوا: «وَمَا تِلْكَ الْفِرْقَةُ؟» قَالَ: «مَا أَنَا عَلَيْهِ الْيَوْمَ وَأَصْحَابِي»(١)، فكان جوابه صلَّى الله عليه وسلَّم منصبًّا على تعيين الوصف دون الموصوف، ذلك الوصف الذي يُفْصِح عن دلالةٍ واضحةٍ في أنَّ النجاة إنـما تعمُّ كلَّ من اتَّصف بأوصاف الفرقة الناجية إلى قيام الساعة، وليست قاصرةَ الاختصاص بمن تقدَّم، بدليل قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا يَزَالُ مِنْ أُمَّتِي أُمَّةٌ قَائِمَةٌ بِأَمْرِ اللهِ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلَا مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَهُمْ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٢).

    ومنه يتبيَّن بوضوحٍ أنَّ كلَّ متأخِّرٍ عن الحقبة الزمنية التاريخية المختصَّة بأهل القرون المفضَّلة الواردة في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(٣) وهي زمن السلف الصالح، والتزم مذهبَهم ومنهجهم في الاعتقاد والعمل الفقهيِّ يكون سلفيًّا ويُطْلَق عليه هذه التسميةُ لالتزامه باتِّباع السلف الصالح، ويُطْلَق عليه: «سنيٌّ من أهل السنَّة والجماعة» لالتزامه بالسنَّة ومجانبته للبدعة، ويُطْلَق عليه: «أثريٌّ» أي: من أهل الحديث والأثر لاعتنائه بالحديث النبويِّ روايةً ودرايةً وتطبيقًا وعملًا، وسلوكِه لهديه صلَّى الله عليه وسلَّم ظاهرًا وباطنًا واشتغالِه بآثار الصحابة رضي الله عنهم تمييزًا وفهمًا واحتجاجًا، كما يوصف بالغريب لأنه يَصلح إذا فسد الناس لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، ثُمَّ يَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ» قِيلَ: «يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَنِ الْغُرَبَاءُ؟» قَالَ: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٤)، وفي حديثٍ آخر: «أُنَاسٌ صَالِحُونَ فِي أُنَاسِ سُوءٍ كَثِيرٍ، مَنْ يَعْصِيهِمْ أَكْثَرُ مِمَّنْ يُطِيعُهُمْ»(٥)، وإنما يَصْلُحُ لأنه اتَّصف بالوصف المعيِّن للفرقة الناجية في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي»(٦).

    والتسمية بالسلفية لا تضادُّ التسمياتِ الأخرى ولا تخالفها كتسمية «أهل السنَّة والجماعة» و«الفرقة الناجية» و«أنصار السنَّة»، لأنَّ ذلك من باب اختلاف التنوُّع والمسمَّى واحدٌ والمعنى أيضًا، وهو التمسُّك بالكتاب والسنَّة وفق فهم سلف الأمة.

    قال الحافظ ابن رجبٍ ـ*رحمه الله*ـ: «وأمَّا فتنةُ الشبـهاتِ والأهواء المضلَّة فبسببها تفرَّق أهلُ القبلة، وصاروا شِيَعًا وكفَّر بعضهم بعضًا، وصاروا أعداءً وفِرَقًا وأحزابًا بعد أن كانوا إخوانًا، قلوبُهم على قلب رجلٍ واحدٍ، فلم ينجُ من هذه الفِرَق إلَّا الفرقةُ الواحدة الناجية، وهم المذكورون في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ أَوْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ»(٧)، وهُم في آخر الزمان الغرباءُ المذكورون في هذه الأحاديث: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٨)، وهم «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنَ السُّنَّةِ»(٩)، وهم «الَّذِينَ يَفِرُّونَ بِدِينِهِمْ مِنَ الفِتَنِ»(١٠)، وهُمُ «النُّزَّاعُ مِنَ القَبَائِلِ»(١١)، لأنهم قلُّوا فلا يوجَدُ في كلِّ قبيلةٍ منهم إلَّا الواحدُ والاثنان، وقد لا يوجَد في بعض القبائل منهم أحدٌ، كما كان الداخلون إلى الإسلام في أوَّل الأمر كذلك، وبهذا فسَّر الأئمَّة هذا الحديث.

    قال الأوزاعيُّ في قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا وَسَيَعُودُ غَرِيبًا كَمَا بَدَأَ»(١٢): «أَمَا إِنَّه ما يذهبُ الإسلامُ ولكِنْ يَذْهَبُ أهلُ السنَّة حتى ما يَبقى في البلد منهم إلَّا رجلٌ واحدٌ».

    ولهذا المعنى يوجَد في كلام السلف كثيرًا مدحُ السنَّة ووصفُها بالغربة ووصفُ أهلها بالقلَّة، فكان الحسن البصريُّ ـ*رحمه الله*ـ يقول لأصحابه: «يا أهل السنَّة! ترفَّقوا ـ*رحمكم الله*ـ فإنَّكم من أقلِّ الناس»(١٣).

    وقال يونسُ بنُ عُبَيْدٍ: «ليس شيءٌ أغربَ من السنَّةِ، وأغربُ منها مَن يَعرفُها»(١٤).

    ورُوي عنه أنه قال: «أصبح من إذا عُرِّف السنَّةَ فعرفها غريبًا، وأغربُ منه من يعرِّفها»(١٥).

    وعن سفيان الثوريِّ قال: «استوصُوا بأهل السنَّة خيرًا فإنهم غُرَباء»(١٦).

    ومرادُ هؤلاء الأئمَّة بالسنَّة: طريقةُ النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم التي كان هو وأصحابُه عليها، السالمةُ من الشبهات والشهوات، ولهذا كان الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ يقول: «أهلُ السنَّة من عَرَفَ ما يدخل بطنَه من حلالٍ»(١٧).

    وذلك لأنَّ أكْلَ الحلال من أعظم خِصال السنَّة التي كان عليها النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه رضي الله عنهم.

    ثمَّ صار ـ*في عُرف كثيرٍ من العلماء المتأخِّرين من أهل الحديث وغيرهم*ـ السنَّةُ عبارةً عمَّا سَلِمَ من الشبهات في الاعتقادات، خاصَّةً في مسائل الإيمان بالله وملائكته وكُتُبه ورُسُلِه واليوم الآخر، وكذلك مسائل القدر وفضائل الصحابة، وصنَّفوا في هذا العلم تصانيف سمَّوها كُتُبَ السنَّة، وإنما خَصُّوا هذا العلمَ باسم السنَّة لأنَّ خَطَرَه عظيمٌ والمخالفَ فيه على شفا هلكةٍ.

    وأمَّا السنَّةُ الكاملةُ فهي الطريقة السالمة من الشبهات والشهوات كما قال الحسنُ ويونسُ بنُ عُبَيْدٍ وسُفيانُ والفُضَيْلُ وغيرُهم، ولهذا وُصِفَ أهلُها بالغربة في آخر الزمان لقلَّتهم وعِزَّتهم فيه»(١٨)*اﻫ. ثانيا: ترادف ألقاب السلفية واتفاق معناها.

    هذا، وللسلفية ألقابٌ وأسماءٌ يُعْرَفون بها تنصبُّ على معنًى واحدٍ، فهي تتَّفقُ ولا تختلفُ، وتأتلفُ ولا تنتقضُ، قال عنها بكر أبو زيد ـ*رحمه الله*ـ: «إنها ألقابٌ: منها ما هو ثابتٌ بالسنَّة الصحيحة، ومنها ما لم يَبْرُزْ إلَّا في مواجهة مناهجِ أهلِ الأهواء والفِرَق الضالَّة لردِّ بدعتهم والتمييزِ عنهم وإبعاد الخُلطةِ بهم ولمنابذتهم، فلمَّا ظهرت البدعة تميَّزوا بالسنَّة، ولـمَّا حُكِّم الرأيُ تميَّزوا بالحديث والأثر، ولـمَّا فَشَتِ البدعُ والأهواء في الخُلُوف تميَّزوا بهديِ السلف»(١٩).

    قلت: ولذلك لَـمَّا سئل الإمام مالكٌ ـ*رحمه الله*ـ: «مَن أهل السنَّة؟» قال: «أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيٌّ»(٢٠)، ومراده: أنَّ أهل السنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسـول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابه، وبَقُـوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعـةٍ، ومن هنا يُدْرَك أنَّ سبب هذه التسمية إنما نشأت بعد الفتنة، عند بداية ظهور الفِرَقِ الدينية، وقد أشار إلى ذلك ابن سيرين ـ*رحمه الله*ـ بقوله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلمَّا وقعت الفتنة؛ قالوا: سَمُّوا لنا رجالكم! فيُنظر إلى أهل السنَّة فيُؤخَذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البدع فلا يُؤخذ حديثهم»(٢١).

    وبهذا يُعْلَم أنَّ السلفية نسبةٌ إلى السلف الصالح الذي لا يُطْلَق على مرحلة السبق الزمنيِّ فحَسْبُ، بل هو اصطلاحٌ جامعٌ لمعانٍ متكاملةٍ تُطْلَق ـ*من جهةٍ*ـ للدلالة على منهج السلف الصالح في تلقِّي الإسلام وفهمِه والعمل به، كما تُطْلَق ـ*من جهةٍ أخرى*ـ للدلالة على مَن حافظ على سلامة العقيدة واتِّباعِ التشريع والعبادة والعمل بها وَفْقَ ما كان عليه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه من التمسُّك بالوحي: الكتـاب والسنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ على مقتضى فهم الصحابة رضي الله عنهم ومن يوالونهم من القرون المفضَّلة قبل أن يحصل الاختلاف والافتراق من أهل الفِرَق والطوائـف وأصحاب المذاهب والنِّحَل الأخرى التي ظهرت وانتشرت في مختلف البلدان والأقطار من الرقعة الإسلامية الكبرى، ولهذا كان الانتساب إلى مذهب السلف ـ*بلا شكٍّ*ـ اعتزازًا وشرفًا.

    وأكَّد ابنُ تيمية ـ*رحمه الله*ـ هذا المعنى بقوله: «لا عيبَ على من أظهر مذهب السلف وانتسب إليه واعتزى إليه، بل يجب قَبولُ ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهب السلف لا يكون إلَّا حقًّا»(٢٢). ثالثا: دوافع العدول عن التسمي بـ «أهل السنة والجماعة» إلى «السلفية».

    هذا، والمعلوم أنَّ كثيرًا من الفِرَق الضالَّة انتحلت اسمَ أهل السنَّة والجماعة حتى أصبح يُطْلَق على الأشاعرة والماتريدية وغيرِهم، فتوسَّع مصطلح أهل السنَّة إلى أن أصبح فضفاضًا ينتسب إليه من عُرفوا بانحرافٍ في أصول العقيدة والصفات الإلهية ومسائل الإيمان على أنهم أهلُ الحقِّ المبين، ويَرْمُون غيرهم بالضلال المبين، وضمن هذه الحقيقة قال ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ: «فكثيرٌ من النـاس يُخْبِر عن هذه الفِرَق بحكم الظنِّ والهوى، فيجعلُ طائفتَه والمنتسبةَ إلى متبوعِه المواليةَ له هُمْ أهلَ السنَّة والجماعة، ويجعلُ من خالفها أهلَ البدع، وهذا ضلالٌ مبينٌ، فإنَّ أهل الحقِّ والسنَّة لا يكون متبوعُهم إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم»(٢٣).

    لأجل ذلك بات ضروريًّا العدولُ عن مصطلح «أهل السنَّة والجماعة» إلى استعمال مصطلح «السلفية» للدلالة على ما تتَّصف به «الفرقة الناجية» أو «المنصورة» أو «الغرباء» لتمييزها عن الطوائفِ المنحرفةِ المنتسبةِ إليهم، فكانت ـ*عندئذٍ*ـ التسميةُ بمصطلح «السـلفية» حائلةً عن انتساب الطوائف المشهورة بالبدع والأهواء إليها، ومانعةً من اتِّخاذ مذهب السلف شعارًا لهم.

    قال ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ: «فالمقصودُ هنا: أنَّ المشهورين من الطوائف ـ*بين أهل السنَّة والجماعة العامَّة*ـ بالبدعة ليسوا منتحلين للسلف، بل أشهرُ الطوائف بالبدعة الرافضةُ، حتى إنَّ العامَّة لا تَعرفُ من شعائرِ البِدَع إلَّا الرَّفْضَ، والسنيُّ في اصطلاحهم من لا يكون رافضيًّا، وذلك لأنهم أكثرُ مخالفةً للأحاديث النبوية ولمعاني القرآن، وأكثرُ قدحًا في سلف الأمَّة وأئمَّتها، وطعنًا في جمهور الأمَّة من جميع الطوائف، فلمَّا كانوا أبعدَ عن متابعة السلف كانوا أشهرَ بالبدعة، فعُلم أنَّ شعار أهل البدع: هو تركُ انتحال اتِّباع السلف، ولهذا قال الإمام أحمدُ في رسالة عَبْدُوسِ بنِ مالكٍ: «أصول السنَّةـ*عندنا*ـ التمسُّكُ بما كان عليه أصحاب النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم»، وأمَّا متكلِّمة أهل الإثبات من الكُلَّابية والكرَّامية والأشعرية مع الفقهاء والصوفية وأهل الحديث فهؤلاء ـ*في الجملة*ـ لا يطعنون في السلف، بل قد يوافقونهم في أكثر جُمَل مقالاتهم، لكِنْ كلُّ من كان بالحديث من هؤلاء أعلمَ كان بمذهب السلف أعلمَ وله أتبعَ، وإنما يوجد تعظيـم السلف عند كلِّ طائفةٍ بقدر استنانها وقلَّة ابتداعها، أمَّا أن يكون انتحالُ السلف من شعائر أهل البدع فهذا باطلٌ قطعًا، فإنَّ ذلك غير ممكنٍ إلَّا حيث يكثر الجهلُ ويقِلُّ العلمُ»(٢٤).

    هذا، ومن الخطإ البيِّن أن يتصدَّى من ليس له مَسْكَة علمٍ لهذا المذهب العريق الضاربِ جذورَه عبر الزمن إلى الصحابة الكرام ومَن تبعهم بإحسانٍ فيصف الانتماءَ إليهبالبدعة، وكما قيل: «من جهل الشيءَ عاداه» و«من تكلَّم في غير فنِّه أتى بالعجائب».

    وقد تقدَّم بيان معاني ألقاب وأسماء السلف ودواعيها، وأنَّ السلفيةَ اصطلاحٌ جامعٌ للمعاني المتكاملةِ من الدين الإسلاميِّ المصفَّى من شوائب موروثات الطوائف والفِرَق المخالِفة لمنهج السلف ومِن رواسب معتقدات الحضارات القديمة والحديثة الذين جعلوا مصدرَ التلقِّي العقلَ الذي أفسدته تُرَّهات الفلاسفة وخُزَعْبَلات المناطقة وتمحُّلات المتكلِّمين ومن على شاكلتهم، المجانبين لعقيدة السلف الصالح الذين جعل الله تعالى الهدايةَ في اتِّباع سبيلهم في قوله سبحانه: ﴿فَإِنۡ ءَامَنُواْ بِمِثۡلِ مَآ ءَامَنتُم بِهِۦ فَقَدِ ٱهۡتَدَواْۖ﴾ [البقرة: ١٣٧]، وفي قـوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «إِنَّ مِنْ وَرَائِكُمْ أَيَّامَ الصَّبْرِ، لِلْمُتَمَسِّكِ فِيهِنَّ يَوْمَئِذٍ بِمَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ أَجْرُ خَمْسِينَ مِنْكُمْ»(٢٥)، وتوعَّد سبحانه من اتَّبع غيرَ سبيلهم في قوله تعالى: ﴿وَمَن يُشَاقِقِ ٱلرَّسُولَ مِنۢ بَعۡدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ ٱلۡهُدَىٰ وَيَتَّبِعۡ غَيۡرَ سَبِيلِ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ نُوَلِّهِۦ مَا تَوَلَّىٰ وَنُصۡلِهِۦ جَهَنَّمَۖ وَسَآءَتۡ مَصِيرًا ١١٥﴾ [النساء]، فدلَّ ذلك على أنَّ اتِّباعَ سبيلهم نجاةٌ والحيادَ عن سبيلهم مشاقَّةٌ وابتغاءٌ للاعوجاج عن صراط الله المستقيم. رابعًا: في ثبوت أصل كلمة «السلف».

    ومن جهةٍ أخرى فإنَّ أصل كلمة «السلف» ثابتٌ في السنَّة من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم أنه قال لابنته فاطمة رضي الله عنها عند دنوِّ أجله: «وَلَا أُرَانِي إِلَّا قَدْ حَضَرَ أَجَلِي، وَإِنَّكِ أَوَّلُ أَهْلِي لُحُوقًا بِي، وَنِعْمَ السَّلَفُ أَنَا لَكِ»(٢٦)، وقال صلَّى الله عليه وسلَّم لابنته رضي الله عنها عندما تُوفِّيت: «الْحَقِي بِسَلَفِنَا الخَيْرِ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ»(٢٧)، وهذا المعنى ـ*وإن كان يدلُّ على الماضي وما سبق من الحياة الحاضرة من جهة المعنى اللغويِّ*ـ إلَّا أنه ورد من أقوال الأئمَّة: التابعين وغيرهم ما يدلُّ على المعنى الاصطلاحيِّ مثل قول عطاءٍ لابن جُرَيْجٍ في مسألة لحمِ الخيل: «لم يَزَلْ سلفُك يأكلونه» قال ابن جريجٍ: قلت له: «أصحابُ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم؟» قـال: «نعم»(٢٨)، وقد أدرك عطاءٌ ـ*رحمه الله*ـ جمهورَ الصحابة من عائشة أمِّ المؤمنين رضي الله عنها فمَن دونها(٢٩)، وقال الزهريُّ فِي عِظَامِ المَوْتَى نَحْوَ الفِيلِ وَغَيْرِهِ: «أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ سَلَفِ العُلَمَاءِ يَمْتَشِطُونَ بِهَا وَيَدَّهِنُونَ فِيهَا، لَا يَرَوْنَ بِهِ بَأْسًا»(٣٠)، وجاء ـ*أيضًا*ـ من قول الأوزاعيِّ ـ*رحمه الله*ـ: «اصبِرْ نفسَك على السنَّة، وقِفْ حيث وقف القومُ، وقُل فيما قالوا، وكُفَّ عمَّا كَفُّوا، واسلُكْ سبيـلَ سلفِك الصالح، فإنه يَسَعُك ما يَسَعُهم»(٣١)، وقد وصف الإمام الذهبيُّ ـ*رحمه الله*ـ الإمامَ الدارقطنيَّ ـ*رحمه الله*ـ فقال: «لَمْ يَدْخُلِ الرَّجُلُ أَبدًا في علم الكلام ولا الجدال ولا خاض في ذلك، بل كان سلفيًّا»(٣٢)، وقد تناقل العلماء هذا المعنى للدلالة على الاستقامة على الشرع والالتزام بمنهج السلف الصالح وعلى طريقتهم التي امتازوا بها عن غيرهم من الفِرَق والطوائف. المحور الثاني
    جوانب التقاطع مع السلفية الجهادية والحزبية

    هذا مع كون السلفية في عقيدتها ومنهجها تتميَّز بخصائصَ وسِماتٍ بارزةٍ، إلَّا أنَّ مِن المنتسبين إلى هذا المنهج مَن يصرفون خصائصَها ومصطلحاتِها الجامعة للمعاني المتكاملة من الدين الإسلاميِّ إلى تضييق عموم شمولها وكمالها وتحجير معانيها، فمِن ذلك ما يسمَّى بالسلفية الجهادية والحزبية ـ*زعموا*ـ التي تفترق عن السلفية الحقَّة في المفهوم والشكل والمضمون.

    وتظهر جوانب التقاطع مع السلفية الجهادية والحزبية في الحيثيَّات التالية: من حيث الطابع الشمولي للمنهج السلفي:

    أنَّ السلفية الجهادية مخالِفةٌ للمنهج السلفيِّ الحقِّ ـ*من حيث نطاق مفهومها*ـ فهي تحجِّر واسعًا فتقيِّد السلفيةَ بجميع أبعادها الواسعة وتحصرها في دائرةٍ تطبيقيةٍ ضيِّقةٍوهي «الجهاد»، وهذا ـ*بلا ريبٍ*ـ تحوُّلٌ رديءٌ من الأحسن إلى السيِّئ، إذ يتضمَّن الانتقالَ من خاصِّيَّة الشمولية التي يمتـاز بها المنهج السلفيُّ ويجرِّده منها، ويحصرُ شموليَّتَه في فرضٍ تكليفيٍّ ـ وهو الجهاد ـ دون بقيَّة التكاليف الشرعية.

    وهذه ـ*يقينًا*ـ صورةٌ مجزَّأةٌ للإسلام لا تتلاءم مع الطابع الشموليِّ للسلفية في عرض رسالة الإسلام بجوانبها المتعدِّدة في العقيدة والعبـادة والسلوك والأخلاق والسياسة والاقتصاد ونحو ذلك عرضًا شاملًا في وحدةٍ متكاملةٍ. من حيث نشأة مذهب السلف:

    فمذهب السلف أصيلٌ في نشأته، ضاربٌ جذورَه في أغوار الماضي إلى الحقبة النبوية، بينما السلفية الجهادية والحزبية ـ*بهذا الشكل الاصطلاحيِّ*ـ بقدر ما هو غريبٌ وبعيدٌ عن مضمون السلفية بمعانيها المتكاملة فهو في ذات الوقت مصطلحٌ محدثٌ وخطيرٌ، تولَّد هذا المصطلحُ حديثًا وانتشر بعد أحداث هدم برجَيِ التجارة الأمريكيَّيْن، واتِّصافُه بالسلفية أورث شُبَهًا ومخادعةً خطَّافةً للقلوب الضعيفة الفاقدة لمعايير التمييز بين الحقِّ والباطل. من حيث مفهوم الجهاد:

    أمَّا من حيث مفهوم الجهاد وشروطه ـ*بغضِّ النظر عن نبل المقصد الجهاديِّ، إذ هو ذروة سنام الإسلام وأفضلُ فرائضه بعد الأركان الخمسة*ـ فإنَّ الجهاد ـ*بمفهومه الواسع*ـ عند أتباع السلف ينضبط بشروطٍ منها: أن يكون ـ*من حيث مبدأُه*ـ مشروعًا وموكولًا إلى الإمام العامِّ واجتهاده، وتَلزم الرعيَّةَ طاعتُه فيما يراه من ذلك(٣٣)، فضلًا عن إعداد العدَّة المادِّيَّة وشرعية الراية، ونحو ذلك ممَّا ينضبط به الجهادُ في سبيل الله والمسائل الأخرى المتعلِّقة به(٣٤).

    غير أنَّ المنطلقاتِ الجهاديةَ عند أصحاب السلفية الجهادية المخالِفةِ للمنهجالسلفيِّ الحقِّ تكمن في تأسيس حركتهم على مبدإ عدم العذر بالجهل في المسائل العقدية، وفي طليعة ذلك الحكم بغير ما أنزل الله، بعيدًا عن الضوابط والمقاصد المرعيَّة(٣٥)، الأمر الذي انجرَّ عنه تكفير الحكَّام المسلمين لعدم تحكيمهم لشريعة الله تعالى، ثمَّ سرى التكفير ـ*تبعًا لهم*ـ على سائر الرعيَّة، ومن خلال تلك المنطلـقات صارت دارُ الإسلام ـ*عندهم*ـ دارَ حربٍ وجهادٍ، وبغضِّ النظر عن صحَّة ماهية دار الكفر ودار الإسلام وصِفَتِهما فقد أخذ مفهومُ «الجهاد» عند السلفية الجهادية طابعًا حركيًّا تشكَّل في فِرَقٍ ثوريةٍ قائمةٍ على نزع اليد من طاعة أولي الأمر وكلِّ أعوانهم والخروج عليهم قولًا وعملًا بالثورة عليهم وما يعقبها مِن إحداث الفوضى الاجتماعية والاضطرابات الأمنية لزعزعة كيان الدولة المسلمة.

    فظهر جهادُهم الثوريُّ في غير المسلك السلفيِّ الصحيح الذي يريدون الانتماءَ إليه ظلمًا وكذبًا وزورًا بترويع الآمنين والمعاهدين والمستأمنين وسفك دمائهم بالعمليات الانتحارية والتفجيرية والاغتيالات وإتلاف المنشآت وتخريب الممتلكات، وهذا ما تأبـاه السلفية في عدلها واعتدالها بين المناهج الأخرى وتنكر قُبْحَه، وبذلك يتحوَّل المجاهدون إلى ثوَّارٍ في مبارزة الحاكم ومنازعته الحكمَ، متَّخذين اصطلاحَ السلفية دِرْعًا وتُرْسًا للتعمية والمغالطة، وهو الأمر الذي يُسهم ـ*بطريقٍ أو بآخر*ـ في إضعاف شوكة المسلمين وحلول الشقاق فيما بينهم والتمكينِ لأعداء المسلمين من اليهود والنصارى من التسلُّط على الأمَّة الإسلامية.

    ولا يمتلك ـ*حالتئذٍ*ـ صاحب القرار حرِّيَّة التدبير والتسيير إلَّا في محيط ما يُمليه العدوُّ المتربِّص صاحب السيادة الفعليُّ بما بسطه من نفوذٍ على الأمَّة بهياكله الإيديولوجية والتشريعية وبتدخُّله في شؤونها على وجهٍ يمَسُّ سيادةَ المسلمين وشرفهم. من حيث مآل الخروج على الحكام:

    لم تتحقَّقْ في خروجهم وثورتهم مقاصدُ التشريع، بل كانت نذيرَ شؤمٍ وفسادٍ في الأرض، والناظرُ في حصيلة نتائج خروجهم الثوريِّ يجدها مريرةً ووبالًا في حقِّ أمَّةٍ مسلمةٍ ضعيفةٍ، وثقيلةً على الوضع الداخليِّ في حقِّ بلدٍ مسلمٍ متداعيةٍ عليه الأممُ، ثمَّ إنَّ ما يُدعى بالسلفية الجهادية التي ترفع شعارَ إقامة شرع الله وأمرِه وتنادي بالخروج على الحكَّام ما فتئت تقتلع الحاكمَ بالقوَّة ـ*بغضِّ النظر عن صفته، كافرًا كان أو فاسقًا*ـ وقد يكون بالاستنجاد بالكفَّار والتعاون معهم، لكن سرعان ما تقيم ـ*بعد خلعه*ـ نظامًا غير إسلاميٍّ هي بنفسها تكفر به على غرار ما كان عليه الإمام الحاكم المخلوع أو أضرَّ منه وأسوأ.

    والنتيجة الحتمية لهذا الخروج ـ*في بُعدها المقاصديِّ*ـ وبغضِّ النظر عن الآثار العميقة المنعكسة سلبًا على هذه الأمَّة على جميع الأصعدة، فإنها تؤدِّي بالضرورة إلى تَقهقُر الدعوة إلى الله، وتعطيل العمل الدعويِّ بصورةٍ عامَّةٍ، وشلِّ بعض الجوانب الإصلاحية والتربوية بصورةٍ خاصَّةٍ.

    أمَّا أهل السنَّة السلفيون فلا يداهنون ولاةَ الأمر بباطلٍ، ولا يمدحونهم على معصيةٍ بنفاقٍ، ولا يزيِّنون لهم الباطلَ، ولا يتاجرون بعلمهم، وإنما عُرفوا بالصدق فيمناصحة الحكَّام لأنَّ مناصحتهم منافيةٌ للغلِّ والغشِّ، كما عُرفوا بالصدع بالحقِّ وبيانه بأسلوب الحكمة والموعظة الحسنة من غير تعنيفٍ ولا تحريضٍ على الخروج ولا اغتيالٍ ولا تفجيرٍ، ولا يرضَوْن بهذه الأمور إلَّا ما كانت الشدَّة والغلظة في مجالها الحقِّ الصحيح وبالوجه المشروع. من حيث التعامل مع الحكام:

    ومن جوانب المفارقة مع ما يسمَّى بالسلفية الجهادية أو الحزبية أنهم لا يصبرون على جَوْر الأئمَّة وحيف الحكَّام، ولا يَدْعُون لهم بالصلاح والعافية، وإنما يطعنون فيهم بأنواع أساليب الطعن والقدح من السبِّ والشتم واللعن والتكفير والانتقاص والتشهير بعيوبهم والتشنيع عليهم على رؤوس المنابر وفي المحافل، وفي مختلف وسائل الإعلام، قَصْدَ تأليب العامَّة عليهم وتحريكها نحو متاهات الفتن ودمار الخروج، فالسلفيةُ الجهادية المزعومة لا تلتزم بالجماعة وطاعة الإمام في المعروف، بل ترى القتالَ في الفتنة ـ*التي تحدثه*ـ واجبًا وتُذْكي نارَ الفتنة على أوسع نطاقٍ ممكنٍ.

    وهذا مخالفٌ لِما عليه أهل السنَّة السلفيُّون من وجوب الصبر على جَوْر الحكَّام، وعدمِ التشهير بعيوبهم أو الطعن فيهم بالسبِّ واللعن وغيرهما عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم:«إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ بَعْدِي أَثَرَةً، فَاصْبِرُوا حَتَّى تَلْقَوْنِي»(٣٦)، وبقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَنْ رَأَى مِنْ أَمِيرِهِ شَيْئًا يَكْرَهُهُ فَلْيَصْبِرْ»(٣٧)، وقول أنس بن مالكٍ رضي الله عنه: «نَهَانَا كُبَرَاؤُنَا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم قَـالَ: «لَا تَسُبُّوا أُمَرَاءَكُمْ وَلَا تَغِشُّوهُمْ(٣٨) وَلَا تَبْغَضُوهُمْ، وَاتَّقُوا اللهَ وَاصْبِرُوا؛ فَإِنَّ الأَمْرَ قَرِيبٌ»»(٣٩)، وضمن هذا المعنى قال ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ: «مذهب أهل الحديث: تَرْكُ الخروج بالقتال على الملوك البغاة والصبرُ على ظلمهم إلى أن يستريح بَرٌّ أو يستراح من فاجرٍ»(٤٠)، ونقل النووي ـ*رحمه الله*ـ مذهبَ جماهير أهل السنَّة من الفقهاء والمحدِّثين والمتكلِّمين في شأن الإمام الحاكم حيث قال: «لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقـوق، ولا يُخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك، بـل يجب وعظُه وتخويفه للأحاديث الواردة في ذلك»(٤١)، بل إنَّ أهل السنَّة السلفيين يستحبُّون الدعاءَ للسلطان بالصلاح والعافية، قال الإمام أحمد ـ*رحمه الله*ـ: «لو كان لنا دعوةٌ مستجابةٌ لدَعَوْنا بها للسلطان»(٤٢)، قال الآجرِّي ـ*رحمه الله*ـ: «قد ذكرتُ من التحذير من مذاهب الخوارج ما فيه بلاغٌ لمن عصمه الله تعالى عن مذهب الخوارج ولم يَرَ رأيَهم، وصبر على جَوْر الأئمَّة وحَيْف الأمراء ولم يخرجْ عليهم بسيفه، وسأل اللهَ تعالى كشْفَ الظلم عنه وعن المسلمين، ودعا للوُلاة بالصلاح وحجَّ معهم، وجاهد معهم كلَّ عدُوٍّ للمسلمين، وصلَّى معهم الجُمُعةَ والعيدين، فإنْ أمروه بطاعةٍ فأمكنه أطاعهم، وإن لم يُمكنْه اعتذر إليهم، وإن أمروه بمعصيةٍ لم يُطِعْهم، وإذا دارت الفِتَنُ بينهم لزم بيتَه وكفَّ لسانَه ويدَه، ولم يَهْوَ ما هم فيه، ولم يُعِنْ على فتنةٍ، فمَنْ كان هذا وصْفَه كان على الصراط المستقيم إن شاء الله»(٤٣).

    أمَّا موقف أهل السنَّة السلفيِّين من الفتنة فهو وجوب تركِ القتال فيها عملًا بقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «سَتَكُونُ فِتَنٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ، وَالقَائِمُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ المَاشِي، وَالمَاشِي فِيهَا خَيْرٌ مِنَ السَّاعِي، مَنْ تَشَرَّفَ لَهَا تَسْتَشْرِفْهُ، فَمَنْ وَجَدَ مِنْهَا مَلْجَأً أَوْ مَعَاذًا فَلْيَعُذْ بِهِ»(٤٤)، ولنهيه صلَّى الله عليه وسلَّم عن القتال في الفتنة بقوله: «كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ»(٤٥)، ويدلُّ عليه ـ*أيضًا*ـ حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما حين قـال له صلَّى الله عليه وسلَّم: «تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وَإِمَامَهُمْ»، قُلْتُ: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ جَمَاعَةٌ وَلَا إِمَامٌ؟» قَالَ: «فَاعْتَزِلْ تِلْكَ الفِرَقَ كُلَّهَا وَلَوْ أَنْ تَعَضَّ بِأَصْلِ شَجَرَةٍ، حَتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وَأَنْتَ عَلَى ذَلِكَ»(٤٦).

    قـال ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ مبيِّنًا مذهبَ أهل السنَّة في ذلك: «نهى النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن القتال في الفتنة وكان ذلك من أصول السنَّة، وهذا مذهب أهل السنَّة والحديث وأئمَّة أهل المدينة من فقهائهم وغيرهم»(٤٧). من حيث الدعوة إلى التوحيد والاتباع:

    ومن جوانب المفارقة والتقاطع مع ما يُدْعَى بالسلفية الجهادية المبايِنة للمنهج السلفيِّ الحقِّ أنها حركةٌ ثوريةٌ تزهِّد في أسس دعوة الرسل المتجلِّية في التوحيد والاتِّباع والقيام على تجسيدهما في أرض الواقع بما تمليه المرحلة المكِّية النبوية ـ*تخليةً وتحليةً، تصفيةً وتربيةً*ـ، وذلك بالابتعاد عن العمل الحركيِّ والتعويل على العمل الدعويِّ والتربويِّ القائم على أساس تجريد التوحيد من الشركيات والضلالات، ونبذ جميع السبل إلَّاسبيل محمَّدٍ صلَّى الله عليه وسلَّم، ومحاربة البدع والتعصُّب المذهبيِّ والتفرُّق الحزبيِّ، ونحو ذلك ممَّايتمتَّع به المنهج السلفيُّ في خصائصه ومقوِّماته. من حيث التعامل مع العلماء:

    كما أنَّ هذه الفرقةَ المخالِفةَ للمنهج السلفيِّ الحقِّ ـ*من جهةٍ أخرى*ـ تستصغرشأنَ علماء السنَّة السلفيِّين الناصحين لهم بعدم التحزُّب والخروج وبالبعد عن الفتن،فهي لا تنظر إليهم إلَّا بعين الحقارة ولا تأخذ عنهم إلَّا ما يوافق هواها، فتنتقص من قدرهم وتتجاسر عليهم وعلى ما يحملونه من علمٍ نافعٍ صحيحٍ باللمز والغمز والطعن بألفاظٍ كاذبةٍ وأوصافٍ خاطئةٍ وبيانـاتٍ مُغْرِضةٍ وتنعتهم تارةً ﺑ*«مرجئة الفقهاء»،وتـارةً ﺑ*«جَهَلة فقه الواقع»، وتارةً ﺑ*«العملاء»، وأخرى ﺑ*«علماء السلاطين أو البلاط» أو «أتباع بغلة السلطان»، كما جَرَتْ عليه سنَّة المبطلين الطاعنين في أهل السنَّة السلفيين، وهي مِن علامات أهل البدع: الوقيعةُ في أهل الأثر، وهُم بريئون من تلك الألقاب والنعوت والمعايب وليسوا لها أهلًا، ولا يَلحق بأهل السنَّة منها شيءٌ إلَّا ما عُرفوا به من أسماءِ «أهل الحديث» أو «أهل السنَّة» أو «السلفيين»، ومتى وُجدت أمَّةٌ ترمي علماءَها وأخيارها وصفوتها بالجهل والنقص فإنَّ ذلك يأذن بفتح باب فتنةٍ وهلكةٍ، وأعداءُ الإسلام في كلِّ مكانٍ يسعدون بمثل هذا الأذى والبهتان.

    وأهل السنَّة السلفيـون يعلمون أنَّ السنَّة توقير العلماء الربَّانيين وتقديرهم واحترامهم ومحبَّتهم، ويعترفون لهم بحقوقهم ومنزلتهم، ولا ينسبون لهم العصمةَ، ويضعون ثقتَهم فيهم، ويعملون بنصائحهم وتوجيهاتهم، ويصونون ألسنتَهم عن تجريحهم وذمِّهم، فإنَّ هذا الخُلُق تجاههم معدودٌ من وجوه الإحسان، ولا يخفى أنَّ الإحسان جزءٌ من عقيدة المسلم وشطرٌ كبيرٌ من إسلامه، قـال الصابونيُّ ـ*رحمه الله*ـ: «وأصحاب الحديث عِصَامةٌ من هذه المعايب، وليسوا إلَّا أهلَ السيرة المَرْضيَّة، والسبلِ السويَّة، والحججِ البالغة القويَّة، قد وفَّقهم الله جلَّ جلاله لاتِّباع كتابه، ووحيه وخطابه، والاقتداء برسوله صلَّى الله عليه وسلَّم في أخباره التي أمر فيها أمَّتَه بالمعروف من القول والعمل، وزجرهم فيـها عن المنكر منهما، وأعانهم على التمسُّك بسيرته، والاهتداء بملازمة سنَّته»(٤٨). من حيث المشاركة السياسية:

    ومن الفوارق ـ*أيضًا*ـ مع المسمَّاة بالسلفية الجهادية والحزبية سعيُها ـ*من حيث الغاية والمقصد*ـ إلى الخروج على الحاكم ولو برضاه وإقراره عن طريق الدخول في معترك المجالس النيابية أو البرلمانية التي نازعت اللهَ تعالى في ربوبيته وحقِّه الخالص في التشريع والحكم، وجعلت الحاكمَ مشاركًا له في سلطة التشريع، وهذا ـ*بلا شك*ـ مُنافٍ لوجوب إفراد الله تعالى في الحكم والتشريع، قال تعالى: ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦﴾ [الكهف]، وقال تعالى: ﴿أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَٰٓؤُاْ شَرَعُواْ لَهُم مِّنَ ٱلدِّينِ مَا لَمۡ يَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ﴾ [الشورى: ٢١]، وقال تعالى: ﴿فَٱلۡحُكۡمُ لِلَّهِ ٱلۡعَلِيِّ ٱلۡكَبِيرِ ١٢﴾ [غافر]، وقال تعالى: ﴿لَهُ ٱلۡحَمۡدُ فِي ٱلۡأُولَىٰ وَٱلۡأٓخِرَةِۖ وَلَهُ ٱلۡحُكۡمُ وَإِلَيۡهِ تُرۡجَعُونَ ٧٠﴾ [القصص]، وقال تعالى: ﴿إِنِ ٱلۡحُكۡمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلۡقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعۡلَمُونَ ٤٠﴾ [يوسف]، فالسلفية الحقَّة تؤمن بأنَّ الله هو الحَكَمُ وإليـه الحُكم، وهذا من منطلق النصوص القرآنية الصريحة ـ*بقطع النظر عن آراء الرجال*ـ فاعرِفِ الحقَّ تعرِفْ رجالَه، بينما السلفية الجهادية والحزبية تحشر نفسها مع المشرِّعين غيرَ ما شرعه الله،وتتَّخذ من الديمقراطية التعدُّدية التي هي حكمُ الشعب وجميعِ أساليبها من المظاهرات والمسيرات والإضرابات والاعتصامات(٤٩) مطيَّةً للوصول إلى الحقِّ بالباطل وفاقًا للقاعدة الميكيافيلية المردودة: «الغاية تبرِّر الوسيلة»، وما دونها ممَّا تبيحه لنفسها أدهى وأمرُّ.

    أمَّا أهل السنَّة السلفيون فهُمْ جماعةٌ أثريةٌ من عهد النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم متوازنةٌ مستمرَّةٌ ـ*كما تقدَّم*ـ، ليست حزبًا من الأحزاب المعاصرة، بل هي حربٌ تُجابِه كلَّ الفِرَق التي حادت عن منهج الصحابة رضي الله عنهم بكلِّ أشكالها وأنواعها، وتقوِّمها بالحجَّة والبرهان، سواءٌ كانت هذه الفِرَقُ ذاتَ منهجٍ عقديٍّ فاسدٍ كالخوارج والشيعة والجهمية والمعتزلة والمرجئة والصوفية والباطنية والعلمانية، أو كانت ذاتَ منهجٍ دعويٍّ كاسدٍ، أو كانت ذاتَ صبغةٍ سياسيةٍ متناحرةٍ، المعقود عليها ـ*جميعًا*ـ الولاءُ والبراء، فإنَّ ذلك يدخل في عموم نهي الله تعالى عنها في قوله تعالى: ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيۡهِ وَٱتَّقُوهُ وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَوٰةَ وَلَا تَكُونُواْ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ٣١ مِنَ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗاۖ كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٣٢﴾ [الروم]، وقوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ١٥٩﴾ [الأنعام]، لذلك لا يتسابق السلفيون إلى مقاعد المجالس النيابية في النظام الديمقراطيِّ الذي جُعل فيه الحكمُ للشعب لعلمهم أنَّ ذلك اعتداءٌ صريحٌ على حقِّ الله تعالى في الحكم لقوله تعالى: ﴿وَلَا يُشۡرِكُ فِي حُكۡمِهِۦٓ أَحَدٗا ٢٦﴾ [الكهف].

    تلك هي جملةٌ من الفوارق الجوهرية التي يختلف أهل السنَّة السلفيون فيها عن السلفية الجهادية والحزبية التي تريد الاصطباغَ بها وهي ـ*في ذات الوقت*ـ تتقاطع معها فيمفهوم السلفية وتُبايِنها في مصطلحاتها ومضمونها وأبعادها وأعمالها الدعوية وغيرها ـ*كما تقدَّم بعضها*ـ.

    وباختصارٍ: فالسلفية منهجٌ ذو طابعٍ شموليٍّ له خاصِّيَّةُ التوسُّط والاعتدال بين المناهج الأخرى، واجتنابِ الجدل المذموم في الدين، ونبذ الجمود الفكريِّ والتعصُّب المذهبيِّ، يحارب البدعَ ويحذِّر منها، يقوم عمله الدعـويُّ على التركيز على إخلاص العبادة لله تعالى ومتابعة النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم والتحذير من الشرك وأسبابه ووسائله المؤدِّية إليه، تجتمع كلمة السلفيِّين وتتوحَّد صفوفهم تحت راية التوحيد، إذ لا وحدة إلَّا بالتوحيد ولا اجتماع إلَّا بالاتِّباع، وعلى ضوئهما يفهمون الواقعَ ويهتمُّون بقضايا الأمَّة المصيرية، وعقيدتُهم جازمةٌ بأنَّ مصيرهم المستقبليَّ على الله تعالى، وقد تكفَّل به تعالى إذا ما حقَّقوا تغييرَ ما بأنفُسهم على وَفْق الشرع، وحسْبُهم قوله تعالى: ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمۡۗ﴾ [الرعد: ١١]، وقوله تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوٓاْ إِن تَنصُرُواْ ٱللَّهَ يَنصُرۡكُمۡ وَيُثَبِّتۡ أَقۡدَامَكُمۡ ٧﴾ [محمَّد]، ملتزمين هذا المنهجَ الربَّانيَّ في الدعوة إلى الله تعالى بالتخلية والتحلية والتطهير والإصلاح.

    لذلك كان من الظلم القاسي والخطإ البيِّن أن يسوَّى بين منهجين مختلفين شتَّان ما بينهما، ومنبعُ الخطإ كامنٌ في التسمية واللقب، ولا يخفى أنَّ كلَّ عاقلٍ يُدْرِك أنَّ إطلاق الاسم لا يَلزم منه مطابقةُ المسمَّى ولا يغني عن حقيقته، ومن جهةٍ أخرى فإنَّ التعرُّض للحكم على الشيء قبل تصوُّره ومعرفة حقيقته تسرُّعٌ مظلمٌ لا نور معه، إذ المعلوم تقعيدًا أنَّ «الحُكْمَ عَلَى الشَّيْءِ فَرْعٌ عَنْ تَصَوُّرِهِ».

    وفي جوٍّ مفعمٍ بالضبابية سارعت أصحاب المناهج المنحرفة المحارِبة للمنهج السلفيِّ بالزخرف اللفظيِّ إلى إصدار أحكامٍ جائرةٍ مستغلَّةً الفضاءَ الإعلاميَّ لتُلقيَ سمومَها وتشوِّهَ جمالَ الحقِّ وتلبِّسَه بالباطل وتجمعَ بين منهجين مفترقين سعيًا منها لتُلْحِقَ الفساد والباطل بأهل الحقِّ والصلاح تضليلًا للأُمَّة، وإضعافًا لانتمائها لعقيدتها ومنهجها الإسلامي، كلَّما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله بنور الكتاب والسنَّة، والحمدُ لله الحفيظِ المستعانِ، وعليه التُّكْلان.

    نسأل اللهَ تعالى أن يعصمَنا من الزلل ويثبِّتنا على الحقِّ المبين بالاعتصام بحبله المتين، ويحفظنا من أعداء الإسلام والدين، وأن يوفِّق القائمين على الدعوة إلى الله إلى ما يحبُّه ويرضاه، وأن يسدِّد خطاهم، ويجمعهم على التعاون على البرِّ والتقـوى والتواصيبالحقِّ والتواصي بالصبر، ويهديَنا إلى الطيِّب من القول والصالح من العمل، والله المُوعِد،وهو مِن وراء القصد، وهو سبحانه يهدي السبيلَ، قـال تعالى: ﴿وَٱلَّذِينَ ٱجۡتَنَبُواْ ٱلطَّٰغُوتَ أَن يَعۡبُدُوهَا وَأَنَابُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِ لَهُمُ ٱلۡبُشۡرَىٰۚ فَبَشِّرۡ عِبَادِ ١٧ ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾ [الزمر].

    والعلمُ عند الله تعالى، وآخِرُ دعوانا أنِ الحمدُ لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله على محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

    *

    الجزائر في: ١٧ ربيع الأول ١٤٣٤ﻫ

    الموافق ﻟ: ٢٩ جانفي ٢٠١٣م

    * ___________ من تطبيق آثار العلامة محمد علي #فركوس للتحميل على الأندرويد https://goo.gl/CnfonF ______________

    (١) أخرجه الطبرانيُّ في «الأوسط» (٥/ ١٣٧) من حديث أنسٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألبـانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١/ ٤٠٢) رقم: (٢٠٣).

    (٢) أخرجه البخاريُّ في «المناقب» (٣٦٤١)، ومسلمٌ في «الإمـارة» (١٠٣٧)، من حديث معاوية رضي الله عنه.

    (٣) أخرجه البخاري في «الشهادات» باب: لا يشهد على شهادة جَوْرٍ إذا أُشْهِد (٢٦٥٢)، ومسلم في «الفضائل» (٢٥٣٣)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وله شاهدٌ من حديث النعمان ابن بشير رضي الله عنهما بهذا اللفظ إلَّا أنه قال ثلاث مرَّاتٍ: «ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»، فأثبت القرن الرابع. [انظر: «السلسلة الصحيحة» للألباني (٢/ ٣١٣)].

    (٤) أخرجه أحمد (١٦٦٩٠) من حديث عبد الرحمن بن سَنَّة رضي الله عنه، وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة» (١٢٧٣).

    (٥) أخرجه أحمد (٦٦٥٠) من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما،وصحَّحه الألبانيُّ في «السلسلة الصحيحة»(١٦١٩).

    (٦) سبق تخريجه، انظر: (الهامش ١).

    (٧) أخرجه مسلم بهذا اللفظ في «الإمارة» (١٩٢٠) من حديث ثوبان رضي الله عنه، وبألفاظٍ أُخَرَ من حديث غيره، وأخرجه البخاري في «الاعتصام بالكتاب والسنَّة» باب قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ» يقاتلون وهُم أهل العلم (٧٣١١) من حديث المغيرة بن شعبة رضي الله عنه.

    (٨) سبق تخريجه، انظر: (الهامش ٤).

    (٩) أخرجه الترمذيُّ (٢٦٣٠) وحسَّنه، ولفظه: «الَّذِينَ يُصْلِحُونَ مَا أَفْسَدَ النَّاسُ مِنْ بَعْدِي مِنْسُنَّتِي»، وحكم عليها الألبانيُّ بالضعف في «ضعيف الجامع» (١٤٤١)، والأرناؤوط في تحقيق«جامع الأصول» (٩/ ٣٤١): «وفي سنده كثير بن عبد الله المزنيُّ، وهو ضعيفٌ».

    (١٠) أخرجه بنحوه أبو نعيمٍ في «أحاديث الفتن» (١/ ٧٧).

    (١١) أخرجه ابن ماجه (٣٩٨٨)، وصحَّحه البغويُّ في «شرح السنَّة» (١/ ١١٨)، وقال الألباني في [«السلسلة الصحيحة» (٣/ ٢٦٩)]: «هو كما قال لولا أنَّ أبا إسحاق ـ*وهو السبيعيُّ عمرو بن عبد الله*ـ مدلِّسٌ وقد عنعنه في جميع الطرق عنه مع كونه كان اختلط، فأنا متوقِّفٌ في صحَّته بعد أن كنت تابعًا في تصحيحه برهةً من الزمن غيري».

    (١٢) أخرجه مسلمٌ (١٤٥) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قَالَ رَسُولُ اللهِصلَّى الله عليه وسلَّم: «بَدَأَ الإِسْلَامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاءِ».

    (١٣) أخرجه اللالكائيُّ في «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» (١/ ٦٣).

    (١٤) المصدر السابق (١/ ٦٤).

    (١٥) «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» للالكائي (١/ ٦٤) ولفظه: «إِنَّ الَّذِي تُعْرَضُ عَلَيْهِ السُّنَّةُ لَغَرِيبٌ، وَأَغْرَبُ مِنْهُ مَنْ يُعَرِّفُهَا».

    (١٦) المصدر السابق (١/ ٧١).

    (١٧) المصدر السابق (١/ ٧٢) بلفظ: «إِنَّ للهِ عِبَادًا يُحْيِي بِهِمُ الْبِلادَ وَهُمْ أَصْحَابُ السُّنَّةِ، وَمَنْ كَانَ يَعْقِلُ مَا يَدْخُلُ جَوْفَهُ مِنْ حِلِّهِ كَانَ مِنْ حِزْبِ اللهِ».

    (١٨) «كشف الكربة» لابن رجب (٥/ ١٦ ـ ١٧). [ضمن «مجموع رسائل الحافظ ابن رجب»].

    (١٩) «حكم الانتماء إلى الفِرَق والأحزاب والجماعات الإسلامية» لبكر أبو زيد (٤٢).

    (٢٠) «الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمَّة الفقهاء» لابن عبدالبرِّ (٣٥)، «ترتيب المدارك» للقاضي عياض (١/ ١٧٢).

    (٢١) رواه مسلم في «مقدِّمة صحيحه» (١/ ٨).

    (٢٢) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٤٩).

    (٢٣) المصدر السابق (٣/ ٣٤٦).

    (٢٤) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ١٥٥ ـ ١٥٦).

    (٢٥) أخرجه ابن نصرٍ المروزيُّ في «السنَّة» (٣٢)، من حديث عتبة بن غزوان رضي الله عنه، وصحَّحه الألبانيفي «السلسلة الصحيحة» (٤٩٤).

    (٢٦) أخرجه البخاري في «الاستئذان» باب من ناجى بين يدي الناس، ومن لم يخبر بسرِّ صاحبه، فإذا مات أخبر به (٦٢٨٥)، ومسلمٌ في «الفضائل» (٢٤٥٠)، من حديث عائشة رضي الله عنها.

    (٢٧) أخرجه أحمد (٢١٢٧) وابن سعدٍ في «الطبقات» (٣/ ٣٩٨)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما، وفيه: «لَمَّا مَاتَتْ زَيْنَبُ» وفيه: «وَبَكَتِ النِّسَاءُ، فَجَعَلَ عُمَرُ يَضْرِبُهُنَّ بِسَوْطِهِ».

    والحديث روي ـ*أيضًا*ـ في «مسند أحمد» (٣١٠٣) و«طبقات ابن سعد» (٨/ ٣٧) بلفظة:«حَتَّى مَاتَتْ رُقَيَّةُ»، والأصوبأنها زينب وليست رقيَّة، فقد كان صلَّى الله عليه وسلَّم حين تُوفِّيت رقيَّة في بدرٍ، وكان عمر معه. [انظر: «تحقيق مسند أحمد»(٥/ ٢١٧)]. والحديث صحَّحه أحمد شاكر في تحقيق «المسند» (٣١٠٣)، وضعَّفه الألبانيُّ في «السلسلة الضعيفة» (١٧١٥).

    (٢٨) نسبه ابن حجرٍ إلى ابن أبي شيبة في «المصنَّف» وصحَّح إسناده. [انظر: «فتح الباري» (٩/ ٦٥٠)].

    (٢٩) انظر:«المحلَّى» لابن حزم (٦/ ٨٢).

    (٣٠) ذكره البخاريُّ معلَّقًا (١/ ٥٦) باب ما يقع من النجاسات في السمن والماء.

    (٣١) أخرجه الآجرِّيُّ في «الشريعة»(٢/ ٦٧٣)، واللالكائيُّ في «شرح أصول اعتقاد أهل السنَّة والجماعة» (١/ ١٧٤).

    (٣٢) «سير أعلام النبلاء» للذهبي (١٦/ ٤٥٧).

    (٣٣) انظر: «المغني» لابن قدامة (٨/ ٣٥٢، ٣٦٤).

    (٣٤) راجع المقال الموسوم ﺑ:«في التفريق بين الجهاد ودفع الصائل»على الموقع الرسمي.

    هذا ـ*وبصرف النظرعن نوعية الجهاد طلبًا كان أو دفعًا*ـ فإنَّ الملاحظ أنَّ معظم الرايات الجهادية المرفوعة في عصرنا هذا في عموم الدول العربية آلت ـ*بطريقٍ أو بآخر*ـ إلى اختيار الاشتراكية كنظام حكمٍ ثمَّ بعده اتِّخاذ الديمقراطية والتعدُّدية الحزبية بالمنظور الغربيِّ دستورًا لنظامها السياسيِّ بعد أن تستوليَ على الحكم، وهذا بمباركة الغرب الحاقد إلَّا ما رحم ربُّك والله المستعان.

    (٣٥) ومن الضوابط الشرعية في العذر بالجهل: تناسُبُه مع التجاوز عن النقص البشريِّ وانخفاض منزلة الجاهل ونقص إيمانه على* قدر جهله، وتناسُبُه مع أحوال الناس وتفاوُتِ مداركهم من حيث القـوَّةُ والضعف، وتناسُبُه ـ*أيضًا*ـ مع أحوال بيئتهم ـ*مكانًا وزمانًا*ـ من جهة مظنَّة العلم من عدمه، والنظر إلى نوعية المسائل المجهولة من جهة الوضوح والخفاء، مع مراعاة التفريق في الحكم بين أحكام الدنيا والآخرة، فإذا ما روعيت شروطُ العذر بالجهل وضوابطُه فإنَّ الجاهل لا يستحقُّ العقوبةَ الدنيوية والأخروية حتى تُقام عليه الحجَّة، لأنَّ العقوبة والعذاب متوقِّفان على بلاغ الرسالة بغضِّ النظر عن قبح المعصية وتسمية فاعلها بها. [انظر ضوابط مسألة العذر بالجهل في: «توجيه الاستدلال بالنصوص الشرعية على العذر بالجهل في المسائل العقدية» (٥٦)].

    كما يتناسب العذر بالعجز مع أحوال الناس وطاقاتهم وقدراتهم، لذلك كان العجز عن أداء ما شرع الله عزَّ وجلَّ من الموانع التي تمنع التكفير، فهذا النجاشيُّ ملك النصارى في الحبشة لم يهاجر ولم يجاهد، وعذَرَه الله لعجزه وأنزل فيه قرآنًا يُتلى، بل يُعلم قطعًا أنه لم يكن يمكنه أن يحكم بين قومه بشريعة الإسلام لأنَّ قومه لا يُقِرُّونه على ذلك، وكذلك ما أخبر الله به من حال مؤمن آل فرعون مع قوم فرعون، ومن حال امرأة فرعون، وكما كان يوسف الصدِّيق عليه السلام مع أهل مصر، فإنهم كانوا كفَّارًا ولم يمكنه أن يفعل معهم كلَّ ما يعرفه من دين الإسلام. [انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (١٩/ ٢١٧ ـ ٢٢١)]. مَّا المقاصد الشرعية فإنَّ المعلوم في القواعد الشرعية العامَّة أنَّ إزالة المفسدة بمثلها أو بما هو أعظم منها لا يجوز شرعًا بالإجماع، فالضرر ـ*إذن*ـ يُزال بلا ضررٍ، ولهذا قال الشيخ عبد العزيز بن بازٍ ـ*رحمه الله*ـ في «مجموع فتاويه» (٨/ ٢٠٤) في مَعْرِض بيان إزالة السلطان الكافر: «أمَّا إذا لم تكن عندهم قدرةٌ فلا يخرجون، أو كان الخروج يسبِّب شرًّا أكثر فليس لهم الخروج، رعايةً للمصالح العامَّة، والقاعدة الشرعية المجمع عليها أنه: لا يجوز إزالة الشرِّ بما هو أشرُّ منه، بل يجب درءُ الشرِّ بما يزيله أو يخفِّفه، أمَّا درءُ الشرِّ بشرٍّ أكثرَ فلا يجوز بإجماع المسلمين».

    (٣٦) أخرجه البخاري في «الفتن»بابُ قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» (٧٠٥٧)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٥)، من حديث أسيد بن حضيرٍ رضي الله عنه.

    (٣٧) أخرجه البخاري في «الفتن» بابُ قول النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «سَتَرَوْنَ بَعْدِي أُمُورًا تُنْكِرُونَهَا» (٧٠٥٤)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٩)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

    (٣٨) غَشَّ صدْرُه يَغِشُّ غِشًّا: غَلَّ من الغِلِّ. [انظر: «لسان العرب» لابن منظور (٦/ ٣٢٣)].

    (٣٩) «السنَّة» لابن أبي عاصم (٤٧٤)، «التمهيد» لابن عبد البرِّ (٢١/ ٢٨٧).

    (٤٠) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٤٤٤).

    (٤١) «شرح مسلم» للنووي (١٢/ ٢٢٩).

    (٤٢) انظر: «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٢٨/ ٣٩١)، «كشَّاف القناع» للبهوتي (٢/ ٣٧). وهو منقولٌ ـ أيضًا ـ عن الفضيل بن عياضٍـ*رحمه الله*ـ. [انظر: «حلية الأولياء» لأبي نعيم (٨/ ٩١)].

    (٤٣) «الشريعة» للآجرِّي (١/ ٣٧١).

    (٤٤) أخرجه البخاري في «الفتن»بابُ: «تَكُونُ فِتْنَةٌ القَاعِدُ فِيهَا خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ» (٣٦٠١)، ومسلم في «الفتن وأشراط الساعة» (٢٨٨٦)، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

    (٤٥) أخرجه أحمد (١٩٦٦٢)، وأبو داود في «الفتن ودلائلها»بابٌ في النهي عن السعي في الفتنة(٤٢٦٢)، من حديث أبي موسى الأشعريِّ رضي الله عنه. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٤/ ٤٩) عند الحديث (١٥٣٥)، والأرناؤوط في تحقيق «جامع الأصول» (١٠/ ٩).

    (٤٦) أخرجه البخاري في «المناقب»بابُ علامات النبوَّة في الإسلام (٣٦٠٦)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٧)، من حديث حذيفة رضي الله عنه.

    (٤٧) «الاستقامة» لابن تيمية (١/ ٣٢).

    (٤٨) «عقيدة السلف» للصابوني (١٠٧).

    (٤٩) انظر: «منصب الإمامة الكبرى» للمؤلِّف (٦٧، ٧٠، ٧٣). 

    تعليق


    • #3
      الكلمة الشهرية رقم: ٢٢

      * السلفية منهجُ الإسلام
      وليسَتْ دعوةَ تحزُّبٍ وتفرُّقٍ وفساد للشيخ العلامة محمد علي فركوس حفظه الله

      *

      الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصَحْبِهِ وإخوانِه إلى يوم الدِّين، أمَّا بعد:

      فقد وردَ على موقعِي الرسميِّ انتقادٌ آخرُ، يحمل في طيَّاته شبهاتٍ مكذوبةً على الدعوةِ السلفيةِ بأنها دعوةٌ حزبيةٌ مفرِّقةٌ مبتدعةٌ تجرُّ الفتنَ، وأنَّ التغيير لا يحصل بالفتنة، وقد رأيتُ من المفيد أن أردَّ على شبهاته المزعومةِ ومفاهيمه الباطلة بتوضيحها بالحقِّ والبرهان، عملًا بقوله تعالى: ﴿بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ وَلَكُمُ ٱلۡوَيۡلُ مِمَّا تَصِفُونَ ١٨﴾[الأنبياء].

      [وهذا نصُّ انتقاده]:

      «السلام عليكم ورحمة الله وبركاته؛

      أراسلُكَ وأنا أعلم يقينًا بأنَّ الشيخ فركوس عبدٌ من عباد الله ونحسبُك من المتَّقين.

      ١ ـ إطلاق لفظ السلفية على الفرقة الناجية: ألا يُعتبر هذا حزبيةً؟ وأنت تعلم أنَّ القرآن فيه لفظ الإسلام كما قال الله تعالى: ﴿تَوَفَّنِي مُسۡلِمٗا وَأَلۡحِقۡنِي بِٱلصَّٰلِحِينَ ١٠١﴾[يوسف].

      ٢ ـ لا أشكُّ أنَّ كثيرًا من المسلمين يعتقدون أنَّ السلفيَّ هو لِحيةٌ وقميصٌ، وماذا عن حالق لحيته؟ ألا يدخل الجنَّةَ حنفيٌّ…*؟! إنَّ اسمَ السلفية فرَّقت فأَبْصِرْ..! ما هو الدليل القاطع على وجوب التسمية للفرقة الناجية*؟

      إنَّ التغيير لا يكون بالدخول في الفتن أي: الشبهات، ولو يجلس الشيخ فركوس في مسجده لكان خيرًا له، وما النصر إلَّا من عند الله، ومن سمَّع سمَّعَ اللهُ به، و﴿مَن يَتَّقِ وَيَصۡبِرۡ فَإِنَّ ٱللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجۡرَ ٱلۡمُحۡسِنِينَ ٩٠﴾[يوسف]».

      فأقول ـ*وبالله التوفيق وعليه التكلان*ـ:

      إنَّ السلفيةَ تُطلَقُ ويرادُ بها أحد المعنيين:

      الأوَّل: مرحلةٌ تاريخيةٌ معيَّنةٌ تختصُّ بأهل القرون الثلاثة المفضَّلة، لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ»(١)، وهذه الحِقبة التاريخيةُ لا يصحُّ الانتساب إليها لانتهائها بموت رجالها.

      والثاني: الطريقةُ التي كان عليها الصحابةُ والتابعون ومَن تبعهم بإحسانٍ مِن التمسُّك بالكتاب والسُّنَّة وتقديمِهما على ما سواهما، والعملِ بهما على مقتضى فهم السلف الصالح، والمرادُ بهم: الصحابة والتابعون وأتباعهم من أئمَّة الهدى ومصابيحِ الدُّجَى، الذين اتَّفقتِ الأُمَّة على إمامتهم وعدالتهم، وتَلَقَّى المسلمون كلامَهم بالرِّضا والقَبول كالأئمَّة الأربعة، والليثِ ابنِ سَعْدٍ، والسُّفيانَين، وإبراهيمَ النَّخَعِيِّ، والبخاريِّ، ومسلمٍ وغيرِهم، دون أهلِ الأهواء والبدعِ ممَّن رُمي ببدعةٍ أو شُهِرَ بلقبٍ غيرِ مرضيٍّ، مثل: الخوارج والروافض والمعتزلة والجبرية وسائر الفِرَق الضالَّة. وهي بهذا الإطلاق تُعَدُّ منهاجًا باقيًا إلى قيام الساعة، ويصحُّ الانتسابُ إليه إذا ما التُزِمت شروطُهُ وقواعِدُهُ، فالسلفيون هم السائرون على نهجهم المُقْتَفُونَ أثرَهم إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومَن عليها، سواءٌ كانوا فقهاءَ أو محدِّثين أو مفسِّرين أو غيرَهم، ما دام أنهم قد التزموا بما كان عليه سلفُهم من الاعتقاد الصحيح بالنصِّ من الكتاب والسنَّة وإجماع الأمَّة والتمسُّك بموجبها من الأقوال والأعمال لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ، حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(٢)، ومن هذا يتبيَّن أنَّ السلفيةَ ليست دعوةً طائفيةً أو حزبيةً أو عِرقيةً أو مذهبيةً يُنَزَّل فيها المتبوعُ مَنْزِلةَ المعصوم، ويُتَّخذ سبيلًا لجعلِه دعوةً يُدعى إليها ويُوالى ويعادى عليها، وإنما تدعو السلفيةُ إلى التمسُّك بوصيَّة رسولِ الله صلَّى الله عليه وسلَّم المتمثِّلة في الاعتصام بالكتاب والسُّنَّة وما اتَّفقت عليه الأمَّة، فهذه أصولٌ معصومةٌ دون ما سواها.

      وهذا المنهج الربانيُّ المتكاملُ ليس من الحزبية الضيِّقةِ التي فرَّقت الأمَّةَ وشتَّتَتْ شملَها، وإنما هو الإسلام المصفَّى، والطريقُ القويمُ القاصدُ الموصِلُ إلى الله، به بعث اللهُ رُسُلَه وأنزل به كُتُبَه، وهو الطريقُ البيِّنةُ معالِمُه، المعصومةُ أصولُه، المأمونةُ عواقِبُه.

      أمَّا الطرقُ الأخرى المستفتِحة من كلِّ بابٍ فمسدودةٌ، وأبوابها مغلقةٌ إلَّا من طريقٍ واحدٍ، فإنه متَّصلٌ بالله موصلٌ إليه، قال تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾[الأنعام: ١٥٣]، وقال ابنُ مسعودٍ رضي الله عنه: «خَطَّ لنا رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم خطًّا ثمَّ قال: «هَذَا سَبِيلُ اللهِ» ثمَّ خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله، ثمَّ قال: «هَذِهِ سُبُلٌ عَلَى كُلِّ سَبِيلٍ مِنْهَا شَيْطَانٌ يَدْعُو إِلَيْهِ، ثُمَّ قَرَأَ: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَٰطِي مُسۡتَقِيمٗا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُواْ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِيلِهِۦ﴾(٣)، وقد جاء في «تفسير ابنِ كثيرٍ»(٤): «أنَّ رجلًا قال لابن مسعودٍ رضي الله عنه: ما الصراطُ المستقيم*؟ قال: تركنا محمَّدٌ صلَّى الله عليه وسلَّم في أدناه وطَرَفُه في الجنَّة، وعن يمينه جوادُّ(٥) وعن يساره جوادُّ، وثَمَّ رجالٌ يَدْعون من مرَّ بهم، فمن أخذ في تلك الجوادِّ انتهت به إلى النار، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنَّة، ثمَّ قرأ ابن مسعودٍ الآية».

      وعليه يُدرك العاقلُ أنه ليس من الإسلام تكوينُ أحزابٍ متصارعةٍ ومتناحرةٍ ﴿كُلُّ حِزۡبِۢ بِمَا لَدَيۡهِمۡ فَرِحُونَ ٥٣﴾[المؤمنون]، فقد ذمَّ الله التحزُّبَ والتفرُّق في آياتٍ منها: قولُه تعالى: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمۡ وَكَانُواْ شِيَعٗا لَّسۡتَ مِنۡهُمۡ فِي شَيۡءٍۚ إِنَّمَآ أَمۡرُهُمۡ إِلَى ٱللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفۡعَلُونَ ١٥٩﴾[الأنعام]، وفي قوله تعالى: ﴿وَلَا تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَٱخۡتَلَفُواْ مِنۢ بَعۡدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلۡبَيِّنَٰتُ﴾[آل عمران: ١٠٥]، وإنما الإسلام حزبٌ واحدٌ مفلحٌ بنصِّ القرآن، قال تعالى: ﴿أَلَآ إِنَّ حِزۡبَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ ٢٢﴾[المجادلة]، وأهلُ الفلاح هم الذين جعل الله لهم لسانَ صِدْقٍ في العالمين، ومقامَ إحسانٍ في العِلِّيِّين، فساروا على سبيل الرشاد الذي تركنا عليه المصطفى صلَّى الله عليه وسلَّم الموصلِ إلى دار الجِنان، بيِّنٌ لا اعوجاج فيه ولا انحراف، قال صلَّى الله عليه وسلَّم: «قَدْ تَرَكْتُكُمْ عَلَى البَيْضَاءِ لَيْلُهَا كَنَهَارِها لَا يَزِيغُ عَنْهَا بَعْدِي إِلَّا هَالِكٌ»(٦).

      واللهُ سبحانه وتعالى إِذْ سَمَّى في كتابه الكريمِ الرعيلَ الأوَّلَ ﺑ*«المسلمين» فلأنَّ هذه التسميةَ جاءت مطابقةً لِما كانوا عليه من التزامهم بالإسلام المصفَّى عقيدةً وشريعةً، فلم يكونوا بحاجةٍ إلى تسميةٍ خاصَّةٍ إلَّا ما سمَّاهم اللهُ به تمييزًا لهم عمَّا كان موجودًا في زمانهم من جنس أهل الكفر والضلال، لكنَّ ما أحدثه الناس بعدهم في الإسلام من حوادثَ وبدعٍ وغيرها ممَّا ليس منه، سلكوا بها طُرُقَ الزيغ والضلال، فتفرَّقت بهم عن سبيل الحقِّ وصراطه المستقيم، فاقتضى الحالُ ودَعَتِ الحاجةُ إلى تسميةٍ مُطابقةٍ لِمَا وَصَفَ به النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم الفرقةَ الناجيةَ بقوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»(٧)، ومتميِّزةٍ عن سُبُل أهل الأهواء والبدع ليستبين أهلُ الهدى من أهل الضلال. فكان معنى قوله تعالى: ﴿هُوَ سَمَّىٰكُمُ ٱلۡمُسۡلِمِينَ مِن قَبۡلُ﴾[الحج: ٧٨]، إنما هو الإسلام الذي شرعه الله لعباده مجرَّدًا عن الشركيات والبدعيات، وخاليًا من الحوادث والمنكرات في العقيدة والمنهج، ذلك الإسلام الذي تنتسب إليه السلفية وتلتزم عقيدتَه وشريعتَه وتؤسِّسُ دعوتَها عليه، قال ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ: «لا عيبَ على مَن أظهر مذهبَ السلفِ وانتسبَ إليه واعتزى إليه، بل يجب قَبول ذلك منه بالاتِّفاق، فإنَّ مذهبَ السلفِ لا يكون إلَّا حقًّا»(٨).

      هذا، وللسلفية ألقابٌ وأسماءٌ تُعْرَف بها، تنصبُّ في معنًى واحدٍ، فهي تتَّفق ولا تفترق وتأتلف ولا تختلف، منها: «أصحاب الحديث والأثر» أو «أهل السُّنَّة» لاشتغالهم بحديث رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم وآثار أصحابه الكرام رضي الله عنهم مع العمل على التمييز بين صحيحِها وسقيمها وفهمها وإدراك أحكامها ومعانيها، والعملِ بمقتضاها، والاحتجاجِ بها. وتسمَّى ﺑ*«الفرقة الناجية» لأنَّ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلَّم قال: «إِنَّ بَنِي إِسرائيلَ افْتَرَقُوا على إِحْدَى وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً» فقيل له: ما الواحدة*؟ قال: «مَا أَنَا عَلَيْهِ اليَوْمَ وَأَصْحَابِي»(٩). وتسمَّى ـ*أيضًا*ـ ﺑ*«الطائفة المنصورة» لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ وَهُمْ كَذَلِكَ»(١٠). وتسمَّى ﺑ*«أهل السُّنَّة والجماعة» لقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «يَدُ اللهِ مَعَ الجَمَاعَةِ»(١١)، وقوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «فَإِنَّهُ مَنْ فَارَقَ الجَمَاعَةَ شِبْرًا فَمَاتَ إِلَّا مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً»(١٢)، وفي قوله صلَّى الله عليه وسلَّم: «كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً وَهِيَ الجَمَاعَةُ»(١٣)، والمراد بالجماعة هي الموافِقةُ للحقِّ الذي كانت عليه الجماعةُ الأولى: جماعةُ الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما عليه أهلُ العلم والفقه في الدِّين في كلِّ زمانٍ، وكلُّ من خالفهم فمعدودٌ من أهلِ الشذوذِ والفُرقة وإن كانوا كثرةً، قال ابن مسعودٍ رضي الله عنه: «إِنَّ جُمْهُورَ النَّاسِ فَارَقُوا الجَمَاعَةَ، وَإِنَّ الجَمَاعَةَ مَا وَافَقَ الحَقَّ وَإِنْ كُنْتَ وَحْدَكَ»(١٤)، والنبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وصف الفِرقةَ الناجيةَ بقوله: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي»(١٥)، وهذا التعيين بالوصف يدخل فيه النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه دخولًا قطعيًّا ولا يختصُّ بهم بل هو شاملٌ لكلِّ من أتى بأوصاف الفِرقة الناجية إلى أن يَرِثَ اللهُ الأرضَ ومن عليها.

      قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ في مَعْرِض تعيين الفرقة الناجية: «وبهذا يتبيَّن أنَّ أحقَّ الناس بأن تكون هي الفرقةَ الناجية: أهلُ الحديث والسنَّة، الذين ليس لهم متبوعٌ يتعصَّبون له إلَّا رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، وهم أعلم الناس بأقواله وأحواله، وأعظمُهم تمييزًا بين صحيحها وسقيمها، وأئمَّتهم فقهاء فيها وأهل معرفةٍ بمعانيها، واتِّباعًا لها: تصديقًا وعملًا وحبًّا وموالاةً لمن والاها ومعاداةً لمن عاداها، الذين يَردُّون(١٦) المقالاتِ المجملةَ إلى ما جاء به من الكتاب والحكمة، فلا ينصبون مقالةً ويجعلونها من أصول دينهم وجُمل كلامهم إن لم تكن ثابتةً فيما جاء به الرسولُ، بل يجعلون ما بُعِثَ به الرسول من الكتاب والحكمة هو الأصلَ الذي يعتقدونه ويعتمدونه»(١٧).

      هذا، ولا يعاب التسمِّي ﺑ*«السلفية» أو ﺑ*«أهل السنَّة والجماعة» أو ﺑ*«أهل الحديث» أو ﺑ*«الفِرقة الناجية» أو «الطائفة المنصورة»؛ لأنه اسمٌ شرعيٌّ استعمله أئمَّة السلف وأطلقوه بحسَب الموضوع إمَّا في مقابلة «أهل الكلام والفلسفة» أو في مقابلة «المتصوِّفة والقبوريين والطُّرُقيِّين والخُرافِيِّين»، أو تُطلق بالمعنى الشامل في مقابَلة «أهل الأهواء والبدع» من الجهمية والرافضة والمعتزلة والخوارج والمرجئة وغيرِهم.

      لذلك لمَّا سُئل الإمام مالكٌ ـ*رحمه الله*ـ: مَن أهلُ السُّنَّة*؟ قال: «أهل السُّنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قَدَرِيٌّ ولا رافضيٌّ»(١٨)، ومراده ـ*رحمه الله*ـ أنَّ أهل السُّنَّة التزموا الأصلَ الذي كان عليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم وأصحابُه، وبَقُوا متمسِّكين بوصيَّته صلَّى الله عليه وسلَّم من غير انتسابٍ إلى شخصٍ أو جماعةٍ. ومن هنا يُعْلَم أنَّ سبب التسمية إنما نشأ بعد الفتنة عند بداية ظهور الفِرَق الدينية ليتميَّز أهلُ الحقِّ من أهل الباطل والضلال.

      وقد أشار ابنُ سيرين ـ*رحمه الله*ـ إلى هذا المعنى بقوله: «لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلمَّا وقعتِ الفتنةُ قالوا: سَمُّوا لنا رجالَكم، فيُنظرُ إلى أهل السُّنَّة فيؤخذ حديثُهم، ويُنظر إلى أهل البِدَع فلا يؤخذ حديثُهم»(١٩)، هذا الأمر الذي دعا العلماءَ الأثباتَ والأئمَّةَ الفحولَ إلى تجريد أنفسهم لترتيب الأصول العظمى والقواعدِ الكبرى للاتِّجاه السلفيِّ والمعتقد القرآنيِّ، ومن ثَمَّ نسبتِه إلى السلف الصالح لحسمِ البدعة وقطعِ طريق كلِّ مبتدعٍ. قال الأوزاعيُّ ـ*رحمه الله*ـ: «اصبر نفسك على السنَّة، وقِفْ حيث وقف القوم، وقُلْ بما قالوا، وكُفَّ عمَّا كفُّوا عنه، واسلك سبيل سلفك الصالح، فإنه يَسَعُك ما وَسِعهم»(٢٠).

      هذا، والسلفية إذ تحارب البدعَ والتعصُّبَ المذهبيَّ والتفرُّقَ إنما تتشدَّد في الحقِّ والأخذ بعزائم الأمور والاستنان بالسنن وإحياء المهجورة منها، فهي تؤمن بأنَّ الإسلامَ كُلَّه حقٌّ لا باطل فيه، وصدقٌ لا كذب فيه، وَجِدٌّ لا هزل فيه، ولُبٌّ لا قشورَ فيه، بل أحكامُ الشرع وهديُه وأخلاقُه وآدابُه كلُّها من الإسلام سواءٌ مبانيه وأركانه أو مظاهره من: تقصير الثوب وإطالة اللحية والسواك والجلباب ونحو ذلك، كلُّها من الدِّين. والله تعالى يأمرنا بخصال الإسلام جميعًا وينهانا عن سلوك طريق الشيطان، قال تعالى: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱدۡخُلُواْ فِي ٱلسِّلۡمِ كَآفَّةٗ وَلَا تَتَّبِعُواْ خُطُوَٰتِ ٱلشَّيۡطَٰنِۚ إِنَّهُۥ لَكُمۡ عَدُوّٞ مُّبِينٞ ٢٠٨﴾ [البقرة]، وقد ذمَّ الله تعالى بني إسرائيلَ الذين التزموا ببعض ما أُمروا به دون البعض بقوله تعالى: ﴿أَفَتُؤۡمِنُونَ بِبَعۡضِ ٱلۡكِتَٰبِ وَتَكۡفُرُونَ بِبَعۡضٖ﴾ [البقرة: ٨٥].

      والحكم المسبق على المعيَّن بدخول النار والمنعِ من دخول الجنَّة بتركه للهدي الظاهريِّ للإسلام ليس من عقيدة أهل السُّنَّة لكونه حُكمًا عينيًّا استأثر الله به، لا يشاركه فيه غيره، وقد بيَّن الله سبحانه وتعالى أنَّ استحقاقَ الجنَّة ودخولَها إنما يكمن في إخلاص العبادة لله سبحانه واتِّباعِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، وقد ذمَّ الله تعالى مقالةَ أهل الكتاب في قوله تعالى: ﴿وَقَالُواْ لَن يَدۡخُلَ ٱلۡجَنَّةَ إِلَّا مَن كَانَ هُودًا أَوۡ نَصَٰرَىٰۗ تِلۡكَ أَمَانِيُّهُمۡۗ قُلۡ هَاتُواْ بُرۡهَٰنَكُمۡ إِن كُنتُمۡ صَٰدِقِينَ ١١١ بَلَىٰۚ مَنۡ أَسۡلَمَ وَجۡهَهُۥ لِلَّهِ وَهُوَ مُحۡسِنٞ فَلَهُۥٓ أَجۡرُهُۥ عِندَ رَبِّهِۦ وَلَا خَوۡفٌ عَلَيۡهِمۡ وَلَا هُمۡ يَحۡزَنُونَ ١١٢﴾[البقرة].

      فالسلفيةُ لا تهوِّن من شأن السنَّة مهما كانت، فلا تُهدر من الشرع شيئًا ولا تهمل أحكامَه، بل تعمل على المحافظة على جميع شرعه: علمًا وعملًا ودعوةً قَصْدَ بيانِ الحقِّ وإصلاحِ الفساد، وقد أخبر النبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم عن الغرباء: «الَّذِينَ يَصْلُحُونَ إِذَا فَسَدَ النَّاسُ»(٢١).

      والسلفيةُ ليست بدعوةٍ مُفرِّقةٍ، وإنما هي دعوةٌ تهدف إلى وحدة المسلمين على التوحيد الخالص، والاجتماعِ على متابعة الرسول صلَّى الله عليه وسلَّم، والتزكيةِ بالأخلاق الحسنة، والتحلِّي بالخصال الحميدة، والصدعِ بالحقِّ وبيانِه بالحجَّة والبرهان، قال تعالى: ﴿وَقُلِ ٱلۡحَقُّ مِن رَّبِّكُمۡۖ فَمَن شَآءَ فَلۡيُؤۡمِن وَمَن شَآءَ فَلۡيَكۡفُرۡ﴾[الكهف: ٢٩]، فقد كان من نتائج المنهج السلفيِّ: اتِّحادُ كلمة أهل السُّنَّة والجماعة بتوحيد ربِّهم، واجتماعُهم باتِّباع نبيِّهم، واتِّفاقُهم في مسائل الاعتقاد وأبوابه قولًا واحدًا لا يختلف مهما تباعدت عنهم الأمكنة واختلفت عنهم الأزمنة، ويتعاونون مع غيرهم بالتعاون الشرعيِّ الأخويِّ المبنيِّ على البرِّ والتقوى والمنضبط بالكتاب والحكمة.

      هذا، والسلفية تتبع رسولَها في الصدع بكلمة الحقِّ ودعوة الناس إلى الدين الحقِّ، قال تعالى: ﴿وَأَنزَلۡنَآ إِلَيۡكَ ٱلذِّكۡرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيۡهِمۡ﴾ [النحل: ٤٤]، والبقاء في البيوت والمساجد من غير تعليمٍ ولا دعوةٍ إخلالٌ ظاهرٌ بواجب الأمانة وتبليغِ رسالات الله وإيصالِ الخير إلى الناس، قال تعالى: ﴿وَإِذۡ أَخَذَ ٱللَّهُ مِيثَٰقَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلۡكِتَٰبَ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ﴾[آل عمران: ١٨٧]، فيجب على الداعية أن يدعوَ إلى شهادة أن لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له: يدعو إلى الله بها على علمٍ ويقينٍ وبرهانٍ على نحو ما دعا إليه رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم، قال تعالى: ﴿قُلۡ هَٰذِهِۦ سَبِيلِيٓ أَدۡعُوٓاْ إِلَى ٱللَّهِۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا۠ وَمَنِ ٱتَّبَعَنِيۖ وَسُبۡحَٰنَ ٱللَّهِ وَمَآ أَنَا۠ مِنَ ٱلۡمُشۡرِكِينَ ١٠٨﴾[يوسف]، والعلم إذا لم يَصْحَبْهُ تصديقٌ ولم يؤازِرْهُ عملٌ وتَقْوَى لا يُسَمَّى بصيرةً، فأهلُ البصيرةِ هم أولو الألباب كما قال تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَسۡتَمِعُونَ ٱلۡقَوۡلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحۡسَنَهُۥٓۚ أُوْلَٰٓئِكَ ٱلَّذِينَ هَدَىٰهُمُ ٱللَّهُۖ وَأُوْلَٰٓئِكَ هُمۡ أُوْلُواْ ٱلۡأَلۡبَٰبِ ١٨﴾[الزمر].

      ومن منطلق الدعوة إلى الإسلام المصفَّى من العوائد والبدع والمحدَثات والمنكرات كان الانتسابُ إلى «أهل السُّنَّة والجماعة» أو «السلفية» عِزًّا وشَرَفًا ورمزًا للافتخار وعلامةً على العدالة في الاعتقاد، خاصَّةً إذا تجسَّد بالعمل الصحيح المؤيَّد بالكتاب والسنَّة، لكونها منهجَ الإسلام في الوحدة والإصلاح والتربية، وإنما العيب والذمُّ في مخالفة اعتقاد مذهب السلف الصالح في أيِّ أصلٍ من الأصول، لذلك لم يكن الانتساب إلى السلف بدعةً لفظيةً أو اصطلاحًا كلاميًّا، لكنَّه حقيقةٌ شرعيةٌ ذات مدلولٍ محدَّدٍ..

      وأخيرًا؛ فالسلف الصالح هم صفوة الأمَّة وخيرها، وأشدُّ الناس فرحًا بسنَّة نبيِّهم صلَّى الله عليه وسلَّم وأقواهم استشعارًا لنعمة الإسلام وهدايته التي منَّ الله بها عليهم، ممتثلين لأمر الله تعالى بالفرح بفضله ورحمته، قال سبحانه: ﴿يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ قَدۡ جَآءَتۡكُم مَّوۡعِظَةٞ مِّن رَّبِّكُمۡ وَشِفَآءٞ لِّمَا فِي ٱلصُّدُورِ وَهُدٗى وَرَحۡمَةٞ لِّلۡمُؤۡمِنِينَ ٥٧ قُلۡ بِفَضۡلِ ٱللَّهِ وَبِرَحۡمَتِهِۦ فَبِذَٰلِكَ فَلۡيَفۡرَحُواْ هُوَ خَيۡرٞ مِّمَّا يَجۡمَعُونَ ٥٨﴾[يونس]، قال ابن القيِّم رحمه الله تعالى: «الفرح بالعلم والإيمان والسنَّة دليلٌ على تعظيمه عند صاحبه، ومحبَّتِه له، وإيثارِه له على غيره، فإنَّ فرح العبد بالشيء عند حصوله له على قدر محبَّته له ورغبته فيه، فمَن ليس له رغبةٌ في الشيء لا يُفرحه حصولُه له، ولا يُحزنه فواتُه، فالفرح تابعٌ للمحبَّة والرغبة»(٢٢).

      *

      نسأل اللهَ أن يُعِزَّ أولياءَه، ويُذِلَّ أعداءَه، ويهديَنا للحقِّ، ويرزقَنا حقَّ العِلم وخيرَه وصوابَ العمل وحَسَنَه، فهو حَسْبُنَا ونعم الوكيل، وعليه الاتِّكال في الحال والمآل، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصَلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ، وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسَلَّم تسليمًا.

      *

      الجزائر في: ١١ جمادى الأولى ١٤٢٨ﻫ
      الموافق ﻟ: ٢٨ ماي ٢٠٠٧م

      * ___________ من تطبيق آثار العلامة محمد علي #فركوس للتحميل على الأندرويد https://goo.gl/CnfonF ______________

      (١) أخرجه البخاري في «الشهادات» باب لا يشهد على شهادة جَوْرٍ إذا أُشهد (٢٦٥٢)، ومسلم في «فضائل الصحابة» (٢٥٣٣)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه.

      (٢) أخرجه مسلم في «الإمارة» (١٩٢٠) من حديث ثوبان رضي الله عنه.

      (٣) أخرجه الدارمي في «سننه» (٢٠٨)، وابن حبَّان في «صحيحه»(٦)، والحاكم في «المستدرك» (٣٢٤١)، وأحمد (٤١٤٢)، من حديث عبد الله بن مسعودٍ رضي الله عنه. وصحَّحه أحمد شاكر في تحقيقه ﻟ*«مسند أحمد» (٦/ ٨٩)، وحسَّنه الألباني في «المشكاة» (١٦٦).

      (٤) (٢/ ١٩١).

      (٥) الجوادُّ: جمع جادَّةٍ، وهي معظم الطريق، وأصل الكلمة من جدَدَ. [«النهاية» لابن الأثير (١/ ٣١٣)].

      (٦) أخرجه ابن ماجه في «المقدِّمة» باب اتِّباع سنَّة الخلفاء الراشدين (٤٣) من حديث العرباض بن سارية رضي الله عنه. وحسَّنه المنذري في «الترغيب والترهيب» (١/ ٤٧)، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٩٣٧).

      (٧) أخرجه الترمذي في «الإيمان» باب ما جاء في افتراق هذه الأمَّة (٢٦٤١)، من حديث عبد الله بن عمرٍو رضي الله عنهما. قال العراقي في «تخريج الإحياء» (٣/ ٢٨٤) «أسانيدها جيادٌ»، والحديث حسَّنه الألباني في «صحيح الجامع» (٥٣٤٣).

      (٨) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٤/ ٩١).

      (٩) أخرجه الحاكم في «المستدرك» (٤٤٤)، من حديث عبد الله ابن عمرٍو رضي الله عنهما. قال ابن تيمية ـ*رحمه الله*ـ في «مجموع الفتاوى» (٣/ ٣٤١): «الحديث صحيحٌ مشهورٌ في السنن والمساند»، وانظر «السلسلة الصحيحة» للألباني (١/ ٤٠٧).

      (١٠) سبق تخريجه في (الهامش ٢).

      (١١) أخرجه الترمذي في «الفتن» باب ما جاء في لزوم الجماعة (٢١٦٦)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما. وصحَّحه الألباني في «المشكاة» الهامش رقم (٥)، من (١/ ٦١).

      (١٢) أخرجه البخاري في «الفتن» باب قول النبيِّ: «سترون بعدي أمورًا تنكرونها» (٧٠٥٤)، ومسلم في «الإمارة» (١٨٤٩)، من حديث ابن عبَّاسٍ رضي الله عنهما.

      (١٣) أخرجه أبو داود في «السنَّة» باب شرح السنَّة (٤٥٩٧)، والحاكم في «المستدرك» (٤٤٣)، وأحمد (١٦٩٣٧)، والطبراني في «الكبير» (١٩/ ٣٧٧)، من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهما. وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٢٠٤).

      (١٤) أخرجه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (٤٩/ ٢٨٦). وصحَّحه الألباني في «المشكاة» (١/ ٦١).

      (١٥) سبق تخريجه، انظر (الهامش ٧).

      (١٦) في الأصل: «يروون»، ولعلَّ الصواب ما أثبتناه.

      (١٧) «مجموع الفتاوى» لابن تيمية (٣/ ٣٤٧).

      (١٨) «الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء» لابن عبد البرِّ (٣٥)،«ترتيب المدارك» للقاضي عياض (١/ ١٧٢).

      (١٩) رواه مسلم في «مقدِّمة صحيحه» (١/ ٨).

      (٢٠) «الشريعة» للآجرِّي (٥٨).

      (٢١) أخرجه الطبراني في «الأوسط» (٣٠٥٦)، من حديث سهل ابن سعدٍ رضي الله عنهما، وأخرجه أبو عمرٍو الداني في «الفتن» (٢٥/ ١)، من حديث ابن مسعودٍ رضي الله عنه، وصحَّحه الألباني في «السلسلة الصحيحة» (٣/ ٢٦٧) رقم (١٢٧٢).

      (٢٢) «مدارج السالكين» لابن القيِّم (٣/ ١٥٨). 

      تعليق

      الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
      يعمل...
      X