<بسملة1>
الحمد لله رب العلمين والصلاة والسلام على نبينا محمد خاتم النبيين وأشرف المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وبعد :
فهذه باقة متفرّقة من درر التفاسير أجمعها من تفاسير العلماء المشهود لهم بالعلم والتحقيق ، تحوي في طياتها فوائد عديدة و أصولا مفيدة ، جزئ الله أهلها ومن وضعها خير الجزاء ورحمهم جميعا .
قال تعالى : ﴿وَقَالَ الَّذِینَ كَفَرُوا۟ لِلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ اتَّبِعُوا۟ سَبِیلَنَا وَلنَحمِلۡ خَطَـٰیَـٰكُمۡ وَمَا هُم بِحَـٰمِلِینَ مِنۡ خَطَـٰیَـٰهُم مِّن شَیۡءٍۖ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾ [العنكبوت ١٢]
1 ـ قال الشيخ السعدي رحمه الله :
﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ وهذا الأمر ليس بأيديهم، فلهذا قال: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ لا قليل ولا كثير. فهذا التحمُّل، ولو رضي به صاحبه، فإنه لا يفيد شيئا، فإن الحق للّه، واللّه تعالى لم يمكن العبد من التصرف في حقه إلا بأمره وحكمه، وحكمه ﴿أن لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾
ولما كان قوله: ﴿وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ﴾ قد يتوهم منه أيضا، أن الكفار الداعين إلى كفرهم - ونحوهم ممن دعا إلى باطله- ليس عليهم إلا ذنبهم الذي ارتكبوه، دون الذنب الذي فعله غيرهم، ولو كانوا متسببين فيه، قال: [مخبرا عن هذا الوهم] ﴿وَلَیَحمِلُنَّ أَثقَالَهُمۡ وَأَثقَالا مَّعَ أَثقَالِهِمۡۖ وَلَیُسـَٔلُنَّ یَوۡمَ القِیَـٰمَةِ عَمَّا كَانُوا۟ یَفتَرُونَ﴾ [العنكبوت ١٣]
﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ﴾ أي: أثقال ذنوبهم التي عملوها ﴿وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ﴾ وهي الذنوب التي بسببهم ومن جرائهم، فالذنب الذي فعله التابع [لكل من التابع]، والمتبوع حصته منه، هذا لأنه فعله وباشره، والمتبوع [لأنه] تسبب في فعله ودعا إليه، كما أن الحسنة إذا فعلها التابع له أجرها بالمباشرة، وللداعي أجره بالتسبب.
﴿وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ﴾ من الشر وتزيينه، [وقولهم] ﴿وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ﴾ .
2 ـ وقال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب عن قوله تعالى: {وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ} :لا يعارضه قوله تعالى: {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَعَ أَثْقَالِهِمْ} كما تقدم بيانه مستوفى في سورة النحل. (فأثقالهم): أوزار ضلالهم و(الأثقال التي معها) أوزار إضلالهم ولا ينقص ذلك شيئاً من أوزار أتباعهم الضالين.
قال رحمه الله في تفسيرآية سورة النحل ﴿لِیَحمِلُوۤا۟ أَوۡزَارَهُمۡ كَامِلَةࣰ یَوۡمَ القِیَـٰمَةِ وَمِنۡ أَوۡزَارِ الَّذِینَ یُضِلُّونَهُم بِغَیرِ عِلمٍۗ أَلَا سَاۤءَ مَا یَزِرُونَ﴾ [النحل ٢٥] ، تَنْبِيهٌ :
فَإنْ قِيلَ: ما وجْهُ تَحَمُّلِهِمْ بَعْضَ أوْزارِ غَيْرِهِمُ المَنصُوصِ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: ﴿وَمِن أوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهم بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ الآيَةَ [النحل: ٢٥]، وقَوْلِهِ: ﴿وَلَيَحْمِلُنَّ أثْقالَهم وأثْقالًا مَعَ أثْقالِهِمْ﴾ الآيَةَ [العنكبوت: ١٣]، مَعَ أنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى﴾ [فاطر: ١٨]، ويَقُولُ - جَلَّ وعَلا -: ﴿وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إلّا عَلَيْها﴾ [الأنعام: ١٦٤]، ويَقُولُ ﴿تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ ولَكم ما كَسَبْتُمْ ولا تُسْألُونَ عَمّا كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: ١٣٤، ٢ - ١٤١]، إلى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الآياتِ.
فالجَوابُ - واللَّهُ تَعالى أعْلَمُ - أنَّ رُؤَساءَ الضَّلالِ وقادَتَهُ تَحَمَّلُوا وِزْرَيْنِ: أحَدُهُما: وِزْرُ ضَلالِهِمْ في أنْفُسِهِمْ.
والثّانِي: وِزْرُ إضْلالِهِمْ غَيْرَهم؛ لِأنَّ مَن سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُها ووِزْرُ مَن عَمِلَ بِها، لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِن أوْزارِهِمْ شَيْئًا. وإنَّما أُخِذَ بِعَمَلِ غَيْرِهِ؛ لِأنَّهُ هو الَّذِي سَنَّهُ وتَسَبَّبَ فِيهِ، فَعُوقِبَ عَلَيْهِ مِن هَذِهِ الجِهَةِ؛ لِأنَّهُ مِن فِعْلِهِ، فَصارَ غَيْرَ مُنافٍ لِقَوْلِهِ ﴿وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ﴾ الآيَةَ [فاطر: ١٨] .
وَقالَ مُسْلِمُ بْنُ الحَجّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - في صَحِيحِهِ: حَدَّثَنِي زُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ، حَدَّثَنا جَرِيرُ بْنُ عَبْدِ الحَمِيدِ، عَنِ الأعْمَشِ، عَنْ مُوسى بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، وأبِي الضُّحى، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ هِلالٍ العَبْسِيِّ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قالَ: «جاءَ ناسٌ مِنَ الأعْرابِ إلى رَسُولِ اللَّهِ ﷺ عَلَيْهِمُ الصُّوفُ، فَرَأى سُوءَ حالِهِمْ، قَدْ أصابَتْهم حاجَةٌ فَحَثَّ النّاسَ عَلى الصَّدَقَةِ، فَأبْطَؤُوا عَنْهُ حَتّى رُؤِيَ ذَلِكَ في وجْهِهِ، قالَ: ثُمَّ إنَّ رَجُلًا مِنَ الأنْصارِ جاءَ بِصُرَّةٍ مِن ورَقٍ، ثُمَّ جاءَ آخَرُ، ثُمَّ تَتابَعُوا حَتّى عُرِفَ السُّرُورُ في وجْهِهِ. فَقالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: ”مَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً حَسَنَةً فَعُمِلَ بِها بَعْدَهُ، كُتِبَ لَهُ مِثْلُ أجْرِ مَن عَمِلَ بِها ولا يَنْقُصُ مِن أُجُورِهِمْ شَيْءٌ. ومَن سَنَّ في الإسْلامِ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعُمِلَ بِها بَعْدَهُ، كُتِبَ عَلَيْهِ مِثْلُ وِزْرِ مَن عَمِلَ بِها ولا يَنْقُصُ مِن أوْزارِهِمْ شَيْءٌ»“ اهـ.
أخْرَجَ مُسْلِمٌ في صَحِيحِهِ هَذا الحَدِيثَ، عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ مِن طُرُقٍ مُتَعَدِّدَةٍ. وأخْرَجَهُ نَحْوَهُ أيْضًا مِن حَدِيثِ أبِي هُرَيْرَةَ بِلَفْظِ: أنَّ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ قالَ: «مَن دَعا إلى هُدًى كانَ لَهُ مِنَ الأجْرِ مِثْلَ أُجُورِ مَن تَبِعَهُ لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِن أُجُورِهِمْ شَيْئًا " . ومَن دَعا إلى ضَلالَةٍ، كانَ عَلَيْهِ مِنَ الإثْمِ مِثْلُ آثامِ مَن تَبِعَهُ لا يُنْقِصُ ذَلِكَ مِن آثامِهِمْ شَيْئًا» اه.
قالَ مُقَيِّدُهُ عَفا اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ النُّصُوصُ الصَّحِيحَةُ تَدُلُّ عَلى رَفْعِ الإشْكالِ بَيْنَ الآياتِ، كَما تَدُلُّ عَلى أنَّ جَمِيعَ حَسَناتِ هَذِهِ الأُمَّةِ في صَحِيفَةِ النَّبِيِّ ﷺ، فَلَهُ مَثَلُ أُجُورِ جَمِيعِهِمْ؛ لِأنَّهُ - صَلَواتُ اللَّهِ عَلَيْهِ وسَلامُهُ - هو الَّذِي سَنَّ لَهُمُ السُّنَنَ الحَسَنَةَ جَمِيعَها في الإسْلامِ، نَرْجُو اللَّهَ لَهُ الوَسِيلَةَ والدَّرَجَةَ الرَّفِيعَةَ، وأنْ يُصَلِّيَ ويُسَلِّمَ عَلَيْهِ أتَمَّ صَلاةٍ وأزْكى سَلامٍ.
وَقَوْلُهُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَرِيمَةِ: ﴿بِغَيْرِ عِلْمٍ﴾ [النحل: ٢٥]، يَدُلُّ عَلى أنَّ الكافِرَ غَيْرُ مَعْذُورٍ بَعْدَ إبْلاغِ الرُّسُلِ المُؤَيَّدِ بِالمُعْجِزاتِ، الَّذِي لا لُبْسَ مَعَهُ في الحَقِّ، ولَوْ كانَ يَظُنُّ أنَّ كَفْرَهُ هُدًى؛ لِأنَّهُ ما مَنَعَهُ مِن مَعْرِفَةِ الحَقِّ مَعَ ظُهُورِهِ إلّا شِدَّةُ التَّعَصُّبِ لِلْكُفْرِ، كَما قَدَّمْنا الآياتِ الدّالَّةَ عَلى ذَلِكَ في ”الأعْرافِ“؛ كَقَوْلِهِ: ﴿إنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أوْلِياءَ مِن دُونِ اللَّهِ ويَحْسَبُونَ أنَّهم مُهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: ٣٠]، وقَوْلُهُ: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكم بِالأخْسَرِينَ أعْمالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهم في الحَياةِ الدُّنْيا وهم يَحْسَبُونَ أنَّهم يُحْسِنُونَ صُنْعًا﴾ [الكهف: ١٠٣ - ١٠٤]، وقَوْلُهُ: ﴿وَبَدا لَهم مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: ٤٧]، وحَمْلُهم أوْزارَهم هو اكْتِسابُهُمُ الإثْمَ الَّذِي هو سَبَبُ تَرَدِّيهِمْ في النّارِ، أعاذَنا اللَّهُ والمُسْلِمِينَ مِنها.
تعليق