إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

[رسالة إلى مشايخنا الصادعين بالحق الثابتين عليه]سورة القصص والثقة بوعدالله.-محطات وتأملات-(الحلقة الأولى).قرأه وأذن بنشره العلامة محمد بن هادي المدخلي

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [رسالة إلى مشايخنا الصادعين بالحق الثابتين عليه]سورة القصص والثقة بوعدالله.-محطات وتأملات-(الحلقة الأولى).قرأه وأذن بنشره العلامة محمد بن هادي المدخلي

    <بسملة1>

    رسالة إلى مشايخنا الصادعين بالحق الثابتين عليه(1)
    سورة القصص والثقة بوعد الله عز وجل
    -محطات وتأملات-
    (الحلقة الأولى)
    قرأه وأذن بنشره الشيخ العلامة محمد بن هادي المدخلي
    -عامله الله بلطفه الخفي وفضله الجلي-

    الحمدلله الذي جعل في حوادث الأيام لأولي الأفهام اعتبارا، وفي طوارق الليالي لأرباب الهمم العوالي اختبارا، وفي مجاري الأقدار للذوات الشريفة الأقدار استظهارا، فتعالى مالك الملك، ومقدر النجاة والهلك، ومنور الظلم المدلهمة من الليالي الحُلك، لا إله إلا هو العزيز الحكيم، هدى وأضل، وأعز وأذل، وساء وسر، ونفع وضر، ومنح ومنع، ووصل وقطع، وخفض ورفع، وفرّق وجمع، (لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون)، ألا (له الحكم وإليه ترجعون) (2)
    وصلى الله وسلم على النبي الكريم، والرسول الرحيم، الحائز على مكارم الأخلاق جبلةً واصطبارا، والموصوف بصفات الجمال طبعا واختيارا، أجّلُ من ابتُلي فصبر، وأعظم من امتُحن فظفر، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم نلقاه فنُبشّر، أما بعد:


    ففي هذه اللحظة التي تمرُّ فيها عيناك أيها -القارئُ الكريمُ- على أحرفِ هذا المقال؛ قد تكون لحظةَ نشري له، أو بعدَه بقليل أو بكثير ... المهم، أنت الآن تقرأ كلمات حية أكتبها لك بدم القلب ودمع العين وعرق الجبين(3)؛ كلمات ليست كالكلمات، كان الباعث عليها أحداث لبثت برهة من الزمن تتأجج في جنبات الصدر، حتى خرجت متفجّرة لتُنقش على صحائف الحجر، أنَّى سعيتُ في ميادين الحياة لسعَني أوارُها، ومتى تقلبت في حلبات الصراع لفحني اضطرامُها، إلى أن قوي العزم على شدّ العضد بالذكر الحكيم، فقلّبت النظر في سور القرآن العظيم، حتى ظفرتُ بقصة موسى الكليم-عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم-، وقبل الشروع في الإحاطة بأسوارها، و الاطلاع على أسرارها، أقدم بهذه التذكرة المؤثّرة، والموعظة المعبّرة، فأقول مستعينا بالله -جل في علاه-:

    إن من سعادة المسلم أن يفتح الله له طريقا للتعرف على أسرار حكمته في تدبير شؤون عباده، ويطلعه على حقائق ألطافه في تسيير مصالح خلقه، فإذا أحاطت بالعبد سحائب البلاء، وتراكمت عليه صنوف البأساء، أطلّت عليه شمس الإيمان، لتبدّد عنه غيوم الأحزان، وأقبلت عليه أنوار التوحيد، لترفع عنه قوارع الضّر الشديد.
    وبين هذا وذاك، يتجلى للعبد المؤمن -المُنقاد لأمر ربه، والمستسلم لحكم مولاه، والراضي بقضاء سيده-، الحكمة البالغة، والحجة الدامغة، في حُسن تدبير البر الرحيم، ولُطف تقدير الرب العليم، ولذلك كان على من أكرمه الله بشيء من الفهم، وأنعم عليه بيسير من العلم، ألا يتوانى في نفض الغُبار على هذه الحقائق الثمينة، وأن يسعى جاهدا في رفع الستار عن مثل هذه الأسرار المكينة، ليرتقي إلى مرتبة عين اليقين، ويلحق في ذلك بركب الصالحين.
    ثم إن من حكمة الله عز وجل أن نوّع في صنوف البلايا، وعدّد في المصائب والرزايا، ليتم كمالُ الامتحان، وتظهر حقائقُ الإيمان، ومن أشد تلكم الأنواع وقعاً على النفس، وحزناً في الفؤاد: ما ابتلى الله به مشايخنا الأربعة – محمد الجزائر وأخويه ومحمد الحجاز الفقيه النبيه- وغيرهم من الأذى القولي، والسفه العقلي، المتمثل في الطعونات الفاجرة، والشتائم الجائرة، والكذب في الوقائع، والتدليس في المواقع، حتى انتهى بهم الأمر إلى بتر الصوتيات، لنسف الشهادات، وخيانة أمانة الحلقات، لإسقاط الجبال الراسيات، حالهم كما قال ابن القيم رحمه الله:
    «كثيرٌ من الناس لا يهنأ له عيش في يوم لا يؤذي فيه أحدًا من بني جنسه، ويجد في نفسه تأذيًا بحمل تلك السمّية والشر الذي فيه، حتى يفرغه في غيره، فيبرد عند ذلك أنينه، وتسكن نفسه» اهـ. (مدارج السالكين لابن القيم –رحمه الله-، (1/78)).
    فإذا تقرر هذا الأمر، كان على من أصيب من مشايخنا بشيئ من ذلك الأذى أن يعلم أن فيه الخير، ولو كان ظاهره خلافه، ولذلك جاء في تاريخ دمشق (48/421) لابن عساكر –رحمه الله- بإسناده عن الفيض بن إسحاق قال: سمعت الفضيل بن عياض -رحمه الله- يقول: «إذا أراد الله أن يُتحف- وفي رواية: يُحب- العبد سلط عليه من يظلمه». اهـ.
    فالله ناصر أولياءه، ومؤيد أصفياءه، ولو طال المقام، وتعاقبت الأعوام، فإن الوقت جزء من العلاج، وسيكتب التاريخ المحُق من المبطل، والصادق من الكاذب.
    قال ابن القيم –رحمه الله-: « فَلَا بُدَّ أَنْ يَغْلِبَ الرَّخَاءُ الشِّدَّةَ، وَالْعَافِيَةُ الْبَلَاءَ، وَالْخَيْرُ وَأَهْلُهُ الشَّرَّ وَأَهْلَهُ، وَإِنْ أُدِيلُوا أَحْيَانًا فَإِنَّ الْغَلَبَةَ الْمُسْتَقِرَّةَ الثَّابِتَةَ لِلْحَقِّ وَأَهْلِهِ، وَآخِرُ أَمْرِ الْمُبْطِلِينَ الظَّالِمِينَ إِلَى زَوَالٍ وَهَلَاكٍ، فَمَا قَامَ لِلشَّرِّ وَالْبَاطِلِ جَيْشٌ إِلَّا أَقَامَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ لِلْحَقِّ جَيْشًا يَظْفَرُ بِهِ وَيَكُونُ لَهُ الْعُلُوُّ وَالْغَلَبَةُ، قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ - إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ - وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: ١٧١ - ١٧٣] فَكَمَا غَلَبَتِ الرَّحْمَةُ غَلَبَتْ جُنُودُنَا، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُقْتَضَى حَمْدِهِ وَحِكْمَتِهِ فِي هَذِهِ الدَّارِ، فَهَكَذَا فِي دَارِ الْحَقِّ الْمَحْضِ تَكُونُ الْغَلَبَةُ لِمَا خَلَقَ بِالرَّحْمَةِ وَالْبَقَاءِ لَهَا.
    وَسِرُّ هَذَا الْوَجْهِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِ أَنَّ الْخَيْرَ هُوَ الْغَالِبُ لِلشَّرِّ، وَهُوَ الْمُهَيْمِنُ عَلَيْهِ، الَّذِي لَوْ دَخَلَ جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلَ خَلْفَهُ حَتَّى يُخْرِجَهُ وَيُغَيِّرَهُ، وَإِذَا كَانَتْ لِلشَّرِّ دَوْلَةٌ وَصَوْلَةٌ لِحِكْمَةٍ مَقْصُودَةٍ لِغَيْرِهَا قَصْدَ الْوَسَائِلِ، فَالْخَيْرُ مَقْصُودٌ مَطْلُوبٌ لِنَفْسِهِ قَصْدَ الْغَايَاتِ.« اهـ (مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم –رحمه الله-، ص 678).
    وهذا أفضل الخلق، وسيد البشر، أكرم مخلوق على الله عز وجل- صلوات ربي وسلامه عليه-، ناله من الأذى القولي الكثير؛ حتى احتاج بمقتضى الطبيعة البشرية إلى المواساة الإلهية، والتسلية الربانية، كما قال جل جلاله: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ﴾ [الحجر: ٩٧].
    قال صديق حسن خان القنوجي –رحمه الله- في تفسير الآية: «(ولقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون) من الأقوال الكفرية المتضمنة للطعن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسحر والجنون والكهانة والكذب وقد كان يحصل ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم بمقتضى الجبلة البشرية والمزاج الإنساني وإن كان مفوضاً جميع أموره لربه.
    ثم أمره سبحانه بأن يفزع لكشف ما نابه من ضيق الصدر إلى تسبيح الله سبحانه وحمده فقال: (فسبح بحمد ربك) أي افزع إلى الله فيما نابك وافعل التسبيح المتلبس بالحمد أو فنزهه عما يقولون حامداً له على أن هداك للحق (وكن من الساجدين) أي من المصلين فإنك إذا فعلت ذلك كشف الله همك وأذهب غمك وشرح صدرك...».اهـ (فتح البيان في مقاصد القرآن للقنوجي-رحمه الله-، (7/201)).
    وهؤلاء أنبياء الله -عز وجل- بوأهم الله المكانة الرفيعة، والمنزلة العالية، ورغم ذلك سبّهم قومهم بأقذع الشتائم، ورموهم بأفظع العظائم، وهم على صراط الله ثابتون، وفي درب الرشاد سائرون.
    فهذا نبي الله نوح -عليه السلام- ظل قرابة ألف سنة في دعوة قومه صابرا محتسبا، ثم يقول قومه عنه طعنا ولمزا: «فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِن قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ»[هود: ٢٧].
    وهذا نبي الله هود -عليه السلام- قام لقومه قومة الرجل الواحد، المخاطب لأمة عظيمة، وتبرء من شركهم متوكلا على ربه، وتحداهم أن يكيدوا له دون امهال فلم يحركوا ساكنا، فجاءهم بأظهر البينات ومع ذلك قالوا عنه: «قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِن نَّقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ» [هود: ٥٤-٥٥].
    وذاك صالح -عليه السلام- كان قومه يرون فيه من دَلائِلِ السَّدادِ، ومَخايِلِ الرَّشادِ، ما يرشحه لأن يكون لهم سيدا ومستشارا في الأمور، فلما عاب آلهتهم قالوا عنه: «قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَٰذَا ۖ أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ» [هود: ٦٢] .
    أما خطيب الأنبياء شعيب -عليه السلام- الذي بلغ النهاية في قوة البيان، ووصل إلى الغاية في فصاحة اللسان، فقد قال له قومه كما قال تعالى: «قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا ۖ وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ۖ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ»[هود: ٩٢].
    والناس عند نزول البلاء ليسوا على منوال وحيد، ولا على نسق فريد، فمنهم الساخط الغضبان، ومنهم الجازع الحيران، قد اضطرب فؤاده، وتشوشت أفكاره، فهو كالبهيمة لا يدر ما نزل به، ولم نزل؟ وكيف يرفع؟.
    عَنْ سَعِيدِ بْنِ وَهْبٍ، قَالَ: " دَخَلْتُ مَعَ سَلْمَانَ -رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ- عَلَى صِدِّيقٍ لَهُ مِنْ كِنْدَةَ يَعُودُهُ، فَقَالَ لَهُ سَلْمَانُ: «إِنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالْبَلَاءِ ثُمَّ يُعَافِيهِ فَيَكُونُ كَفَّارَةً لِمَا مَضَى فَيُسْتَعْتَبَ فِيمَا بَقِيَ، وَإِنَّ اللهَ -عَزَّ اسْمُهُ- يَبْتَلِي عَبْدَهُ الْفَاجِرَ بِالْبَلَاءِ ثُمَّ يُعَافِيهِ فَيَكُونُ كَالْبَعِيرِ عَقَلُوهُ أَهْلُهُ ثُمَّ أَطْلَقُوهُ، فَلَا يَدْرِي فِيمَ عَقَلُوهُ حِينَ عَقَلُوهُ، وَلَا فِيمَ أَطْلَقُوهُ حِينَ أَطْلَقُوهُ». اهـ (حلية الأولياء 1/206).
    أما مشايخنا الأتقياء، وعلماؤنا الأصفياء، ومن نهج نهجهم من الفضلاء، ففيهم تتحقق معان أخرى، ومنهم نكتشف أسرارا كبرى؛ إنهم في فلك الصبر يسبحون، وفي مضمار الرضا بربهم يتسابقون، وفي ميدان انتظار فرج مولاهم يتسارعون، قوم قدموا رضا مولاهم على رضاهم، ورفعوا في دعائهم شعار ( اللهم اجعل أحبه إليك أحبه إلي)، واكتسوا بدثارهم متمثلين قول الشاعر:
    فليتك تحلو والحياة مريرة ::: وليتك ترضى والأنام غضابُ
    وليت الذي بيني وبينك عامر ::: وبيني وبين العالمين خرابُ
    إذا صح منك الود فالكل هين ::: وكل الذي فوق التراب ترابُ
    فيا أخي القارئ الكريم، أعرني سمعك، وافتح لي باب قلبك، لآخذك في جولة إيمانية تكتشف فيها عجائب أحوالهم، وتندهش عند سماع غرائب أقوالهم، فاحزم أمتعتك في الحضر، لتكون عُدتك في السفر، ودون إطالة أقول:

    1/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يعلمون أن ركائب النعم قد وفدت عليهم مُقبلة، وأن رياح الخيرات قد هبّت عليهم مُرسلة.
    ساق ابن الجوزي –رحمه الله- في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (10/112) بسنده عن إبراهيم بن عباس الصولي، قال: اعتل الفضل بن سهل ذو الرئاستين علة بخراسان ثم برأ، فجلس للناس فهنأوه بالعافية وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا أقبل على الناس، فقال: «: إن في العلل لنعما ينبغي للعقلاء أن يعرفوها: تمحيص للذنب، وتعرض لثواب الصبر، وإيقاظ من الغفلة، وإذكار للنعم في حال الصحة، واستدعاء للتوبة، وحض على الصدقة، فنسي الناس ما تكلموا به وانصرفوا بكلام الفضل» اهـ.
    ويقول ابن الجوزي –رحمه الله-: «وليعلم العاقل أن البلايا ضيوف، فليعد لها قِرى الصبر». (الثبات عند الممات ص32). اهـ.
    عن ابْنُ المُبَارَكِ رحمه الله: عَنْ سُفْيَانَ الثوري، قَالَ: «لَيْسَ بِفَقِيْهٍ مَنْ لَمْ يَعُدَّ البَلاَءَ نِعْمَةً، وَالرَّخَاءَ مُصِيْبَةً». اهـ ( سير أعلام النبلاء (7/266).
    قال المناوي –رحمه الله- في فيض القدير (2/324): «(إن الله تعالى ليبتلي المؤمن) أي يختبره ويمتحنه (وما يبتليه إلا لكرامته عليه) لأن للابتلاء فوائد سنية وحكما ربانية منها ما لم يظهر إلا في الآخرة ومنها ما ظهر بالاستقراء كالنظر إلى قهر الربوبية والرجوع إلى ذل العبودية وأنه ليس لأحد مفر من القضاء ولا محيد عن القدر ولأن الله حرم الجنة على من في قلبه خبث فلا يدخلها إلا بعد طيبه وطهره فإنها دار الطيبين {طبتم فادخلوها خالدين} فمن تطهر في الدنيا من البلايا والمصائب ولقي الله طاهرا من خبثه دخلها بغير تعوق ومن لم يتطهر منها فإن كانت نجاسته عينية كالكافر لم يدخلها بحال وإن كانت عارضية دخلها بعد تطهيره بالنار، وفيه فضل الابتلاء ولا يلزم منه طلبه بل المأمور به طلب العفو والعافية». اهـ.

    2/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- تنسيهم حلاوة أجرهم مرارة صبرهم.
    قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «يود أهل العافية يوم القيامة -حين يعطى أهل البلاء الثواب- لو أن جلودهم كانت قرضت في الدنيا بالمقاريض». (حسنه الألباني –رحمه الله- في صحيح الترمذي 2402).
    قال ابن الجوزي رحمه الله: «ولو أن ملكا قال لرجل فقير: كلما ضربتك بهذا العود اللطيف ضربة أعطيتك ألف دينار لأحب كثرة الضرب، لا لأنه لا يؤلم، ولكن لما يرجو من عاقبة، وإن أنكاه الضرب، فكذلك السلف تلمحوا الثواب، فهان عليهم البلاء». اهـ (مختصر منهاج القاصدين لابن الجوزي –حمه الله-، تأليف ابن قدامة المقدسي –رحمه الله-، ص264).
    قال ابن القيم رحمه الله: «يحكى عن امرأة من العابدات أنها عثرت فانقطعت أصبعها فضحكت، فقال لها بعض من معها: أتضحكين وقد انقطعت أصبعك؟ فقالت: ... حلاوة أجرها أنستني مرارة ذكرها» اهـ. (مدارج السالكين لابن القيم –رحمه الله، 2/167 من الشاملة).


    3/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يرتقي بهم إيمانهم، وترفعهم محبتهم لربهم إلى درجة يصلون فيها إلى التلذذ بالبلاء، والاستحلاء بالضراء.
    قال أبو زرعة ولي الدين العراقي في طرح التثريب (2/161) عند كلامه على قوله تعالى في أيوب عليه السلام: «إنا وجدناه صابرا نعم العبد إنه أواب»: «قال بعضهم: إنما قال الله «إنا وجدناه صابرا»، ولم يقل: صبورا؛ لأنه لم يكن جميع أحواله الصبر بل كان في بعض الأحوال مستلذًّا للبلاء!». اهـ..
    قال الشيخ العلامة سليمان بن عبدالله بن شيخ الإسلام محمد بن عبدالوهاب -رحمه الله- في تيسير العزيز الحميد عند كلامه على حديث السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب:
    «قوله: «وعلى ربهم يتوكلون» ذكر الأصل الجامع الذي تفرعت عنه هذه الأفعال وهو التوكل على الله، وصدق الالتجاء إليه، والاعتماد بالقلب عليه الذي هو خلاصة التفريد، ونهاية تحقيق التوحيد الذي يثمر كل مقام شريف من المحبة والخوف والرجاء، والرضى به ربًا وإلهًا، والرضى بقضائه، بل ربما أوصل العبد إلى التلذذ بالبلاء، وعده من النعماء، فسبحان من يتفضل على من يشاء بما يشاء، {وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} ، [البقرة: 105] .» اهـ. (تيسير العزيز الحميد في شرح كتاب التوحيد (ص234)).
    قال العلامة ابن القيم رحمه الله: «الأصل الرابع: أن المحبة كلما تمكنت فى القلب ورسخت فيه، كان أذى المُحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط، والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك، حتى قال قائلهم:

    لَئنْ سَاءنِى أَنْ نِلْتَنِى بَمسَاءةٍ ::: لَقَدْ سَرَّنِى أَنِّى خَطَرْتُ بِبَالِكَ

    فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى، الذى ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه». اهـ. (إغاثة اللهفان لابن القيم –رحمه الله-، ص920).
    وقال ابن القيم أيضا: «وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ أَنْفَعَ الْأَدْوِيَةِ لَهُ مُوَافَقَةُ رَبِّهِ وَإِلَهِهِ فِيمَا أَحَبَّهُ وَرَضِيَهُ لَهُ، وَأَنَّ خَاصِّيَّةَ الْمَحَبَّةِ وَسِرَّهَا مُوَافَقَةُ الْمَحْبُوبِ، فَمَنِ ادَّعَى مَحَبَّةَ مَحْبُوبٍ، ثُمَّ سَخِطَ مَا يُحِبُّهُ، وَأَحَبَّ مَا يَسْخَطُهُ، فَقَدْ شَهِدَ عَلَى نَفْسِهِ بِكَذِبِهِ، وَتَمَقَّتَ إِلَى مَحْبُوبِهِ.
    وَقَالَ أَبُو الدَّرْدَاءِ: إِنَّ اللَّهَ إِذَا قَضَى قَضَاءً، أحب أن يرضى به، وكان عمران ابن حُصَيْنٍ يَقُولُ فِي عِلَّتِهِ: أَحَبُّهُ إِلَيَّ أَحَبُّهُ إِلَيْهِ، وَكَذَلِكَ قَالَ أبو العالية.
    وَهَذَا دَوَاءٌ وَعِلَاجٌ لَا يَعْمَلُ إِلَّا مَعَ الْمُحِبِّينَ، وَلَا يُمْكِنُ كُلُّ أَحَدٍ أَنْ يَتَعَالَجَ بِهِ». اهـ. (الطب النبوي لابن القيم-رحمه الله-،ص133).


    4/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يفرحون به كما يفرح غيرهم بالعافية.
    قال العلامة ابن القيم –رحمه الله-:«وَسُئِلَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الْأَمْثَلُ فَالْأَمْثَلُ، الرَّجُلُ يُبْتَلَى عَلَى حَسْبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ رَقِيقَ الدِّينِ اُبْتُلِيَ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ صَلْبَ الدِّينِ اُبْتُلِيَ عَلَى حَسْبِ ذَلِكَ، فَمَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالرَّجُلِ حَتَّى يَمْشِيَ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ وَمَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ» ذَكَره أَحْمَدُ، وَصَحَّحَهُ التِّرْمِذِيُّ.
    وَذَكَرَ ابْنُ مَاجَهْ «أَنَّهُ سُئِلَ: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: الْأَنْبِيَاءُ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ ثُمَّ الصَّالِحُونَ، إنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيُبْتَلَى بِالْفَقْرِ حَتَّى مَا يَجِدُ إلَّا الْعَبَاءَةَ تَحْوِيهِ، وَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمْ لَيَفْرَحُ بِالْبَلَاءِ كَمَا يَفْرَحُ أَحَدُكُمْ بِالْعَافِيَةِ«. اهـ. (إعلام الموقعين لابن القيم –رحمه الله-، 1/596).
    قال عمر بن عبدالعزيز –رحمه الله-: «ما بقي لي سرور إلا في مواقع القدر.
    وقيل له: ما تشتهي؟ فقال: ما يقضي الله». اهـ ( إحياء علوم الدين 4/336).
    قال ابن الجوزي-رحمه الله-: « وقد كانوا يفرحون بالمصائب نظراً إلى ثوابها، وحكاياتهم مشهورة في ذلك.
    منها: ما روى أن عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز لما مات دفنه عمر، وسوى عليه ثم استوى قائماً، فأحاط به الناس، فقال: رحمك الله بابني! قد كنت براً بأبيك، والله ما زلت منذ وهبك الله لى مسروراً بك، ولا والله ما كنت قط أشد بك سروراً، ولا أرجى بحظي من الله تعالى فيك منذ وضعتك في هذا المنزل الذي صيرك الله إليه.
    فإن قيل: إن كان المراد من الصبر عدم كراهية المصائب، فلا قدرة للآدمي على ذلك، وإن كان الفرح بوجودها كما حكيتم، فهو أبعد.
    والجواب: أن الصبر لا يكون إلا عن محبوب أو على مكروه، ولا ينهى عما لا يدخل تحت الكسب، وهو انزعاج الباطن، وإنما ينهى عن المكتسب، كشق الجيوب، ولطم الخدود، والقول باللسان، فأما ما ذكرنا من فرح بعضهم، فذلك فرح شرعي لا طبعي، إذ الطبع لابد له من كراهة المصائب.
    ومثال هذا رجل مريض له شربة لمرضه، فسعى في طلب حوائجها، وأنفق عليها مالاً، فلما تمت، فرح بتمامها وتناولها لما يرجو لها من العافية، فأما طبعه، فما زالت عنه كراهة التناول أصلاً «. اهـ (مختصر منهاج القاصدين لابن الجوزي –رحمه الله-، تأليف ابن قدامة المقدسي –رحمه الله-، ص264).


    5/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يفتح الله لهم أسرار مناجاته، ويذيقهم حلاوة معرفته.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله: «فَمِنْ تَمَامِ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ أَنْ يُنَزِّلَ بِهِمْ الشِّدَّةَ وَالضُّرَّ وَمَا يُلْجِئُهُمْ إلَى تَوْحِيدِهِ فَيَدْعُونَهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدَّيْنُ وَيَرْجُونَهُ لَا يَرْجُونَ أَحَدًا سِوَاهُ، وَتَتَعَلَّقُ قُلُوبُهُمْ بِهِ لَا بِغَيْرِهِ، فَيَحْصُلُ لَهُمْ مِنْ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ وَالْإِنَابَةِ إلَيْهِ، وَحَلَاوَةِ الْإِيمَانِ وَذَوْقِ طَعْمِهِ، وَالْبَرَاءَةِ مِنْ الشِّرْكِ مَا هُوَ أَعْظَمُ نِعْمَةً عَلَيْهِمْ مِنْ زَوَالِ الْمَرَضِ وَالْخَوْفِ، أَوْ الْجَدْبِ، أَوْ حُصُولِ الْيُسْرِ وَزَوَالِ الْعُسْرِ فِي الْمَعِيشَةِ، فَإِنَّ ذَلِكَ لِذَاتٍ بَدَنِيَّةٍ وَنِعَمٍ دُنْيَوِيَّةٍ قَدْ يَحْصُلُ لِلْكَافِرِ مِنْهَا أَعْظَمُ مِمَّا يَحْصُلُ لِلْمُؤْمِنِ.
    وَأَمَّا مَا يَحْصُلُ لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ الْمُخْلِصِينَ لِلَّهِ الدِّينَ فَأَعْظَمُ أَنْ يُعَبِّرَ عَنْ كُنْهِهِ مَقَامٌ، أَوْ يَسْتَحْضِرَ تَفْصِيلَهُ بَالٌ، وَلِكُلِّ مُؤْمِنٍ مِنْ ذَلِكَ نَصِيبٌ بِقَدْرِ إيمَانِهِ، وَلِهَذَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ: يَا بْنَ آدَمَ، لَقَدْ بُورِكَ لَك فِي حَاجَةٍ أَكْثَرْت فِيهَا مِنْ قَرْعِ بَابِ سَيِّدِك. وَقَالَ بَعْضُ الشُّيُوخِ: إنَّهُ لَيَكُونَ لِي إلَى اللَّهِ حَاجَةٌ فَأَدْعُوهُ فَيُفْتَحُ لِي مِنْ لَذِيذِ مَعْرِفَتِهِ وَحَلَاوَةِ مُنَاجَاتِهِ مَا لَا أُحِبُّ مَعَهُ أَنْ يُعَجِّلَ قَضَاءَ حَاجَتِي خَشْيَةَ أَنْ تَنْصَرِفَ نَفْسِي عَنْ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ النَّفْسَ لَا تُرِيدُ إلَّا حَظَّهَا فَإِذَا قَضَى انْصَرَفَتْ.
    وَفِي بَعْضِ الْإِسْرَائِيلِيَّات: «يَا بْنَ آدَمَ، الْبَلَاءُ يَجْمَعُ بَيْنِي وَبَيْنَك وَالْعَافِيَةُ تَجْمَعُ بَيْنَك وَبَيْنَ نَفْسِك.«
    وَهَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ، وَهُوَ مَوْجُودٌ مَذُوقٌ مَحْسُوسٌ بِالْحِسِّ الْبَاطِنِ لِلْمُؤْمِنِ، وَمَا مِنْ مُؤْمِنٍ إلَّا وَقَدْ وَجَدَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَعْرِفُ بِهِ مَا ذَكَرْنَاهُ، فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ بَابِ الذَّوْقِ وَالْحِسِّ لَا يَعْرِفُ إلَّا مَنْ كَانَ لَهُ ذَوْقٌ وَحِسٌّ بِذَلِكَ» اهـ. ( مجموع الفتاوى لابن تيمية –رحمه الله-، 10/193).
    وقال ابن القيم–رحمه الله-:«وإذا أصابه قَدرَ وجد من قلبه ناطقا يقول: «أنا عبدك ومسكينك وفقيرك، وأنا عبدك الفقير العاجز الضعيف المسكين، وأنت ربى العزيز الرحيم، لا صبر لي إن لم تصبرني، ولا قوة لي إن لم تحملني وتقوني، لا ملجأ لي منك إلا إليك ولا مستعان لي إلا بك، ولا انصراف لي عن بابك، ولا مذهب لي عنك».
    فينطرح بمجموعه بين يديه، ويعتمد بكليته عليه، فإن أصابه بما يكره قال: «رحمة أهدِيَتْ إلي، ودواء نافع من طبيب مشفق»، وإن صرف عنه ما يحب قال: «شرا صرف عني»:

    وَكَمْ رُمْتُ أَمْرًا خِرْتَ لي في انْصِرَافِهِ::: وَمَا زِلْتَ بي مِنِّى أَبَرَّ وَأَرْحَمَا

    فكل ما مسه به من السراء والضراء اهتدى بها طريقا إليه، وانفتح له منه باب يدخل منه عليه، كما قيل:

    ما مَسّنِى قدَرٌ بِكُرْهٍ أوْ رِضًى::: إلا اهْتَدَيْتُ بِهِ إلِيْكَ طَرِيقًا
    أَمْضِ القَضَاءَ عَلَى الرِّضَى به مِنِّى بِهِ::: إنِّى وجَدْتُكَ فى البَلاءِ رَفِيقا

    فللَّه هاتيك القلوب وما انطوت عليه من الضمائر، وماذا أودعته من الكنوز والذخائر، ولله طيب أسرارها ولا سيما يوم تبلى السرائر.

    سَيَبْدُو لهَا طِيبٌ وَنُورٌ وَبَهْجَةٌ::: وَحُسْنُ ثَنَاءٍ يَوْمَ تُبْلَى السرَائرُ

    تالله، لقد رفع لها علم عظيم فشمرت له، واستبان لها صراط مستقيم فاستقامت عليه، ودعاها ما دون مطلوبها الأعلى فلم تستجب له، واختارت على ما سواه وآثرت ما لديه. « اهـ (إغاثة اللهفان لابن القيم -–حمه الله-، ص149).
    وقال –رحمه الله- أيضا:
    « وَمِنْ عِلَاجِهَا أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ الَّذِي ابْتَلَاهُ بِهَا أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ، وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ، وَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمْ يُرْسِلْ إِلَيْهِ الْبَلَاءَ لِيُهْلِكَهُ بِهِ، وَلَا لِيُعَذِّبَهُ بِهِ، وَلَا لِيَجْتَاحَهُ، وَإِنَّمَا افْتَقَدَهُ بِهِ لِيَمْتَحِنَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ عَنْهُ وَإِيمَانَهُ، وَلِيَسْمَعَ تَضَرُّعَهُ وَابْتِهَالَهُ، وَلِيَرَاهُ طَرِيحًا بِبَابِهِ، لَائِذًا بِجَنَابِهِ، مَكْسُورَ الْقَلْبِ بَيْنَ يَدَيْهِ، رَافِعًا قَصَصَ الشَّكْوَى إِلَيْهِ». اهـ (الطب النبوي لابن القيم –رحمه الله-، ص201).
    قال ابن عيينة –رحمه الله-: «ما يكره العبد خير له مما يحب؛ لأن ما يكرهه يهيجه للدعاء، وما يحبه يلهيه». ا (الفرج بعد الشدة للتنوخي ص32).


    6/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يطفؤون نار بلائهم ببرد التأسي بأهل المصائب.
    قال العلامة ابن القيم –رحمه الله-: «ومن علاجه أن يطفىء نَارَ مُصِيبَتِهِ بِبَرْدِ التَّأَسِّي بِأَهْلِ الْمَصَائِبِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّهُ فِي كُلِّ وَادٍ بَنُو سَعْدٍ، وَلْيَنْظُرْ يَمْنَةً، فَهَلْ يَرَى إِلَّا مِحْنَةً؟ ثُمَّ لِيَعْطِفْ يَسْرَةً، فَهَلْ يَرَى إِلَّا حَسْرَةً؟، وَأَنَّهُ لَوْ فتش العالم لم ير فيهم إِلَّا مُبْتَلًى، إِمَّا بِفَوَاتِ مَحْبُوبٍ، أَوْ حُصُولِ مَكْرُوهٍ، وَأَنَّ شُرُورَ الدُّنْيَا أَحْلَامُ نَوْمٍ أَوْ كَظِلٍّ زَائِلٍ، إِنْ أَضْحَكَتْ قَلِيلًا، أَبْكَتْ كَثِيرًا، وَإِنْ سَرَّتْ يَوْمًا، سَاءَتْ دَهْرًا، وَإِنْ مَتَّعَتْ قَلِيلًا، مَنَعَتْ طَوِيلًا، وَمَا مَلَأَتْ دَارًا خِيرَةً إِلَّا مَلَأَتْهَا عَبْرَةً، وَلَا سَرَّتْهُ بِيَوْمِ سُرُورٍ إِلَّا خَبَّأَتْ لَهُ يَوْمَ شُرُورٍ.
    قَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-:« لِكُلِّ فَرْحَةٍ تَرْحَةٌ، وما ملىء بيت فرحا إلا ملىء تَرَحًا».
    وَقَالَ ابْنُ سِيرِينَ: «مَا كَانَ ضَحِكٌ قَطُّ إِلَّا كَانَ مِنْ بَعْدِهِ بُكَاءٌ».
    وَقَالَتْ هند بنت النعمان : «لَقَدْ رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ مِنْ أَعَزِّ النَّاسِ وَأَشَدِّهِمْ مُلْكًا، ثُمَّ لَمْ تَغِبِ الشَّمْسُ حَتَّى رَأَيْتُنَا وَنَحْنُ أَقَلُّ النَّاسِ، وَأَنَّهُ حَقٌّ عَلَى اللَّهِ أَلَّا يَمْلَأَ دَارًا خِيرَةً إلا ملأها عبرة»». اهـ (الطب النبوي لابن القيم -–حمه الله-، ص130).


    7/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يعلمون أن الراحة لا تنال إلا بجسر من التعب.
    قال صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا سبقتْ له من اللهِ منزلةٌ لم يبلغهَا بعملهِ ابتلاهُ اللهٌ في جسدِهِ أو في مالهِ أو في ولدِهِ ثم صبَّرهُ على ذلكَ حتى يبلغهُ المنزلة التي سبقتْ لهُ من اللهِ تعالى» (الصحيحة 2599، صحيح أبي داود 3090).
    قال المناوي –رحمه الله- في فيض القدير(1/460): «(إذا سبقت للعبد من الله منزلة) أي إذا منحه في الأزل مرتبة متعالية في الآخرة (لم ينلها بعمله) لقصوره عن إبلاغه إياها لضعفه وقلته وسموها ورفعتها (ابتلاه الله في جسده) بالأسقام والآلام (وفي أهله) بالفقد أو عدم الاستقامة وتلوينهم عليه ... (وماله) لفقد أو غيره وأعاد في الأهل لموازنته بالجسد وحذفه من المال لقصور رتبته عنهما لإمكان تعويضه (ثم صبره) بشد الموحدة بضبط المؤلف أي ألهمه الصبر (على ذلك) أي ما ابتلاه (حتى ينال) بسبب ذلك (تلك المنزلة) وفي رواية حتى يبلغه المنزلة.
    قال الطيبي: حتى هنا يجوز أن تكون للغاية وأن تكون بمعنى كي وفيه إشعار بأن للبلاء خاصة في نيل الثواب ليس للطاعة وإن جعلت مثلها ولذلك كان ما يصيب الأنبياء أشد البلاء (التي سبقت له من الله عز وجل) أي التي استوجبها بالقضاء الأزلي واستحقها بالحكم القديم الإلهي وبالحقيقة التعويل إنما هو على ذلك السبق فمن سبق في علمه أنه سعيد فهو سعيد وعكسه بعكسه والخاتمة ناشئة عن السابقة.
    روى البيهقي والحاكم أن موسى مر برجل في متعبد له ثم مر به بعد وقد مزقت السباع لحمه فرأس ملقى وفخذ ملقى وكبد ملقى فقال يا رب كان يطيعك فابتليته بهذا فأوحى الله إليه أنه سألني درجة لم يبلغها بعمله فابتليته لأبلغه تلك الدرجة انتهى.
    والمقصد بالحديث الإعلام بفضل البلاء وأنه مظنة لرفع درجات العبد وإن قل عمله وإلا فقد يعطي الله من شاء ما شاء من رفيع المنازل وإن لم يعمل بالكلية بل له تعذيب الطائع وإثابة العاصي ولا يسأل عما يفعل». اهـ.
    قال ابن القيم –رحمه الله-: «وهذه عادة الله سبحانه فى الغايات العظيمة الحميدة: إذا أراد أن يوصل عبده إليها هيأ لها أسباباً من المحن والبلاياً والمشاق، فيكون وصوله إلى تلك الغايات بعدها كوصول أهل الجنة إليها بعد الموت، وأهوال البرزخ، والبعث والنشور والموقف، والحساب، والصراط، ومقاساة تلك الأهوال والشدائد، وكما أدخل رسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم إلى مكة ذلك المدخل العظيم، بعد أن أخرجه الكفار ذلك المخرج ونصره ذلك النصر العزيز، بعد أن قاسى مع أعداء الله ما قاساه.
    ... وبالجملة، فالغايات الحميدة فى خبايا الأسباب المكروهة الشاقة، كما أن الغايات المكروهة المؤلمة فى خبايا الأسباب المشتهاة المستلذة، وهذا من حين خلق الله سبحانه الجنة وحفها بالمكاره، وخلق النار وحفها بالشهوات». اهـ (إغاثة اللهفان لابن القيم –رحمه الله-، ص803).


    8/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يعلمون أن البلاء شفاء لأمراض القلوب، وأدواء النفوس.
    قال صلى الله عليه وسلم« إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ ليحمي عبدَه المؤمنَ ، وهو يُحبُّه كما تحمون مريضَكم الطَّعامَ والشَّرابَ» (صحيح الجامع 1814).
    قال المناوي –رحمه الله- في فيض القدير (2/325): «(وإن الله ليحمي عبده) أضافه إليه للتشريف (المؤمن من الدنيا) أي يمنعه منها ويقيه أن يتلوث بدنسها كيلا يمرض قلبه بداء حبها وممارستها (كما يحمى المريض أهله الطعام) لئلا يزيد مرض بدنه بتناوله فهو إنما يحميه لعاقبة محمودة وأحوال سديدة مسعودة وما تقول في الوالد المشفق الغني إذا منع ولده رطبة أو تفاحة يأكلها وهو أرمد ويسلمه إلى معلم غليظ يابس ويحبسه طول النهار عنده ويضجره ويحمله إلى الحجام ليحجمه فيوجعه ويقلقه: أتراه فعل ذلك به لبخل أو هوان به أو قصد إيذاء له؟ لكن لما علم أن صلاحه فيه وأن بهذا التعب القليل يصل إلى خير كثير ونفع عظيم وما تقول في الطبيب الحاذق المحب إذا منع المريض شربة ماء وهو ظمآن وسقاه شربة دواء كريه أقصده إيذاء بل هو نصح وإحسان لما علم أن في إعطائه شهوة ساعة هلاكه رأسا والغرض من التشبيه الواقع في هاتين الجملتين بيان كمال الاعتناء والشفقة والمحبة» اهـ.
    قال ابن القيم –رحمه الله: «الأصل السادس: أن ابتلاء المؤمن كالدّواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته، أو نقصَت ثوابه، وأنزلت درجته، فيستخرج الابتلاءُ والامتحانُ منه تلك الأدواء، ويستعدُّ به لتمام الأجر وعلوّ المنزلة. ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "والذي نفسي بيده لا يَقضي الله للمؤمن قضاءً إلا كان خيرًا له، وليس ذلك إلا للمؤمن، إن أصابته سَرّاءُ شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضرّاءُ صبر فكان خيرًا له». اهـ ( إغاثة اللهفان لابن القيم –رحمه الله-، ص153).
    قال ابن القيم –رحمه الله: «وَمِنْ عِلَاجِهَا: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّهُ لَوْلَا مِحَنُ الدُّنْيَا وَمَصَائِبُهَا، لَأَصَابَ الْعَبْدَ مِنْ أَدْوَاءِ الْكِبْرِ وَالْعُجْبِ وَالْفَرْعَنَةِ وَقَسْوَةِ الْقَلْبِ مَا هُوَ سَبَبُ هَلَاكِهِ عَاجِلًا وَآجِلًا، فَمِنْ رَحْمَةِ أَرْحَمِ الرَّاحِمِينَ أَنْ يَتَفَقَّدَهُ فِي الْأَحْيَانِ بِأَنْوَاعٍ مِنْ أَدْوِيَةِ الْمَصَائِبِ، تَكُونُ حَمِيَّةً لَهُ مِنْ هَذِهِ الْأَدْوَاءِ، وَحِفْظًا لِصِحَّةِ عُبُودِيَّتِهِ، وَاسْتِفْرَاغًا لِلْمَوَادِّ الْفَاسِدَةِ الرَّدِيئَةِ الْمُهْلِكَةِ مِنْهُ، فَسُبْحَانَ مَنْ يَرْحَمُ بِبَلَائِهِ، وَيَبْتَلِي بِنَعْمَائِهِ كَمَا قِيلَ:

    قد ينعم الله بِالْبَلْوَى وَإِنْ عَظُمَتْ::: وَيَبْتَلِي اللَّهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
    فَلَوْلَا أَنَّهُ- سُبْحَانَهُ- يُدَاوِي عِبَادَهُ بِأَدْوِيَةِ الْمِحَنِ وَالِابْتِلَاءِ، لَطَغَوْا، وَبَغَوْا، وَعَتَوْا، وَاللَّهُ- سُبْحَانَهُ- إِذَا أَرَادَ بِعَبْدٍ خَيْرًا سَقَاهُ دَوَاءً مِنَ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ يَسْتَفْرِغُ بِهِ مِنَ الْأَدْوَاءِ الْمُهْلِكَةِ، حَتَّى إِذَا هَذَّبَهُ وَنَقَّاهُ وَصَفَّاهُ، أَهَّلَهُ لِأَشْرَفِ مَرَاتِبِ الدُّنْيَا، وَهِيَ عُبُودِيَّتُهُ، وَأَرْفَعِ ثَوَابِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ رُؤْيَتُهُ وَقُرْبُهُ». اهـ (الطب النبوي لابن القيم –رحمه الله-، ص134).


    9/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- راسخون في اعتقاداتهم، ثابتون على أقوالهم، لا تزحزحهم الخلافات، ولا تحركهم الاضطرابات.
    قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «وأما أهل السنة فما يعلم أحد من علمائهم، ولا صالح عامتهم رجع قط عن قوله واعتقاده، بل هم أعظم الناس صبرا على ذلك، وإن امتحنوا بأنواع المحن، وفتنوا بأنواع الفتن، وهذه حال الأنبياء وأتباعهم من المتقدمين، كأهل الأخدود ونحوهم، وكسلف هذه الأمة من الصحابة والتابعين، وغيرهم من الأئمة، حتى كان مالك رحمه الله يقول: «لا تغبطوا أحدا لم يصبه في هذا الأمر بلاء» يقول: «إن الله لابد أن يبتلي المؤمن، فإن صبر رفع درجته ««. اهـ (مجموع الفتاوى لابن تيمية –رحمه الله-، 4/35).


    10/ إن مشايخنا عند نزول البلاء –نحسبهم كذلك والله حسيبهم- يثقون بوعد الله عز وجل.
    فإن الله هو الحق وقوله حق، ووعده حق، وقد وعد أهل الحق بالغلبة والتمكين، والعز والنصر المبين.
    قال تعالى: ﴿وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا﴾ (الإسراء: ١٠٨)
    قال البقاعي –رحمه الله- في تفسير الآية:
    «(ويَقُولُونَ)؛ أيْ: عَلى وجْهِ التَّجْدِيدِ المُسْتَمِرِّ؛ (سُبْحانَ رَبِّنا)؛ أيْ: تَنَزَّهَ المُوجِدُ لَنا؛ المُدَبِّرُ لِأُمُورِنا؛ المُحْسِنُ إلَيْنا؛ عَنْ شَوائِبِ النَّقْصِ؛ لِأنَّهُ وعَدَ عَلى ألْسِنَةِ رُسُلِنا أنْ يَبْعَثَنا بَعْدَ المَوْتِ؛ ووَعْدُهُ الحَقُّ؛ فَلا بُدَّ أنْ يَكُونَ؛ ووَعَدَ أنْ يَأْتِيَ بِهَذا الكِتابِ عَلى لِسانِ هَذا النَّبِيِّ العَرَبِيِّ؛ وأوْصَلَ هَذا الوَعْدَ إلَيْنا في الكُتُبِ السّالِفَةِ؛ فَأنْجَزَ ما سَبَقَ بِهِ وعْدُهُ؛ (إنْ)؛ أيْ: إنَّهُ (كانَ)؛ أيْ: كَوْنًا لا يَنْفَكُّ؛ (وعْدُ رَبِّنا)؛ أيْ: المُحْسِنِ إلَيْنا بِالإيمانِ؛ وما تَبِعَهُ مِن وُجُوهِ العِرْفانِ؛ (لَمَفْعُولا)؛ دُونَ خُلْفٍ؛ ولا بُدَّ أنْ يَأْتِيَ جَمِيعُ ما وعَدَ بِهِ مِنَ الثَّوابِ؛ والعِقابِ».
    قال ابن القيم –رحمه الله-:«وَمِنْ مَنَازِلِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة: 5] مَنْزِلَةُ الثِّقَةِ بِاللَّهِ تَعَالَى.
    قَالَ صَاحِبُ " الْمَنَازِلِ ":الثِّقَةُ: سَوَادُ عَيْنِ التَّوَكُّلِ، وَنُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ، وَسُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ.
    وَصَدَّرَ الْبَابَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى لِأُمِّ مُوسَى: {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي} [القصص: 7] . فَإِنَّ فِعْلَهَا هَذَا هُوَ عَيْنُ ثِقَتِهَا بِاللَّهِ تَعَالَى، إِذْ لَوْلَا كَمَالُ ثِقَتِهَا بِرَبِّهَا لَمَا أَلْقَتْ بِوَلَدِهَا وَفِلْذَةِ كَبِدِهَا فِي تَيَّارِ الْمَاءِ، تَتَلَاعَبُ بِهِ أَمْوَاجُهُ، وَجَرْيَانُهُ إِلَى حَيْثُ يَنْتَهِي أَوْ يَقِفُ.
    وَمُرَادُهُ: أَنَّ الثِّقَةَ خُلَاصَةُ التَّوَكُّلِ وَلُبُّهُ، كَمَا أَنَّ سَوَادَ الْعَيْنِ: أَشْرَفُ مَا فِي الْعَيْنِ.
    وَأَشَارَ بِأَنَّهُ نُقْطَةُ دَائِرَةِ التَّفْوِيضِ إِلَى أَنَّ مَدَارَ التَّوَكُّلِ عَلَيْهِ، وَهُوَ فِي وَسَطِهِ كَحَالِ النُّقْطَةِ مِنَ الدَّائِرَةِ. فَإِنَّ النُّقْطَةَ هِيَ الْمُرَكَّزُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتِدَارَةُ الْمُحِيطِ، وَنِسْبَةُ جِهَاتِ الْمُحِيطِ إِلَيْهَا نِسْبَةٌ وَاحِدَةٌ، وَكُلُّ جُزْءٍ مِنْ أَجْزَاءِ الْمُحِيطِ مُقَابِلٌ لَهَا. كَذَلِكَ الثِّقَةُ هِيَ النُّقْطَةُ الَّتِي يَدُورُ عَلَيْهَا التَّفْوِيضُ.
    وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: سُوَيْدَاءُ قَلْبِ التَّسْلِيمِ؛ فَإِنَّ الْقَلْبَ أَشْرَفُ مَا فِيهِ سُوَيْدَاؤُهُ، وَهِيَ الْمُهْجَةُ الَّتِي تَكُونُ بِهَا الْحَيَاةُ، وَهِيَ فِي وَسَطِهِ، فَلَوْ كَانَ التَّفْوِيضُ قَلْبًا لَكَانَتِ الثِّقَةُ سُوَيْدَاءَهُ، وَلَوْ كَانَ عَيْنًا لَكَانَتْ سَوَادَهَا، وَلَوْ كَانَ دَائِرَةً لَكَانَتْ نُقْطَتَهَا.
    وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ يُفَسِّرُ التَّوَكُّلَ بِالثِّقَةِ، وَيَجْعَلُهُ حَقِيقَتَهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّفْوِيضِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُفَسِّرُهُ بِالتَّسْلِيمِ، فَعَلِمْتُ أَنَّ مَقَامَ التَّوَكُّلِ يَجْمَعُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
    فَكَأَنَّ الثِّقَةَ عِنْدَ الشَّيْخِ هِيَ رُوحٌ، وَالتَّوَكُّلَ كَالْبَدَنِ الْحَامِلِ لَهَا، وَنِسْبَتَهَا إِلَى التَّوَكُّلِ كَنِسْبَةِ الْإِحْسَانِ إِلَى الْإِيمَانِ. وَاللَّهُ أَعْلَم» اهـ. (مدارج السالكين لابن القيم -–حمه الله-، 2/142، من الشاملة).

    وفي الختام، ها قد انتظم هذا العقد الثمين، وتسلسلت خرزاته في عشر جواهر متلألئة في سماء الاستسلام لله عز وجل والانقياد لأمره ونهيه، والرضا بقضائه وقدره، ختمتها بالثقة بوعد الله عز وجل ليكون مدخلا للحلقة الثانية حيث سأتطرق إلى نقل أقوال المفسرين على سورة سورة القصص، محاولا إبراز المواطن التي جعلت الموضوع العام لسورة القصص هو: «الثقة بوعد الله عز وجل»، سعيا في زيادة اليقين بالله عز وجل عند ورود المدلهمات، ورجاء الربط على قلوب أهل الحق عند حلول المشكلات، والله وحده المأمول أن يصلح أحوالنا، ويشفي أسقامنا، ويهدي ضالنا، ويحسن مآلنا، والحمدلله الذي بنعمته تتم الصالحات.


    ------------------------------------------------------------------------

    (1) على رأسهم:
    أ‌- الشيخ العلامة المجاهد أبو أنس محمد بن هادي المدخلي –حفظه الله وكفاه شر الصعافقة المعتدين-.
    ب‌- شيخنا العلامة ريحانة المغرب أبو عبدالمعز محمد علي فركوس –عامل الله بعدله الشاتمين له والطاعنين. -
    ت‌- شيخنا الأصولي الفقيه عبدالمجيد جمعة –نصره الله على الكذبة المفترين-
    ث‌- شيخنا الوالد الصادق أزهر سنيقرة –رد الله كيد شانئيه من الفجرة الظالمين-
    إضافة إلى غيرهم من المشايخ الصادقين وطلبة العلم الواضحين ومن نحا نحوهم من السلفيين الأثريين.
    (2) جنة الرضا في التسليم لما قدر الله وقضا لأبي يحيى محمد بن عاصم الغرناطي –رحمه الله- بتصرف.
    (3) مقتبسة من درة مكنونة لأسد السنة رسلان الكنانة -متعه الله بالصحة والعافية- حيث يقول: « وكل كلمة ميتة، إلا إذا مُزجت عند النطق بها، أو عند كتابتها، بدم القلب، ودمع العين، وعرق الجبين».
    الملفات المرفقة
    التعديل الأخير تم بواسطة أبوعبدالرحمن عبدالله بادي; الساعة 2018-11-25, 01:51 PM.

  • #2
    جزاك الله خير الجزاء وأوفاه أخي عبد الله.

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خيرا أخي عبد الله، وبارك الله فيكم.

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيك وجزاك الله خيرا اخي

        تعليق


        • #5
          جزاك الله خيرا أخي عبد الله.

          تعليق


          • #6
            جزاك الله خيرا وبارك فيك ووفقك وسدد خطاك

            تعليق


            • #7
              جزاك الله خيراً

              تعليق


              • #8
                كذلك نحسب مشايخنا والله حسيبهم, جزاك الله خير الجزاء أيها الفاضل, على هذه الكلمات الطيبات المسليات, التي تشد من عضد كل سني, وتزيده بإذن الله يقينا إلى يقينة, وثباتا على ما هو عليه من حق بين أبلج, لا يعمى عنه إلا من طمست بصيرته قبل بصره..

                تعليق


                • #9
                  جزاك الله خيرا اخي عبد الله وبارك فيك.

                  تعليق


                  • #10
                    جزاك الله خيرا كلمات مسليات ووقفات حوت في ثناياها الكثير من العظات نسأل الله العظيم أن يكفي مشايخنا حقد الحاقدين وكيد الكائدين وشر الحاسدين آمين

                    تعليق


                    • #11
                      جزاك الله خيرا وبارك فيك أخي الكريم. وبارك الله في مشايخنا الفضلاء وعلما\نا الأجلاء.
                      غفر الله له

                      تعليق


                      • #12
                        بارك الله فيك أخي عبد الله وزادك الله علما وحرصا.
                        اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
                        وسيم بن أحمد قاسيمي -غفر الله له-

                        تعليق


                        • #13
                          بارك الله فيك أخي عبد الله على هذه المقالة النافعة وجزاك الله خيرا ، وأسأل الله تعالى أن يرزق جميع مشايخنا المحمدان والأزهر وشيخنا الوقور الحيي الشيخ جمعة وإخوانهم السلفيين الصبر والتوفيق الثبات وأن يغفر لنا ولهم جميعا وأن يتوفانا - كما قال الإمام أحمد رحمه الله - على الإسلام والسنة

                          تعليق


                          • #14
                            بارك الله في جميع من علق وشجع، ودعا وتضرع، وأسأل الله جل في علاه أن يتقبل دعائكم، وأن يجزيكم خير الجزاء، وأن يعطيكم بمثل ما دعوتم وزيادة عليه.

                            كما أشكر الإخوة المشرفين في هذا السرح المبارك، بارك الله في جهودهم، ونفع الله بهم.

                            تعليق


                            • #15
                              نسأل الله أن يرزقك السرور في الدنيا و الآخرة كما سليتنا بمقالك الطيب هذا.

                              تعليق

                              الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 3 زوار)
                              يعمل...
                              X