<بسملة1>
ركوب المغمّضة والمعمّة
ركوب المغمّضة والمعمّة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعى آله وسلم أما بعد:
فإن الله عزوجل حكيم في قضائه وقدره، له الحجة البالغة والحكمة الباهرة فيما يدبره ويشاؤه، فربنا سبحانه لطيف لما يشاء، وإن مما قدره اختلاف الأمة في الآراء والمذاهب كما قال سبحانه: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم) [هود:118-119]، وعند الاختلاف لم نؤمر باتباع شخص بعينه سوى نبينا صلى الله عليه وسلم، وأما غيره فالخطأ طبيعته والزلل غريزته كائنا من كان، ولذلك أمرنا الله عز وجل بالرجوع إلى العصمة عند وقوع الاختلاف؛ وهي لزوم الكتاب والسنة قال صلى الله عليه وسلم: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا) [النساء:59].
ولزوم اتباع الكتاب والسنة بأن يعمل بالمحكم منهما ويرد المتشابه إلى المحكم الواضح، فهذا السبيل الذي ينبغي أن يقتفى والمسلك الذي يليق أن ينحى.
وإن الدعوة السلفية في أيامنا هذه لتمرّ بأحداث جسام ومحن عظام، اقتحمت الديار وفرقت بين مَن كان مِن الأحبة والأخيار، كشفت القناع عن وجوه وحسرت اللثام عمن كان متدرعا بجلباب التلون والتعالم المكروه، ولكن من أهم ما لاحظته ولاحظه غيري –في هذه الأحداث وقبلها- تطاول الأحداث وصغارِ السن والعلم على أهل العلم والعلماء، وهذا التطاول لم يقتصر على عدم اتباع العلماء أو بعضهم عند الخلاف، بل تجاوز إلى لمز ونبز في الخفاء وطعن وغمز دون استحياء، ثم لم يتوقف بهم حب الظهور وهوى مخالفة أهل العلم والنفور عند هذا الحد، حتى بدأ يصدر منهم ما فيه تحذير من أهل العلم الصادقين؛ مرة تلميحا ومرات تصريحا، إلى أن بلغ بهم الحال ما استفظعته واستبشعته من أمثال هؤلاء، وهو جعل سلسلة في الرد على شيخنا العلامة أبي عبد المعز –زاده الله علما وتوفيقا-، وهذه الحال الخطيرة التي بلغها الشباب تجاه علمائهم هي التي حفّزتني لكتابة هذه الكلمة، سيما وفي خلَدهم، وما سنح في فكرهم، وجال في خاطرهم، أن ما يقتحمونه من تهورهم إنما هو نصرة للحق، وبيان للسبيل! فرأى الناس منهم نواقر وشتائم تجاه أشياخهم الذين كانوا بالأمس القريب علماء حلماء، ثم صاروا أصحاب جهل وأهواء، وأوصاف أتورع من ذكرها، فنعوذ بالله من قوارعهم ولوادغهم ولواذعهم.
وقد بدأت هذه الأحداث –بالجملة- بانتقاد الشيخ العالم محمد فركوس حفظه الله -ومن معه من إخوانه- جملة من الانتقادات لمشايخ وطلبة علم في دار الفضيلة، وذلك بعد معاشرة لهم منذ سنين تصرمت، ومعرفة بهم من أعوام تجرّمت، فأحدث هذا الموقف نوعا من التصدع مس الدعوة السلفية، وسبّب شيئا من الخرق والفتق، بيْد أن ما حدث كان صالحا للترقيع، وما وقع كان قابلا للرأب والترصيع بشيء من حكمة الأشياخ، وحنكة أهل العلم، وقبل ذلك وبعده توفيق رب الأرباب الفعال لما يريد عزوجل.
إلى أن دخل في الأحداث الأحداث! فتسلقوا ما لم يحسنوا وتسوروا ما لم يتقنوا، وقد نصحهم الناصحون من الأشياخ العالمون بالشرع وبمن انتُقدوا، ولكن تمادى هؤلاء الصغار في غيهم وأمعنوا في إساءتهم ولجوا في غلَوائهم، فتضاءل أمل عودة الاجتماع، وتلاشى طمع أوبة الائتلاف، فكان هؤلاء من أعظم الأسباب –مع أسباب أخر- في استوساع الوهي، واستنهار الفتق، وتفاقم الصدع، واستفحال الفساد... ومن الله العون والسداد، وصدق القائل:
إن الأمور إذا الأحداث دبرها * * * دون الشيوخ ترى في سيرها الخللا
ومن البواعث الحاملة لهؤلاء على تجنيهم:
1-التضرم من سوء الحال التي آل إليها أمرهم -ومن على شاكلتهم- بعد الظهور والبروز والعز... إلى تصرم الخلان، وقلة الأعوان، ونقص للأموال وضيق في الأحوال بما هو معروف عند من يعلم حالهم مفتتحا ومكررا، آنفا وباديا، سالفا وحادثا...
2-تشجيعٌ – وللأسف - ممن في قلبه تجاه الشيخ سخائم ودِمن، أو ممن في مخبآت صدره أهواء ومحن، فجرّؤوا هؤلاء الأحداث على الكتابة تشهيرا بأهل الفضل، فصار يكتب كل من شاء الكتابة، ويشجَّع كل من يتعالى على العلامة الشيخ فركوس –وإخوانه- ولو كان الكاتب والناشر جاهلا مأْفونا أنْوكا، ولو في كتابته العي والركاكة، والغباوة والغَبانة، ومع ذلك يثنى عليه ويشكر مادام في صفهم وضد الشيخ وإخوانه، فرفعوا خسيسة هؤلاء النوْكى، ومددوا بضبعَيْهم، وتمموا نقيصتهم، ومن أمثلة ذلك ما قرأته مؤخرا عن أحدهم في مهزلة بلغت السبع عشرة صفحة ملأها شتما وأفيكة، ومينا وعضيهة، ومع ذلك يقرضه ويزكيه من أصابه ما أصاب القوم على مر الأيام ومضي الزمان، وكما قيل:
والمرء يُبْليه بِلاء السربال * * * مر الليالي وانتقال الأحوال
3-على أن الداء العضال الذي أصاب هؤلاء وغيرهم كثير، والمرض العُقام الذي مس قلوب وعقول أولئك ومعهم جم غفير؛ هو التخلق بأخلاق لا تليق بطالب علم، وأنبه هنا إلى خُلُقين ذميمين ومهلكين عظيمين هما –في نظري- من أكبر ما أورد أولئك الموارد: العُجب والعجلة.
وأنا الآن لست بصدد تأصيل الكلام عليهما، بل أشير إليهما لأربط بينهما وبين ما يجري في الساحة، حتى يقف العاقل على مدى تأثيرهما في نفسية الشباب ممن ينتسب للعلم ويحسب نفسه أنه قد بلغ منزلة العلماء:
أولا: العجب:
العُجْب، وهو أن يتكبَّر الإنسان في نفسه، تقول: هو مُعجَبٌ بنَفْسِه. [معجم مقاييس اللغة: 4/243].
وقال الزبيدي: (والعُجب –بالضم-: الزهو والكبر، ورجل معجب: مزهو بما يكون منه حسنا أو قبيحا، وقيل: المعجب، الإنسان المعجب بنفسه أو بالشيء، وقيل: العجب: فضلة من الحمق صرفتها إلى العجب)[تاج العروس:3/318].
ونصوص الكتاب والسنة المرهِّبة والمنفرة من داء العجب كثيرة، وليس هذا محل بسطها، واعلم أن العجب أصل خطير، ويكفيك أن تتنبه أن الكبر وما أدراك ما الكبر يتولد من العجب ويتفرع عنه قال ابن حزم: (العجب أصل يتفرع عنه التيه والزهو والكبر والنخوة والتعالي وهذه أسماء واقعة على معان متقاربة ولذلك صعب الفرق بينها على أكثر الناس)[مداواة النفوس:ص75].
وللعجب متعلقات كثيرة، الذي يهمنا هنا ما كان تعلقه بالعلم فإن المرء (إن أعجب برأيه وعمله وعقله منع ذلك من الاستفادة، ومن الاستشارة والسؤال، وربما يعجب بالرأي الخطأ الذي خطر له فيفرح بكونه من خواطره ولا يفرح بخواطر غيره، فيصر عليه ولا يسمع نصح، ولا وعظ واعظ، بل ينظر إلى غيره بعين الاستجهال، ويصر على خطئه)[الإحياء:5/184].
ولذا فيحسن بطالب العلم أن ينظر فيمن ينتقده فهو أدعى لتواضعه، قال ابن حزم: (وإن أعجبت بمدح إخوانك لك، ففكر في ذم أعدائك إياك فحينئذ ينجلي عنك العجب فإن لم يكن لك عدو فلا خير فيك، ولا منزلة أسقط من منزلة من لا عدو له فليست إلا منزلة من ليس الله تعالى عنده نعمة يحسد عليها عافانا الله)[مداواة النفوس:ص71].
وما لا ينبغي إغفاله، أن للعجب أسبابا كثيرة ومن أهمها –خاصة في هذه الأحداث-: كثرة مديح المتقربين وإطراء المتملقين، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (المدح ذبح) وقال ابن المقفع: (قابل المدح كمادح نفسه)، وقال بعض الحكماء : (من رضي أن يمدح بما ليس فيه فقد أمكن الساخر منه).
ويقول الإمام الماوردي رحمه الله: (وهذا أمر ينبغي للعاقل أن يضبط نفسه عن أن يستفزها، ويمنعها من تصديق المدح لها، فإن للنفس ميلا لحب الثناء وسماع المدح، فإذا سامح نفسه في مدح الصبوة، وتابعها على هذه الشهوة، تشاغل بها عن الفضائل الممدوحة، ولها بها عن المحاسن الممنوحة، وهذه خدعة لا يرتضيها عاقل ولا ينخدع بها مميز، وربما آل حب المدح بصاحبه إلى أن يصير مادح نفسه، إما لتوهمه أن الناس قد غفلوا عن فضله، وأخلوا بحقه، وإما ليخدعهم بتدليس نفسه بالمدح والإطراء، فيعتقدون أن قوله حق متبع، وصدق مستمع، وإما لتلذذه بسماع الثناء وسرور نفسه بالمدح والإطراء، ولأي ذلك كان فهو الجهل الصريح، والنقص الفضيح)[أدب الدنيا والدين:ص192 فما بعدها -بتصرف يسير- وكذا الآثار المذكورة هي في نفس الكتاب].
فالتوسع في المدح لم يكن عليه السلف رحمهم الله، خاصة في الصغار فلا يؤمن من أحدهم الغرور –كما هو الواقع- فلا تزال نفس أحدهم تنتفخ به حتى يرى أنه أهلا لتخطئة شيوخه، وأنه جدير بالنظر فيما يصلح للدعوة السنية، متقدما في ذلك بين يدي العلماء وعلم الفقهاء، وكل عاقل يعلم أن طالب العلم من أعظم ما ينبغي أن يتحلى به هو الكرم وضده اللؤم، فالكريم: شريف نفيس، واللئيم: طفيف خسيس، وطالب العلم اللئيم؛ الذي لا يرعى فضل شيوخه عليه –باعترافه أن لهم عليه فضل- وتراه ينتقص منهم، فهذا النوع -لا كثرهم الله- تجد أن طريقه مسدود وفهمه مصدود، وكم هو الفرق شاسعٌ بين الكريم واللئيم
هيهات بين اللؤم بَون والكرم* * * أبعدُ مما بين بُصرى والحرم
ومن علامات ذلك أنه إذا زجره شيخه عن فعل أو قول استشاط الغلام واحتدم، واغتاظ وتبرّم، وربما تعذر بأنه أعلم من الشيخ بالواقع وأدرى منه بحال الرجال المتكلم فيهم، والعجيب أن العالم –فيما نحن بصدده- على معرفة بمن انتقدهم قبل أن يولد بعض هؤلاء الأحداث، فليت شعري كم هو الفرق بين موقف هؤلاء وبين موقف ابن المبارك رحمه الله من أقرانه –وليس شيوخه- لما حذروا من رجل يعرفه على الخير، وذلك فيما أورد الذهبي في ترجمة الحسن بن دينار التميمي من ميزان الاعتدال (1/487) قائلا: ((وقال ابن المبارك: اللهم لا أعلم إلا خيرا، ولكن وقف أصحابي فوقفت))، وقد قيل قديما: (رأي الشيخ خير من مشهد الغلام) فكيف إذا كان الشيخ شاهدا وصائبا وثاقبا، وبصيرا وسديدا!! تجد الواحد من هؤلاء لا يسعه إلا اللجاج في الخصومة، والانهماك في الغواية، والتتابع في العماية، والتهافت في الضلالة! فلا تجدهم –في حدود من أعرف- ينزجر وينتهي، أو يرتدع ويرعوي، بل إذا نُصح بالتريث والتوقف –على الأقل- حتى تنقضي الفورة وتنكشف الحزة والوهلة، رماك بالتقاعس عن نصرة الحق، والجبن في موقف الصدع! ونحن نتحنى أن تنقلب عليهم القضية، وتلك عين الرزية! فينصروا الباطل والغواية، ويُغمضوا عن الحق والهداية، بلا علم منهم ولا بصر ولا دراية، ومع ذلك فنقابَل بالتعنيف والتقريع، والافتراء والتشنيع، فبعد أن كنا نعرف بعضهم على دماثة خلق إذ ينكشف لنا شرسا شكسا ضرسا! ولله في خلقه شؤون، وكما قال القائل:
تحنَّى عليك النفس من لاعِج الهوى* * * وكيف تُحنِّيها على من يُهينها
فكيف ومرور الأيام لا تزيد الأمر إلا بيانا وإسفارا، ومضي الزمان لا يفضي على الواقع إلا وضوحا وإزهارا؟! أعني في صدق ما أُخذ على دار الفضيلة.
وهنا أمر مهم فُتن به الكثير ممن يتشوف للكتابة مستعينا بالنت في ذلك؛ وهو أن العلم ليس بكثرة الكتابة، ولا بوفرة المنشورات، ولا بكثرة الكلام والرواية، بل العلم هو خشية الله، فأعلم الناس بالله هو أخشى الناس لله، ولذا قال تعالى:(إنما يخشى الله من عباده العلماء) [فاطر:28]، وقد سئل سعد بن إبراهيم عن أفقه أهل المدينة، قال: (أتقاهم لربه عزوجل)[تاريخ دمشق:20/218].
والخشيان من الله إنما يكتب ويفعل ويقول ما يستعد لجوابه يوم القيامة، لأنه يخشى الحساب المفضي إلى العقاب، يخشى أن يكون آذى مسلما بشيء والنبي صلى الله عليه وسلم يقول «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»[البخاري:10]، وإذاية اليد تشمل الكتابة، بل الكتابة أشد من الضرب باليد، إذ أنها قد تعم الأحياء والأموات، الحاضرين والغائبين[أشارإلى هذا ابن حجر في الفتح]، فكيف إذا آذى نُخبةَ الناس وشُرْفتهم ونقاوتهم؟ وهم أهل العلم والفضل والسنة، فكيف -مع هذا- إذا آذى الدعوة السلفية؟ نسأل الله أن يصلح حالهم.
ثانيا: العجلة:
وهي: طلب الشيء وتحريه قبل أوانه. [مفردات غريب القرآن:ص323].
أو هي: تقديم الشيء على أوانه المضروب أو المقدَّر له أو الموعود به [تفسير المنار:11/311]، وكانت العرب تكنيها: أم الندامات[روح البيان:5/368]، ذلك أن العجول لا يوجد إلا نادما وأغلب تصرفاته مآلها إلى الندم و الحسرة، قال أبو حاتم رحمه الله : (العجلة موكل بها الندم وما عجل أحد إلا اكتسب ندامة واستفاد مذمة لأن الزلل مع العجل، والإقدام على العمل بعد التأني فيه أحزم من الإمساك عنه بعد الإقدام عليه ولا يكون العجول محمودا أبدا)[روضة العقلاء: ص217]
وهي من الصفات الذميمة الواجب معالجتها بالتهذيب الشرعي، فكم جر هذا الخلق على صاحبه من بلايا، وفوت عليه من خيرات ومزايا، والنفس تستثقل ما ينفعها وتتكاسل عن كسبه ولو كان من الفضائل، وكذلك العجلة لها متعلقات كثيرة، الذي يهمنا ما كان متعلقا بطلب العلم، فليعلم أن أبعد الناس عن بركة العلم الذي يرمي لطلبه بسرعة، ويتكلف استيعابه في أوجز وقت، ويتعجل ثمرة العلم قبل أوانها، فيتزبب قبل أن يتحصرم، و صدق أخو زهرة[الإمام الزهري] لما قال: (إن هذا العلم إن أخذته بالمكابرة له غلبك، ولكن خذه مع الأيام والليالي أخذا رفيقا تظفر به)[الجامع لأخلاق الراوي:1/157].
فالآخذ بهذه الوصية بصدق تجده متأنيا وقورا حريصا على التخلق بأخلاق السلف، بعيدا عن التكلف معتنيا بما ينفعه في الآخرة: (فالله يحب مَن عنده العلم والأناة، فلا يعجل بل يثبت حتى يعلم ويستيقن ما ورد عليه، ولا يعجل بأمر من قبل استحكامه فالعجلة والطيش من الشيطان). [مفتاح دار السعادة:1/445].
ولكن –للأسف- رأينا عكس ما أوصانا به أسلافنا، فرأينا كثيرا ممن ينتسب للعلم عجولا نزقا نهقا، طائش الحِلم، يقول ما تبادر إلى ذهنه، ويكتب ما هجس في ضميره، وينشر ما علِق بوهمه، فيكثر من ذلك مستعينا بالنت، ويحسب نفسه من أهل العلم المرجوع إليهم، ولا زال أترابه ولِداته يثنون عليه بذلك، فتجد الواحد منهم يطلق لسانه ولا يزمُّه، ويهمله ولا يضمُّه، ويرسله ولا يكفُّه، وفي ذلك كله الفساد بعد الإصلاح، والله الهادي.
هذا وقد ساءني –كما ساء كل منصف- ما تحمّس إليه هؤلاء وهيؤوا له أنفسهم وأنفقوا فيه أوقاتهم وهو جعل سلسلة كشف مواقف الشيخ العلامة فركوس، وكأن هؤلاء الصغار يريدون إقناع الناس أن انتهاج سبيلهم في الطعن والإزراء بمشايخ العلم -وعلى رأسهم شيخنا العلامة فركوس- والتجرؤ على اقتحام الصعب والذلول للغمز بأهل الفضل، وأن اقتفاء أثرهم في هذا الطريق الدارس الدنيِّ والمسلك الداثر الخفي هو بيان للحق ورد للخطأ وكشف للزلل! وما علم أولئك أنهم بفعلهم هذا قد استوْروا زناد الفتنة وحلوا عِقالها وأصلتوا سيفها وأحيوا معالمها فما أقبح أثرهم على الناس، بالله عليكم! أو نستبدل حكمة الأشياخ بطيش الغلمان؟! أو نستعيض بعلم الشيخ بالشرع وبواقع بلده وأهل بلده مدة طويلة بقلة بضاعتكم في هذا الميدان؟! أو نترك شيخا عالما عجمته الخطوب وحنكته التجارب ووقرته الأحداث وأدبه الزمان وراضه الملَوان وثقفه الجديدان إلى واهن الرأي، قصير النظر؟!.
نظرة سريعة على مطلع الطليعة:
ولأجل ذلك ظهر في طليعة هذه السلسلة المشؤومة بعض آثار ما ذكرته آنفا، وفي قراءة سريعة رأيت أنهم اضطربوا عند مطلع الطليعة في أهم سؤال يطرح عليهم، وهذا السؤال سيسألون عنه بين يدي ربهم –وهو أعلم بذخائر النفوس عزوجل- ذلك السؤال هو: ما الدافع والباعث لكتابة هذه الصفحات ونشرها بين الناس في منتدى يزعم أصحابه أنه منتدى هداية للتوحيد والسنة؟! أدع الجواب لهم، فقد قالوا: (ومن هذا المنطلق السلفي رأت «إدارة منتديات التصفية والتربية» أن تشرع في سلسلة: «النقد العلمي لأقوال ومواقف الشيخ فركوس» والمقصود منها نقد ما صدر من الشيخ فركوس في الفتنة الأخيرة)
هذا ما كتبوه في هذا الموضع، ثم بعد بضعة أسطر عالنوا الناس بالحقيقة فقالوا: (وقد رأينا -تحقيقا للغرض المنشود- أن نجعل صدر هذه السلسلة ما انتقده العلماء على الشيخ فركوس من مواقف وأقوال في هذه الفتنة الحادثة، ثم نتبع ذلك بالمقالات العلمية التي يكتبها المشايخ وطلاب العلم الثقات في نقد أقواله ومواقفه عامة، سواء منها ما تعلق بهذه الفتنة، أو ما كان قبلها مما سكت عنه المشايخ والطلاب، سترا منهم للشيخ ورغبة في اجتماع الكلمة...).
وهنا جملة من الوقفات المهمة، أقتصر منها على ثلاثة:
1- ذكر الأحداثُ شروعهم في كتابة سلسلة النقد للشيخ العالم فركوس والمقصود منها ما تعلق بهذه الفتنة، ثم أعمقوا في كلامهم وأوسعوا في عبارتهم ليعم أقواله ومواقفه عامة! في هذه الفتنة –على تعبيرهم- وغيرها، وهكذا ليكن خلق طالب العلم وأدبه مع شيوخه وعلماء بلده، وصدق القائل:
ليس الفتى كل الفتى* * * إلا الفتى في أدبه
وبعض أخلاق الفتى* * * أولى به من نسبه
وهذا مما أصيب به كثير ممن ينسب نفسه للعلم وأهله، تجده ليس على أدبهم وأخلاقهم، ومما جاء عن الليث رحمه الله أنه قال: (أنتم إلى يسير من الأدب أحوج منكم إلى كثير من العلم)[أالجامع للخطيب:966]، وقال أبو بكر محمد بن علي الكتاني:(الورع هو ملازمة الأدب وصيانة النفس)[الزهد للبيهقي:869].
والعاقل يفعل ما هو أجمل في الأحدوثة وأزين في السمعة وأحسن في الذكر، لا أن يفعل ما يشينه ويقبح به، فهم بهذا الصنيع قد أصيبوا في أدبهم وعقلهم، وأما العلم فمثَلهم ومثل الشيخ كقول القائل:
صادف درءُ السيل درءا يدفعه يهيضه حينا وحينا يصدعه
ثم عملهم هذا يحمل –بشكل أو بآخر- على الزهد من علم الشيخ وغسل الأيدي عن الإفادة منه، ولعله قد تجرأ البعض بهذا المقصد وجبن آخرون، وأي كان فالشيخ –فيما علمنا والله حسيبه ولا نزكيه على الله- قد بيَّنت مواقفه -من زمن بعيد- أنه لا تضعضعه النوائب، ولا تهده العظائم، ولا تصرعه الشدائد، وذلك بفضل الله وتوفيقه له، وأما في العلم والفقه فالشيخ طلاعُ أنجد، قد بان شأوه، فلا يطمع في مداناته ولا يجرى في مضماره، ولا يشق غباره ولا يثنى عنانه، في بلدنا وبلاد كثيرة، وهذا بشهادة الفحول من أهل العلم، وشواهد الامتحان تدل على ما قلت، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، ومع هذا فقد ارتاحت له النفوس واطمأنت إليه القلوب في الرجوع إليه والأخذ عنه، فالشيخ عرف بالسنة وعرفت به في بلدنا، فقد حسم عن الناس معرة الصوفية وكلَب التكفير وعادية الإخوان وعبالة أصناف المبتدعة بلا نكس ولا فسْل، فاصطلمهم الله به، وقطع نظامهم وعفّى آثارهم، أفيقال بعد هذا أنه ضعيف في المنهج، أو أنه جاهل بالطوائف والفرق؟ والله قد رأيناه خواضا للغمرات غيورا على الدعوة السلفية، وأقول هذا مع اعتقادي التام أن الشيخ يصيب ويخطئ، وأنه ليس بمعصوم ولا أحد من أئمة العلم ولا حتى صحابة نبينا ïپ²، والشيخ –إن شاء الله- قليل السِّقاط، ولكل صارم نبوة ولكل جواد كبوة، وفوق ذلك فهو يصرح في كل مرة أن من وجد له خطأ فهو مستعد للرجوع عنه، فهو –جزاه الله خيرا- واسع الصدر متواضع لإخوانه، ولكن لكل موضوع بابه الذي يدخل منه، وباب نصيحة العلماء معروف عند صغار طلبة العلم، وليس المقام مناسب لذكر ذلك، فقد تكلم عليه العلماء كالخطيب في الجامع وكذا ابن عبد البر وقبلهما الآجري في أخلاق العلماء وغيرها من كتب السلف، فعلى أولئك أن يزنوا أنفسهم بميزان تلك الكتب ففيها الخير لطالب العلم.
2- قولهم: (مما سكت عنه المشايخ والطلاب، سترا منهم للشيخ ورغبة في اجتماع الكلمة..) فهمنا من هذه العبارة الغريبة أن الشيخ لو لم يقع فيما اغتظتم من أجله وامتعضتم بسببه لبقي المشايخ والطلاب –هكذا!!- ساترون على الشيخ أخطاءه وبلاياه، ونفهم أن هذا هو مسلك النصيحة لأئمة المسلمين وعامتهم! فما نصحتم بحق ولا سكتم بصدق! بل تكلمتم بالباطل والفتنة وسكتم عن نصح الشيخ غشا وخيانة، وهل نُصْح الشيخ لتصحيح خطئه ينافي تحقيق اجتماع الكلمة والستر عليه؟! ولكن الذي يحدث الفتنة ويتدرع جلبابها ويستفتح بابها هو عين ما تصنعونه، وهكذا لما تسقم الضمائر وتمرض الأهواء وتكل البصائر وتغلُظ الأكباد تنعكس القضية على مريض الطوية والله العليم بمكنون السريرة والنية.
3- من الأقوال والمواقف التي انتقدها هؤلاء قولهم: (4-نشر قواعد وآراء مخالفة للمنهج السلفي) وأنا في الحقيقة بقيت أتأمل في كلام هؤلاء الأحداث، فمن ينشر قواعد تخالف المنهج السلفي ماذا بقي له في السلفية؟ فهو إذاً ينشر قواعد بدعية! لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال! وهذا لازم لا محيد عنه لكلام هؤلاء، فما أحوج لهم أن يغلقوا عنهم جهاز الكتابة، فكتب الشيخ قد سارت بها الركبان، وأثنى عليها العلماء الكبار في البلدان، وفتاوى الشيخ ومواقفه مشهورة عند الأنام، فأنتم بهذا الاتهام حطبتم على ظهوركم، وبحثتم على حتفكم، وجنيتم على أنفسكم، وكما قيل: (لا يحزنك دم أراقه أهله)، وما أنصح أهل الحديث لما أشاروا أن لا يستعجل الطالب في الكتابة حتى يبلغ سنا يؤمن فيها طيش حلمه، وشهوة نفسه بأن يكمل في عقله ويتزن في نفسه، والله المستعان.
هذه نقاط مهمة لفتت بصري عند قراءة طليعتهم سريعا، ولم أشأ تتبع كل كلامهم، وليس لي عناية بمطالعة كتابة القوم منذ بدؤوا حمل القلم إلا النزر الحقير، بل كنت أكره من أكثر هؤلاء الأحداث -بل كلهم- الكتابة في بعض الموضوعات التي تكبرهم، ولكن: خلى الميدان لأبي حمدان.
ثم بعد اللَّتيا والتي يقال: هذه الحال التي يتباكى من أجلها هؤلاء ومن يؤزهم، ما كان من بترها وفريها وجذِّها سوى رجوع المخطئ، واستفاقة الغافل، وانقماع المذنب، وارعواء المقصر، وارتداع المخالف، والحاصل: دخول الجميع تحت ظل الكتاب والسنة وما كان عليه سلف الأمة، ومن ذلك التعامل وفق منهجهم مع المخالفين وترك التلون في الدين، ولكن والله ما رأى الناس منكم سوى الانهماك في الغواية، والمضي في العَماية، والتهافت في الضلالة، والتسكع على الباطل، والإيجاف في الغي، ثم مع ذلك يُنحنى بالملائم والملاوم واللوائم على المنكِر للباطل والصداع بالحق، وأنه المفرق وصاحب الفتنة ويرمى بكل وصف شنيع وخلق وضيع.
إن ما تفعلونه مخُوف العقبى عليكم وبيل العاقبة بكم، لا تؤمن لواحقه، فأنتم بهذا الصنيع -ومن يؤزكم وينصركم- صيرتم أنفسكم ومنتداكم ومواقع التواصل الخاصة بكم؛ مبرك الفتنة ومنجم الباطل ومنبع الضلالة ومغرس الفرقة والفتنة، وقد طرّقتم أهل البدع على أهل السنة، فإن رؤوس البدع الذين قلم الشيخ أظفارهم وفلّل حدهم وكسر شوكتهم بمقالاته ما تجرؤوا على التافه مما تورّدتم عليه وتسلقتم إليه، والله المستعان.
إن دعوة التوحيد والسنة تحتاج إلى تظافر جهود الصادقين، والأمة متعطشة للوحي المبين، فلا تشغلوها بما تُنمنمونه من الباطل وتنمقونه من كل عاطل، بل ضعوا أيديكم مع أيدي إخوانكم في هذا السبيل، واستغلوا أوقاتكم في الاستزادة من التعلم والتحلم، وما يرجع بالنفع للأمة، فإن الكثير من أبنائها مازال قيد شبهته وأسير شهوته، فإن أبيتم إلا ركوب المغمضة والمعمة، فإن أهل الصدق مقبلين في دعوة الحق على منهج نيبهم ïپ²، فيطؤون موطئ قدمه ويقتفون سيرته ومعالمه عملا بقول الله تعالى:(قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين) [يوسف:108].
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه، وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
كتبه: د صالح الكشبور
عشية الإثنين 05 ربيع الأول 1440 ل12-11-2018
عشية الإثنين 05 ربيع الأول 1440 ل12-11-2018
تعليق