<بسملة1>
رسالة في أقسام وأنواع الكفر
الحمد لله الذي هدانا للإسلام وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله، والصلاة والسلام على رسول الله خير من دعا للإسلام وعلى آله وصحبه ومن اتبع هداه.
أما بعد :
فهذه رسالة وجيزة تناولت فيها شيئاً يسيراً من أقسام الكفر وأنواعه، نسأل الله جل وعلا أن ينفع بها كما أسأله تعالى أن يحفظ علينا إيماننا وإسلامنا إن ربنا لسميع الدعاء .
الكفر لغةً : الستر والتغطية .
وشرعاً : عدم الإيمان بالله ورسوله .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- في مجموع الفتاوى الجزء الثالث (ص-202)، " كل من لم يقر بما جاء به الرسول فهو كافر، سواء اعتقد كذبه، أو استكبر عن الإيمان به، أو أعرض عنه اتباعاً لما يهواه، أو ارتاب فيما جاء به، فكل مكذّب بما جاء به فهو كافر وقد يكون كافر من لا يكذبه إذا لم يؤمن به " انتهى
وقال أيضاً في الجزء الثاني عشر(ص- 189)، " الكفر عدم الإيمان بالله ورسوله، سواء كان معه تكذيب أو لم يكن معه تكذيب، بل شك وريب أو إعراض عن هذا كله حسداً أو كبراً أو إتباعا لبعض الأهواء الصارفة عن اتباع الرسالة وإن كان الكافر المكذب أعظم كفرا، وكذلك الجاحد المكذب حسدا مع استيقان الرسل" انتهى .
فالكفر الأكبر يناقض الإيمان بالكلية وصاحبه على غير السبيل قال تعالى: {وَمَن يَتَبَدّلِ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ فَقَدْ ضَلّ سَوَآءَ السّبِيلِ} [البقرة: 108]،
والكفر بالله يخرج صاحبه من ملة الإسلام، ويوجب الخلود في النار، ويحبط جميع الأعمال ويكون صاحبه حلال الدم والمال، ولا تناله شفاعة الشافعين، ويوجب العداوة الخالصة بين صاحبه وبين أهل الإيمان، فلا يحب ولا يوالى ولو كان أقرب قريب قال تعالى: {لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ} [المجادلة:22]، وقال جل وعلا: {إِنّ الّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَوْلَـَئِكَ هُمْ شَرّ الْبَرِيّةِ} [سورة: البينة 6]، فأهل الكفر توعدهم الله بالجحيم والعذاب الأليم، كما قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [ المائدة: 10]، و قال جل وعلا: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة:39]، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [الحج: 57]، ويقول تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَياَتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيم} [الجاثية: 11]، وقال سبحانه وتعالى: {كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [آل عمران: 11]، أي : بسبب استكبارهم وإعراضهم عن الحق ،وكفرهم وتكذيبهم استحقوا هذا العقاب والعذاب الأليم والخلود في نار الجحيم والعياذ بالله .
والكفر يكون بالتكذيب، وبالإباء والاستكبار، و بالشك، و بالإعراض، و بالاعتقاد، فمن لقي الله جل وعلا بواحد منها كفر كفراً يخرج من ملة الإسلام نسأل الله السلامة والعافية .
والكفر الأكبر خمسة أنواع :
النوع الأول كفر التكذيب والجحود: والدليل قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَما جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ} [العنكبوت:68].
وقد وقعت الأمم السابقة في هذا النوع من أنواع الكفر مع رسلهم عليهم الصلاة والسلام، كما في قوله تعالى عن قوم نوح : {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، وقوله تعالى عن قوم عاد: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 123].
فمن كذب الرسل أو كذب ما جاؤوا به أو بعض ما جاؤوا به فقد كفر وخرج من ملة الإسلام، مثل أن يكذب بالقرآن أو بأية من آياته، أو بسنَّة النبي صلى اللهُ عليه وسلم الثابتة عنه أو بالبعث بعد الموت أو بالجنة أو النار وهو يعلم، فهو كافر كفرا أكبر، قال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 39]، وقال تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [الحج: 57]، فبسبب كفرهم وتكذيبهم لما جاء به الرسل عليهم الصلاة والسلام استحقوا الخلود في النار والعذاب المهين.
والإيمان بالرُّسل وبما جاؤوا به واجبٌ من واجبات الدِّين ورُكنٌ عظيم من أركان الإيمان، وأصلٌ من أصوله المنصوص عليها في الكتاب والسنة، والتي لا يتحقَّق الإيمان إلا بها، قال عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَـزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْـزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا بَعِيدًا} [النساء: 136]، وقال تعالى: {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ} [البقرة: 177].، ولما سئل صلى الله عليه وسلم عن الإيمان قال: (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره)، رواه مسلم من حديث عمر بن الخطاب.
فأوجب الله جل وعلا علينا الإيمان بجميع الأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، وبما جاؤوا به وتصديقهم وتصديق ما جاؤوا به، فمن كذب رسولاً واحداً فقد كذب بجميع الرسل عليهم الصلاة والسلام، قال جل وعلا: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْـزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة: 228].
وكذلك الجحود، وهو: اعتقاد صدق الرسول مع تكذيبهم في الظاهر، وإنكارهم للإسلام وإعراضهم عنه مع علمهم بصدقهم، قال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين الجزء الأول (ص277)، "والجحود نوعان كفر مطلق عام وكفر مقيد خاص، فالمطلق أن يجحد جملة ما أنزله الله، وإرساله الرسول، والخاص المقيد : أن يجحد فرضاً من فروض الإسلام أو تحريم محرم من محرماته".انتهى. بتصرف قال الله تعالى {فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ} [الأنعام: 33]، وقال تعالى: {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ} [النمل: 14]، و قال جل وعلا: {فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ} [البقرة: 89].
النوع الثاني كفر الإباء والاستكبار مع التصديق: والدليل قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34].
قال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين الجزء الأول (ص- 276)، "وأما كفر الإباء والاستكبار: فنحو كفر إبليس ـ فإنه لم يجحد أمر الله ولا قابله بالإنكار، وإنما تلقاه بالإباء والاستكبار ومن هذا كفر من عرف صدق الرسول، وأنه جاء بالحق من عند الله، ولم ينقد له إباء واستكباراً، وهو الغالب على كفر أعداء الرسل...". انتهى بتصرف، فأول من وقع في هذا النوع من أنواع الكفر إبليس عندما أمره الله جل وعلا بأن يسجد لآدم فأبي واستكبر، {إِلا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ} [البقرة:34]، إباء واستكباراً وإعراضاً عن قبول الحق وانقياداً له.
فالمستكبر في الغالب مصدق بالرسل عليهم الصلاة والسلام ، وأنهم جاؤوا بالحق من عند الله جل وعلا ، لكن لا ينقاد لحكمهم ولا يذعن لأمرهم، إباء واستكبارا وعناداً، فيخبر الله تعالى عن فرعون وقومه {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)} [النمل : 14.13] فكذبوا بها بعد أن استيقنتها أنفسهم أنها من عند الله جل وعلا، فعاندوا الحق بعد وضوحه لهم تعظماً واستكباراً، وكذلك لما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمشركين قولوا (لا إله إلا الله)،كما في قوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات: 35]، يمتنعون عن الاستجابة والانقياد لأمر الله إباء واستكباراً.
النوع الثالث كفر الشك والظن: والدليل قوله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا وَمَا أَظُنُّ الساعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لأجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَواكَ رَجُلًا لَكِنا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا} [الكهف: 35-38].
فقول الله تعالى: {وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَن تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِن رُّدِدتُّ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنقَلَبًا (36)} [الكهف:35-36].
فهذا ظن عدم قيام الساعة وعدم وجوده لخير من جنته تلك فكان سبباً لكفره وشركه بالله جل وعلا، والشك هو التردد، وعدم الجزم، قال تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا} [الحجرات: 15] فالآية تدل على أن من شروط صدق إيمان المؤمنين بالله ورسوله كونهم لم يرتابوا : أي لم يشكوا أبدا في وحدانية الله جل وعلا ، ولا في نبوةنبيه صلى الله عليه وسلم ، ولا في ما أخبر به عن الله تبارك وتعالى فمن شك في صدق الرسل عليهم الصلاة والسلام أو ، في رسالتهم أو في ما اخبروا به، فمن شك في الله أو في الملائكة أو في الكتب أو في الرسل عليهم الصلاة والسلام أو في البعث بعد الموت أو شك في كفر اليهود والنصارى أو في وجود الجنة و النار، أوفي أصل من أصول الدين ، ومات على ذلك فهو كافر كفراً أكبر خالدا مخلدا في نار جهنم، والعياذ بالله، ويقال له أيضاً كفر الظن، وهو ضد الجزم واليقين.
أخرج مسلم في صحيحه من حديث أَبِي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله ، لا يلقى الله بهما عبد غير شاك فيهما، إِلا دخل الجنة). فهذا الحديث - واضح الدلالة على اشتراط اليقين بالشهادتين ، وعدم الشك والريب حتى يدخل قائلها الجنة ، وعليه فمن شك في شهادة التوحيد فإنه لا يدخل الجنة لانتفاء هذا الشرط وهو عدم الشك والريب.
النوع الرابع كفر الإعراض: والدليل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَما أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ} [الأحقاف: 3].
الإعراض هو الانصراف عن الشيء مع عدم الرغبة فيه، فسمَّاهم الله جل وعلا كافرين لإعراضهم عما أُنذِرُوا به من الإيمان بالله تبارك وتعالى، قال ابن القيم في كتابه مدارج السالكين الجزء الأول (ص- 276)، "وأما كفر الإعراض فأن يعرض بسمعه وقلبه عن الرسول، لا يصدقه ولا يكذبه، ولا يواليه ولا يعاديه، ولا يصغي إلى ما جاء به البتة." انتهى
و الإعراض قد يكون إعراض كلي وهو الموجب الخروج من الإسلام والخلود في النار، والعياذ بالله، كأن يعرض عن تعلم ما ينعقد به أصل دين الإسلام و أساسه، و تعلم ما يُذهب هذا الأصل و ينقضه ويقدح فيه من الشرك و الكفر والنفاق، فلا يتعلمه ولا يعمل به، قال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} [الكهف: 57]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ} [السجدة: 22]، وقال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى} [طه: 124].
أو إعراض جزئي وهو عدم تعلم تفاصيل وأحكام الدين من المعاملات وغيرها، فهذا محرم ومعصية وصاحبه على خطر عظيم، لأن المسلم مطالب أن يعبد ربه جل وعلا على بصيرة أي على علم، ولكن التقصير والتفريط في هذا الجانب لا يوجب الخروج عن ملة الإسلام، مع ثبوت أصل الإيمان .
النوع الخامس كفر النفاق: والدليل قوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} [المنافقون:3]، والمراد به النفاق الاعتقادي وهو أن يظهر صاحبه الإيمان ويبطن الكفر، قال ابن رجب رحمه الله: في كتابه جامع العلوم والحكم (ص- 403) "النفاق الأكبر وهو أن يظهر الإنسان الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ويبطن ما يناقض ذلك كله أو بعضه، وهذا هو النفاق الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن بذم أهله وتكفيرهم، وأخبر أنهم في الدرك الأسفل من النار" انتهى. وهذا النوع من أنواع النفاق يخرج صاحبه من ملة الإسلام و يكون صاحبه خالدا مخلدا في نار جهنم بل في الدرك الأسفل من النار، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ} [النساء: 145]، وقال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا} [التوبة: 68]، وقال جل وعلا: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [النساء:13]، و من صفات المنافقين الإعراض والصدود عن دين الله جل وعلا، قال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا} [النساء: 61]، ومن صفاتهم أيضاً بغضهم وكراهيتهم لما أنزل الله قال تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: 9]، ونفى الله تعالى عنهم اسم الإيمان كما في قوله تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آَمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة : 8]، ويسمى النفاق الاعتقادي أو النفاق الأكبر.
وهو على ستة أنواع : صاحبُه من أهل الدَّرْك الأسفل من النار، قال تعالى: {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأسْفَلِ مِنَ النَّارِ}.
الأول - تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثاني - تكذيب بعض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم .
الثالث - بغض الرسول صلى الله عليه وسلم .
الرابع - بغض ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم
الخامس - المسرّة بانخفاض دين الرسول صلى الله عليه وسلم .
السادس - الكراهية بانتصار دين الرسول صلى الله عليه وسلم .
القسم الثاني من أقسام الكفر.
الكفر الأصغر وهو غير مخرج من ملة الإسلام :
وهو ما لا يناقض أصل الإيمان؛ بل ينقصه ويضعفه، ويقدح فيه ، ولا يسلب صاحبه صفة الإيمان بالكلية ، وهو المعروف عند العلماء بقولهم: (كفر دون كفر أو الكفر الأصغر) ويكون صاحبه على خطر عظيم من غضب الله جل وعلا إذا لم يتب منه؛ وقد أطلقه الشارع الحكيم على بعض المعاصي والذنوب على سبيل الزجر والتهديد، والوعيد الشديد؛ لأنها من خصال الكفر، وهي لا تصل إلى حد الكفر الأكبر، وفاعله مستحق للوعيد والعذاب الشديد دون الخلود في النار.
ومن هذا النوع على سبيل المثال :
- كفر النعمة: وذلك بنسبتها إلى غير الله جل وعلا بلسانه دون اعتقاده، قال تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ} [النحل:83]
مثل قول الرجل: هذا مالي ورثته عن آبائي على سبيل إسناد النعمة إلى آبائه، أو غيرها مما هو جار على ألسنة كثير من الناس، والمراد أنهم ينسبونه إلى أولئك، مع علمهم أن ذلك بتوفيق الله جل وعلا .
- كفران العشير والإحسان: عن ابن عباس - رضي الله عنهما - قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (أريت النار؛ فإذا أكثر أهلها النساء، يكفرن) قيل: أيكفرن بالله. قال: (يكفرن العشير، ويكفرن الإحسان؛ لو أحسنت إلى إحداهن الدهر ثم رأت منك شيئاً، قالت: ما رأيت خيراً قط)، رواه البخاري ومسلم
- وكذلك الحلف بغير الله تعالى: جاءت في السنة الصحيحة تحريم الحلف بغير الله، فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (كل يمين يحلف بها دون الله شرك)، وفي رواية (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، وفي رواية (من حلف بشيء دون الله تعالى فقد أشرك )، انظر الصحيحة للإمام الألباني رحمه الله برقم (2042)، وعن ابن عمر رضي الله عنهما أيضاَ (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري، وهذا النوع من أنواع الحلف بغير الله إذا أراد به الحالف تعظيم المحلوف به كتعظيم الله فهذا شرك أكبر عند أهل العلم .
- وكذلك قتال المسلم كما جاء عند البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر)، وقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري ومسلم من حديث جرير بن عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، (لا ترجعوا بعدي كفاراً؛ يضرب بعضكم رقاب بعض)، فهذا النوع من الكفر لا يخرج صاحبه من ملة الإسلام لأن الله جل وعلا أثبت لهم اسم الإيمان، قال الله تعالى: {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات:9]،و قوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات: 10].
- ومن أنواع الكفر الأصغر الطعن في النسب، والنياحة على الميت: أخرج مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اثنتان في الناس هما بهم كفر؛ الطعن في النسب، والنياحة على الميت).
- وكذا انتساب الرجل إلى غير أبيه، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (لا ترغبوا عن آبائكم؛ فمن رغب عن أبيه فهو كفر) رواه البخاري، ومسلم، وعن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه، أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (ليس من رجل ادعى لغير أبيه - وهو يعلمه - إلا كفر....)، رواه البخاري، ومسلم.
- ومن أنواع الكفر الأصغر أيضاً إتيان المرأة في حال الحيض أو في دبرها: قال صلى الله عليه وسلم: (من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم) رواه الترمذي وابن ماجه وأحمد كلهم من حديث أبي هريرة.
- ومن أنواعه أيضا هرب العبد من مواليه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أيما عبد أبق من مواليه فقد كفر حتى يرجع إليهم) رواه مسلم ، وأحمد، من حديث جرير بن عبد الله.
وأنواع الكفر الأصغر كثيرة نسأل الله السلامة، فكل ما جاءت به نصوص الشريعة من تسميته كفراً، ولم يصل إلى حد الكفر الأكبر، فهو كفر أصغر لا يخرج من ملة الإسلام وصاحبه على خطر عظيم .
وهذا ما تيسر جمعه وكتابته في هذا الموضوع المهم والخطير والجدير بالعناية لما يترتب عليه من السعادة الأبدية والشقاء الأبدي، والله أسال أن يختم لنا بالإيمان، والله أعلى وأعلم وصلى الله على نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين.
كتبه /
الراجي عفو ربه جل في علاه .
أبو أنس عبد الحميد بن علي الليبي.
20 من شهر صفر 1440 من الهجرة النبوية .
الراجي عفو ربه جل في علاه .
أبو أنس عبد الحميد بن علي الليبي.
20 من شهر صفر 1440 من الهجرة النبوية .
تعليق