الفُرُوقُ العِلمِيَّةُ فِي المسَائِلِ المنهَجِيَّة (الحلقَةُ الثَّانيَة)
بِسمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
بِسمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم
* المبحثُ الثَّاني *
الفُروق العلميَّةُ في مَسائِل الجَرح وَ التَّعدِيل والرَّدِّ عَلى المخَالِف
وفيه خمسة عشر مطلبًا:الفُروق العلميَّةُ في مَسائِل الجَرح وَ التَّعدِيل والرَّدِّ عَلى المخَالِف
المطلب الأول:
الفرقُ بين الجرح والتَّعديل .
قال أبو السعادات ابن الأثير في كتابه "جامع الأصول في أحاديث الرسول " (1/126):« الجرح: وصف متى التحق بالراوي والشاهد سقط الاعتبار بقوله، وبطل العمل به.الفرقُ بين الجرح والتَّعديل .
والتعديل: وصف متى التحق بهما اعتُبِرَ قولهما وأُخِذَ به »انتهى .
فالجرح طعنٌ في المجروح، والتعديل تزكية للمُعدَّل .
* و مما يقتضيه الجرح والتعديل: أنَّ الحديث لا يُؤخذ إلا من الثقات و المقبولين، دون الضعفاء، الذين جرحهم الأئمة .
فعن ابن سيرين رحمه الله قال: « لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم، وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم »[ مقدمة " صحيح مسلم "] .
و قال الإمام مالك رحمه الله : «لا يؤخذ العلم عن أربعةٍ: سفيهٍ يُعلن السفهَ وإن كان أروى الناس، وصاحب بدعةٍ يدعو إلى هواه، ومن يكذب في حديث الناس وإن كنتُ لا أتَّهمه في الحديث، وصالحٌ عابدٌ فاضلٌ إذا كان لا يحفظ ما يحدِّث به »[ " سير أعلام النبلاء " للذهبي (ظ§/ ظ،ظ¦ظ¢)] .
و كذلك يُقال في أخذ العلم، فالشَّأن فيه كالشَّأن في الحديث، فلا يؤخذ إلَّا من المعدَّل والمزَكَّى في علمه ومنهجه، من قبلِ أهلِ العلم، ولا يؤخذ ممن جرحه العلماء، وطعنوا فيه و حذَّروا منه.
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « قال علماء السلف كابن المبارك و أمثاله: « إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم » فلا يؤخذ الدين من الملبسين الأدعياء، و لا من الواضحين في الضلال، ولا من غيرهم، وإنما يأخذون العلم من أهل العلم الثقات العدول الموالين في الله و المعادين فيه، و المنابذين للباطل و الداعين إلى الحق و إلى الهدى المستقيم»[ من رسالة " دفع بغي عدنان على علماء السنة و الإيمان " (ص97)] .
و قال العلامة عبيد الجابري حفظه الله:« أنصحكم -إن كنتم تحبون الناصحين- أن لا تقبلوا شريطاً ولا كتاباً إلا ممن عرفتم أنه على السنة؛ مشهودٌ له بذلك؛ واشتهر بها، ولم يظهر منه خلاف ذلك » [مفرغ من شريط "فقه التعامل مع أهل السنة وأهل الباطل " ] .
* و مما يقتضيه الجرح و التعديل كذلك: أن المُضعَّفَ و المجروحَ من الرُّواة لا يُقبل جرحه لغيره عند أهل العلم، لأنه مخروم العدالة، غيرُ مرضيٍّ عند الأئمة .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في " تهذيب التهذيب "(1/36) بعد أن نقل كلام الأزدي في أحمد بن شبيب الحبطي: و أنه منكر الحديث، قال: « لم يلتفت أحد إلى هذا القول بل الأزدي غير مرضي»، وقال في " هدي الساري"(ص386):« لا عبرة بقول الأزدي لأنه هو ضعيف، فكيف يعتمد في تضعيف الثقات »[ بواسطة كتاب " ضوابط الجرح والتعديل " (ص54) ] .
و مثل هذا يُقال في كلِّ من جرحه علماء السنة في منهجه أو عقيدته، فإنه لا يُؤخذ بجرحه لأهل السنة، و لا بتحذيره منهم، و لا يُرفع بذلك رأسًا، لأنه ليس بثقة و لا بمرضيٍّ في دينه، بله في أحكامه.
فلا يُقبل جرح الحدادية وغيرهم من أهل التحزب في علماء السنة، بل ذلك يُعتبر وقيعة منهم في أهل الأثر وهو من علامات ابتداعهم وتحزبهم وانحرافهم ، فإن من قواعد السلف التي يميِّزون بها بين أهل السنة والمبتدعة، قولهم: « من علامات أهل البدع الوقيعة في أهل الأثر» وسطَّروا ذلك وزبروه في كتب العقائد، كما تراه في "عقيدة السلف وأصحاب الحديث" للإمام الصابوني، و غيرها .
ومن الأحكام المهمة المتعلقة بالجرح والتعديل:
أولا: يشترط فيمن يتكلم في مسائل الجرح والتعديل جملة من الشروط منها:* أن يكون عدلًا .
* أن يكون ورعًا يمنعه الورع من التعصب والهوى .
* أن يكون عارفًا بأسباب الجرح والتعديل لئلا يجرِّح عدلًا أو يعدِّل من استحق الجرح [ " ضوابط الجرح و التعديل" (ص37)] .
فإن لم يكن كذلك فلا يُقبل كلامه في الرجال .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « إنَّ للجرح والتعديل شروطاً منها :
1- العلم : ولا سيما بأسباب الجرح والتعديل .
2- ومنها تقوى الله ومراقبته .
وهذان الشرطان لا يتوفران في فالح وزمرته ..، فهؤلاء لا يُقبل جرحهم في عوام الناس ولا تُقبل شهادتهم في أتفه الأمور فكيف يُقبل جرحهم في أعلام السنة والهدى ؟!! » [ " مجموعة كتب ورسائل الشيخ ربيع حفظه الله " (9/480-490) ] .
ثانيًا: يكفي لقبول الجرح والتعديل صدوره من واحد توفرت فيه الشروط السابقة، ولا يشترط تعدد الجارحين أو المعدِّلين، فضلا عن اشتراط الإجماع أو قول الأكثر لقبولهما، كما يزعمه أهل التَّحزُّب و الهوى .
قال الإمام ابن كثير رحمه الله:« و يكفي قول الواحد في التعديل و التجريح على الصحيح »[ " اختصار علوم الحديث "(ص135)، و انظر " نزهة النظر للحافظ ابن حجر"(ص189)].
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « لا يشترط في تبديع أحد، أو الجرح فيه الإجماع، بل يُكتفى بقول الرجل الواحد في الجرح والتعديل »["مجموعة كتب و رسائل الشيخ " (14/378-379) ] .
ثالثًا: لا يقبل الجرح في حق من استفاضت عدالته واشتهرت إمامته، ولذلك لا يُلتفت إلى كلام ابن أبي ذئب في الإِمام مالك، ولا إلى كلام النسائي في أحمد بن صالح المصري، لأن هؤلاء أئمة مشهورون صار الجارح لهم كالآتي بخبر غريب لو صحَّ لتوفرت الدواعي على نقله »[" ضوابط الجرح والتعديل " (ص52)].
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « إنَّ للجرح والتعديل شروطاً منها :
1- العلم : ولا سيما بأسباب الجرح والتعديل .
2- ومنها تقوى الله ومراقبته .
وهذان الشرطان لا يتوفران في فالح وزمرته .
فلا مكان للورع والتقوى ومراقبة الله في تصرفاته اتجاه السلفيين، ولا سيما في طعنه في علمائهم الذين ثبتت عدالتهم وأمانتهم واستفاضت، وشاع الثناء عليهم بين الناس.. .
فهؤلاء أعلام السنة من طعن فيهم هوى على أم رأسه وبانت بدعته وعداوته للسنة وأهلها » [ " مجموعة كتب ورسائل الشيخ ربيع حفظه الله " (9/480-490) ] .
و من أعلام السنة المعاصرين الذين من طعن فيهم هوى على أمِّ رأسه: العلامة الشنقيطي صاحب " أضواء البيان "، و العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ، و العلامة الجامي، و العلامة الألباني، و العلامة ابن باز، و العلامة ابن عثيمين، و العلامة مقبل الوادعي رحمهم الله، و غيرهم .
المطلب الثاني:
الفرقُ بين الجرح المفسَّر و المبهم
فمن الجرح المبهم قول القائل: فلان ضعيف من غير بيان لأسباب الحكم عليه بالضعف .
ومن الجرح المفسر قول القائل: فلان مبتدع لأنه يجالس المبتدعة ويدافع عنهم ويوالي ويعادي فيهم، ويطعن في أهل السنة.. وهكذا .
ومن المسائل المتعلقة بالجرح المفسر والمبهم ما سنذكره في المطلب التالي .
المطلب الثالث
الفرق بين الجرح في الثقة المزكَّى، وبين الجرح في المجهول
من كان عدلًا مُوثَّقًا فلا يقبل فيه الجرح المبهم عند أهل العلم، بل لابد من تفسير الجرح وبيان أسبابه حينئذٍ لتعارضه مع التعديل، و إلَّا رُدَّ.الفرق بين الجرح في الثقة المزكَّى، وبين الجرح في المجهول
قال الحافظ ابن حجر فيما نقله عنه السيوطي في " تدريب الراوي " (1/512): «فإن كان من جُرح مجملا قد وثَّقه أحدٌ من أئمةِ هذا الشأن لم يُقبل الجرح فيه من أحدٍ كائنًا من كان إلا مفسرًا؛ لأنه قد ثبتت له رتبة الثقة فلا يُزحزح عنها إلا بأمر جلي » .
و قال في " النزهة"(ص73) : « والجَرْحُ مُقَدَّمٌ عَلى التَّعْديلِ ، وأَطلقَ ذلك جماعةٌ ، ولكنَّ محلَّهُ إِن صَدَرَ مُبَيَّناً مِن عَارِفٍ بأَسْبَابِهِ ؛ لأنَّه إِنْ كانَ غيرَ مفسَّرٍ لم يَقْدَحْ فيمَنْ ثبَتَتْ عدالَتُه » .
* وأما من كان مجهولًا لا يعرف عند أهل العلم فإن مثل هذا يُقبل الجرح فيه ولو كان مجملًا ومبهمًا غير مفسَّر إذا صدر من عارف بأسباب الجرح والتعديل .
قال الحافظ ابن حجر في:« فإنْ خلا المجروح عن تعديلٍ قُبِلَ الجرحُ فيهِ مُجمَلاً غيرَ مُبَيَّنِ السَّببِ، إذا صدَر مِن عارفٍ على المختار، لأنه إذا لم يكُنْ فيهِ تعديلٌ فهو في حَيِّزِ المَجهولِ، وإعمالُ قولِ المجرِّح أَوْلى مِن إِهمالِه »[" النزهة "(ص193)] .
وقال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« عالم بأسباب الجرح والتعديل وهو عالم ثقة، وموضع ثقة عند الناس فقال: فلان جهمي، فلان مرجئ، فلان سيئ الحفظ، فلان كذاب، فلان متهم، فلان كذا، فنعطي دائمًا له الحق، إذا عارضه عالم آخر حينئذٍ يبين السبب »[" مجموعة كتب ورسائل الشيخ ربيع" (14/257 ) ].
فمن كان من النكرات و المجاهيل لاسيما منهم من كان متصدِّرًا للدعوة و وُجد من المشايخ السلفيين من حذَّر منه و طعن فيه ولو طعنًا مجملا غير مُبيَّن السبب، فإنه يترك ولا يجلس إليه أبدًا ، بل مثل هؤلاء المجاهيل النكرات لا يجلس إليهم ولا يؤخذ عنهم العلم، حتى ولو لم يوجد فيهم مثل هذا الجرح المجمل لأنهم مجاهيل، والمجهول لا يلتمس عنده العلم، ولا يطلب في مجالسه؛ لأن العلم دين، والدين لا يُتعلم ولا يؤخذ إلا من الثقات العدول .
و الحكمة في ذلك: هي حماية المسلمين عمومًا و أهل السنة خصوصًا، من أن تتسرَّب إليهم عدوى أهل التحزب، و أمراض أهل البدع، و شبهات أهل الباطل، التي غالبًا ما يكون مصدرها أمثال هؤلاء الحزبيين و المجاهيل المندسين .
وهذا أصل عند أهل السنة لا تجوز مخالفته والحيدة عنه، يدل عليه ما أخرجه مسلم في " مقدمة صحيحه " بإسناده عن الإمام ابن سيرين أنه قال: «إن هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم » .
المطلب الرابع
الفرقُ بين النَّاقل عن الأَصل و المبقي عَلى الأَصل
الناقل عن الأصل قوله مقدم على قول المبقي على الأصل عند أهل العلم؛ لأن مع الناقل عن الأصل زيادة علم، والقاعدة تقول: من علم حجة على من لم يعلم، ولأن الناقل عن الأصل مُثبتٌ للجرح، و المبقي على الأصل نافٍ له، والقاعدة تقول: المثبت مقدم على النافي .الفرقُ بين النَّاقل عن الأَصل و المبقي عَلى الأَصل
و الناقل عن الأصل هو صاحب الجرح المفسر، و المبقي على الأصل هو صاحب التعديل ، والقاعدة: أن الجرح المفسر مقدم على التعديل .
قال الخطيب البغدادي رحمه الله: « باب القول في الجرح والتعديل إذا اجتمعا أيهما أولى .
اتفق أهل العلم على أن من جرحه الواحد و الاثنان ، وعدَّله مثل عدد من جرحه ، فإن الجرح به أولى، والعلة في ذلك أن الجارح يخبر عن أمر باطن قد علمه، ويصدق المعدل ويقول له: قد علمت من حاله الظاهرة ما علمتها، وتفردت بعلم لم تعلمه من اختبار أمره، وإخبار المعدل عن العدالة الظاهرة لا ينفي صدق قول الجارح فيما أخبر به، فوجب لذلك أن يكون الجرح أولى من التعديل »[ " الكفاية " ( 1 / 308) ] .
فالسِّر في تقديم الجرح المفسر على التعديل، وتقديم قول الناقل عن الأصل على قول المبقي على الأصل هو أن الجارح والناقل عن الأصل يخبر عن أمر باطن علمه وجهله المعدل، فمعه زيادة علم، ومعه كذلك الحجة والبرهان على جرحه ونقله للمجروح عن الأصل فيجب والحالة هذه الأخذ بقوله لأنه حق، و تقديمه على قول المُعدِّل المُبقي على الأصل .
قال السُّيوطي: « وإذا اجتمع فيه أي الراوي جرح مفسر وتعديل فالجرح مقدم ولو زاد عدد المعدل ، هذا هو الأصح عند الفقهاء والأصوليين ، ونقله الخطيب عن جمهور العلماء لأن مع الجارح زيادة علم لم يطلع عليها المعدل ، ولأنه مصدق للمعدل فيما أخبربه عن ظاهر حاله ، إلا أنه يخبر عن أمر باطن خفي عنه »[ " تدريب الراوي " (1/309) ] .
و من هنا؛ قُدِّم قول بلديِّ الرجل في بلديِّه، لأنه أعرف به من غيره و عنده زيادة علم بحاله، على من سواه من الغرباء و الأبعدين، و هي قاعدةٌ معروفة مشهورة بين علماء الحديث و الجرح و التعديل .
قال الخطيب البغدادي:« أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، قال: أنا عثمان بن أحمد الدقاق، قال: ثنا حنبل بن إسحاق، قال: ثنا خالد بن خداش، قال: سمعت حماد بن زيد يقول: كان الرجل يقدم علينا من البلاد ويذكر الرجل ويحدث عنه ويحسن الثناء عليه فإذا سألنا أهل بلاده وجدناه على غير ما يقول، قال: وكان يقول:بلدي الرجل أعرف بالرجل .
قلت(الخطيب): لما كان عندهم زيادة علم بخبره على ما علمه الغريب من ظاهر عدالته جعل حماد الحكم لما علموه من جرحه دون ما أخبر به الغريب من عدالته » [ " الكفاية " (1/333)] .
بل قرَّر الأئمةُ بأنَّ من كان مذمومًا مُضعَّفًا عند الثقات من أهل بلدِه، و حصل على تزكية من بعض الغرباء فإنه لا ينتفع بها أصلًا، و لا تُفيده شيئًا! بل لا تزيده إلَّا ضعفًا إلى ضعفه! و وهنًا إلى وهنه! لأن ذلك يُشعر بأنه يتملق لغير أهل بلده ممن لا يعرف حقيقة حاله كما يعرفها أهل بلدِه.
و في ذلك يقول العلامة المعلمي رحمه الله في كتابه " التنكيل بما في تأنيب الكوثري من الأباطيل" (ص763): « الراوي الذي يطعن فيه محدثوا بلدِه طعنًا شديدًا لا يزيده ثناء الغرباء عليه إلا وهنًا، لأن ذلك يشعر بأنه كان يتعمد التخليط فتزين لبعض الغرباء واستقبله بأحاديث مستقيمة فظن أن ذلك شأنه مطلقاً فأثنى عليه، وعرف أهل بلده حقيقة حاله »انتهى .
و لنفس العلَّة السابقة، قُدِّم قول من كان أخبر بالرجل و أقرب إليه، عارفًا بمدخله و مخرجه، على قول غيره فيه، لأنَّ ذلك أدعى إلى معرفة حقيقة حاله، و الاطلاع على ما قد يخفى من أمره و شأنه.
قال العلَّامة العثيمين رحمه الله « إذا اختلف حفَّاظ الحديث في تعديل رجل أو تجريحه وكان أحدهما أقرب إلى معرفة الموصوف من الآخر، فإنَّنا نأخذ بقول من هو أقرب إليه، وأعلم بحاله من غيره »[ " شرح البيقونية "(ص35)] .
و من هذا الباب ما جاء في "طبقات الحنابلة": (1/234) عن علي بن أبي خالد أنه قال : قلت لأحمد بن حنبل - رحمه الله -: إن هذا الشيخ - لشيخ حضر معنا - هو جاري، وقد نهيته عن رجل، ويحبُّ أن يسمع قولك فيه :حارث القصير - يعني حارثًا المحاسبي - ، وكنت رأيتني معه منذ سنين كثيرة، فقلتَ لي : « لا تجالسه » ؛ فما تقول فيه ؟
فرأيت أحمد قد احمرَّ لونه، وانتفخت أوداجه و عيناه، وما رأيته هكذا قط، ثم جعل ينتفض ويقول : « ذاك ؟! فعل الله به و فعل، ليس يعرف ذاك إلا من خبره و عرفه، أوَّيه، أوَّيه، أوَّيه، ذاك لا يعرفه إلا من خبره و عرفه، ذاك جالسه المغازلي، ويعقوب، وفلان فأخرجهم إلى رأي جهم، هلكوا بسببه ».
فقال له : يا أبا عبد الله ! يروي الحديث، ساكنٌ، خاشعٌ، من قصته، ومن قصته..»، فغضب أبو عبد الله وجعل يقول: « لا يغرك خشوعه و لينه »، و يقول : « لا تغتر بتنكيس رأسه، فإنه رجل سوء، ذاك لا يعرفه إلا من خبره، لا تكلمه، و لا كرامة » .
المطلب الخامس
الفرق بين جرح الرواة و جرح أهل البدع
لا فرق عند أهل السنة بين جرح الرواة و بين جرح أهل البدع، و الكلُّ يُتعامل معهم من منطلق قواعد علم الحديث و الجرح و التعديل، و إنما أخرج الكلام في أهل البدع عن علم الجرح و التعديل و قواعده، الفرقة الحدادية، الذين جعلوا الجرح خاصًّا بالرواة فقط، و لا يتناول أهل البدع! و فرَّقوا بين الجرح و التعديل الذي في علم المصطلح، و بين الكلام في الملل و النحل و في أهل البدع و الأهواء .الفرق بين جرح الرواة و جرح أهل البدع
وقد عدَّ العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، هذه القاعدة الحدادية التي أحدثها الحدادي فالح الحربي من أصوله الخلفية المحدثة التي خالف بها منهج السلف، وفارق بها جماعة أهل السنة، فقال حفظه الله كما في رسالته " أصول فالح الحربي الخطيرة ومآلاتها ":« إنَّ لفالح الحربي أصولًا أضرَّت بالمنهج السلفي وأهله وأحدثت فِتناً بين الشباب، وقد نصحته وغيري بالتراجع عنها فلم يرجع عنها، بل تمادى فيها وأضاف إليها أصولًا أخرى سأذكر أهمها هنا نصحاً لله ولكتابه ولرسوله وأئمة المسلمين وعامتهم، وأبين ما تؤول إليه هذه الأصول من أضرار ومخاطر.. .
فذكر الشيخ حفظه الله أربعة أصول، ثم قال:
« الخامس: قول فالح ومن معه: بأن الجرح خاص بالرواة، وأن أهل البدع والأهواء لا يدخلون في جرح أئمة الجرح والتعديل، لأن التبديع والحكم به إنما هو خاص بالعلماء الذين عندهم إحاطة بالشريعة وقدرة على الاستنباط، وأئمة الجرح والتعديل ليسوا أهلاً للحكم على أهل البدع ولا يدخل أهل البدع في قواعدهم .
مع أن كتب أئمة الجرح والتعديل مشحونة بجرح أهل البدع، والكتب التي ألفها أئمة الحديث مليئة بجرح أهل البدع وبيان أحوالهم، ولا ترى الفقهاء إلا تبعاً لهم في قضايا الجرح والتعديل لأهل البدع وغيرهم، وعلى رأسهم الإمام الشافعي » .
و للشيخ ربيع حفظه الله كتابات نافعة في هدم هذه القاعدة الكاسدة، منها: رسالة بعنوان: " أئمة البدع يدخلون في جرح أهل الحديث دخولا أوَّليًّا، وغير أهل البدع يدخلون في تحذيرهم دون شك"، وأخرى بعنوان " أئمة الجرح والتعديل هم حماة الدين من كيد الملحدين وضلال المبتدعين وإفك الكذابين "، وأخرى بعنوان " أئمة الحديث ومن سار على نهجهم هم أعلم الناس بأهل الأهواء والبدع ومشروعية الجرح والتعديل من الأكفاء لم تنقطع" .
ومما جاء في هذه الكتابات قول العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« أئمة الهدى وأئمة الحديث، قد حذَّروا المسلمين من كل ما يضرهم في دينهم سواء من الرواة السالمين من البدع، أو أهل البدع، أو من الدجالين والكذَّابين، وكل ذلك يدخل في صميم منهج أئمة الجرح والتعديل.
وبكل هذا وذاك يسقط قول أهل الجهل والهوى: إن أهل البدع لا يدخلون في قواعد أهل الحديث، ولا يدخلون في جرحهم، وأن غير أهل البدع لا يدخلون في تحذيرهم .
ولا أعرف جهلاً وكذباً على أهل الحديث وأصولهم ومنهجهم يفوق هذا الجهل والكذب »[ "المرجع السابق" (9/20-إلى-24)] .
* وقد فرَّخت هذه الشبهة الحدادية شُبهًا أخرى تفرَّعت عنها، وهي على منوالها، من ذلك: إحداث فرق وهمي بين علماء الجرح والتعديل وبين علماء الشريعة، كما دندن بذلك بعض الحدادية المخاذيل، لقصد تبرير أصل زعيمهم فالح الحربي في إخراج جرح أهل البدع عن علم الجرح والتعديل، وقد كتب أحدهم، وهو فاروق الغيثي في ذلك مقالًا .
ومما جاء فيه، قوله:« إن علم الجرح والتعديل جانبي من علوم الشريعة له ضوابط وقواعد محددة معروفة بينها أهل هذا العلم في كتبهم .
أما الكلام في الرجال غير الذين في الرواية؛ فهذا يحتاج إلى عالم محيط بالشريعة ينظر في الأصول، ويستقرئ الأدلة، ليخرج بعدها بحكم على هذا الرجل وهل خالف منهج أهل السنة والجماعة أو لا ؟ » .
* ومن الشبه المُفرَّخة والمتفرِّعة عن الشبهة السابقة، اشتراط بعض الحدادية فيمن يتكلم في الجرح والتعديل: النظر في الأصول، واستقراء الأدلة، مع الإحاطة بالشريعة، وعلماء الجرح والتعديل عندهم ليسوا كذلك!! ولهذا فهم يُخرِجون جرح أهل البدع عن قواعدهم وجرحهم .
و انظر الرَّد على هذه الضلالات في [" مجموع كتب و رسائل الشيخ ربيع " (9/20-إلى-24) ] .
المطلب السادس
الفرق بين جرح الأقران إذا لاح فيه شيءٌ من البغي والحسد و بين ما إذا لم يلُح فيه شيء من ذلك.
الأصل في كلام الأقران المعتبرين بعضهم في بعض هو القبول عند أهل العلم و الحديث، بل يُعتبر من أقوى أنواع الجرح عندهم .الفرق بين جرح الأقران إذا لاح فيه شيءٌ من البغي والحسد و بين ما إذا لم يلُح فيه شيء من ذلك.
قال العلامة الوادعي مقبل الوادعي رحمه الله : « أكثر الجرح والتعديل يكون من جرح الأقران ، وهو أدل على التثبت وعلى الثبوت ..، فما كلُّ جرح الأقران مردود بل الأصل في جرح الأقران أنه مقبول..» [ " نصائح و فضائح "(ص255)].
و لا يُردُّ جرح الأقران في بعضهم البعض عند أئمة الحديث و الجرح و التعديل إلا إذا عُلم أنه ناتجٌ عن بغيٍ أوحسدٍ أوتنافسٍ، مع خلوِّه من الأدلة، فإنه حينذاك لا يقبل ويُطوى و لا يُروى، و إلَّا فهو من أقوى أنواع الجرح .
قال الإمام الصنعاني في كتابه "ثمرات " (ص130) :« إن كان مرادهم بالأقران : المتعاصرون في قرن واحد، والمتساوون في العلوم، فهو مشكل! لأنه لا يعرف حال الرجل إلا من عاصره، ولا يعرف حاله من بعده إلا بأخبار من قارنه، إِن أُرِيد الأول وَإِن أُرِيد الثَّانِي: فأهل العلم هم الذين يعرفون أمثالهم، ولا يعرف أولي الفضل إلا ذوو الفضل، فالأولى إناطة ذلك لمن يعلم أن بينهما تنافسًا أو تحاسدًا أو شيئًا يكون سببًا لعدم الثقة لقبول بعضهم في بعض، لا لكونه من الأقران، فإنه لا يعرف عدالته ولا جرحه إلا من أقرانه » .
فاتَّضح الفرق بين ما يُقبلُ من كلام الأقران و بين ما يُردُّ منه، و أنه لا يُردُّ إلا إذا لاح فيه البغي، و عُلم أنه لا دافع له إلا التنافس و الحسد و ما أشبه ذلك، و كان عاريًا عن الأدلة، أما إذا خلا من ذلك و كان مُؤيَّدًا بالأدلة و البراهين فإنه و الحالة هذه يُعتبر من أقوى أنواع الجرح، و أثبتها كما تقدَّم.
* ومما ينبغي أن يُنبَّه عليه في هذا الموضع أن بعض أهل الأهواء اتخذ مسألة كلام الأقران مطيَّة لردِّ الجرح المفسَّر في بعض المخالفين بدعوى أن الجارح من أقران المجروح، وجعلوا الأصل في كلام الأقران هو الرد وعدم القبول، بزعم أنه في الغالب لا يصدر إلا عن حسد وتنافس، فيُطوى ولا يُروى .
وقد أبطل العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله هذه الشبهة في جوابٍ له على سؤالٍ هذا نصه: ما تعريف الأقران في علم الحديث؟ و هل إذا طبقت قاعدة : كلام الأقران يطوى و لا يروى، أعددنا ذلك التطبيق طعنا في الشيخين؟
فأجاب حفظه الله:«..كتب الجرح و التعديل مليئة بالأقران، فلو أخذنا بهذه القاعدة ما قدمنا شيئًا، فهذه يلبس بها أهل الباطل،...البعض يُلبِّسُون بها لإسقاط نقد أهل السنة في أهل البدع، فإذا كان واحد مبتدع ضال.. بذاته نقول هذا أقران،...ولا ابن عثيمين على المالكي وأمثاله نقول.. أقران؟ كلام سخيف! بارك الله فيكم، ومن يتكلم في الخميني نقول أقران؟ ها.. من يتكلم في سيد قطب نقول أقران؟ وهو يسب الصحابة و يطعن في الأنبياء وإلخ ... .
على أن نقد العلماء لأمثالهم الأصل أنهم يأخذوه من الكتب بارك الله فيكم، قال فلان في الكتاب الفلاني في الصفحة الفلانية، يعني كلام مدلَّل مثبَّت موثق، كيف نقول هؤلاء الأقران يلغى كلامهم؟ ممن يسب أبو بكر و عمر مثلا، أو يسبّ عثمان، و أنقل كلامه، و أقدمه للناس تحذيرًا من كتابه و من شخصه أيضا، يُقال هذا كلام أقران؟ هذه كلها من تلبيسات أهل البدع و الضلال، و من التمييع أيضا في نفس الوقت ...» .
المطلب السابع
الفرق بين ذكر محاسن الرَّجل في سياق الرَّد عليه، وبين ذكرها في سياق الترجمة العامة له .
ذكر محاسن الرجل في سياق الرَّد عليه لا يجب ولا يُشرع عند أهل السنة، بل يُكتفى في ذلك ببيان أخطائه و انحرافاته، لأن الغرض هو تحذير الناس منها، و من متابعته عليها، و إنما أوجب ذكر محاسنه و حسناته في سياق الرَّدِّ عليه: أهل التحزب والهوى، فابتدعوا ما يسمى بقاعدة الموازنات بين الحسنات والسيئات، تحت ستار العدل والإنصاف، بقصد المحاماة عن أهل البدع والضلال، و هي قاعدة باطلة مخالفة لمنهج السلف في النقد والرد على المخالف، كما بيَّن ذلك أهل العلم وعلى رأسهم حامل راية الجرح والتعديل ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله، في عدد من الكتب والمقالات .الفرق بين ذكر محاسن الرَّجل في سياق الرَّد عليه، وبين ذكرها في سياق الترجمة العامة له .
و أما ذكر محاسن المجروح والمبتدع وبيان ماله وما عليه عند ذكر سيرته أو في سياق الترجمة العامة له فهذا ليس من الباب الأول، و لا محذور فيه، و على هذا درج الأئمة في كتب السِّير و التراجم، و به أفتى علماؤنا .
قال العلامة الألباني رحمه الله كما في شريط " مَن حامل راية الجرح والتعديل في العصر الحاضر":« ما يطرح اليوم في ساحة المناقشات بين كثير من الأفراد حول ما يسمى أو حول هذه البدعة الجديدة المسماة ( الموازنة ) في نقد الرجال.
أنا أقول: النقد إما أن يكون في ترجمة الشخص المنتقد ترجمة تاريخية فهنا لا بد من ذكر ما يحسن وما يقبح بما يتعلق بالمترجم من خيره ومن شره، أما إذا كان المقصود بترجمة الرجل هو تحذير المسلمين وبخاصة عامتهم الذين لا علم عندهم بأحوال الرجال ومناقب الرجال ومثالب الرجال؛ بل قد يكون له سمعة حسنة وجيدة ومقبولة عند العامة، ولكن هو ينطوي على عقيدة سيئة أو على خلق سيئ، هؤلاء العامة لا يعرفون شيئاً من ذلك عن هذا الرجل.. حين ذاك لا تأتي هذه البدعة التي سميت اليوم بـ ( الموازنة ) ذلك لأن المقصود حين ذاك النصيحة وليس هو الترجمة الوافية الكاملة »...إلى أن قال :« لذلك باختصار أنا أقول ولعل هذا القول هو القول الوسط في هذه المناقشات التي تجري بين الطائفتين: هو التفريق بين ما إذا أردنا أن نترجم للرجل فنذكر محاسنه ومساويه، أما إذا أردنا النصح للأمة أو إذا كان المقام يقتضي الإيجاز والاختصار فنذكر ما يقتضيه المقام من تحذير من تبديع من تضليل وربما من تكفير أيضاً إذا كان شروط التكفير متحققة في ذاك الإنسان، هذا ما أعتقد أنه الحق الذي يختلف فيه اليوم هؤلاء الشباب ».
وقال العلامة العثيمين رحمه الله كما في " لقاء الباب المفتوح " (61 ـ70) (ص153 ): « عندما نريد أن نقوِّم الشخص، فيجب أن نذكر المحاسن والمساوئ، لأن هذا هو الميزان العدل وعندما نحذِّر من خطإ شخصٍ، فنذكر الخطأ فقط، لأن المقام مقام تحذير ومقام التحذير ليس من الحكمة فيه أن نذكر المحاسن .
لأنك إذا ذكرت المحاسن فإن السامع سيبقى متذبذباً، فلكل مقام مقال ».
و قال شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله:« في بابِ نقدِ الرِّجالِ وتقويمِهم فإنَّ في مسألةِ الموزانةِ بين المحاسنِ والمساوئِ أو في تعرُّضِ المنتقِدِ لذِكر محاسنِهم دون مساوئِهم أو بالعكس في تبيانِه لمساوئِهم وأخطائِهم وغضِّ الطّرفِ عن محاسنِهم تفصيلاً يظهر في التَّفريقِ بين حالةِ النَّقدِ والرَّدِّ، والتّحذيرِ من شخصٍ استقرَّتْ بدعتُه ودعا إليها، وبُيِّن له خطؤُه الذي عَلِقَ به، واستمرَّ عليه بعد قيامِ الحُجَّةِ، بل نافحَ عنه ودافعَ واغترَّ النّاسُ به، وبَيْنَ ما إذا كان للتَّعريفِ به كشخصيَّةٍ إسلاميَّةٍ، وبيانِ واقعِه، وتقويمِ كتبِه ومؤلَّفاتِه.
فإن كان المجالُ مُهيَّئًا لنقدِ المساوئِ والأخطاءِ التي هو عليها من بابِ الرَّدِّ والتَّقويمِ حذرًا من الوقوعِ فيها، ونصيحةً للنَّاسِ من خطرِها، والميلِ إلى أصحابِها، فإنَّ هذا المقام لا يستدعي التّعرُّضَ للحسناتِ؛ لأنَّ الغايةَ من وراءِ الرّدِّ تحذيرُ الأُمَّةِ من أنواعِ الأباطيلِ، ومختلفِ التّضليلِ، لئلاَّ يغترَّ بهم النّاسُ، وذكرُ حسناتِهم في هذا المجالِ يُضعف قيمةَ الرَّدِّ، ويُهوِّن من خطرِ باطلِهم . . .
أمَّا الحالةُ الأخرى؛ وهي التَّعريفُ بشخصيَّةِ المتطرَّقِ لعقدِ ترجمةٍ له، والنَّظرِ في مؤلَّفاتِه وكتبِه، وما تحتويه من مادَّةٍ علميَّةٍ؛ فإنَّه لا يمنع من التَّعرُّضِ إلى محاسنِه، ومزايا كتبِه.
وبالمقابلِ يُنْظَرُ في مساوئِه والأخطاءِ والأغلاطِ التي وقع فيها، فيُذْكَرُ ما له من حقٍّ ليُثْبِتَه، وما عليه من باطلٍ ليردَّه » [ " مجالس تذكيرية على مسائل منهجية "(ص280-281-284)] .
المطلب الثامن
الفرق بين الغيبة وبين نقد أهل البدع والرد على ضلالاتهم
الفرق بين الغيبة و بين القدح في المخالفين و نقدهم: أن الغيبة مُحرمةٌ، لأنها استطالة في عرض المسلم بغير حق، بخلاف القدح في المخالفين و بيان حالهم و تحذير الناس منهم، فهو من النصيحة المشروعة التي قد تكون واجبة، و لذلك استثناه الأئمة من الغيبة المُحرَّمة .الفرق بين الغيبة وبين نقد أهل البدع والرد على ضلالاتهم
قال الإمام ابن دقيق العيد رحمه الله:« وكذلك القول في جرح الرواة والشهود والأمناء على الصدقات والأوقاف والأيتام ونحوهم، فيجب تجريحهم عند الحاجة ولا يحلُّ السِّتر عليهم إذا رأى منهم ما يقدح في أهليتهم، وليس هذا من الغيبة المحرمة، بل من النصيحة الواجبة »[ " شرح الأربعين النووية" (ص120)] .
و قال الإمام ابن رجب في مقدمة رسالته" الفرق بين النصيحة والتعيير":« فهذه كلمات مختصرة جامعة في الفرق بين النصيحة والتعيير - فإنهما يشتركان في أن كلًّا منهما: ذِكْرُ الإنسان بما يكره ذِكْرَه، وقد يشتبه الفرق بينهما عند كثير من الناس والله الموفق للصواب.
اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص.
فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه.
وقد قرَّر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل، وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه.. .
فحينئذٍ فَـرَدُّ المقالات الضعيفة، وتبيين الحق في خلافها بالأدلة الشرعية، ليس هو مما يكرهه أولئك العلماء، بل مما يحبونه ويمدحون فاعله، ويثنون عليه؛ فلا يكون داخلاً في باب الغيبة بالكلية » .
و من الأبيات المشتهرة في هذا الباب:
القدح ليس بغيبة في ستة ...... متـظلم ومعـرف ومحـذر
ولمظهر فسقًا ومستفـت ومن......طلب الإعانة في إزالة منكر
المطلب التاسع
الفرق بين نقد الأخطاء و بين الطعن في العلماء
ردُّ أخطاء العلماء و نقدها بالدليل و الأدب لا يُعدَّ من الطعن فيهم عند أهل الحق و السنة، و إنما يراه كذلك أهل التَّحزُّب و التَّعصُّب و التمييع، و إلَّا فنقد الأخطاء شيء و الوقيعة في العلماء شيءٌ آخر، اللهم إلا إذا قصد المُنتقد أن يتوصَّل بنقده لأخطاء العلماء انتقاصهم و ثلبهم و الحط من مكانتهم، و التشهير بهم .ولمظهر فسقًا ومستفـت ومن......طلب الإعانة في إزالة منكر
المطلب التاسع
الفرق بين نقد الأخطاء و بين الطعن في العلماء
و في ذلك يقول الإمام ابن رجب رحمه الله تعالى: « وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا، ولهذا تجد كتبهم المصنفة في أنواع العلوم الشرعية.. ممتلئة من المناظرات ، و ردُّوا أقوال من تضعف أقواله من أئمة السلف والخلف، من الصحابة والتابعين ومن بعدهم ، ولم ينكر ذلك أحد من أهل العلم ولا ادَّعى فيه طعنًا على من ردَّ عليه قوله، ولا ذمًّا ولا نقصًا..» إلى أن قال: « وأما المبين لخطأ من أخطأ من العلماء قبله، إذا تأدَّب في الخطاب وأحسن الرَّد فلا حرج عليه ولا لوم يتوجه عليه، وإن صدر منه من الاغترار بمقالته فلا حرج عليه . .، وقد بالغ الأئمة الورعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردوها أبلغ الرَّد.. وسواء كان الذي يبين خطأه صغيرًا أو كبيرًا، وله أسوة بمن ردَّ من العلماء مقالات ابن عباس التي شذَّ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك، ومن ردَّ على سعيد بن المسيب.. ورد على الحسن.. وعلى عطاء.. وعلى طاوس قوله في مسائل متعددة شذ بها عن العلماء، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم، ولم يعد أحد منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعنا في هؤلاء الأئمة ولا عيبًا لهم.. وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم ، فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيرًا من الاقتداء بهم ، وليس كلامنا من هذا القبيل والله أعلم »[ "الفرق بين النصيحة والتعيير"] .
و قال الإمام الألباني رحمه الله:« ..ثمَّ إنَّ هناك وهمًا شائعًا عند بعض المقلدين يصدهم عن اتِّباع السنة التي تبين لهم أن المذاهب على خلافها، وهو ظنهم أن اتِّباع السنة يستلزم تخطئة صاحب المذهب، والتخطئة معناها عندهم: الطعن في الإمام، ولما كان الطعن في فرد من أفراد المسلمين لا يجوز فكيف في إمام من أئمتهم
والجواب : أن هذا المعنى باطل وسببه الانصراف عن التفقه في السنة وإلا فكيف يقول ذلك المعنى مسلمٌ عاقلٌ.. . لا شك أن هذا التوهم أمرٌ باطلٌ يجب على كل من قام به أن يرجع عنه وإلا فهو الذي يطعن في المسلمين وليس في فرد عادي منهم بل في كبار أئمتهم من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من الأئمة المجتهدين وغيرهم، فإننا نعلم يقينا أن هؤلاء الأجلة كان يخطئ بعضهم بعضًا ويردُّ بعضهم على بعض أفيقول عاقل: إن بعضهم كان يطعن في بعض »[ مقدمة " صفة صلاة النبي "(ص63) ] .
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « باب النقد للألباني ولأمثاله مفتوح ـ والله ـ، ولا يغضب من ذلك لا الألباني ولا أمثاله من حملة السنَّة، النقد المؤدَّب الذي يحترم العلماء، وليس له هدف إلاَّ بيان الحقّ، فهذا بدأ من عهد الصحابة ولا ينتهي.
فقد انتقد الشافعي مالكًا، وانتقد أصحاب أبي حنيفة وانتقد أحمد ـ بارك الله فيك ـ كلُّ هذه المذاهب واستمر هذا النقد إلى يومنا هذا في شتى العلوم.
فالنقد ـ يا إخوان ـ لا يجوز سدّ هذا الباب، لأنَّنا نقول بسدِّ باب الاجتهاد ـ بارك الله فيكم ـ.
ولا نعطي قداسة لأفكار أحد أبدًا كائنًا مَن كان؛ فالخطأ يُردّ من أيِّ شخص كان، سلفيًّا كان أو غير سلفي.
ولكنَّ التعامل مع أهل الحقِّ والسنَّة الذين عرفنا إخلاصهم واجتهادهم ونصحهم لله ولكتابه ورسوله ولأئمّة المسلمين وعامّتهم التعامل معهم غير التعامل مع أهل البدع والضلال.
وارجعوا إلى كتاب الحافظ ابن رجب رحمه الله: "الفرق بين النصيحة والتعيير".
إذ تكلَّم وبيَّن فقال: بيان الهدى وبيان الحقّ لابدَّ منه وقد انتُقد سعيد بن المسيب وابن عباس وطاووس وأصحاب ابن عباس وانتُقِدوا وانتُقِدوا، وما قال أحد: إنَّ هذا طعن، ما يقول بهذا إلاَّ أهل الأهواء »[" مجموع كتب و رسائل الشيخ "(15/32-إلى-36) ].
المطلب العاشر
الفرق بين وقوع العالِم في الزَّلَّة و بين وقوعه في الفتنة
الفرق بين زلَّة العالم وفتنته: أن زلته خطؤه بلا تعمد، وأما فتنته فمخالفته للحق وانحرافه عن تعمد، وإصراره على هذا الانحراف قال تعالى: { فَلْيَحْذَرْ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ }.. .الفرق بين وقوع العالِم في الزَّلَّة و بين وقوعه في الفتنة
فزلة العالم ليست هوى إنما خطأ غير متعمد، بخلاف فتنته فهو انحراف وسلوك غير الحق بالتعمد، فلا يُعذر .
ولذلك يُطعن على من فُتن في دينه ولا يُطعن على من زلَّ، ومن سوَّى بينهما فقد أخطأ »[ " صيانة السلفي "(ص 37-)].
نعم؛ لا يجوز التسوية بين من زلَّت به القدم في مسألة ما أو في قضيَّةٍ من القضايا، و بين من فتُن في دينه، و انحرف عن الصراط المستقيم، و زاغ عن الحق، و لذلك ترى الأئمة يعذرون أصحاب الزلات و يحفظون لهم مكانتهم و كرامتهم .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:« ومن له علم بالشرع والواقع يعلم قطعا أن الرجل الجليل الذي له في الإسلام قدم صالح وآثار حسنة وهو من الإسلام وأهله بمكان قد تكون منه الهفوة والزلة هو فيها معذور بل ومأجور لاجتهاده فلا يجوز أن يتبع فيها ولايجوز أن تهدر مكانته وإمامته ومنزلته من قلوب المسلمين »[ " إعلام الموقعين "(3/383)] .
و أما من فُتن منهم و انحرف فإنَّك لا تراهم إلا مشنِّعين عليه و مُحذِّرين منه، سيما إذا نُصح و أصرَّ على باطله، و الأمثلة على هذا كثيرة في السابق و اللاحق .
و انظر على سبيل المثال إلى تعامُل الإمام أحمد مع من كانوا معدودين من أئمة السنة و كبار الأئمة، يوم أن استجابوا في المحنة، و وقعوا في بعض البدع التي انحرفوا بها عن السنة.
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « موقف الإمام أحمد وأهل الحديث في زمانه من أناس كانوا أئمة في العلم والدين ومن أهل الحديث وقعوا فيما يسميه أبو الحسن زلة أو زلات وقام عليهم أهل السنة و وسموهم بالبدع والضلال »[ " مجموعة الكتب و الرسائل "(13/378)].
و قال حفظه الله: « فهذا الإمام أحمد، إمام السنة، يقول في من وقف في القرآن إنَّه مبتدعٌ ضال، وفيهم أناسٌ من كبار المنتسبين إلى السنة والحديث مثل يعقوب بن شيبة.
وقال إسماعيل ابن علية وهو من كبار أهل السنة والحديث كلمةً فُهِم منها أنه يقول بخلقِ القرآن، فضلَّله بعضُ الأئمَّة، وشنَّ عليه الغارة كل أهل الحديث أو جلهم حتى رجع عن قوله ولو لم يرجع لأسقطوه» [ " مجموعة الكتب الرسائل"(13/93)] .
المطلب الحادي عشر
الفرق بين القول المخالف و بين قائله، وبين الفعل المخالف و بين فاعله .
أهل السنة يفرِّقون بين القول و قائله، وبين الفعل و فاعله، فليس كلُّ قولٍ أو فعلٍ يكون كفرًا أو بدعةً يحكم على قائله أو فاعله بذلك حتى تُزال عنه الشبهة، و تُقام عليه الحجة، و تظهر له المحجة .الفرق بين القول المخالف و بين قائله، وبين الفعل المخالف و بين فاعله .
و من هنا قالوا: ليس كلُّ من وقع في البدعة فهو مُبتدع، و لا كلُّ من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه، كما أنه ليس كلُّ من وقع في الكفر فهو كافر .
قال الإمام الألباني رحمه الله:« ليس كلُّ من وقع في البدعة وقعت البدعة عليه، و ليس كلُّ من وقع في الكفر وقع الكفر عليه »[ " المنهج السلفي عند الشيخ ناصر الدين الألباني " (ص64)].
و عُرض على العلامة الألباني رحمه الله الكلام الآتي:« كما أنه ليس كل من أتى بكفر كافر ، وليس كل من أتــى بفسق فاسق، وليس كل من أتى بجاهلية فهو جاهلي أو جاهل ، فكذلك ليس كل من أتى ببدعة فهو مبتدع لأنه ثم فرقا عند أهل السنة بين من وقع في البدعة وبين من أحدث البدعــة وتبناها ودعا إليها وهذا أمر متفق عليه » .
فعلَّق رحمه الله قائلًا: « هو كذلك بلا شك »، و قــــال : « هذا الكلام صحيح جدًّا » [ " سلسلة الهدى والنور " شريط رقم (795) الوجه الأول ].
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« كل من وقع في البدعة لا يُبدع، لكن إذا عرفنا منه الهوى، و عرفنا منه سوء القصد، و عرفنا منه أشياء تدل على أنه يُريد البدعة فهذا يُبدع، لهذا تجدهم حكموا على كثير من الناس بأنهم مبتدعة، و كثير من الناس وقعوا في أخطاء ما سموهم مبتدعة؛ لأنهم عرفوا سلامة مقصدهم، و حسن نواياهم، و تحريهم للحق و سلامة المنهج الذي يسيرون عليه » [ نقلًا عن " صيانة السلفي " للشيخ أحمد بازمول (ص39-40) ].
و قال شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله:« ولا يجوز تبديع كلِّ واحدٍ أو الإفراطُ في إطلاق لفظة «البدعة» على من وقع في بعض المخالفات، فمن ارتكب محرَّمًا، أو وقع في معصية يُسَمَّى عاصيًا وليس كلُّ عاصٍ أو مخطئٍ مبتدعًا، وإنَّما كان السلفُ يصفون بالبدعة مَن فعل فعلاً يتقرَّب به إلى الله من غير بصيرةٍ وحُجَّةٍ تُسْنِدُ فِعلَهُ..، وعليه فإنَّ من أحدث شيئًا في الدِّين لا دليلَ شرعيَّ عليه فهو صاحبُ بدعةٍ، والواجب اتجاهَهُ إقامةُ الحُجَّة عليه وإزالةُ ما تَعَلَّقَ به من شُبُهاتٍ ونُصحُه حتى يرجع عمَّا هو عليه، فإن أَبَى الرجوعَ أو لم يقبل النصيحةَ أصلاً فهو مبتدعٌ »[ " مجالس تذكيرية "(ص224)] .
و قال العلامة العثيمين رحمه الله:« وبهذا علم أن المقالة أو الفعلة قد تكون كفرًا أو فسقا، ولا يلزم من ذلك أن يكون القائم بها كافرًا أو فاسقًا، إما لانتفاء شرط التكفير أو التفسيق أو وجود مانع شرعي يمنع منه.
ومن تبين له الحق فأصرَّ على مخالفته تبعًا لاعتقادٍ كان يعتقده، أو متبوعٍ كان يعظمه، أو دنيا كان يؤثرها، فإنه يستحق ما تقتضيه تلك المخالفة من كفر أو فسوق »[" المرجع السابق "(ص111-112)] .
هذا؛ و للشيخ ربيع حفظه الله تفصيلٌ في البدع التي لا يُبدع من وقع فيها حتى تُقام عليه الحجة، و أن ذلك إنما يكون في الأمور الخفية الغير واضحة، و في المسائل الدقيقة، أما من وقع في إحدى البدع الجلية الكبرى كالقول بخلق القرآن، أو إنكار القدر فقد نقل عن السلف أنهم يبدعونه ولا يعذرونه، و لا يشترطون إقامة الحجة عليه .
فقال حفظه الله مجيبًا على سؤال هذا نصه:« شيخنا –حفظكم الله- هناك سؤال يدور بين طلاب العلم، وهو: هل يشترط في تبديع من وقع في بدعة أو بدع أن تقام عليه الحجة لكي يبدع أولا يشترط ذلك، أفيدونا جزاكم الله خيراً؟
فأجاب:« المشهور عن أهل السنة أنه من وقع في أمر مكفر لا يكفر حتى تقام عليه الحجة.
أما من وقع في بدعة فعلى أقسام:
القسم الأول: أهل البدع كالروافض والخوارج والجهمية والقدرية والمعتزلة والصوفية القبورية والمرجئة، ومن يلحق بهم، كالأخوان والتبليغ وأمثالهم، فهؤلاء لم يشترط السلف إقامة الحجة من أجل الحكم عليهم بالبدعة، فالرافضي يقال عنه: مبتدع، والخارجي يقال عنه: مبتدع، وهكذا، سواء أقيمت عليهم الحجة أم لا.
القسم الثاني: من هو من أهل السنة ووقع في بدعة واضحة كالقول بخلق القرآن أو القدر أو رأي الخوارج وغيرها فهذا يبدع وعليه عمل السلف.. .
القسم الثالث: من كان من أهل السنة ومعروف بتحري الحق ووقع في بدعة خفية فهذا إن كان قد مات فلا يجوز تبديعه بل يذكر بالخير، وإن كان حيًّا فيناصح ويبين له الحق ولا يتسرع في تبديعه فإن أصر فيُبدَّع »[ " مجموع كتب و رسائل الشيخ ربيع "(4/347-إلى- 353) ] .
و لشيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله نحو هذا التفريق، في مسائل التكفير، التي يُحكم فيها على المُخالف بالكفر، قال فيه: «اعلم أنَّ من وُصِفَ بالإسلام ثمَّ أتى ببعض مظاهر الشرك أو لم يلتزم ببعض جوانب الشريعة فإنَّ ما عليه أهل السُّنَّة أنَّ المسائل الخفيَّة التي يخفى دليلها على بعض الناس، أو المسائل التي تحتاج إلى علمٍ بها لا يُدْرَك بالعقل كالأسماء والصفات، أو المسائل التي لا يَسَعُه معرفتها إلاَّ بعد إعلامه بحكم الله فيها فإنه لا تكفير فيها إلاَّ بعد قيام الحُجَّة عليه لا بمجرَّد فعله الظاهر، والمعتَبَرُ في بلوغ الحُجَّة إمكانُ العلم وعدمُ إمكانِ الجهل، إذ لا تكليف إلاَّ بمعلومٍ، ولأنَّ الأصلَ في المكلَّف عدمُ العلم حتَّى يثبت أنَّ الحجَّة قد بلغتْه يقينًا لا احتمالَ فيها، والحجَّة تتحقَّق بخبر العدل، لأنَّ العبرة ببيان الحقِّ بدليله لا بكثرة العدد.
أمَّا المسائل الظاهرة البيِّنة الجليَّة أو المعلومة من الدين بالضرورة كأصول الدين والإيمان فالعذرُ بالجهل فيها غير مقبولٍ بعد ظهور الحجَّة، قال محمَّد بن عبد الوهَّاب -رحمه الله-: «لكنَّ الشخص المعيَّن إذا قال ما يوجب الكفرَ فإنه لا يُحكم بكفره حتى تقوم عليه الحُجَّة التي يكفر تاركُها، وهذا في المسائل الخفيَّة التي قد يخفى دليلُها على بعض الناس... وأمَّا ما يقع منهم في المسائل الظاهرة الجليَّة، أو ما يُعلم من الدِّين بالضرورة فهذا لا يُتوقَّف في كفر قائله، ولا تجعل هذه الكلمة عكَّازةً تدفع بها في نحر من كفَّر البلدة الممتنعة عن توحيد العبادة والصفات بعد بلوغ الحُجَّة ووضوح المحجَّة »[" الدرر السنيَّة " (ظ¨/ ظ¢ظ¤ظ¤)] »[ " مجالس تذكيرية " (ص80)] .
* و من فروع هذه المسألة وجوب التفريق بين الإطلاق والتعيين في الحكم على المخالفين، و أن التكفير المطلق و التبديع المطلق لبعض الطوائف و الجماعات لا يستلزم تكفير و تبديع المعينين منهم، و لا أن نُنزل حكم العلماء و الأئمة العام على بعض الفرق على كلِّ فردٍ منتسبٍ إليها، فإن السلف كانوا يطلقون القول بتكفير بعض الطوائف و تبديع بعض الفرق و لكنهم لم ينزلوا هذه الأحكام على الأعيان، أعني: على كلِّ فرد من أفراد تلك الفرق .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في " مجموع الفتاوى "(12/487-489) : « التكفير المطلق لا يستلزم تكفير المعين إلا إذا وجدت الشروط وانتفت الموانع، و يُبين هذا أن الإمام أحمد وعامة الأئمة الذين أطلقوا هذه العمومات لم يكفروا أكثر من تكلم بهذا الكلام بعينه..» إلى أن قال: « وهذه الأقوال والأعمال منه ومن غيره من الأئمة صريحة في أنهم لم يكفروا المعينين من الجهمية الذين كانوا يقولون: القرآن مخلوق، وأن الله لا يُرى في الآخرة .
وقد نقل عن أحمد ما يدل على أنه كفَّر به قومًا معينين، فأما أن يذكر عنه في المسألة روايتان ففيه نظر، أو يحمل الأمر على التفصيل، فيقال: من كفر بعينه فلقيام الدليل على أنه وجدت فيه شروط التكفير وانتفت موانعه، ومن لم يكفر بعينه فلانتفاء ذلك في حقه، هذا مع إطلاق قوله بالتكفير على سبيل العموم » .
و قال رحمه الله : « ولهذا كان السلف والأئمة يكفرون الجهمية في الإطلاق والتعميم، وأما المُعَيَّن منهم فقد يدعون له ويستغفرون له؛ لكونه غير عالم بالصراط المستقيم.
وقد يكون العلم والإيمان ظاهراً لقوم دون آخرين، وفي بعض الأمكنة والأزمنة دون بعض، بحسب ظهور دين المرسلين »[ " بيان تلبيس الجهمية " (1/ 10)] .
و قال العلامة الألباني رحمه الله:« الإخوان المسلمون فيهم من جميع الطوائف، فيهم سلفيون، فيهم خلفيون، فيهم شيعة، فيهم كذا وكذا ... فلا يصح أن يطلق عليهم صفة واحدة، وإنما نقول: من تبنى منهجا خلاف الكتاب والسنة من أفرادهم فهو ليس من الفرقة الناجية بل هو من الفرقة الهالكة »[ " سلسلة الهدى والنور " (666)] .
وسئل العلامة مقبل الوادعي رحمه الله: هل جماعة الإخوان المسلمين والتبليغ من أهل السنة والجماعة أم لا ؟
فأجاب: « جماعة الإخوان المسلمين والتبليغ والقطبية الأولى أن يُحكَم على مناهجهم، فمناهجهم ليست بمناهج أهل السنة والجماعة.
أما الأفراد فبعض الناس يكون ملبساً عليه ويكون سلفيا، ويأتون إليه من باب نصر دين الله، ويمشي معهم ولا يدري ما هم عليه.
فالأفراد خليط لا يستطاع أن يحكم عليهم بحكم عام، لكن المناهج ليست مناهج أهل السنة »[ "غارة الأشرطة " (2/8) ] .
و قال رحمه الله: « موقف أهل السنة والجماعة من الإخوان المسلمين أنهم يحكمون على منهجهم بأنه منهج مبتدع، وعلى أفرادهم بأنه من كان يعلم بالمنهج ويلتزم به فإنه مبتدع، ومن كان لا يعلم المنهج وهو يظن أنه ينصر الإسلام والمسلمين فيعتبر مخطئًا » [ "تحفة المجيب " (ص 203) ].
المطلب الثاني عشر
الفرق بين بلوغ الحجة و بين فهم الحجة، وبأيِّهما تقام الحجة .
بلوغ الحجة معناه: حصول البيان للمكلف ، و وصول الحجة إليه، و معرفته لما جاء به الرسول من الهدى و دين الحق، إما عن طريق الرسول أو أتباع الرسول . الفرق بين بلوغ الحجة و بين فهم الحجة، وبأيِّهما تقام الحجة .
فإذا حصل له هذا، فقد بلغته الحجة، و أما فهم الحجة فهو أمرٌ زائدٌ على مجرَّد بلوغها إياه، و وصولها إليه، و ذلك أن المخاطب إذا بلغته الحجة، قد يفهمها و قد لا يفهمها، فهل مجرَّد بلوغها إيَّاه و لو لم يفهمها كافٍ في إقامة الحجة عليه، بحيث تترتَّب عليه أحكام من خالفها؟ أم لابدَّ من فهمه للحجة التي بلغته؟
في ذلك خلافٌ مشهورٌ بين العلماء، سيما المتأخرين، فمنهم من ذهب إلى أنَّ الحجة تُقام على المكلَّف بمجرَّد بلوغها إياه و لو لم يفهمها، و ذلك أن فهم الحجة عند هؤلاء ليس بشرطٍ في قيامها، و ممن ذهب إلى هذا القول جماعةٌ من أئمة الدعوة من تلاميذ و أحفاد شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمهم الله تعالى، و من هؤلاء العلامة إسحاق بن عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ، في رسالته " حكم تكفير المعين والفرق بين قيام الحجة وفهم الحجة " .
و منهم من ذهب إلى أنه لابدَّ من فهم الحجة، و إليه ذهب جماعة من أئمة الدعوة كذلك، و غيرهم من أهل العلم.
و منهم من فصَّل القول في المسألة، و جعل فهم الحجة نوعان:
فهمٌ لابدَّ منه في إقامة الحجة، و فهمٌ ليس بشرطٍ في ذلك، و في بيان ذلك يقول العلامة صالح آل الشيخ حفظه الله في شرحه على " العقيدة الطحاوية "(ص365) :« فهم الحجة على قسمين:
1- يُرَادُ بفهم الحجة فهم معاني الأدلة، فهذا لابد منه، فلا يُكْتَفَي في إقامة الحجة على أعجمي لا يفهم اللغة العربية بأن تُتْلَى عليه آية باللغة العربية، وهو لا يفهم معناها، ويقال قد بَلَغَهُ القرآن والله عز وجل يقول: { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَاذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [الأنعام:19] ، هذا ليس بكافٍ، لابد أن تكون الحجة بلسان من أقيمت عليه ليفهم المعنى، قال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} [إبراهيم:4] .
2- المعنى الثاني لفهم الحجة أن يَفْهَمَ كونَ هذه الحجة أرجَحَ من شبهته التي عنده، المشركون -كما قررنا لكم في شرح كشف الشبهات- عندهم علم وعندهم كتب وعندهم حُجَجَ كما أخبر الله - عز وجل - في كتابه.
ففَهْمُ حُجَّة الرسول صلى الله عليه وسلم، وفَهْم القرآن، وفَهْم حجة النبي صلى الله عليه وسلم، العقلية التي أدلى بها عليهم بعد الوحي، هذه معناها أن يفهموا المعنى.
إذا كانوا هم فهموا المعنى؛ لكن مثل ما يقول القائل: ما اقْتَنَعْ أَنَّ هذه الحجة أقوى من الشبهة التي عنده، فهذا ليس بشرط.
فإذن ما يُشْتَرَط من فهمِ الحجة هو القسم الأول؛ وهو:
- فهم المعنى.
- فهم دلالة الآية باللغة العربية ونحو ذلك.
أما فهم الحجة بمعنى كون هذه الحجة أرجح في المقصود وأدلّ على بطلان عبادة غير الله أو على بطلان الباطل، هذا ليس بشرط، المهم يفهم معناها ودلالتها، ثم بعد ذلك الله - عز وجل - يُضل من يشاء ويهدي من يشاء » .
وقال حفظه الله:« هذا مبحث بحثه علماء الدعوة والعلماء قبلهم هل فهم الحجة شرط أم ليس بشرط، والله جل وعلا قال في كتابه: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} يعني جعلنا على قلوبهم أكنة أغطية وحجب أن يفهموا هذا البلاغ وهذا الإنذار {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} فدل على أن المشرك لم يفقه الكتاب ولم يفقه السنة يعني لم يفهم.
وتحقيق المقام هنا ، لأن بعض الناس قال: كيف لا تشترطون فهم الحجة وكيف تقام الحجة بلا فهم، وتفصيل الكلام هنا أن فهم الحجة نوعان:
النوع الأول: فهم لسان.
والنوع الثاني: فهم احتجاج.
أما فهم اللسان: فهذا ليس الكلام فيه فإنه شرط في بلوغ الحجة؛ لأن الله جل وعلا قال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}، والله جل وعلا جعل هذا القرآن عربياً لتقوم الحجة به على من يفقه اللسان العربي.
وإذا كان كذلك فإن فهم اللسان هذا لابد منه؛ يعني إذا أتاك رجل يتكلم بغير العربية فأتيت بالحجة الرسالية باللغة العربية، وذاك لا يفهم منها كلمة، فهذا لا تكون الحجة قد قامت عليه بلسان لا يفهمه، حتى يَبُلَغُه بما يفهمه لسانه.
والنوع الثاني من فهم الحجة: هو فهم احتجاج يفهم أن تكون هذه الحجة التي في الكتاب والسنة حجة التوحيد أو في غيره أرجح وأقوى وأظهر وأبين، أو هي الحجة الداحضة لحجج الآخرين، وهذا النوع لا يشترط؛ لأنه جل وعلا بين لنا وأخبر أن المشركين لم يفقهوا الحجة فقال جل وعلا: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ} وقال سبحانه: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا}،{أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ}، فهم لا يسمعون سمع فائدة، وإن سمعوا سمع أُذُن ولا يستطيعون أن يسمعوا سمع الفائدة وإن كانوا يسمعون سمع الأذن، وقد قال جل وعلا: {وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ}، وقال سبحانه: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ}، {إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} حتى وصفهم بأنهم يستمعون وليس فقط يسمعون بل يستمعون يعني ينصتون ومع ذلك نفى عنهم السمع بقوله: {وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا} وبقوله: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ}فإذن هم سمعوا سمع لسان لكن لم يسمعوا الحجة سمع قلب وسمع فهم للحجة، يعني أنها راجحة فلم يفهموا الحجة ولكنهم فهموها فهمَ لسان، فهموها لأنها أقيمت عليهم بلسانهم الذي يعلمون معه معاني الكلام، ولكن لم يفهموها بمعنى أن الحجة هذه راجحة على غيرها، ولهذا قال تعالى: {وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ}»[ مفرَّغ من " شرح مسائل الجاهلية "(الشريط الرابع )].
* ثم اعلم بأنَّ قيام الحجة، و بأيِّ شيء تُقام الحجة، و مقدار ما تقوم به الحجة، أمرٌ يتفاوت و يختلف من زمان إلى زمان، ومن مكان إلى مكان، و من شخصٍ لآخر، فعلى من ينبري لقيام الحجة أن يُراعيَّ هذه الأمور، و أن تكون منه على بال .
قال الإمام ابن القيم رحمه الله:« وأما بأي شيء تقوم الحجة: فهذا يختلف من زمان إلى زمان ومن مكان إلى مكان ، فما تقوم الحجة في عصور ازدهار العلم غير ما تقوم به في عصور انحطاطه ، وما تقوم به في المدن غير ما تقوم به في البوادي البعيدة عن العلم وأهله ، كما أن الحجة تختلف من شخص إلى آخر بحسب تفاوت الناس في العلم وقدراتهم، فليراع كل ذلك »[ " طريق الهجرتين "(2/93)] .
و قال شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله:« هذا، واللائق بهذا المقام النظر في مسألة العذر بالجهل في المسائل الدِّينية إلى جزئياتٍ متعدِّدةٍ تتبلور من خلالها المسألة وتنضبط، ويمكن بيان هذه الجزئيات -باختصار- من الحيثيات التالية..» .
فذكر بعضها، ثم قال: « ومن حيث حال البيئة:
فإنه يفرَّق بين أماكن الناس وزمانهم من جهة انتشار العلم أو عدم انتشاره، أي: بين مجتمعٍ ينتشر فيه العلم والتعليم، وتعرَف أماكنه بنشاط أهل البصيرة بالدعوة إلى الله تعالى والنهوض بالعلم والتوحيد، بحيث لا تخفى مظانُّه ومدارسه وأهله، وبين زمن فتور العلم وضعف القائمين به، حتى لا يبقى من يبلِّغ، فينتشر الجهل ويَضْمَحِلُّ العلم، وتأكيدًا لهذا المعنى يقول ابن تيمية -رحمه الله-: «إنَّ الأمكنة التي تفتر فيها النُّبوَّة لا يكون حكمُ من خَفِيت عليه آثار النبوة حتى أنكر ما جاءت به خطأ، كما يكون حكمه في الأمكنة والأزمنة التي ظهرت فيها آثار النبوة»[ " بغية المرتاد " (السبعينية) لابن تيمية (311)) ].
ويقول -أيضًا-في " مجموع الفتاوى " (11/407: «وكثيرٌ من الناس قد ينشأ في الأمكنة والأزمنة الذي يَنْدَرِسُ فيها كثيرٌ من علوم النُّبوَّات حتى لا يبقى من يبلِّغ ما بعث الله به رسوله من الكتاب والحكمة، فلا يعلم كثيرًا ممَّا يبعث الله به رسوله ولا يكون هناك من يبلِّغه ذلك، ومثل هذا لا يكفر، ولهذا اتفق الأئمَّة على أنَّ من نشأ بباديةٍ بعيدةٍ عن أهل العلم والإيمان، وكان حديثَ العهد بالإسلام فأنكر شيئًا من هذه الأحكام الظاهرة المتواترة فإنه لا يحكم بكفره حتى يعرف ما جاء به الرسول، ولهذا جاء في الحديث: « يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ لاَ يَعْرِفُونَ فِيهِ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ صَوْمًا وَلاَ حَجًّا إِلاَّ الشَّيْخَ الكَبِيرَ وَالعَجُوزَ الكَبِيرَةَ، يَقُولُونَ: أَدْرَكْنَا آبَاءَنَا وَهُمْ يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَهُمْ لاَ يَدْرُونَ صَلاَةً وَلاَ زَكَاةً وَلاَ حَجًّا، فَقَالَ: وَلاَ صَوْمٌ يُنْجِيهِمْ مِنَ النَّارِ» ( صحَّحه الألباني في " السلسلة الصحيحة " (1/171) »[ رسالة « في ضوابط مسألة العذر بالجهل » ضمن كتاب " مجالس تذكيرية على مسائل منهجية " (ص71-72)].
و لا يفوتني أن أُنبِّه في هذا الموضع إلى أنَّ مسألة قيام الحجة لا يُرجع فيها لكلِّ أحد، و لا يتولاها كلُّ أحد، سيما في مسائل التكفير، و إنما إلى أهل العلم و من كان مُتأهِّلًا للكلام في مثل هذه المسائل .
قال الشيخ العلامة سليمان بن سحمان رحمه الله : « الذي يظهر لي – والله أعلم – أنَّها لا تقوم الحجة إلاَّ بمن يُحسِنُ إقامتها ، وأما من لا يحسن إقامتها ؛ كالجاهل الذي لا يعرف أحكام دينه ، ولا ما ذكره العلماء في ذلك ؛ فإنه لا تقوم به الحجَّة »[ " منهاج الحق والاتِّباع " (ص/68)] .
و سئل العلامة الألباني رحمه الله : هل يجوز تكفير الفرق الضالة كالخوراج، والمعتزلة، والرافضة وغيرهم، بعد إقامة الحجة عليهم؟
فأجاب رحمه الله: إذا كان السؤال مقيداً بما جاء في آخره بعد قيام الحجة عليهم، الجواب: نعم!! .
ولكن لا بد هنا من القول: هل كل من ادعى بأنه أقام الحجة على المنكر أو المخالف هو أهل لإقامة الحجة على ذلك المخالف؟
لأننا نشاهد اليوم -مع الأسف أن كثيراً من شبابنا السلفي إذا ما تعلم بعض المسائل واختلف هو وأحد المشايخ العلماء وقد يكونون علماء فعلاً بما يسمونه بعلوم الآلة، يعني بعلم النحو والصرف والبيان ....... وإلخ، والأصولين: أصول الحديث، وأصول الفقه، ولكن ما طبقوا ذلك -فيأتي أحد إخوانَّا المبتدئين في العلم، ويكون تعلم مسألة أو مسألتين، واختلف مع ذلك العالم، فيقول: أنا أقمت الحجة عليه!
وما أظن بمثل هذه السهولة نستطيع أن نقول بأن الحجة قد أقيمت عليه، ولذلك فأنا أقول: إذا أقيمت الحجة عليه فعلاً فقد سبق الجواب في هذا تماماً، لكن من يقيم الحجة؟
هم أهل العلم، وأهل المعرفة بالكتاب والسنة وما كان عليه السلف الصالح من المنهج السليم!! »[ من شريط " رد شبه الطائفة التكفيرية "].
المطلب الثالث عشر
الفرق في معاملة المبتدعة الدعاة، و غير الدعاة
يُفرِّق السلف و الأئمة في التعامل مع المبتدعة الدعاة إلى بدعهم، الذين يُروِّجون لانحرافاتهم و يُزيِّنون أباطيلهم، و يدعون إليها غيرهم، و يبُثُّونها في أوساط الناس، و بين من كان ساكتًا أو متستِّرًا ببدعته ليس له نشاطٌ في نشرها و الدعوة إليها، فشدَّدوا في معاملة الدُّعاة منهم إلى البدعة بما لم يُشدِّدوا مثله في حقِّ غير الدعاة، و ذلك أنَّ المبتدع إذا دعا إلى البدعة « فمظنة الاقتداء أقوى وأظهر، ولا سيما المبتدع اللَّسِن الفصيح الآخذ بمجامع القلوب إذا أخذ في الترغيب والترهيب، وأدلى بشبهته التي تُداخل القلب بزخرفها»[ " الاعتصام " للشاطبي(1/169)] .الفرق في معاملة المبتدعة الدعاة، و غير الدعاة
و يظهر تفريق السلف في معاملة المبتدعة الدعاة و غير الدعاة من جهاتٍ عِدَّة، نكتفي منها باثنين:
الأولى: من جهة الرواية.
فإنَّ الذي عليه جمهور المحدثين، هو قبول رواية المبتدع غير الداعية، و ردُّ رواية الداعية، و زاد جماعةٌ منهم بعض القيود في ذلك .
قال الحافظ ابن حبان في " الثقات " (ظ¦/ظ،ظ¤ظ*): وليس بين أهل الحديث من أئمتنا خلاف أن الصدوق المتقن إذا كان فيه بدعة و لم يكن يدعو إليها أن الاحتجاج بأخباره جائز ، فإذا دعا إلى بدعته سقط الاحتجاج بأخباره ، ولهذه العلة تركوا حديث جماعة ممن ينتحلون البدع ويدعون إليها وإن كانوا ثقات ».
و قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحه الله:« و لهذا كان الإمام أحمد وأكثر من قبله و بعده من الأئمة، كمالك وغيره، لا يقبلون رواية الداعي إلى بدعة ولا يجالسونه، بخلاف السَّاكت، وقد أخرج أصحاب الصحيح عن جماعات ممن رُمي ببدعة من الساكتين ولم يخرجوا عن الدعاة إلى البدع »[ " مجموع الفتاوى "(24/175)].
الثانية: من جهة الهجر و التحذير، فالسلف هجروا الدعاة إلى البدعة، و أمروا بهجرانهم، و حذَّروا منهم، و صاحوا بهم من كلِّ جانب، و لم يفعلوا ذلك و لا أمروا به مع غير الدعاة، و المستترين بالبدعة، و إنَّما لهم معاملة أخرى تخصُّهم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: « ... فبهذا ونحوه رأى المسلمون أن يهجروا من ظهرت عليه علامات الزيغ من المظهرين للبدع، الداعين إليها، والمظهرين للكبائر، فأما من كان مستترًا بمعصية أو مُسرًا ببدعة غير مكفرة، فإنَّ هذا لا يُهجر، وإنما يُهجر الداعي إلى البدعة؛ إذ الهجر نوع من العقوبة، وإنما يعاقب من أظهر المعصية قولاً وعملاً.
وأما من أظهر لنا خيرًا فإنا نقبل علانيته، و نكل سريرته إلى الله تعالى، فإن غايته أن يكون بمنزلة المنافقين الذين كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يقبل علانيتهم، و يكلُ سريرتهم إلى الله، لما جاءوا إليه عام تبوك يحلفون ويعتذرون»[ " مجموع الفتاوى "(24/175)] .
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« أهل البدع ندعوهم إلى الله ونبيِّن لهم، ثم هم قسمان:
1- قسم دعاة إلى الشر: فهؤلاء لا يؤخذ منهم حديث، ولا يؤخذ منهم علم، ويجب التحذير منهم لوقاية الأمة من شرهم؛ فإنهم دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها والعياذ بالله .
2- وأما عوامهم: فهؤلاء لا يهجرون وإنما يدعون إلى الله-تبارك وتعالى- بالحكمة والموعظة الحسنة؛ يعني: غير دعاة وعوام وفسادهم في أنفسهم، فهذا حاول هدايته إلى الله- تبارك وتعالى-؛ تدعوه بالحكمة والموعظة الحسنة، وإذا كان في الاختلاط به ما يضرك فابتعد عنه »[ " مجموع كتب و رسائل الشيخ "(2/295-296) ] .
وسئل حفظه الله: ما نصيحة شيخنا لبعض الإخوة الذين لا يفرقون بين دعوة العامي الذي وقع في البدعة، وبين الداعية إلى البدعة وما هو منهج السلف في ذلك؟
فأجاب:« السلف فرقوا بين الدعاة وغيرهم، الدعاة عاملوهم بشدة، هجروهم وقاطعوهم ولم يأخذوا عنهم العلم، وإذا تمادى في دعوته إلى الباطل أغروا به ولاة الأمور فيقتلونه، إلى آخر ما عاملوا به أولئك الضلال، وأما الساكت والعامي فهذا له معاملة أخرى..»[ "المرجع السابق"(14/163) ] .
و قال العلامة عبيد الجابري حفظه الله: « أهل السنة عندهم ميزان مستقيم، ومنهج سليم؛ فهم يبغضون البدع، ويستنكرونها، وكذلك يبغضون المبتدعة الذين يدعون إلى بدعهم، وينافحون عنها، وينشرونها ويحذرون منهم، ومن مجالستـهم.. .
لأن المقصود : تصفية السنة من البدع والمحدثات في الدين، ووقاية أهل السنة من خطر المبتدعة؛ ولـهذا هم يـفـرقـون بين المبتدع الداعية، وبين الساكت؛ لأن الساكت لا يضر أحداً، يضر نفسه »[ شريط: " الحد الفاصل بين معاملة أهل السنة وأهل الباطل " ] .
و قال شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله:« ومن ذلك التفريق بين من استقرَّت بدعته وأظهرها ودعا إليها ونافح عنها، وبين المستتر ببدعته غير الداعي إليها، فالأوَّل هو الذي يُزْجَر بهجره ويُحذَّر منه، وهو محلُّ إجماع أهل العلم، بخلاف المستتر بمعصيته أو المُسِرِّ لبدعته، فهذا يُقْبَل ظاهرُه إن أبدى الخيرَ والصلاح »[ " مجالس تذكيرية "(ص270) ] .
المطلب الرابع عشر
الفرق بين معاملة الجهال و المخدوعين من أتباع المبتدع وبين معاملة المتعصبين له العارفين بحاله .
و بين من عرفوا حقيقة ما عليه متبوعهم من الانحراف، ومع ذلك ناصروه ودافعوا عنه، وردُّا أقوال علماء السنة فيه، تعصُّبًا له، ولاختلاف دافع هؤلاء وهؤلاء في اتباعهم للمبتدع ودفاعهم عنه، فرَّق أهل السنة في معاملة الفريقين، فألحقوا الفريق الثاني بالمبتدع في الحكم والمعاملة، بينما اجتهدوا في تبصير المخدوعين المُغرَّرِ به .
ففي " السنة للخلال "(5/131) عن مُحَمَّدَ بْنَ مُسْلِمٍ، أَنَّ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ -يعني: أحمد بن حنبل- قِيلَ لَهُ: فَالْوَاقِفَةُ؟ قَالَ: « أَمَّا مَنْ كَانَ لَا يَعْقِلُ، فَإِنَّهُ يُبَصَّرُ، وَإِنْ كَانَ يَعْقِلُ وَيُبْصِرُ الْكَلَامَ، فَهُوَ مِثْلُهُمْ » .
و قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله : « إن كان يعرف المبتدع، ويحبُّه، و يُواليه، فهذا مبتدع، فهذا هو الفصل في هذه القضية، يَعرف أن هذا مبتدع ويناصره ويحارب أهل السنة والجماعة هذا مبتدع .. لاشك.
أما إنسان ما عرف أنه مبتدع فلا تُبدِّعه، فلا تطلق عليه هذه القاعدة، الذي تدرُسه وتعرف أنه يوالي المبتدع وينافع عنه ويحارب أهل السنة من أجله ولأجل هذا الباطل ، هذا مبتدعٌ ضالٌّ، أما إنسان لا يعرف أن هذا مبتدع فانصحه وبيِّن له أنه مبتدع، فإن انتهى وإلا فألحقه بصاحبه المبتدع »[انظر كتاب الشيخ " عون الباري بشرح السنة للبربهاري "(2/891) ] .
و قال العلامة الفوزان حفظه الله:« المبتدع تجب مناصحته، ودعوته إلى الله، تخويفه بالله، وإذا كان عليه التباس أو اشتباه يُبيَّن له الحق، إذا كان ما ظهر له شيء يبيَّن له الحق وتقام عليه الأدلة فإن أصرَّ بعد ذلك فإنه يكون مبتدعًا يجب هجره، والتحذير منه، والابتعاد عنه، وكل من وافقه على بدعته وصار تابعًا له ولم ينتصح ولم يتركه فإنه يهجر مثله، لأن من وافق المبتدع ورضي ببدعته فهو مبتدع مثله فيهجر كما يُهجر المبتدع »[ صوتية في حكم " إلقاء السلام على أتباع المبتدع إن كانوا يتعصبون له "] .
و قال العلامة عبيد الجابري حفظه الله:« القاعـدة العـامة عند أهل السنة في الإلحاق بالمبتدعة تنحصر في من يدافع عن أهل البدع ويسوِّغ لهم ويعتذر لهم، مع عـلمه بأنهم على ضـلال. هذه خلاصته ، فلا يصدر هذا إلا من صاحب هوى في الغالب، وإن أظهر التستر بالسنة؛ لأنه يخشى سطوة أهل السنة، لكنه هو صاحب هوى .
وقد يكون جاهل من الجهَّال يحب الخير، وليس عنده فرقان . . .
و علاجنا لهؤلاء :
- نَـخــبر حـالـَـهم :
فإن كانوا جهالاً ناصحناهم، وإن كانوا يكتبون ما يكتبون عن علم، ويعلمون أن هذه الكتب فيها ضـلال، فنحن نُحذر منهم، ونحذَرهم، ونُلحقهم بمعتـمدهم من أهل الانحراف والزيغ والضلال، ولا كرامة عين»[ شريط: " الحد الفاصل بين معاملة أهل السنة وأهل الباطل " ] .
فالذي يُلحق بالمبتدع عند أهل السنة كما دلت عليه النقولات السابقة عن أئِمتِنا، هو المعاند الذي يعلم حال متبوعه، و يتعصب له بالباطل و يُجادل عنه، أما المُلبَّس عليه والمخدوع فهذا عندهم يُناصح ويُعلَّم، ويُناقش حتى تزول عنه سحابة الشُّبه، وهذا هو ميدان الدعوة .. .
المطلب الخامس عشر
الفرق بين قول القائل ولازم قوله، وبين اللازم من كلام الله ورسوله وبين اللازم من كلام غيرهما .
ثمة فرق مهمٌّ عند أهل السنة بين صريح قول القائل وبين لازم قوله الذي يلزم من كلامه، وهو أن منطوق كلامه الذي تلفَّظ به يُعتبر قولًا له فيُنسب و يُسند إليه، سواء كان حقًّا أم باطلًا، بخلاف لازم قوله الذي يلزم من كلامه فإنه لا يُنسب إليه ولا يُعدُّ من قوله إلَّا إذا ذُكِر له فالتزم به، و ذلك أنَّ المرء قد يقول قولًا و لا ينتبه لما يلزم منه من باطل يدلُّ على بطلان قوله، لكنه إذا نُبِّه و بٌيِّن له ما يلزم من قوله فقد يتراجع عنه، فلا يستحق حينها ما حُكم به عليه من خلال لازم قوله.الفرق بين قول القائل ولازم قوله، وبين اللازم من كلام الله ورسوله وبين اللازم من كلام غيرهما .
و هذه المسألة تُعتبر من المسائل المهمة التي ينبغي فهمها فهمًا صحيحًا، ليتمَّ تطبيقها تطبيقًا سليمًا بحيث لا تحصل جنايةٌ على أحدٍ و لا الحكم على أحدٍ بما لا يستحقُّه، لأن كثيرا ممن جهلها و لم يُحط بها علمًا صار يحكم على الناس بلوازم أقوالهم التي لم يلتزموها، أو لم يعلموا أصلًا أنها تلزم من كلامهم، فوقعوا في التكفير أو التبديع باللازم الذي قد لا يلزم، و هو ما كان يتورَّع منه كبار الأئمة! فهذا الإمام الذهبي رحمه الله يقول: « ونعوذ بالله من الهوى والمراء في الدين، وأن نكفر مسلما موحدًا بلازم قوله، وهو يفرُّ من ذلك اللازم، و ينزِّه ويعظم الرَّب »[ مقدمة كتاب " الرد الوافر "(ص20) لابن ناصر الدين ].
و كثير من مذاهب أهل البدع، و أقوال أهل الكلام ترى أئمة الإسلام قد علموا ما يلزم منها من كفر و زندقة و مع ذلك لم يحكموا بكفر أربابها، بمجرَّد تلك اللوازم، التي قد تكون مجهولة لهم، اللهم إلا من عرفها و التزمها .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في " مجموع الفتاوى "(16/461): « و لازم المذهب لا يجب أن يكون مذهبًا، بل أكثر الناس يقولون أقوالا و لا يلتزمون لوازمها، فلا يلزم إذا قال القائل ما يستلزم التعطيل أن يكون معتقدًا للتعطيل، بل يكون معتقدًا للإثبات و لكن لا يعرف ذلك اللزوم » .
و قال رحمه الله:« ولو كان لازم المذهب مذهبًا، للزم تكفير كلِّ من قال عن «الاستواء » أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإنَّ لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة، وكل من لم يثبت بين الاسمين قدرًا مشتركًا لزم أن لا يكون شيء من الإيمان بالله ومعرفته والإقرار به إيمانًا، فإنه ما من شيء يثبته القلب إلا ويقال فيه نظير ما يقال في الآخر، ولازم قول هؤلاء يستلزم قول غلاة الملاحدة المعطلين الذين هم أكفر من اليهود والنصارى، لكن نعلم أن كثيرا ممن ينفي ذلك لا يعلم لوازم قوله »[ " مجموع الفتاوى " (20/217) ] .
و قال العلامة الهراس رحمه الله:« لوازم المعنى لا تكون مقصودة عند ذكره إلا ممن يعرف لزومها له ، فهذا هو الذي يمكن أن يؤخذ بما يلزم ما يثبته من معان ، وأما غيره ممن يجهل اللزوم بينهما فليس بلازم في حقه القصد إلى اللوازم عند ذكر المعنى مهما تكن اللوازم بينة واضحة ، إذ قد يكون لزومها مجهولاً له ، أو يكون معلوماً ولكن أصابته غفلة عن ذلك اللزوم بسبب كثرة سهوه ونسيانه ، ولذلك قرر العلماء بأن لازم المذهب لا يكون مذهباً بلا حجة ولا برهان ، وأن من حكى ذلك عنهم فهو من أجهل الجهل والعدوان ، ولا فرق في ذلك بين اللوازم الظاهرة واللوازم الخفية ، فإن الإنسان قد يذهل عن اللازم القريب وهذا الحكم إنما هو بالنسبة إلى اللوازم التي ثبت لزومها ، أما ما ليس بلازم في الحقيقة ولكن يظن الذهن لزومه فهذا أولى أن لا يعتبر لازمًا»[ " شرح النونية " (2/253)] .
و في تفصيل القول في هذه المسألة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:« وعلى هذا فلازم قول الإنسان نوعان:
أحدهما: لازم قوله الحق، فهذا مما يجب عليه أن يلتزمه، فإن لازم الحق حق ويجوز أن يضاف إليه إذا علم من حاله أنه لا يمتنع من التزامه بعد ظهوره، وكثيرٌ مما يضيفه الناس إلى مذهب الأئمة من هذا الباب .
والثاني: لازم قوله الذي ليس بحق، فهذا لا يجب التزامه، إذ أكثر ما فيه أنه قد تناقض، وقد بينت أن التناقض واقع من كل عالم غير النبيين، ثم إن عرف من حاله أنه يلتزمه بعد ظهوره له فقد يضاف إليه وإلا فلا يجوز أن يضاف إليه قول لو ظهر له فساده لم يلتزمه، لكونه قد قال ما يلزمه وهو لم يشعر بفساد ذلك القول ولا بلازمه »[ " مجموع الفتاوى " (29/41)] .
و قال العلامة العثيمين رحمه الله: « فاللازم من قول الله تعالى وقول رسوله صلى الله عليه وسلم، إذا صح أن يكون لازما فهو حق، وذلك لأن كلام الله ورسوله حقٌ، ولازمُ الحقِّ حق، ولأنَّ الله تعالى عالمٌ بما يكون لازمًا من كلامه وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون مرادًا .
وأما اللازم من قول أحدٍ سوى قول الله و رسوله صلى الله عليه وسلم فله ثلاث حالات:
الأولى: أن يذكر للقائل ويلتزم به...
الحال الثانية: أن يذكر له ويمنع التلازم بينهُ وبينَ قوله... وحكم اللازم في هاتين الحالين ظاهر.
الحال الثالثة: أن يكون اللازم مسكوتًا عنه، فلا يذكر بالتزام ولا منع، فحكمه في هذه الحال أن لا ينسب إلى القائل، لأنه يحتمل لو ذكر له أن يلتزم به أو يمنع التلازم، ويحتمل لو ذكر له فتبيَّن له لازمه وبطلانه أن يرجع عن قوله، لأن فساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
ولورود هذين الاحتمالين لا يمكن الحكم بأن لازم القول قول.
فإن قيل: إذا كان هذا اللازم لازمًا من قوله، لزم أن يكون قولًا له لأن ذلك هو الأصل، لا سيما مع قرب التلازم. قلنا: هذا مدفوع بأن الإنسانَ بشرٌ وله حالات نفسية وخارجية توجب الذهول عن اللازم، فقد يغفل أو يسهو، أو ينغلق فكره، أو يقول القول في مضايق المناظرات من غير تفكير في لوازمه ونحو ذلك »[ " القواعد المثلى " (القاعدة: الرابعة ) ].
و من الأقوال السائرة بين بعض الناس سيما منهم الصحافة و الإعلاميون، و التي يلزم منها الكفر، قولهم: مات فلان و سُينقل إلى مثواه الأخير في وقت كذا و كذا، أو: و نُقل إلى مثواه الأخير، و معلومٌ بأن المثوى الأخير ليس هو القبر، فليلزم من هذا الكلام إنكار البعث و النشور، و الجنة و النار، إذ هما مستقرُّ الناس و مثواهم الأخير! لكن لا يجوز تكفير من قال هذا من المسلمين بمجرَّد اللازم الذي يلزم منه، لاحتمال عدم إرادة اللازم، أو ذهول المتكلم عنه، و جهله به كما تقدَّم .
إلا إذا ذُكر له ما يلزم من كلامه و نُبِّه على ذلك، فالتزمه، و قال: نعم أنا أعتقد بأنَّ القبر هو المثوى الأخير الذي لا شيء بعده، و لا أومن بالبعث! و الله المستعان.
سئل العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ما حكم قولهم : دفن في مثواه الأخير؟
فأجاب قائلاً: قول القائل : دفن في مثواه الأخير، حرامٌ ولا يجوز؛ لأنك إذا قلت : في مثواه الأخير، فمقتضاه أن القبر آخر شيء له ، وهذا يتضمن إنكار البعث ، ومن المعلوم لعامة المسلمين أن القبر ليس آخر شيء ، إلا عند الذين لا يؤمنون باليوم الآخر، فالقبر آخر شيء عندهم ، أما المسلم فليس آخر شيء عنده القبر...
لهذا يجب تجنب هذه العبارة فلا يقال عن القبر: إنه المثوى الأخير، لأن المثوى الأخير إما الجنة، وإما النار في يوم القيامة »[ " مجموع فتاوى و رسائل الشيخ "(3/99)] .
و الله أعلم، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
...........يتبع إن شاء الله تعالى .
تعليق