إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تنبيه الأصحاب على ما حوى "تنبيه ذوي الألباب" من الوهم ومجانبة الصواب

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تنبيه الأصحاب على ما حوى "تنبيه ذوي الألباب" من الوهم ومجانبة الصواب

    بسم الله الرحمن الرحيم


    تنبيه الأصحاب
    على ما حوى "تنبيه ذوي الألباب" من الوهم ومجانبة الصواب


    (لكن الانتهاض لمجرد الاعتراض من جملة الأمراض)
    -السراج البلقيني-


    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فقد اطلعت على مقال أخي عمر المهداوي -وفقه الله- انتقد فيه ثلاث عبارات ذكرتها في مقال "اللباب"، وقد تسرع أخي المهداوي -زاده الله حرصا- في الحكم فتوهم ما هو خلاف الواقع ثم بنى على ذلك أحكاما لا تليق بالمباحثات الأدبية، وقد أجابه أخي أبو محمد -وفقه الله- عما أورده ووقف معه وقفات موفقة، وذكر غالب ما جال في خالدي أثناء قراءتي لمقال المهداوي -وفقه الله- لكن كمال يقال: صاحب الدار أدرى بما فيها، وبما أنني صاحب المقال فكان لزاما علي الرد والبيان والتوضيح، وخاصة أن أخي المهداوي -وفقه الله- علق الرد بمسائل خطيرة يلزم من بعضها الردة!
    ولا بد أن أنبه على أنني لم يسبق لي أن تكلمت مع الأخ المهداوي -وفقه الله- ولا أعرفه شخصه ولا عينه، ولا خبر لي بمنزلته وسنه، ولذلك فليعذرني أخي على هذا الرد إن كان لا يليق بمنزلته وسنه، لأنه شدد علي في مواضع بحسب ما اقتضاه المقام عنده لخطر المسألة التي يتناولها، مع أنه لا يلزمني شيء من ذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
    هذا فلنشرع في المقصود بتوفيق الله وهو يتولى السرائر.

    قال المهداوي: (وها هنا إشكال ورد علينا وهو نقله وفقه الله لكلام بعض أهل الشأن في بيان علو كعب الكتاب، فقال: وكان بعضهم يقول (الكتاب قرآن النحو).
    وكان عبد الله بن محمد عيسى يختمه كل خمسة عشرة يوما كأنما يتلوه تلاوة القرآن.
    وقال صاعد بن أحمد الجياني: لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب: أحدها (المجسطي) لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني (كتاب أرسططاليس) في علم المنطق, والثالث: (كتاب سيبويه) البصري النحوي فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فيه شيء إلا ما لا خطر له).

    وهذا الكلام لا يخلو من إشكال، وبيانه ذلك من وجهين:
    الأول: أنك قلت في العنوان: (...بالتعليق على الخطأ...)، ثم هنا سميته إشكالا! ولا يخفى على مثلك الفرق الشاسع بينهما، فلا يلزم من كون الشيء مشكلا على بعض الناس كونه خطأ في نفسه، فهؤلاء العلماء تتابعوا على التصنيف والكتابة في ”مشكل القرآن” ولا يعني ذلك أن ما ذكروه يعتبر خطأ في القرآن، وكذلك لا يلزم من كون الشيء خطأ في حقيقة الأمر كونه مشكلا، إذ من الخطأ ما هو واضح وضوح الشمس في ربيعة النهار حتى أنه لا يحتاج إلى رده لظهوره، وقد يكون مشكلا على طائفة وغير مشكل على طائفة أخرى، بحسب قوة تمييزهم بين الخطأ والصواب.
    فكان الأجود أن تقول: (...بالتعليق على ما أشكل من ”اللباب”...)، فتنسبه إلى الإشكال ولا تحكم عليه بالخطأ وتترك ذلك للقراء فيسمعوا منك حجتك ثم يحكمون بأنفسهم على تلك المواضع بالخطأ أو الصواب.
    لأن ما ذكرته من تلك المواضع ليس خطأ في حقيقة الأمر، وإنما هو خطأ باعتبار ما تصورته أنت وتوهمته في ظنك، فيصدق عليه أنه مشكل عليك لا على غيرك -وفقك الله-.

    الثاني: أنك قلت: (وهو نقله وفقه الله لكلام بعض أهل الشأن...)، مع أن الكلام الأول لم أنقله عن أهل الشأن ولم أسنده لأحد بعينه، وإنما قلت: (وكان بعضهم يقول...)، والذي في نسخة عبد السلام هارون (صفحة: 24): (ولقد سماه الناس قديما: قرآن النحو)، وكذلك نقله المازني كما في "خزانة الأدب” (1 /371): (ما أخلو في كل زمن من أعجوبة في "كتاب سيبويه"، ولهذا سماه الناس قرآن النحو). فهذا ذهول منك ولا ضير فإن هذا مما لا يسلم منه أحد.


    ثم قلت: (وهذا كلام تظمن -كذا- هنات كثيرة لا ينبغي أن يورد بلا تعليق لا سيما وتعلقها بالعقيدة الاسلامية الصحيحة).

    وجوابه من خمسة أوجه:
    الأول: أن قولك: (هنات كثيرة)، تهويل وتضخيم أنت في غنى عنه ولا هو مطابق لما جمعته في مقالك؛ إذ إنك أبديت ثلاثة أوجه في رد مقولتهم: (الكتاب قرآن النحو)، وقضية ورد ابن محمد عيسى، فجمعت القضيتين في قضية واحدة وما أبديت في ردهما إلا ثلاثة أوجه.
    وأبديت وجها واحدا في نقد كلام الجياني، مفاده أن ذلك كله غلو، وهو عين وجهك الثاني في القضيتين السابقتين، فكان بإمكانك ردها كلها بوجه واحد، ثم ختمت مقالك بذكر الغلو مرة أخرى.
    فهذه أربعة هنات فقط، وأنت وصفت الهنات بقولك: (كثيرة)، تنبيها على أنك لا تريد جمع القلة بل الكثرة، والكثرة عندهم ما جاوز العشرة!
    فليست هذه هنات؛ لأن الهنات: الشر والفساد، كما في ”النهاية في غريب الحديث” وما ذكرته ليس بذلك كما سيأتي بيانه، فضلا عن كونها كثيرة، فلماذا التهويل؟!
    فكان يكفيك أن تقول: (وهذا كلام تضمن مخالفات يسيرة فيما ظهر لي...)، فيكون ذلك أوفق لواقع الحال ولما جمعته في مقالك.

    الثاني: أنه لو كانت هذه المآخذ هنات وبتلك الكثرة فهل يكفي في ردها إبداء أربعة أوجه فقط؟! بل مقالك كله جاء في صفحة وخمسة أسطر ونصف! فهل ترى أن هذا القدر كاف لمناقشة الهنات الكثيرة التي تمس بعقائد المسلمين، فإن كانت الهنات حقا بتلك فقد قصرت في ردها.
    وليس قولك: (هذا الذي أردت التنبيه عليه على عجالة لقلة الوقت وكثرة المشاغل)، بالذي يشفع لك هذا التقصير، فإن مسائل العقيدة والتوحيد لا تعالج بهذه العجالة، بل تعالج بالروية وإمعان النظر والتأمل، وبإشباع الشبهة ردا وبيانا حتى لا يبقى عند القارئ لبس.

    الثالث: أن قولك: (لا ينبغي أن يورد بلا تعليق...) لا بد عليه من وقفة؛ وذلك أن هذه مقالة أدبية وليس مقالة في العقيدة والتوحيد، فلست ملزما بالتعليق على فحوى النقول، ألا ترى أنهم ينقلون في باب النحو والبلاغة والأدب نقولا وشواهد ظاهرة البطلان ومع ذلك لا يعلقون عليها بشيء؛ إذ الغرض من إرادها ليس هو بيان ما فيها من الصحة أو البطلان، وإنما الاستشهاد بها على كلام العرب، بغض النظر عن الذي فيها هل هو صواب أو خطأ، وإنما همهم بيان أن الوجه الذي وردت عليه هو طريقة العرب في كلامها.
    وذلك أن هذا الباب -أي الكتابات الأدبية- مبني على المسامحة والمساهلة، فيتساهلون فيه ما لا يتساهلون في غيره، إما من جهة مخالفتها للشرع أو من جهة مخالفتها للعقل، ويكفيك ذلك أن تنظر شعر الجاهليين فيتبين لك ما أريد، فليس لهم هم من إيراد تلك النصوص سوى بيان بلاغة اللغة وطرق تأليف الكلام، فلو كانوا يتوقفون عند كل نص لبينوا ما فيه من مخالفات لخرجوا عن أصل الموضوع.
    وعلى هذا درج الأئمة والعلماء، فانظر مثلا صنيع ابن عبد البر في كتابه ”بهجة المجالس”؛ كيف يورد القصص الخيالية والأسطورات الغريبة التي تخالف الشرع والعقل، ويعلم بطلانها ضرورة ولا يعلق عليها بشيء، وأحيانا يقول: (هذه قصة منكرة)، وانظر إن شئت في ”الكامل” للمبرد، و“البيان والتبيين” للجاحظ وسترى العجب، ولا يزال العلماء يوصون بهذه الكتب وأمثالها ويعدونها من أصول الأدب والدواوين المهمة التي ينبغي أن ينظر فيها طالب العلم، ولا ينتقدون ما فيها من النصوص.
    وهذا ابن قتيبة يقول في مقدمة كتابه: ”عيون الأخبار”: (ولم أخله مع ذلك من نادرة طريفة، وفطنة لطيفة، وكلمة معجبة وأخرى مضحكة، لئلا يخرج الكتاب عن مذهب سلكه السالكون وعروض أخذه فيها القائلون، ولأروح بذلك عن القارئ من كد الجد وإتعاب الحق، فإن الأذن مجاجة، وللنفس حمضة، والمزح إن كان حقا أو مقاربا ولأحايينه وأوقاته وأسباب أوجبته مشاكلا؛ ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله).
    فتأمل -رحمك الله قوله: (إن كان حقا أو مقاربا.... ليس من القبيح ولا من المنكر ولا من الكبائر ولا من الصغائر إن شاء الله).

    ثم قال: (واعلم أنك إن كنت مستغنيا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك، فيهيأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه، ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك).
    إلى أن قال: (وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين، وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك، فإن الأسماء لا تؤثم وإنما المأثم في شتم الأعراض وقول الزور...).
    ثم ختم هذه الفكرة بقوله: (وأحببت أن تجري في القليل من هذا على عادة السلف الصالح من إرسال النفس على السجية والرغبة بها عن لبسة الرياء والتصنع، ولا تستشعر أن القوم قارفوا وتنزهت، وثلموا أديانهم وتورعت).

    وإنما أطلت الكلام في مثل هذا لأنها نقطة مهمة يغفل عنها الكثير أثناء قراءته للمقالات الأدبية، ولأبين لك مذهب القوم وطريقتهم في مثل ذلك، وأن الكلام الأدبي مبني على المسامحة بخلاف الكلام في الأحكام الشرعية والعقدية، فالغفلة عن هذا الأصل يوقع الناس في الزلل والكثير من الخلط والخلل.

    الرابع: أن العلماء قد ينقلون نصا لهم فيه غرض فيسكتون عما فيه من المخالفة لئلا يخرج بالقارئ عن ذلك الغرض، فهذا شيخ الإسلام يفعل ذلك في كثير من كتبه، ومن ذلك صنيعه في ”الفتوى الحموية الكبرى” حيث ينقل عن جماعة من أئمة الصوفية والأشاعرة لبيان بطلان مقالة التأويل دون بيان لحال أولئك القوم، وقد يرد في نصوصهم ما هو صريح في مخالفة طريقة السلف، لكن لا ينبه على ذلك لعدم تعلقه بغرضه الذي لأجله ساق تلك النصوص، ثم هو يعتذر لنفسه في الأخير بقوله: (وليعلم السائل أن الغرض من هذا الجواب ذكر ألفاظ بعض الأئمة الذين نقلوا مذهب السلف في هذا الباب، وليس كل من ذكرنا شيئا من قوله من المتكلمين وغيرهم يقول بجميع ما نقول في هذا وغيره، ولكن الحق يقبل من كل من تكلم به...)، وكذلك أصحاب الأدب ينقلون نصا لغرض من الأغراض ويعرضون عما قد يكون فيه من المؤاخذات، إذ ليس الغرض من ذكرها نقدها وإنما بيان نكتة فيها، وأما النقد فله مجال آخر.

    الخامس: أنه لم يظهر لي وجه مناقضتها للعقيدة الإسلامية الصحيحة! بل هو ظن وقع لك وهو غير مطابق للواقع كما سيأتي بيانه.


    ثم قلت: (والجواب على هذا أن يقال: قول بعضهم: (الكتاب قرآن النحو)، وقول: عبد الله بن محمد عيسى يختمه كل خمسة عشرة يوما كأنما يتلوه تلاوة القرآن.
    باطل من أوجه كثيرة منها:
    1ـ أن القرآن كلام الله الذي (لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد)، وهذا كلام بشر ضعيف ناقص يخطئ ويصيب يجري عليه ما يجري على سائر بني آدم من سهو ونسيان وغيرها قال الله تعالى: (ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا)، قال الحكمي رحمه الله في لامية الناسخ والمنسوخ:
    وقد بدا لي في تلخيص واضحه***في جملة جمعت في طييها جمل
    ولست أذكر فيها غير راجحه***إلا لرد وتوهين فيعتزل
    والكامل الله في ذات وفي صفة***وناقص الذات لم يكمل له عمل
    والله أسأل ألطافا ومغفرة***على المعايب والتقصير تشتمل.
    2ـ الغلو الفاحش ومجاوزة الحد في إطراء المؤلف والمؤلف، وقد نهينا عن هذا في قوله صلى الله عليه وسلم: (إياكم والغلو، فإنما أهلك من كان قبلكم الغلو).
    3ـ أنه لا ينبغي تشبيه قراءة الكتاب بتلاوة كتاب رب الأرباب سبحانه وتعالى والفرق بينهما كالفرق بين الرب والعبد).

    وإبطالك هذا فاسد من ثمانية أوجه:
    أولا: أن قولك: (من أوجه كثيرة)، مخالف للواقع ولما جاء في مقالك، لأنك ذكرت ثلاثة أوجه فقط! وقد تقدم أن الكثرة عندهم ما زاد على العشرة.
    على أن الوجه الأول والثالث شيء واحد في معرضين مختلفين، وخلاصته أن هذا فيه تشبيه كلام البشر بكلام الله، فكان بإمكانك جمعهما في عبارة واحدة، والوجه الذي ذكرته في كلام الجياني راجع إلى الغلو، فتكون أوجه نقدك لمقالي وجهين فقط، فلم تبلغ حد الجمع فضلا عن بلوغها الكثرة، لكن لا عليك سأحتسبها هنا ثلاثة أوجه نزولا عند رغبتك.
    واعلم -علمني الله وإياك- أن ثلاثة أفراد هو أقل ما يحصل به الجمع، فأوجهك في أدنى مراتب جمع القلة، فكيف توصف بالكثرة؟!!
    فأنت مدرك أن مؤاخذاتك قليلة جدا وضعيفة الحجة، فلم تجد سبيلا إلى تعظيمها وتفخيمها لشد القارئ سوى بالتضخيم والتهويل -غفر الله لك-.

    ثانيا: أن قولك المتقدم فيه تناقض ظاهر، وذلك أن أوله يدل على القلة؛ لأن أوجه على وزن أفعل وهو من جموع القلة، كما قال ابن مالك:
    أفعلة أفعل ثم فعله *** ثمت أفعال جموع قله.
    وإذا كان للكلمة جمعان، جمع قلة وجمع كثرة فيجب أن يحمل كل على بابه، ثم آخر كلامك يدل على الكثرة لأنك وصفت الأوجه بقولك: (كثيرة)!
    وفيه مخالفة للواقع إذ إن أوجهك ثلاثة فقط، وجمع القلة من الثلاثة إلى العشرة، فأين الكثرة؟!
    فكان يكفي أن تقول: (وهذا باطل من أوجه)، وإن أردت الوصف فقل: (من أوجه ثلاث)، فيكون ذلك مطابقة للغة وما في مقالك.
    وإن أبيت إلا التفخيم والتهويل فقل: (وهذا باطل من وجوه)، فتأتي بفعول للدلالة على الكثرة، ويكون ذلك مطابقا للغة مخالفا للواقع

    ثالثا: حكمك على ما نقل عن ابن محمد عيسى من أنه كان له ورد في ”الكتاب” بالطلان تجاوز ظاهر ومجازفة خطيرة، إذ إن هذا النقل مبني على خبر الثقة وليس لك أن ترد أخبار الثقات بهذه الطريقة إلا أن تقيم البينة والحجة على كذب الناقل أو خطئه أو نكارة متنه، فأما الناقل فهو السيوطي في ”بغية الوعاة”، وابن بشكوال في ”الصلة”، وعبد القادر البغدادي في ”الخزانة” ، وغيرهم ممن عليهم التعويل والمعتمد في هذا الباب، وقد تتابع الناس على نقل هذا النص وهم من حملة الشريعة ومن أهل التعظيم للقرآن، ولم ينكره أحد منهم.
    وأما من جهة المتن فلا شيء يدعو إلى تكذيبه واستنكاره وطرحه، ولا غرابة أن يأخذ إنسان كتابا فيجزئه ويجعل لنفسه وردا فيه، ويحدد له مدة يختمه فيها المرة بعد المرة، كما يجعل لنفسه وردا من القرآن ويحدد مدة من الزمان يختمه فيها المرة بعد المرة، وكلما ختمه استفتحه مرة أخرى.
    ولن يتبادر أبدا إلى ذهن العاقل تشبيه ”الكتاب” بالقرآن عند قراءته لهذا الخبر، ولو أراد حمل نفسه على ذلك فلن تطاوعه، لما استقر في نفوس جميع البشر أن القرآن ليس بكلام البشر، وأنه لا يدنو منه أي كلام، إلا من كابر وعاند، وأنكر ما هو مغروز في فطرته.
    وهذا أمر واضح ما كان ينبغي أن يجعل موضع أخذ ورد، فلا يفهم منه أحد تشبيه المتلو بالمتلو أو المقروء بالمقروء، فذاك كلام البشر وهذا كلام رب البشر المعجز المتعبد بتلاوته فأنى يستويان أو يتقاربان؟!
    كل ما في الأمر أنه تشبيه لاتخاذ ورد للقراءة في كلام البشر كما يتخذ وردا للقراءة في كلام رب البشر، ولا محظور في ذلك، وادعاء التشبيه والتقريب بينهما مغالطة عظيمة ثم الزام الناس بها مغالطة أعظم منها، فلولا تعظيمنا للقرآن ما أجهدنا نفوسنا لتعلم علوم اللغة ولا كتبنا في ذلك حرفا واحدا، ولكن بها يفهم كلام الله المعظم.

    ثم هل تخصيص الطالب لنفسه وردا لقراءة متونه ومراجعتها وختمها في أوقات محددة يعد تشبيها بالقرآن وتنقصا منه؟!

    رابعا: اعلم -رحمك الله- أن جادة أهل العلم أن يحكموا على الأخبار بالكذب لا بالبطلان، وأما البطلان فهو للأحكام والعقود والعقائد.

    خامسا: أن قولهم: (قرآن النحو)، إنما المقصود به المبالغة في المدح، وفرق بين المبالغة في الشيخ والغلو فيه، فالبالغة أن ترفع الشيء عن منزلته وتجعله في منزلة عاليه بعيدة المنال دون أن تخرج به عن حده، بخلاف الغلو فهو إخراج الشيء عن رتبته ومنزلته فتتجاوز به حده.
    فأنت تقول: ”زيد أسد”، ولا تريد به أنه خرج عن جنس البشر وصار حيوانا مفترسا، وإنما تريد المبالغة في وصفه بالشجاعة مع عدم إخراجه عن حده من البشرية.
    فكذلك هنا بالغوا في وصف الكتاب والرفع من شأنه حتى يقبل عليه الناس، ولم يقصدوا إخراجه عن حده من كونه كلام مخلوق عاجز يلزمه النقص، وإنما أرادوا أنه مرجع لأخذ القواعد واستنباط الأحكام النحوية كما أن القرآن مرجع لأخذ القواعد واستنباط الأحكام الشرعية، ولا يقتضي هذا التشبيه بينهما.
    و“كتاب سيبويه” كتاب استنباط، ويعلم ذلك كل من نظر فيه وتأمل مسائله، بل صرح به الأخفش الصغير حيث قال: (...فجعل فيه بينا مشروحا، وجعل فيه مشتبها ليكون لمن استنبط فضل)، بل كان الجرمي يقول: (أنا منذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من ”كتاب سيبويه”).
    فهذا قصدهم وما توهمته من التشبيه فلا يكاد يفهمه أحد ممن يقرأ هذه العبارة، إذ كيف يستوي كلام الخالق وكلام المخلوق؟! والعربي سليم الذوق لا يفهم من هذا إلا المبالغة في مدح ”الكتاب”، وأن المشبه دائما أحط منزلة من المشبه به، وأن المعنى أتم وأكمل في الشبه به من المشبه، وكل عربي يعلم أن القرآن معجز أعجز أفصح قبائل العرب عن الإتيان بآية مثله، فكيف يكون ”الكتاب” الذي ألفه أعجمي بمنزلته أو شبيها بإعجازه؟!
    فكل ما ذكرته في الوجه الأول خارج عن الموضوع واستطراد ليس هذا محله، إذ بنيت على ظن وتوهم مخالف للواقع ولإطلاق العرب وقصد البلغاء في التشبيه.

    سادسا: أن تسمية غير كلام الله بالقرآن أو المصحف قد درج عليه عمل السلف وأهل الحديث، ومن ذلك (نقلا من الشبكة) قول السخاوي في ”فتح المغيث”: (الأعمش الإمام الثقة الذي كان شعبة يسميه لصدقه "المصحف")، وقال في فصل مراتب التعديل منه: (ومن صيغ هذه المرتبة كأنه مصحف).
    وقال الباجي في "التعديل والتجريح": (قال عبد الرحمن: سألت أبي عن مسعر بن كدام إذا خالف الثوري؟ قال: يحكم لمسعر فإنه مصحف).
    بل أصرح من ذلك قول عائشة رضي الله عنها: (كان خلقه القرآن)، فسمت الخلق قرآنا.

    فإذا أردت إنكار تسمية غير كلام الله بالقرآن أو المصحف فعليك بالبينة من القرآن والسنة وعمل السلف، وأما مجرد الإنكار وادعاء الغلو والتحمس للدفاع عن العقيدة الإسلامية فليس هذا مما تقوم به الحجة على الغير.

    سابعا: لو أنك نظرت في ”الكتاب” وما نشرته وما سأنشره بإذن الله لعلمت أنني أذكر ما أغفله سيبويه، بل أذكر خلاف ما ذهب إليه، وهذا دليل على أني لا أعتقد فيه العصمة والكمال.

    ثامنا: لم يظهر لي وجه ذكرك لأبيات الحافظ حكمي في ما يتعلق بالناسخ والمنسوخ؛ إذ ليس هذا موضعها! وكان بإمكانك الاقتصار على موضع الشاهد منها: وناقص الذات لم يكمل له عمل.


    ثم قلت: (وقول صاعد بن أحمد الجياني: لا أعرف كتابا ألف في علم من العلوم قديمها وحديثها فاشتمل على جميع ذلك العلم، وأحاط بأجزاء ذلك الفن غير ثلاثة كتب: أحدها (المجسطي) لبطليموس في علم هيئة الأفلاك، والثاني (كتاب أرسططاليس) في علم المنطق, والثالث: (كتاب سيبويه) البصري النحوي فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فيه شيء إلا ما لا خطر له.
    ظاهر البطلان، إذ لا يصح إطلاق مثل هذا على عمل يعتريه النقص ولا بد، ومثل هذا الغلو الفاحش لا ينبغي أن يورد أصلا، وإذا أورده مورده لا ينبغي أن لا يعلق عليه لما فيه من مساس بعقيدة المسلمين وجناب التوحيد، وانظر إلى قوله: فإن كل واحد من هذه لم يشذ عنه من أصول فيه شيء إلا ما لا خطر له، وشيء ها هنا نكرة في سياق النفي فتعم كل شيء إلا ما استثناه بقوله: إلا ما لا خطر له، وهذه مجازفة كبيرة، ومعنى إلا ما لا خطر له أي إلا ما لا أهمية له، يقال: خطير أي رفيع كما في القاموس للفيروز آبادي رحمه الله،قال الحكمي رحمه الله:
    وبعد فالعلم بالمنسوخ ذو خطر***عليه عول في الفقه الألى كملوا
    فيصير معنى كلامه أن ما لم يذكره هؤلاء ليس ناتجا عن نقص فيهم وإنما تركوه تعمدا لأنه ليس ذو أهمية).

    والرد على هذه الفقرة بتسعة أوجه:
    أولا: حكمك على قول الجياني بالبطلان دعوى عارية من الدليل.

    ثانيا: سياق كلامه ظاهر وواضح أنه في المبالغة في المدح والثناء، وأن هؤلاء لم يتركوا شيئا من أصول ذلك الفن وكلياته إلا أتوا به، سوى ما لا همة لهم بجمعه لعدم اعتناء الناس في زمانهم بمثله، وجمع الأصول والكليات ليس متعسرا ولا مما يستحيل على البشر، ولا هو مما يعحز عنه المخلوق، لأن الأصول والكليات محصورة يمكن للخبير بالفن أن يجمعها ويستوعبها، بخلاف الفروع فلا يتصور جمعها، ولذلك خاطبنا الله تعالى في القرآن بالكليات وترك لنا مجال استنباط الفروع، فمن ضبط الكليات سهل عليه ضبط الفروع واستحضارها، ولكل علم أصول وكليات تضبط بها فروعه، وهذا هو مراد الجياني.
    وتأمل جيدا قوله: (لم يشذ عنه من أصول فيه شيء)، فكلامه في الكليات والأصول وليس في الفروع، وكما تقدم ليس ضبط الأصول بالمستحيل، ومن نظر في ”الكتاب” علم صدق الجياني.

    ثالثا: قولك: (إذ لا يصح إطلاق مثل هذا على عمل يعتريه النقص ولا بد، ومثل هذا الغلو الفاحش لا ينبغي أن يورد أصلا، وإذا أورده مورده لا ينبغي أن لا يعلق عليه...).
    هذا كلام خال من البيان والتدليل والتحقيق، بل لا ينبغي أن يورد هنا أصلا، فكلام الجياني في جمع أصول الفن وكلياته المهمة التي عليها مداره، وذلك لا يعجز عنه من خبر الفن واستقرأه، ومع ذلك فهو لم يدع لهم العصمة أو عدم النقص، وإنما هو في مقام المبالغة في بيان إتقان هذه الكتب وتشهيرها بين الناس، فكيف يبالغ في الثناء -ولا أقول في الغلو- ثم يقول: لكن هذا عمل يعتريه النقص! ألا ترى أن هذا تناقض وهدم لما بدأ به من المبالغة، والمبالغة كثيرة في القرآن وهي من مقاصد البلغاء.

    رابعا: اعلم أنه قد جرت عادة العلماء والأئمة من السلف والخلف على مثل هذا الثناء ولم يعتبره أحد غلوا فاحشا لا تجوز روايته، ومثل هذه الأحكام الجزافية تحتاج إلى دليل من الكتاب والسنة أو عمل السلف، ولا يكفي فيها مجرد الظنون، فكما شددت في باب الغلو كذلك شدد في باب القول على الله بغير علم.
    وهذا الشيخ محمد بازمول قد نشر مقالة بعنوان ”كتب لم يصنف مثلها”، وهذا ملخصه:
    (قال الذهبي عن الإمام الطبري: (وله كتاب في التفسير لم يصنف مثله، وكتاب سماه ”تهذيب الآثار” لم أر سواه في معناه، لكن لم يتمه).
    قال ياقوت الحموي: (كتاب ”مقاييس اللغة” وهو كتاب جليل لم يصنف مثله).
    قال القفطي عن ابن سيده: (إمام فى اللّغة والعربية، جمع فى اللغة كتاب ”المحكم”، يقارب عشرين مجلدا، لم ير مثله فى فنه، ولا يعرف قدره إلا من وقف عليه، وهو فى وقف التاج البندهى بدمشق فى رباط الصوفية؛ لو حلف الحالف أنه لم يصنف مثله لم يحنث)، وعلى طريقتك فما هو إلا حانث!
    قال ابن حزم: (كتاب ”التمهيد” لصاحبنا أبي عمر يوسف بن عبدالبر، وهو الآن بعد في الحياة لم يبلغ سن الشيخوخة، وهو كتاب لا أعلم في الكلام على فقه الحديث مثله أصلاً فكيف أحسن منه!).
    قال ابن تيمية رحمه الله عن هذا الكتاب: (وهو أشرف كتاب صنف في فنه).
    قال أبو الطاهر السلفي عن كتاب ”الاستذكار”: (و كتاب لم يصنف في فنه مثله).
    قال أبو العباس المقري التلمساني عن ابن السيد البطليوسي: (وله كتاب "التنبيه على الأسباب التي أوجبت الاختلاف بين المسلمين في رأيهم واعتقادهم"، وهو كتاب عظيم لم يصنف مثله).
    قال السبكي عن الرافعي: (وكفاه ”بالفتح العزيز” شرفا، فلقد علا به عنان السماء مقدارا وما اكتفى، فإنه الذي لم يصنف مثله في مذهب من المذاهب؛ ولم يشرق على الأمة كضيائه في ظلام الغياهب).
    قال ياقوت الحموي عن ابن الأثير: (كتاب ”جامع الأصول في أحاديث الرسول” عشر مجلدات، جمع فيه بين البخارى ومسلم والموطأ وسنن أبي داود وسنن النسائي والترمذي، عمله على حروف المعجم، وشرح غريب الأحاديث ومعانيها وأحكامها، ووصف رجالها ونبه على جميع ما يحتاج إليه منها، قال المؤلف: أقطع قطعا أنه لم يصنف مثله قط ولا يصنف).
    قال في ابن الجزري عن مجد الدين بن تيمية: (وألف كتاب ”المنتقي” في الأحكام وهو مشهور لم يؤلف مثله).
    قال السخاوي عن الإمام النووي: (وكتابه "شرح المهذب” لم يصنف في المذهب على مثل أسلوبه).
    وقال: (قال العثماني قاضي صفد: إنه -يعني: ”شرح المهذب”-لا نظير له، لم يصنف مثله، ولكنه ما أكمله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، إذ لو أكمله ما احتيج إلى غيره، وبه عرف قدره، واشتهر فضله).
    قال يوسف بن تغري بردي الحنفي عن ابن الساعاتي: (ألف التأليف المفيدة الحسنة، من ذلك: ”البديع في أصول الفقه” الذي لم يصنف مثله، جمع فيه بين أصول فخر الإسلام البزدوي والأحكام للآمدي).
    قال السبكي عن ابن دقيق العيد: (ومن مصنفاته كتاب ”الإمام” في الحديث وهو جليل حافل لم يصنف مثله).
    قال السبكي عن الحافظ المزي: (وصنف ”تهذيب الكمال” الْمجمع على أَنه لم يصنف مثله).
    قال السيوطي عن ابن الجزىي: (ألف ”النشر في القراءات العشر” لم يصنف مثله)، انتهى التلخيص.
    وأزيد عليه قول السيوطي في "تذكرة الحفاظ" عن تفسير ابن كثير: (لم يؤلف على نمطه مثله).
    وقول محمد بن يزيد المبرد: (لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل "كتاب سيبويه").
    ونقل الذهبي في "السير" عن ابن خزيمة قال في تفسير الطبري: (نظرت فيه من أوله إلى آخره وما أعلم على أديم الأرض أعلم من ابن جرير).

    فهل هذا كله من الغلو الفاحش الذي سكت عنه العلماء والأئمة، ونقله الشيخ محمد بازمول ولم يعلق عليه بشيء، وكان ينبغي عليه أن يعلق لأن الأمر متعلق بجناب التوحيد وعقيدة المسلمين الصحيحة؟!

    خامسا: أين ما نقلته في مقالي عن قول ابن القيم في الثناء على كتاب ”درء تعارض العقل والنقل” لابن تيمية: اقرأ كتاب العقل والنقل الذي *** ما في الوجود له نظير ثان.
    فهل نقول إن ابن القيم غلا في حق شيخه حتى جعل كتابه مما لا نظير له ولم يستثني كتاب الله عز وجل، و(نظير) نكرة في سياق النفي فهو يعم!
    وكذلك أليس العلماء يقولون: (“صحيح البخاري” أصح كتاب بعد كلام الله)، هكذا بإطلاق مع أنه كلام بشر يعتريه النقص، بل قد انتقد عليه نزر من الأحاديث ومع كذلك لا ينبهون عليها.

    سادسا: ذكرت لك ما جرت عليه عادة السلف والأئمة والعلماء من بعدهم في الثناء على الكتب والمبالغة في ذلك دون تعليق ولا تنبيه، والآن أنا ذاكر لك جواز الموافقة على ذلك.
    قال العز بن عبد السلام: (ما رأيت مثل المحلى والمغني)، فحصر الفقه في كتابين فقط، فعلق عليه الذهبي موافقا لا ناقدا فقال: (صدق الشيخ عز الدين، وثالثها: ”السنن الكبرى” للييهقي، ورابعها: ”التمهيد” لابن عبد البر).
    فلم يدع الذهبي أن هذا غلو فضلا عن كونه فاحشا، بل صدقه وزاد عليه كتابين آخرين فحصر الفقه في أربعة كتب.
    وهذا الحصر على سبيل المبالغة لا الحقيقة، وإلا فكل عاقل يعلم أن كتب الفقه لا تنحصر في هذه الأربعة، وإنما هو مبالغة في الثناء للحث على الاعتناء بها.
    فقوله: (صدق)، دليل على جواز مثل ذلك وأنه ليس بغلو ولا إطراء، فخذه حكما من هذا الإمام البصير بمذهب السلف ومقالاتهم.

    سابعا: قولك: (شيء ها هنا نكرة في سياق النفي فتعم)، وهم واضح! إذ كلامه في الأصول كما تقدم بيانه، ونص على ذلك بنفسه حيث قال: (ولم يشذ عنه من أصول فيه شيء)، فالمراد بشيء هنا الأصول ، فصارت عامة في الأصول وليس في كل شيء مطلقا، فيكون الاستثناء في قوله: (إلا ما لا خطر له) استثناء في الأصول أيضا.
    فليس (شيء) هنا على إطلاقه كما توهمته ثم بنيت عليه المساس بعقيدة المسلمين وجناب التوحيد!

    ثامنا: تقدم أن قوله: (إلا ما لا خطر له)، أي من الأصول، ومعنى ذلك أنه ترك بعض الأصول لم يذكرها لعدم أهميتها عنده، ومن ذلك ترك خواص الاسم والفعل والحرف، وترك مسوغات الابتداء بالنكرة، وترك جملة من شروط صوغ فعل التعجب، وغير ذلك مما تراه في موضعه من ”الكتاب”، فإذا كان ترك ذكر بعض الأصول فلئن يترك ذكر الكثير من الفروع من باب أولى، فأين هو ادعاء الإحاطة والكمال والغلو؟!
    على أن قوله: (ما لا خطر له)، يحتمل معنى آخر وهو: ما لا خطر له بباله من الأصول والكليات لذهوله وغفلته عنها، فيكون هذا نص في نفي الكمال عن ”الكتاب” وصاحبه، وأنه عمل بشر يعتريه النقص والغفلة والسهو كغيره من البشر.

    تاسعا: أن قولك: (فيصير كلامه أن ما لم يذكر هؤلاء...)، لا أساس له من الصحة، لأن المعنى ظاهر والحمد لله يفهمه كل أحد، وهو أنهم جمعوا الكليات والأصول المهمة وتركوا ما لا أهمية له عندهم من تلك الأصول، وليس هذا مما يعجز عنه البشر، فلا حاجة لنا في هذا التحامل والتأويل البعيد.
    وعلى التفسير الثاني الذي ذكرته يكون المعنى أوضح مما تقدم.
    ويروى عن شيخ الإسلام أنه قال: (والمبرز في فن من الفنون يقدر على ما لا يقدر عليه أحد في زمنه، وليس هذا دليلا على النبوة؛ "فكتاب سيبويه" مثلا مما لا يقدر على مثله عامة الخلق، وليس بمعجز إذ كان ليس مختصا بالأنبياء بل هو موجود لغيرهم)، فترى أن ثناء شيخ الإسلام أعظم من ثناء الجياني حيث جعل ”الكتاب” خارجا عن استطاعة عامة الخلق، ولم يكن ذلك غلوا.
    وقال ثعلب: (اجتمع على صنعة "كتاب سيبويه" اثنان وأربعون إنسانا منهم سيبويه، والأصول المسائل للخليل).

    فهذه أربعة وعشرون وجها في رد الأوجه الأربعة التي أبديتها، وبيان ما فيها من الوهم والخطأ ومجانبة الصواب، ثم بنيت عليها أحكاما وألزمتني بما لا يلزمني منها.


    ثم ختمت مقالك بالكلام عن الغلو مرة أخرى فقلت: (ولعل مثل هذا الغلو هو الذي حمل شيخ الاسلام بن تيمية رحمه على قول مقولته الشهيرة التي قالها لأبي حيان: (ومن قال لك أن سيبويه رسول النحو في كتابه نحو من ثمانين خطأ لا تعرفها أنت ولا هو) هذا الذي أردت التنبيه عليه على عجالة لقلة الوقت وكثرة المشاغل، ولعل غيرنا من أبناء التصفية يتفضل فيتحفنا بمزيد بيان في قول يكون أولى من هذا، والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه).

    والجواب عن هذا من ثمانية أوجه:
    أولا: هذه القصة قد وقع الاضطراب في متنها، فأحيانا تروى بأن الأخطاء ثلاثون، وأحيانا تروى بأنها ثمانون.

    ثانيا: ذكر السيوطي هذه القصة في ”بغية الوعاة” ونسبها لأبي حيان في تفسيره ”النهر”، وقد قام أحد المعاصرين بتتبعه وما وقف على هذه القصة فيه.

    ثالثا: على فرض ثبوتها فإن كلام شيخ الإسلام محمول على المبالغة في الرد على من يتعصب لسيبويه، ولا يقصد أن أخطاءه بذلك العدد، وليس شيخ الإسلام بالذي يجهل قيمة ”الكتاب” وإتقانه، بل هو القائل: (فكتاب ”سيبويه" -مثلا- مما لا يقدر على مثله عامة الخلق).
    والظاهر أن الأخطاء هنا لا يراد بها مجرد اختلاف الآراء والمذاهب، ومستبعد جدا أن يقع سيبويه في هذا الكم الهائل منها، لو قيل -مثلا-: (مقدمة ابن الصلاح فيها ثمانون خطأ لا يعلمها هو ولا غيره) ماذا ستقول؟

    رابعا: أن الناس تتابعوا على نقد سيبويه والاستدراك عليه، وفتشوا عن عيوبه ولم يأتوا بهذا العدد من الأخطاء.
    قال البغدادي في ”الخزانة” (1 /370): (زعم الذين ينظرون في الشعر أن في كتابه أبيات لا تعرف، فيقال له: (لما تنكر أن تكون أنت لا تعرفها ولا أهل زمانك، وقد خرج كتاب سيبويه إلى الناس والعلماء كثير، والعناية بالعلم وتهذيبه أكيدة، ونظر فيه وفتش فما طعن أحد من المتقدمين عليه ولا ادعى أنه أتى بشعر منكر وقد روى في كتابه قطعة من اللغة غريبة لم يدرك أهل اللغة معرفة جميع ما فيها ولا ردوا حرفا منها.
    قال أبو إسحاق -الزجاج-: (إذا تأملت الأمثلة من "كتاب سيبويه" تبينت أنه أعلم الناس باللغة).
    قال أبو جعفر النحاس: (وحدثنا علي بن سليمان- الأخفش الصغير- قال: حدثنا محمد بن يزيد -المبرد-: أن المفتشين من أهل العربية ومن له المعرفة باللغة تتبعوا على سيبويه الأمثلة -أي الأوزان- فلم يجدوه ترك من كلام العرل إلا ثلاثة أمثلة، منها: "الهندلع" وهي بقلة، ومنها: "الدرداقس" وهو عظم في القفا، ومنها: "شمنصير" وهو اسم أرض).
    وقد فسر الأصمعي حروفا من اللغة في كتابه، وفسر الجرمي الأبنية، وفسرها أبو حاتم وأحمد بن يحيى وكل واحد منهم يقول ما عنده فيما يعلمه، ويقف عما لا علم له به، ولا يطعن على ما لا يعرفه، ويعترف لسيبويه في اللغة بالثقة وأنه علم ما لم يعلموا، وروى ما لم يرووا.
    قال أبو جعفر: (لم يزل أهل العربية يفضلون كتاب سيبويه حتى لقد قال محمد بن يزيد: لم يعمل كتاب في علم من العلوم مثل "كتاب سيبويه"، وذلك أن الكتب المصنفة في العلوم مضطرة إلى غيرها، و"كتاب سيبويه"، لا يحتاج من فهمه إلى غيره).
    وقال أبو جعفر: (سمعت أبا بكر بن شقير يقول: حدثني أبو جعفر الطبري قال: سمعت الجرمي يقول هذا، وأومأ بيديه إلى أذنيه، وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم "كتاب سيبويه" تفقه في الحديث، إذ كان "كتاب سيبويه" يتعلم منه النظر والتفتيش).

    خامسا: هذا المبرد الذي كان مولعا بتخطئة سيبويه حتى أنه يقال إنه جمع كتابا يخطئه في نحو أربعمائة مسألة، لكنه تراجع بعد ذلك عن الكثير منها إلى رأي سيبويه وقال: (كان هذا في أيام الحداثة أما الآن فلا).
    وقال الزجاج:(وفيها ما يلزم سيبويه على مذهبه نحو أربعين مسألة)، وهو نصف العدد المذكور في القصة، ثم قال: (والذي أعتقد في ذلك أن سيبويه لا يتعلق به شيء مما ذكر عنه).

    سادسا: قال الأخفش الصغير: (عمل سيبويه كتابه على لغة العرب وخطبها وبلاغتها فجعل فيه بينا مشروحا، وجعل فيه مشتبها ليكون لمن استنبط ونظر فضل، وعلى هذا خاطبهم الله عز وجل بالقرآن).
    قال النحاس: (وهذا الذي قاله علي بن سليمان -يقصد الأخفش- حسن؛ لأن بهذا يشرف قدر العالم وتفضل منزلته إذ كان ينال العلم بالفكرة واستنباط المعرفة، ولو كان كله بينا لاستوى في علمه جميع من سمعه فيبطل التفاضل، ولكن يستخرج منه الشيء بالتدبر، ولذلك لا يمل لأنه يزداد في تدبره علما وفهم).
    ولذلك كان النحاة يمدحون في تراجهم بنحو: (كان ممن يفهم غوامض ”الكتاب”)، (كان بارعا في حل عبارة ”الكتاب”)، ونحو ذلك.

    سابعا: كان الأخفش الأوسط يقرأ ”الكتاب” وعنه انتشر؛ فإذا استعصى عليه فهم مسألة رجع إلى سيبويه وسأله عنها.

    ثامنا: اعلم أنه قد بقيت بعض العبارات لم يفهمها النحاة بعد موت سيبويه، ومن ذلك ما ذكره ابن قتيبة في "تأويل مشكل القرآن" عن المازني: (سألت الأخفش عن حرف رواه سيبويه عن الخليل في "باب من الابتداء يضمر فيه ما بني على الابتداء"، وهو قوله: (ما أغفله عنك شيئا، أي دع الشك)، ما معناه؟ قال الأخفش: أنا منذ ولدت أسأل عن هذا. وقال المازني: سألت الأصمعي وأبا زيد وأبا مالك عنه فقالوا: ما ندري ما هو).
    فقال السيرافي: (لم يفسر هذا الحرف فيما مضى إلى أن مات المبرد وفسره أبو إسخاق الزجاج بعد ذلك).
    وقال الزجاج عن قول سيبويه (هذا باب ما يكون فيه الاسم مبنيا على الفعل قدم أو أخر وما يكون الفعل فيه مبنيا على الاسم): (هذا باب لم يفهمه إلا الخليل وسيبويه).

    فهذا كله يدلك على عبقرية سيبويه ولا تنس أنه تلميذ الخليل! ثم إن سيبويه شافه العرب وعرف طريقتهم ومقاصدهم، بخلاف غيره ممن يدرس القواعد ثم يعلل لها بما يوافق كلامهم.

    هذا آخر ما جرى به القلم، وأستغفر الله وأتوب إليه من اللغو والزلل، وأرجو أن تنظر في هذا المقال بعين الإنصاف والتجرد للحق.

    وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.

    كتبه: أبو قيس عماد البجائي.
    يوم الخميس الرابع من ذي الحجة من سنة تسع وثلاثين وأربعمائة وألف من الهجرة.
    الموافق السادس عشر من شهر أوت سنة ثماني عشرة وألفين.

  • #2
    جزاكَ اللهُ خيرًا أَخِي عِمَاد على ما أوردتَهُ في تنبيهِكَ هذا؛ وقَدْ كتبتُ تعليقًا على ما كتبهُ الأخوانِ مكِّي وحرِّي - وفَّقهما اللهُ تعالى -، غيرَ أنَّني قبلَ إضافتهِ فسدَ لي المُتصفِّحُ وذهبَ جميعُ ما كتبتُهُ.
    ومنذُ ذلكَ الحينِ لم أتمكَّن منَ الدُّخولِ للمُنتدى، والآنَ قد دخلتُ بعدَ توجيهٍ منَ الإدارةِ الكريمةِ.

    وأقولُ: كفيتني مُؤنةَ الكتابةِ، وأرجُو أن ينتفعَ بما سطَّرتَهُ المعنيُّ وغيرُهُ منَ القُرَّاءِ الكِرَامِ.

    هذا؛ واللهُ وحدهُ المُوفِّقُ والمُعينُ.

    تعليق

    الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
    يعمل...
    X