بسم الله الرحمن الرحيم
[ بين شيوخ الدنيا وشيوخ الدّين ]
الحمد لله والصلاة والسَّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه:
- من رزقه الله في الدنيا رزقا طيِّباً ومتَّعه متاعًا حسناً وآتاه الله من أصناف النِّعم وكان من الصَّالحين الذين لا يؤثرون الدُّنيا على الدين ولا يُقدِّمون محبةَ المال على محبَّةِ رب العالمين ,ولم تشغلهُم الدنيا عن ذكر الله وعن الصَّلاة ونحوها من الطاعات فهم على خيرٍ وهدى يتمتعون في الدنيا ويجازون بالحُسنى في الأخرى , قال الله تعالى: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (الأعراف32) .وأسوتهم أغنياء الصحابة كأبي بكر وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهم أجمعين.
- الذين يُذمُّون هم المفتونُون بالدنيا وزينتها, ويقبُح ذلك أشدَّ القبح في حقّ من ينتسبُ إلى العلم,وهذا هو المقصود وهذا أوان الشروع فيه:
1- قال الله تعالى : وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (طه131).
- شيوخُ الدنياَ أعينهُم ممدودةٌ إلى الدنيا وبهرجِها , مفتونةٌ بزخارف الفانيةِ وزينتها,هَمُّهم المساكن المشيّدة(الفيلات) والمراكب الجيِّدة (آخر الموديلات),يسعَوْن في تحصيلها ولو على حساب الدين ,ويتطلَّعون للنشاطات الدَّعوية حيثُ المال, يستمِيلُهم الطمعُ ويسوقُهم الجشعُ , ولا حظَّ للمساكين في زيارتهِم ولا حظوةَ عندهُم . أليست الدنيا لاَ تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ ,فليتَ شعري ما نصيبُ هؤلاء من ذيَّاك الجناح. قال بنُ القيِّم رحمه الله:
لَا ترض مَا اختارُوه هم لنفوسهم ... فقد ارتضَوا بالذلِّ والحرمان .
لَو ساوتِ الدُّنْيَا جنَاح بعوضة ٍ... لم يسقِ مِنْهَا الربُّ ذَا الكفران
لَكِنَّهَا وَالله أحقرُ عِنْده ... من ذَا الْجنَاح الْقَاصِر الطيران .
لَو ساوتِ الدُّنْيَا جنَاح بعوضة ٍ... لم يسقِ مِنْهَا الربُّ ذَا الكفران
لَكِنَّهَا وَالله أحقرُ عِنْده ... من ذَا الْجنَاح الْقَاصِر الطيران .
- وأمّا المشايخ الفضلاء فلا تذكرُ الدُّنيا في مجالسهم ولا يقرِّبون أحدًا منهم لدنياه ,أقربُهم منهم أكرمُهم على الله فقيراً كان أو غنياًّ. كَانَ خَالِدُ بنُ مَعْدَانَ إِذَا قَعَدَ، لَمْ يَقْدِرْ أَحَدٌ مِنْهُم أن يَذْكُرُ الدُّنْيَا عِنْدَهُ؛ هَيْبَةً لَهُ [سير أعلام النبلاء 4/538 ] ومَا سُمِعَ الإمام الحافظُ الحُمَيْدِيَّ يذكُر الدُّنْيَا في مجالسه قَطُّ[سير أعلام النبلاء 19/124 ]وأمّا أحمد بن حنبل فإمامته في الزُّهد غير خافية , ذكَر عنه أحمدُ بن سليمان الواسطي (من كتاب المحنة) : أنَّه رهن نعله عند خبّاز على طعام، أخذه منه عند خروجه من اليمن، وأكرى نفسه من ناسٍ، من الجمّالين عند خروجه من اليمن، وعرضَ عليه عبدُ الرزاق دراهمَ صالحةً، فلم يقبلهاَ منه.
وكان رحمه الله يقتاتُ من جُذاذ الفلاَّحين ومن غَزْل أمّ صالحٍ ولا يقبلُ عطيّة من أحدٍ كما ذكره غير واحدٍ ممّن ترجم له.
2-قال الله تعالى عن قارون : "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَالَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82) تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) [من سورة القصص ]
- هما فريقان لا ثالث لهما مريد الدنيا ومريد الآخرة ,مريدُ الفاني يقول ياليتَ لي مثل مالِ فلان ,ومريدُ الباقي وهم أهل العلم يقولون ثواب الله خير واللهمَّ لا خير إلا خير الآخرة .فإذا رأيت من يُنسب إلى العلم يقول بقول أصحاب الدنيا فذاك صاحبُ علم اللسان الذي هو حجَّة عليه ,ليس له نصيبٌ من علم القلب الذي من شأنه أن يكون حجَّةً لصاحبِه وحسناتٍ وافرة في ميزانه .
3-قال الله تعالى :"وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا "(الكهف28).
- شيوخُ الدنياَ يَصحبُون الأغنياءَ طمعاً فيما عندهم , ويزهدُون في الفُقراء إذ لا مَصلحةَ في مخالطتهم ولا يُرجى نفع ٌمنهم ,تسدُّ الأبواب في وجوههم ولا تُرضى شفاعتهم ولا يُقبل إذنهُم ,إذا حضرُوا لمْ يُعرفوا وإذا غابُوا لم يُفتقدُوا . فهل كان أئمَّة أهل السنَّة كأولئكَ المفتونين ؟ كانوا رحمهم الله أشدَّ اتِّباعًا لمرضاة الله بتفضيل أهل التقوى ولو كانوا فقراء والحرصِ على أهل الفضلِ من العلماء :
- عنْ سَهْلٍ بنِ سعدٍ السَّاعديِّ قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا: حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ يُسْتَمَعَ. قَالَ: ثُمَّ سَكَتَ، فَمَرَّ رَجُلٌ مِنَ فُقَرَاءِ الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: مَا تَقُولُونَ في هَذَا؟ قَالُوا : حَرِىٌّ إِنْ خَطَبَ أَنْ لاَ يُنْكَحَ، وَإِنْ شَفَعَ أَنْ لاَ يُشَفَّعَ، وَإِنْ قَالَ أَنْ لاَ يُسْتَمَعَ لِقَوْلِهِ . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -: هَذَا خَيْرٌ مِنْ مِلْءِ الأَرْضِ مِثْلَ هَذَا.أخرجه البخاري .
كَانَ الإِمَامُ، القُدْوَةُ بَكْرُ بنُ عَبْدِ اللهِ المُزَنِيُّ ، -رَحِمَهُ اللهُ- ، يَلْبَسُ كِسْوَتَهُ، ثُمَّ يَجِيْءُ إِلَى المَسَاكِيْنِ، فَيَجْلِسُ مَعَهُم يُحَدِّثُهُم، وَيَقُوْلُ: لَعَلَّهم يَفْرَحُوْنَ بِذَلِكَ .[سير أعلام النبلاء 4/534 ].
4-قال صلّى الله عليه وسلّم ((فوالله ما الفقر أخشى عليكم، ولكني أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم فتنافسوها كما تنافسوها وتهلككم كما أهلكتهم)) [البخاري ومسلم]. وقال: ((إني مما أخاف عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من زهرة الدنيا وزينتها)) [البخاري ومسلم]..
يقول الحسن رحمه الله:'من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياك فألقها في نحره' .
- فبالله عليكم كيف يبقى لمن يلهثُ وراء الدنيا في نفوس أصحابه قدْرٌ, أم كيف يصفو لهم معه حال , وهم يسمعونه يدعوهم إلى الآخرة بأقواله ويرونه ينافس أهلَ الدنيا بفعاله ,حينها يخرُص لسانُ المقال أمام لسانِ الحال ويغلبُ عينُ اليقين , وسرعان ما عنه ينفضون لأنهم صحبوه على شرط الدٍّين.
والله أعلى وأعلم
,وسبحانك اللهم
وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
,وسبحانك اللهم
وبحمدك أشهد أن لا اله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك
تعليق