إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

من فتن الزمن تشييخ من ليس بشيخ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • من فتن الزمن تشييخ من ليس بشيخ

    بسم الله الرحمن الرحيم

    الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين وعلى آله وصحبه أجمعين وعلى من اتبعه وسلك سبيله إلى يوم الدين وبعد:
    من أعظم البلايا وأشنع الرزايا التي صرنا نعيشها، ونراها ونسمعها، ونلمس آثارها الشنيعة ونعاين نتائجها الفظيعة في أمة النبي صلى الله عليه وسلم، مع قلة المنكرين لها وكثرة المعينين على بقائها وانتشارها: بلية تشييخ من لا يستحق التشييخ، ورزية رفع من حقه الوضع والتوبيخ.
    وهذا من غرائب الزمان وعجائبه أن ترى من لا يصلح أن يقدم في أمور الدنيا الحقيرة، يَتَقَدَّمُ وَيُقَدَّمُ في الأمور الجليلة الكبيرة، والعظيمة الخطيرة؛ في أمور الدين، ومسائل الوحي المبين، الذي أنزله الله رب العالمين على نبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
    فكم من متكلم اليوم في دين رب العالمين لا علم عنده، ولا فقه لديه، بل لا خلق يجمله، ولا أدب يستر عيوبه، فزاحم اليوم أنصاف المتعلمين بل الجهلة بمبادئ علوم الدين العلماء العاملين والفقهاء الراسخين.
    وظهر بسبب خوض هؤلاء فيما لا يحسنه إلا جهابذة العلماء شر عظيم وفساد جسيم فاختلت الموازين وانقلبت المفاهيم وهمش العلماء وعُظِّم أهل الجهل السفهاء، وترك الناس أهل العلم والعدالة واستفتوا رؤوس الجهل والضلالة.
    وهذا له أسباب كثيرة ودواعي عديدة أذكر منها على سبيل التمثيل لا الحصر:
    - السبب الأول: خلو الزمان أو المكان من أهل العلم فالأول يكون بموتهم والثاني ببعدهم:
    فهذا من أعظم أسباب تشييخ من ليس بشيخ لأن الناس إذا لم يوجد فيهم عالم اتخذوا رؤوسا ولو كانوا جهالا يشيخونهم عليهم فيسألونهم ويستفتونهم ويرجعون في سائر الأمور إليهم وهذا السبب ذكره النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ:" إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" رواه البخاري ومسلم وغيرهما. إذا مع خلو الزمان والمكان من أهل العلم يشيخ من ليس بشيخ أما مع وجودهم وانتشار كلامهم وسماع الناس لهم يفتضح أمر المتمشيخين وتظهر جليا حقيقة المتعالمين، ومهما نفقت سلعتهم فعلى أيدي أهل العلم فضيحتهم.
    - السبب الثاني: انتشار الجهل بين المسلمين، وانعدام العلم عند عموم المؤمنين:
    والذي تسبب في الجهل بأقدار الناس، وقلة التمييز بين العام والخاص؛ ولذلك تراهم يرفعون الوضيع ويضعون الرفيع، وتشتبه عليهم الواضحات وتغرهم التلبيسات والتمويهات؛ وهذا ثاني سبب جعل الناس يشيخون من ليس بشيخ؛ فتراهم يشيخون الرجل من أجل لباسه وهندامه، أو من أجل تعبده وزهده، أو من أجل فصاحته وبلاغته، أو من أجل ادعاءاته ومزاعمه، أو من أجل ظهوره في القنوات وكلامه على الشاشات وكتابته في الجرائد والمجلات، أو غير ذلك مما تجد التنبيه عليه في كلام أئمة السنة وفقهاء الملة:
    - فمنهم من يشيخ الرجل من أجل تعبده وزهده وإقباله على طاعة ربه: فالجهال يظنون العبادة والزهد دليل علم وفهم، وتحقيق وتدقيق، ودراية ورواية؛ ولذلك يرجعون إلى العابد فيهم ويستفتونه في أمور دينهم ودنياهم، والجاهل المسؤول جاهل فأنى له أن يعرف أن هذا الأمر خطر عليه، وأنه لا ينفعه بل يضره، ولذلك في الغالب يستجيب لهم، ويطاوعهم في رغباتهم، ولا يوقفهم عند حدهم؛ فيهلك في نفسه ويهلكهم معه؛ ومما يدل من سنة النبي صلى الله عليه وسلم على هذه الحقيقة ما رواه مسلم رحمه الله وغيره عَنْ أَبِى سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ...." الحديث.
    فانظروا رحمكم الله أنه لما سأل عن أعلم أهل الأرض دلوه على راهب؛ لظنهم أن العبادة تقتضي العلم وتستلزم الفهم، ولكنه على خلاف ما توقعوه وظنوه حيث أفتاه وهو ليس بأهل للفتوى؛ فأهلك نفسه وكاد أن يكون سببا في هلكة سائله والأمة من حوله.
    ومما يدل على ذلك حال الخوارج أهل العبادة والزهد والاجتهاد والجد، والإكثار من القربات والتنافس في الطاعات من قراءة قرآن وصلاة وصيام، ومع ذلك فهم أهل جهل بما يقرؤون ويتلون ويرددون قال النبي صلى الله عليه وسلم:" يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينَ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ" رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
    - ومنهم من يشيخ الرجل لفصاحته وحلاوة منطقه: فكثير من العوام يستلزمون من فصاحة اللسان، وحلاوة المنطق وحسن الكلام؛ علم صاحبه وفقه المتصف به، ولقد نبهنا نبينا إلى هذه البلية وخوفنا منها، وأشار إليها حتى نحذرها، ونتقي الوقوع في حبائل أصحابها، حيث قال صلى الله عليه وسلم:" إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِى كُلُّ مُنَافِقٍ عَلِيمُ اللِّسَانِ" رواه أحمد وغيره عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وصحح إسناده العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة رقم 1013 وفي غيرها.
    - بل منهم من يشيخ الرجل من أجل ادعاءاته ومزاعمه: وهذا الزمن كما لا يخفى على الكثير زمن المزاعم الفارغات، والادعاءات الواهيات؛ فيرى الرجل منهم نفسه أفضل من غيره، وأعلم من سواه في القضايا كلها، والمسائل جميعها، وكثير من الناس يصدِّق كل ناطق، ويثق بكلام كل ناعق، فمهما ادعى المدعي في نفسه، وأخبر به عن ذاته؛ إلا وتجد بعض الناس يصدقونه، ويثقون فيه ويتبعونه، وأدلة هذا كثيرة وبراهينه وفيرة:
    ألم ترى إلى مدعي النبوة كيف تجد من يسمع لهم ويصدقهم، ويتابعهم على باطلهم، ويستميت في الدعوة إليهم والذب عنهم.
    ثم ألم ترى إلى الكهنة والعرافين، والمخرفين والمنجمين؛ كيف تجد بعض الناس يثقون فيهم، ويرجعون إليهم، ويعتقدون صدقهم.
    وهكذا من صدر نفسه للتدريس وجلس للناس يعلمهم ويوجههم، وقد يكون قليل العلم عديم الفهم؛ ومع ذلك تجد من يجلس له، ويعظمه، ويقدمه على غيره ممن هو أولى بالتدريس منه، كما في أثر الحَكَمِ بنِ عُتَيْبة رحمه الله أنه خرج ذاتَ يوم وقد تَكَأْكَأَ الناسُ على أَخِيهِ عِمرانَ فقال: سبحان اللّه لو حَدَّث الشيطانُ لتَكَأْكَأَ الناسُ عليه أَي عَكَفوا عليه مُزْدَحمِين.
    - وأكثرهم يشيخ الرجل لأجل ظهوره في الشاشات وبروزه في القنوات وكتابته في الجرائد والمجلات: لأنهم يظنون أن القائمين على هذه الوسائل ما قدموه للناس فيها وأذنوا له أن يتكلم مع الخلق من خلالها إلا وهو من أهل العلم والفهم، وهذه من أعظم الأسباب التي تجعل بضاعة الأدعياء نافقة والناس عليها مقبلة موافقة، لشدة أثر هذه الوسائل على المستعملين لها وقوة تأثيرها في المترددين عليها.
    - بل من عجائب الدهر أن تجد من يشيخ الرجل من أجل لباسه وهندامه وسمته ودله: فكم هم الذين يربطون العلم بهيئة العبد فيستلزمون من صفته ولباسه وحالته وهندامه أنه من أهل الفتيا ومشايخ الدنيا؛ فالملتحي عندهم من أهل العلم، ولابس القميص ومرتدي القلنسوة من أهل الفقه والفتوى، ويذكرني هذا بقصة واقعية فيها طرفة مبكية تدل على حقيقة هذه البلية: أن رجلا سأل أحد الملتحين عن مسألة من مسائل الدين وكان يغطي الملتحي رأسه بقلنسوة، فلما أجابه بأنه لا يدري قال السائل له: تلبس قلنسوة وأنت لا تدري فبادر المسؤول إلى قلنسوته فنزعها من على رأسه وألبسها إياه وقال أجب أنت إذا! يشير بذلك إلى أن الهيئة والهندام ليس فيهما دليل على الفقه والعلم.
    لكن قد يقول القائل: إذا ما الطريق لمعرفة من يستحق أن يشيخ ويقدم، ويرجع إليه في أمور الدين والدنيا ومسائل الفقه والعلم، ويستشار في الوقائع والأحداث والمتغيرات والمستجدات؟
    أقول هو من شهد له العلماء المعروفون بالعلم وقدموه على غيره ونصحوا الأمة بالرجوع إليه والأخذ عنه.
    هذا مع الأخذ بعين الاعتبار مقاصدهم وأغراضهم ومراميهم وغاياتهم التي قد يؤدي عدم العلم بها إلى تشييخ من ليس بشيخ، وهو السبب الثالث:
    - السبب الثالث: عدم معرفة مقاصد العلماء وأغراضهم هو من أسباب تشييخ من ليس بشيخ:
    اعلم رحمك الله أن العلماء حفظ الله الحي منهم ورحم الله ميتهم في كثير من الأحيان يمدحون الرجل ويثنون عليه وقد يشيخونه ويصفونه بالعلم لأغراض صحيحة ومقاصد جليلة ولكن الناس لما لم يعرفوا مقاصدهم من مدحهم وغاياتهم من كلماتهم يقعون في الانحراف وبخاصة إذا ساعد على هذا السبب الرابع وهو أن لا يعرف الممدوح قدر نفسه ولا منزلته اللائقة به فيستعمل مدحهم وثناءهم في نقيض مقاصدهم وعلى عكس مرادهم وهذا ما سيأتي الكلام عليه بإذن الله ولكن الذي أردت أن أقوله الآن وأبينه بعض البيان هي أغراض العلماء من ثنائهم على بعض الطلبة الذين لم يبلغوا المنزلة التي تؤهلهم للتصدر والتعليم والتوجيه والتفهيم فضلا عن التصدر للإفتاء والخوض في النوازل وأنواع المصائب والبلاء.
    - فمن أغراضهم في الثناء على من لم يبلغ مبلغهم حفظ المقامات: وهذا كمثل ثناء عالم من العلماء وشيخ من المشايخ على إمام مسجد في مسجده وبين المأمومين عنده، أو على طالب علم في بلدته وبين إخوانه؛ فقد يشيخه ويثني عليه ويأمر بأخذ العلم عنه بغرض حفظ مقامه بينهم، وربطهم بالدعوة السلفية التي يحملها، ويدعو إليها، وعُرف أنه يقدرها ويحيا بها؛ لأن من كان هذا هو حاله لاشك أنه سيربطهم بأصولها وقواعدها وأئمتها وعلمائها، وحينئذ يحصل الخير وينتشر، ويقل الشر ويندحر.
    - ومن أغراضهم في الثناء على من لم يبلغ مبلغهم ولا صار أهلا للانخراط في صفهم تشجيعه على العلم والعمل وتأهيله ليحمل من بعدهم المشعل: فإن العلماء الأحياء حفظهم الله يعلمون أن حياتهم فانية، والدعوة من بعدهم باقية؛ فلا بد لها من حملة يحملونها، ودعاة يتفانون في الدعوة إليها ونشرها؛ ولذلك يحرصون على تعليم الخير للآخرين، وبث العلم بين طالبيه أجمعين؛ ثم إذا أحسوا بنبوغ أحدهم، وبروزه بين أقرانه فيما أخذوه عنهم وعن غيرهم؛ أثنوا عليه وزكوه؛ تشجيعا له وتوطئة للطريق بين يديه، وهذا كله حرصا منهم على بقاء الدعوة إلى الكتاب والسنة، ودوام الخير في هذه الأمة.
    - ومن أغراضهم في الثناء على من لم يبلغ مبلغهم ولا صار أهلا للانخراط في صفهم صيانة خيرٍ يقوم به وحفظ دور يؤديه: فكم من طالب طلب العلم ولم يحصله على أصوله، ولا نال منه ما يكفي لتصدره، ولكنه نبغ في جانب من جوانبه، وبز أقرانه في ناحية من نواحيه؛ الناس في حاجة إلى تلك الناحية وهو قائم بها متفاني في تحقيقها، فيثني عليه العلماء ليحافظوا عليها، ولا يهدرونها حتى ينتفع الناس بها؛ ومثال ذلك: قد ينبغ طالب من الطلاب في الرد على أهل البدع والأهواء، وبيان ضلالاتهم التي تخالف شريعة رب الأرض والسماء؛ فيثنون عليه، وينصحون بآثاره، وقد يعينونه على نشرها ونصح الناس بها، وكطالب نبغ في النحو أو شيء من علوم الآلة مثلا فيجمعون الناس حوله، وينصحونهم بالاستفادة منه، لكن في هذا الفن خاصة لا في العلوم والفنون عامة.
    - ومن أغراضهم في الثناء على من لم يبلغ مبلغهم ولا صار أهلا للانخراط في صفهم إسكات أقوام منحرفين يطعنون فيه ويحاربونه: وذلك إذا قام من يطعن فيه بغرض التنفير من دعوته التي هي دعوة أهل السنة والجماعة، فينبري حينئذ من المشايخ والعلماء - ممن يعرفه، ويحسن الظن فيه، ويطمئن إليه - للدفاع عنه، ورد كيد المخالفين له؛ بالثناء عليه، ومدحه، وبيان معرفتهم به وبدعوته، والغرض من ذلك حفظ الدعوة والسعي في بقائها ببقاء الداعي إليها.
    وللعلماء فيما يأتون ويذرون أغراض وغايات، ومقاصد ونيات، قد يظهرونها للناس وقد يخفونها للمصالح المترتبة على إخفائها، ومن ذلك أن ما تقدم كله يحسن إخفائه، ولا يجدر بالعالم إبداؤه، لأن إظهاره يلغي المصلحة المترتبة عليه.
    ولكن هذا التشييخ والثناء قد يكون محفوفا بالمخاطر:
    - منها: أن يظن الطالب بنفسه خيرا؛ فيعدو قدره، ويتجاوز منزلته، ويتعالى على إخوانه، ويستعمل الثناء في غير موضعه، وهذا السبب الرابع الذي سيأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى.
    - ومنها: أن يظن المحيطون به ما لم يقصده العالم الذي زكاه وأثنى عليه، وهذا أيضا يوقع فيه السبب الرابع وهو عدم معرفة الطالب قدر نفسه؛ فلذلك لا يبدي للمحطين به حقيقته، ولا يزجرهم عن أن يظنوا فيه ما ليس فيه ولا هو أهل له.
    لكن السؤال هنا هو: إذا كان العلماء يعلمون أن ثناءهم محفوف بمثل هذه المخاطر فلماذا يثنون ويمدحون ولماذا يزكون ويرفعون؟
    والجواب:
    - أنهم إنما يثنون على من ظهر منه الصلاح والتواضع، والرجوع إلى أهل العلم وعدم التعالي والتعالم، وهذا كما لا يخفى على الجميع قد لا يكون حقيقيا وإنما يتظاهر الطالب به أمام شيخه، ويبرزه له في حضرته، وذلك لخوفه منه أو لتربصه الفرصة السانحة ليظهر خباياه، فثناؤهم عليه قائم على الحكم على الظاهر، وإيكال الباطن إلى العالم بالسرائر، مع علمهم وتيقنهم من أن الأمر كله بيد الله، وأن الدين يحفظه الذي أنزله، وأن لا أحد يستطيع أن يخادع ربه؛ فمن خادع الله خدعه وفضحه حينما يظن أن لا فاضح له ولا كاشف لسره.
    - ثم العلماء يعلمون أن من نفعه مدحهم ضره قدحهم؛ فمن أظهر لهم الخير قدموه، ومن أظهر الشر أبعدوه؛ كما قال عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ - رضى الله عنه -:" إِنَّ أُنَاسًا كَانُوا يُؤْخَذُونَ بِالْوَحْيِ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَإِنَّ الْوَحْيَ قَدِ انْقَطَعَ، وَإِنَّمَا نَأْخُذُكُمُ الآنَ بِمَا ظَهَرَ لَنَا مِنْ أَعْمَالِكُمْ، فَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا خَيْرًا أَمِنَّاهُ وَقَرَّبْنَاهُ، وَلَيْسَ إِلَيْنَا مِنْ سَرِيرَتِهِ شَيْءٌ، اللَّهُ يُحَاسِبُهُ فِي سَرِيرَتِهِ، وَمَنْ أَظْهَرَ لَنَا سُوءًا لَمْ نَأْمَنْهُ وَلَمْ نُصَدِّقْهُ، وَإِنْ قَالَ إِنَّ سَرِيرَتَهُ حَسَنَةٌ" رواه البخاري رحمه الله رقم 2641. قلت: وهذا هو طريق علماء السنة ولله الحمد والمنة.
    - السبب الرابع: عدم معرفة قدر النفس وتصورها على خلاف حقيقتها:

    وهذا من أعظم أسباب تشييخ من ليس بشيخ جهل العبد بمقدار نفسه، وعدم معرفته بحقيقة ذاته؛ فالطالب إذا أصيب بهذا الداء كثر منه التعالم والادعاء، وأظهر نفسه للناس على خلاف ما هو عليه، وخاض فيما لا يحسنه ولا علم له به، وتعالى على من دونه وطاول من فوقه؛ وكثير من الناس كما تقدم أتباع لكل ناعق، ويصدقون كل ناطق؛ فيشيخونه ويعظمونه ويرفعونه ويتبعونه، وكلما زاد ادعاء وانتفاخا، زاد رفعة في أعينهم وشموخا، وحقيقة أمره أنه لم يَعظُم إلا في أعين الجهال، ولم يشيخه إلا من لا علم له بحال من الأحوال، ولا يستطيع التمييز بين العلماء والجهال، والمهتدين والضلال.
    ولو أن الطالب عرف قدر نفسه، ولزم حده، ولم يتجاوز طوره؛ لنفع الله به وأكرمه، ورفعه المنازل التي تليق به، وجعله وارثا لمن تقدمه وسبقه.
    وحتى لا يشيخ طالب العلم من قبل من لا علم عنده ولا تمييز لديه عليه أن يكون صادقا مع ربه، منصفا من نفسه، عارفا قدره وقدر غيره، ومما يجنبه إن شاء الله الملمات والوقوع في المصائب والمهلكات ويجعله نافعا لنفسه وأمته فائزا بخيري الدنيا والآخرة الأمور التالية:
    الأمر الأول: أن يعرف منزلته التي أنزله الله فيها وأن لا يحاول رفع نفسه فوقها بل ينبغي عليه أن يزدري نفسه ويحتقرها مهما رفعه الله سبحانه وأكرمه، وهذا لن يكون إلا أن يوطن نفسه على إساءة الظن بها، وأن لا يحسن الظن فيها، لأنها مهلكته لا محالة قائدة له ـ إن لم يجاهدها ـ إلى الغَواية والضلالة ، وعليه أن يقتدي بسلف هذه الأمة الذين بلغوا الذروة في العلم والإرادة، والطاعة والعبادة؛ ومع ذلك كانوا يتهمون أنفسهم، ويرون أنهم أدنى من غيرهم وأحقر ممن سواهم، وأنهم هالكون إذا لم ينجهم ربهم وإليك بعض الأمثلة التي ذكرها الإمام ابن القيم رحمه الله في كتابه إغاثة اللهفان ج1 ص84 وما بعدها[1]:
    وقد روى الإمام أحمد في الزهد عن أبى الدرداء رضي الله عنه قال:" لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في جنب الله، ثم يرجع إلى نفسه فيكونَ لها أشدُ مقتا".
    وقال مُطرِّف بن عبد الله:" لولا ما أعلم من نفسي لقَليْتُ النَّاس".
    وقال مُطرِّف في دعائه بعرفة:" اللَّهُم لا تَرُدَّ النَّاسَ لِأَجْلِي".
    وقال بكر بن عبد الله المزني:" لَمَّا نَظَرْتُ إِلَى أَهْلِ عَرَفَات ظننت أنهم قد غفر لهم، لولا أني كنت فيهم".
    وقال أيوب السختياني:" إذا ذكر الصالحون كنتُ عنهم بمَعْزِلٍ".
    ولما احتضر سفيان الثوري دخل عليه أبو الأشهب، وحمادُ بنُ سلمة، فقال له حمادٌ: "يا أبا عبد الله، أليس قد أمنتَ مما كنتَ تخافُه؟ وتقدَمُ على من ترجوه، وهو أرحم الراحمين، فقال: يا أبا سلمة، أتطمع لمثلي أن ينجوَ من النَّارِ؟ قال: إي والله، إني لأرجو لك ذلك".
    وذكر زيد عن مسلم بن سعيد الواسطي[2] قال: أخبرني حماد بن جعفر بن زيد: أن أباه أخبره قال: "خرجنا في غزاة إلى كابل، وفى الجيش: صِلة بن أشيم، فنزل الناس عند العتمة، فصلوا ثم اضطجع فقلت: لأرمقن عمله، فالتمس غفلة الناس، حتى إذا قلت: هدأت العيون وثب فدخل غيضةً قريبًا مِنَّا، فدخلت على أثره، فتوضأ، ثم قام يصلي، وجاء أسد حتى دنا منه، فصعدت في شجرة فتراه التفت أو عده جروا؟ فلما سجد قلت: الآن يفترسه الأسد، فجلس ثم سلم ثم قال: أيها السبع، اطلب الرزق من مكان آخر. فولى وإن له لزئيرًا، أقول: تصدعُ الجبالُ منه. قال فما زال كذلك يصلي حتى كان عند الصبح جلس، فحمد الله تعالى بمحامد لم أسمع بمثلها، ثم قال: اللهم إني أسألك أن تجيرني من النار، ومثلي يصغر أن يجترئ أن يسألك الجَنَّةَ، قال: ثم رجع وأصبح كأنه بات على الحشايا، وأصبحت وبي من الفترة شيءٌ الله به عالم".
    وقال يونس بن عبيد: "إني لأجد مائةَ خصلةٍ من خصالِ الخيرِ مَا أَعْلَمُ أَنَّ فِي نفسي منها وَاحِدَة".
    وقال محمد بن واسع: "لو كان للذنوب ريحٌ ما قَدَرَ أحدٌ أن يجلسَ إِلَيَ".
    وذكر ابن أبى الدنيا عن الخلد بن أيوب قال:" كان راهب في بني إسرائيل في صومعة منذ ستين سنة. فأُتِيَ في منامه. فقيل له: إن فلانا الإسكافي خير منك- ليلة بعد ليلة- فأتى الإسكافِيَ، فسأله عن عمله. فقال: إني رجل لا يكاد يمر بِيَ أحدٌ إلا ظننتهُ أنه في الجنة وأنا في النار، ففضل على الراهب بإزرائه على نفسه".
    وذُكر دَاوُدٌ الطائيُ عند بعض الأمراء؛ فأثنوا عليه فقال:" لو يعلمَ الناسُ بعضَ ما نحن فيه ما ذل لنا لسان بذكرِ خيرٍ أبدا".
    وقال أبو حفص:" من لم يتهم نفسه على دوام الأوقات ولم يخالفها في جميع الأحوال، ولم يجرها إلى مكروهها في سائر أوقاته، كان مغرورا، ومن نظر إليها باستحسان شيء منها فقد أهلكها".
    فالنفس داعيةٌ إلى المهالك، معينةٌ للأعداء، طامحةٌ إلى كل قبيح، متبعةٌ لكل سوء؛ فهي تجري بطبعها في ميدان المخالفة.
    فالنعمةُ التي لا خطر لها: الخروج منها، والتخلص من رقها، فإنها أعظم حجاب بين العبد وبين الله تعالى، وأعرف الناس بها أشدهم إزراء عليها، ومقتا لها.
    قال ابن أبى حاتم في تفسيره: حدثنا علي بن الحسين المقدمي: حدثنا عامر ابن صالح عن أبيه عن ابن عمر: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: "اللهم اغفر لي ظلمي وكفري، فقال قائل: يا أمير المؤمنين، هذا الظلم، فما بال الكفر؟ قال: إن الإنسان لظلوم كفار".
    قال: وحدثنا يونس بن حبيب: حدثنا أبو داود، عن الصلت بن دينار: حدثنا عقبة بن صهبان الهنائي قال:" سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله عز وجل:" ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الذين اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا، فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ، وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالَخْيَراتِ بِإِذْنِ اللهِ" [فاطر: 32]. فقالت: يا بني، هؤلاء في الجنة، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالجنة والرزق، وأما المقتصد فمن اتبع أثره من أصحابه حتى لحق به، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم، فجعلت نفسها معنا".
    وقال الإمام أحمد: حدثنا حجاج: حدثنا شريك عن عاصم عن أبي وائل عن مسروق، قال: دخل عبد الرحمن علي أم سلمة رضي الله عنها، فقالت:" سَمِعْتُ الَّنبيَّ صلي اللهُ وسلم يقول: إِنَّ مِنْ أصْحَابي لمَنْ لا يَرَانِي بَعْدَ أَنْ أَمُوتَ أَبَدا فَخَرَجَ عَبْدُ الرَّحمنِ مِنْ عِنْدِهَا مَذْعُوراً، حَتَّى دَخَلَ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. فَقَالَ لهُ: اسْمَعْ مَا تَقُولُ أُمُّكَ، فَقَامَ عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ حَتَّى أَتَاهَا فَدَخَلَ عَلَيهَا فَسَأَلهَا، ثُمَّ قَالَ: أَنْشُدُكِ بِاللهِ، أَمِنْهُمْ أَنَا؟ قالَتْ: لا، وَلَنْ أُبَرئَ بَعْدَكَ أَحَداً"[3].
    فسمعت شيخنا يقول: إنما أرادت أني لا أفتح عليها هذا الباب، ولم ترد أنك وحدك البريء من ذلك دون سائر الصحابة" انتهى المقصود من كلامه رحمه الله.
    قلت: انظر إلى أولئك القوم وانظر إلى كلامهم وقس نفسك بصدق معهم فإن وجدت نفسك تزري على نفسك كمثلهم أو قريبا منهم فأنت على خير عظيم وإن لم تجد في نفسك مثل أخلاقهم ولم تحتقرها كمثل صنيعهم فاعلم أنك على خطر جسيم فارجع لنفسك فداوها من أدوائها واحذر أن تغفل عن ذلك فهو أوجب عليك من كل ما أنت منهمك فيه ومقبل عليه.
    - الأمر الثاني: أن لا يغتر بثناء العلماء عليه ومدحهم له؛ بل عليه أن يتواضع كلما أكرمه الله سبحانه بما يرفعه بين أقرانه، ويعليه بين طلبة العلم من أمثاله، ويعينه على ذلك أن يتبصر في أمرين اثنين:
    الأول: في سبب ثناء العلماء عليه ومدحهم له، وقد تقدم أنهم إنما يثنون ويمدحون لمصالح يرجون تحقيقها، ومفاسد يحرصون على درئها؛ فإذا علم الطالب هذا لم يغتر بكلامهم، ولم يغر غيره بما صدر عنهم.
    الثاني: أن ينظر إلى حقيقته التي هو أدرى بها من غيره؛ فهو أعلم الناس بنفسه وضعفها وعجزها، وتقصيرها في جنب الله بل تفريطها؛ فكيف يتعالى وفيه ما الله به عليم من الرزايا والبلايا.
    - الأمر الثالث: أن يحذر الاغترار بحفظه وذكائه، وإلمامه بكثير من الفنون، وتحصيله لجملة من العلوم، فإن من اغتر بما عنده ازدرى غيره، واحتقر من عداه، ولو كان أغزر منه علما، وأعظم منه فهما، فكم هم الطلبة الذين يغترون بحفظهم، وسرعة بديهتهم، وتوقد ذهنهم، فيرون بسبب ما مَنَّ الله به عليهم أنهم أفضل من غيرهم؛ فتجدهم ينتقصون من العلماء، ومن تقدمهم من الفقهاء؛ فينبزون هذا بضحالة حفظه، والآخر بضعف فهمه، والثالث بقلة اطلاعه، والرابع بشذوذ فقهه، والخامس بلحنه في كلامه، وهكذا... ولقد أخبرني أخونا الدكتور أحمد بوزيان حفظه الله تعالى أنه إبان دراسته في الجامعة كان معهم شاب شديد الحفظ، بل هو أعجوبة في حفظه واطلاعه وإلمامه، ولكنه كان متعاليا مغرورا، معجبا بنفسه مسرورا، ولذلك بدأ يطعن في العلماء الكبار؛ من أمثال الشيخ محمد علي فركوس وغيره، وينبز هذا بأنه لا يحفظ القرآن، والآخر لا علم له بفن كذا وكذا، فرُفع أمره إلى أحد مشايخنا حفظه الله فأمر بهجرانه فقتل نفسه بيده ووئد ذاته في مهده.
    - الأمر الرابع: أن يحرص طالب العلم بعد معرفته بحقيقته ومنزلته التي تليق به أن لا يرضى من أحد من الناس أن يرفعه فوق قدره، ولا أن ينزله منزلة أرفع منه وأعلى من مقامه، ليس من باب التواضع وفقط، بل من باب الاستحياء من الله أن يوصف بما يخالف علم الله فيه، وحقيقة أمره التي لا تخفى على ربه، ولا يمكنه سترها عن مولاه، وهذا من تحقيق التوحيد الذي هو حق الله على العبيد؛ وهو الذي كان عليه السلف الصالح رضوان الله عليهم ورحمهم لا يحبون أن يعتقد أحد فيهم ما ليس من سجاياهم ولا من أخلاقهم ومن ذلك:
    - ما رواه مسلم رحمه الله في صحيحه عن حُصَيْنُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ قَالَ كُنْتُ عِنْدَ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ فَقَالَ أَيُّكُمْ رَأَى الْكَوْكَبَ الَّذِى انْقَضَّ الْبَارِحَةَ قُلْتُ أَنَا. ثُمَّ قُلْتُ أَمَا إِنِّي لَمْ أَكُنْ فِي صَلاَةٍ وَلَكِنِّي لُدِغْتُ. قَالَ فَمَاذَا صَنَعْتَ قُلْتُ اسْتَرْقَيْتُ...." الحديث.
    فانظر إلى حرصه على أن لا يُنسب إليه ما ليس فيه؛ من الأعمال الصالحات والقربات والطاعات، بعكس أهل زماننا هذا الذي يحب الرجل فيه أن يحمد بما لم يفعل، ويُذكر بما لم يتصف به ويعمل.
    قال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في القول المفيد ج1 ص97 وهو يشرح قول حصين "أما إني لم أكن في صلاة": وقال هذا رحمه الله لئلا يظن أنه قائم يصلي فيحمد بما لم يفعل، وهذا خلاف ما عليه بعضهم، يفرح أن الناس يتوهمون أنه يقوم يصلي، وهذا من نقص التوحيد.
    - ومن ذلك ما رواه أبو عبد الله الصَّيْمَري الحنفي في كتابه "أخبار أبي حنيفة وأصحابه" ص52: عَن أبي يُوسُف أنه قال: بَينا أَنا أَمْشِي مَعَ أبي حنيفَة إِذْ سمع الصّبيان يصيحون هَذَا أَبُو حنيفَة الَّذِي لَا ينَام اللَّيْل فَقَالَ لي يَا أَبَا يُوسُف أما ترى مَا يَقُوله هَؤُلَاءِ الصّبيان فَللَّه عَليّ أَن لَا أَضَع جَنْبي بفراش حَتَّى ألْقى الله تَعَالَى.
    الله أكبر استحيا من ربه أن يقال عنه ما ليس فيه، فقرر أن يكون متصفا بالذي يشاع عنه، ويصفه الصبيان به، أين أمثال هذه النفوس الكبيرة التي جمعت بين العلم والعمل والفقه والفهم؟.
    - الأمر الخامس: أن يلزم طالب العلم حده ولا يتجاوز طوره، ولا يطاول من هو أعلم منه وأقدر في فهمه وفطنته وخبرته وتجربته؛ وهذا من الأخلاق العظيمة والصفات الكريمة أن يتواضع الطالب ولا يتكبر، ويتطامن لغيره دون تفاخر وتجبر، ومهما غفل الطالب فلا ينبغي له أن يغفل عن حقيقتين مهمتين:
    الأولى: لا ينبغي لطالب العلم أن يغفل عن حقيقته التي يدل عليها وصفه الذي يعلمه هو في نفسه ويعلمه فيه غيره: ألا وهو الطلب، فالطالب في مرحلة طلبه للعلم لا ينبغي له أن يخرج عن هذا الوصف الذي يوصف به، ويدل على حقيقة أمره، وعلى مستواه وطاقتِه، وحَدِّهِ الذي لا يجوز له أن يتجاوزه، فلقبه يدل على وظيفته التي يجب عليه أن يقوم بها ولا يحيد عنها وهي أن يستمر في طلب العلم ويحرص على تحصيله والاستزادة منه وأخذه عن أهله، كما أن هذا اللقب والوصف يُلزمه أن يبقي نفسه بعيدا عن كل ما لا يحسنه ولم يتأهل بعد له، وأن يترك الأمور لأهلها ممن تحقق فيهم الوصف الذي يؤهلهم لها، فيترك الفتيا لأهلها، والخوض في النوازل لمن يفقهها ويلم بها ويقدر المصالح والمفاسد المتعلقة بها، فإن من الأمور ما لا يصلح لها إلا العلماء وأهل الخبرة الكبراء فما دَخْلُ طالب العلم فيها وهو ليس من أهلها؟.
    فما تضرر الناس إلا بسبب مزاحمة الطلبة للعلماء فيما هو من خصائصهم ويحسنونه دون غيرهم، فإذا غفل الطالب عن حقيقته التي يدل عليها وصفه ترك الأمر الذي هو مطالب به ومأمور بالاستزادة منه وتحصيله إلى أمر لم يؤمر به ولا هو من مسؤولياته ووظائفه، وحينئذ يُفسدُ ولا يُصلح، ويَضيعُ ولا يفلح.
    الثانية: أن الناس مقامات ولكل مقامه الذي يقف عنده ولا يتجاوزه؛ ومع وجود صاحب المقام الأعلى يستريح ويريح صاحب المقام الأدنى، وهذا هو خلق العلماء؛ فهل كان الشيخ ابن باز رحمه الله في أثناء طلبه يزاحم شيخه محمد بن إبراهيم رحمه الله ويتقدم بين يديه في المسائل والأحكام والتصريحات والكلام، وهكذا الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله هل كان يزاحم شيخه السعدي رحمه الله في أثناء طلبه وحياة شيخه فضلا أن يخالفه ويخطئه ويقوم ضده ويقارعه، فينبغي للطالب أن لا يكون من المستعجلين، وأن يترك الأمر لأهله ولا يزاحمهم فيه، حتى يأتي دوره ويصير من أهل الأمر وغيره من طلبته فيخوض هو ويسكت غيره، أما إذا استعجل ذلك قبل أوانه حرم منه كما قيل: من استعجل الأمر قبل أوانه عوقب بحرمانه، نسأل الله السلامة والعافية.
    الأمر السادس: أن يعرف طالب العلم حقيقة حجمه في العلم، وقدره في الفقه والفهم، وأن لا يغتر بهذه الوسائل الجديدة فيظن نفسه شيئا يذكر بمجرد انتشار كلامه فيها، وظهور اسمه ونتاجه عليها؛ لأن هذه الوسائل لا تعكس حقيقة مستوى الإنسان، ولا تبرز منزلته عند علماء السنة والقرآن، ولذلك أنا أقول لكل من غرته نفسه ممن ظهر على هذه الوسائل نتاجه: هب هذه الوسائل اليوم معدومة أكان اسمك يعرف بين السلفيين فضلا عن الناس أجمعين؟ وهب أن العلماء المعروفين لم يقدموك ويثنوا عليك أكان السني يعتبر كلامك ويُقْبِلُ على نتاجك؟.
    والله إن الطالب الذي يعتد بنفسه قبل أن يشتد في العلم عُودُه، ويترفع قبل أن يرفعه الله المنزلة التي تليق به؛ لمن الحمقى والمغفلين، وقليلي العقل والدين، وكم رأينا من ليس بشيء يعد نفسه شيئا، ومن هو تافه ويرى نفسه في العلم متألقا، حتى إنك لتجد نفسك في كثير من المرات تريد أن تقول لأمثال هؤلاء: يا هذا أفق من رقدتك، وانتبه من غفلتك، فأنت لست بشيء يذكر، ولا أنت بالقدر الذي تظن وتتصور، فاتق الله في نفسك وفي غيرك وفي شرع ربك وهدي نبيك.
    والخلاصة: أن الطالب إذا علم هذه الأشياء وعمل بها فإنه لن يدعي في نفسه ما ليس فيه، ولن يسمح لغيره أن يرفعه فوق قدره ومقامه، ولن يزاحم من هو فوقه وأعلم منه فضلا أن يعارضه ويخالفه، ولن يتدخل فيما لا يعنيه ولا يحسنه بل سيُقبل على شأنه ويهتم بما أقامه الله فيه مما يدخل تحت طاقته وقدرته؛ وحينئذ يكون أهلا في الحال للاستفادة وفي المآل للإفادة والريادة.
    هذا الذي أردت أن أنصح به نفسي وإخواني طلبة العلم ممن عرفوا المنهج الحق واستقاموا عليه ويُظن بهم أنهم سيكونون يوما من حملته والدعاة إليه.
    والله من وراء القصد وهو يهدي إلى سواء السبيل.
    وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    وكتبه أخوكم ومحبكم: أبو عبد السلام عبد الصمد سليمان
    يوم الأربعاء: 24 ربيع الأول 1439 هـ
    13 ديسمبر 2017 م


    [1]- طبعة مكتبة المعارف، الرياض، المملكة العربية السعودية تحقيق: محمد حامد الفقي.
    [2]- فيما ذكر ابن كثير في البداية.
    [3]- ذكره العلامة الألباني رحمه الله في الصحيحة تحت رقم 2982 بلفظ: عن أم سلمة قالت: دخل عليها عبد الرحمن بن عوف فقال: يا أمه! قد خفت أن يهلكني كثرة مالي، أنا أكثر قريش مالا؟ قالت: يا بني! فأنفق، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:" إن من أصحابي من لا يراني بعد أن أفارقه"، فخرج فلقي عمر، فأخبره، فجاء عمر فدخل عليها، فقال: بالله منهم أنا؟ فقالت: لا، ولن أبلي أحدا بعدك.
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2017-12-20, 02:55 PM.

  • #2
    وفقكم الله و سدد على الحق خطاكم أبا عبد السلام ، فوائد عزيزة و درر نفيسة ، زادكم الله من فضله و نفع بكم إخوانكم .

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خيرا .

      تعليق


      • #4
        جزاكما الله خيرا وبارك الله فيكما وجعلنا جميعا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه

        تعليق


        • #5
          ..
          التعديل الأخير تم بواسطة أبو عبد الله بلال يونسي; الساعة 2017-12-15, 09:48 PM.

          تعليق


          • #6
            جزاك الله خيرا اخي الفاضل عبد الصمد على ما تساهم به من درر في هذا المنتدى المبارك واسال الله جل في علاه ان ينفعنا به ويرفعك به اعلى الدرجات وان لا يجعلنا ممن يتنكرون لأهل العلم والفضل وكل منا يعرف قدر نفسه فَلَو اشتغلنا بإصلاحها وتزكيتها وسرنا خلف كبارنا لما نفخ الشيطان فينا نسأل الله السلامة والعافية
            يقول الإمام إبن القيّم رحمه الله:{ ومنها أنَّ العَبدَ يعرفُ حقيقَةَ نفسهِ, وأنَّها الظَّالمَةُ, وأنَّ ما صَدَرَ مِنها من شرٍّ فقد صَدَرَ من أهلهِ ومعدنهِ, إذ الجَهلُ والظُّلمُ منبعُ الشرِّ كلِّهِ, وأنَّ كلَّ ما فيها من خَيرٍ وعلمٍ وهُدىً وإنابَةٍ وتَقوىً فهو من ربَّها تَعالى, هو الذي زكَّاها بهِ, وأعطاها إيَّاهُ, لا منها, فإذا لم يَشَأ تَزكيَةَ العَبدِ تَرَكهُ معَ دواعي ظُلمهِ وجَهلهِ, فهو تعالى الذي يُزَكِّي من يشاءُ منَ النُّفوسِ, فَتزكو وتأتي بأنواعِ الخَيرِ والبرِّ, ويتركُ تَزكيَةَ من يشاءُ منها فتأتي بأنواعِ الشرِّ والخُبْثِ

            تعليق


            • #7
              جزاك الله خيرا أخي عبدالصمد على هذه المقالة الطيبة النافعة التي جليت بها ^لأفهام ورفعت من خلالها الأوهام التي يعيش بها أقوام ما عرفوا من العلم إلا رسمه ومن الفقه إلا وسمه،غرتهم الشهادات وخدعتهم الادعاءات.

              تعليق


              • #8
                جزاكم الله خيرا شيخنا الكريم ووالدنا العزيز على جهودكم الطبية التي تقومون بها لنصرة دين الله وسنة نبيه ومنهج سلف هذه الأمة فأسأل الله بأسمائه الحسنى وصفاته العليا ان يثبتنا جميعا على الحق المبين إلى أن نلقاه.
                وجزى الله خيرا إخواني المعلقين جميعا ممن لم يغيروا ولم يبدلوا بل تجدهم على السنة دائما مجتمعين وبها متمسكين ينصرونها ويدعون إليها ويضحون بالغالي والنفيس من أجلها

                تعليق


                • #9
                  جزاك الله خيرا أخي عبد الصمد، وهذه فتوى للشيخ فركوس حفظه الله في حكم تشييخ الحدث
                  الفتوى رقم: ١٠١٤

                  الصنف: فتاوى متنوِّعة - العلم والعلماء
                  في حكم تشييخ الحدث

                  السـؤال:

                  قد كَثُرَ في هذا الزمانِ التلقيبُ بالشيخ على كُلِّ مَنْ تَصَدَّرَ للتدريس أو الدعوة، حتَّى ولو كان مستواه عاديًّا جدًّا، فأرجو مِن فضيلتكم بيانَ مدلولِ هذه الكلمةِ ومَن يَسْتَحِقُّها؟ وجزاكم اللهُ خيرًا.

                  الجـواب:

                  الحمدُ لله ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على مَنْ أرسله اللهُ رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أمَّا بعد:

                  فالشيخ هو كُلُّ مَن زادَ على الخمسين، وهو فوق الكهلِ ودون الهَرِمِ الذي فَنِيَتْ قوَّتُه، وهو يُسَمَّى بالشيخ الفاني(١).

                  وفي مَقامِ العلم يُطْلَق هذا اللقبُ على كُلِّ كبيرِ السنِّ المَهيبِ الوَقورِ الذي اكتسب التجربةَ في مُخْتَلَفِ العلوم واستصحب الخبرةَ في مجالاتها، ويتمتَّع غالبًا بقوَّةٍ في رَدِّ الشبهة وتقريرِ الحُجَّة، ويظهر ذلك في إنتاجه العلميِّ والتربويِّ والتوجيهيِّ، بعيدًا عن الهوى واستمالةِ النفس به إلى الطمع بما في أيدي الناس.

                  وتأسيسًا على هذا المعيار فلا يَليقُ تلقيبُ طالبٍ مبتدئٍ في العلوم أو شابٍّ حديثِ السِّنِّ ﺑ «الشيخ» بالمعنى الاصطلاحيِّ، ولو اكتسب بعضَ العلوم أو تخرَّج مِن جامعةٍ شرعيةٍ أو مركزٍ للعلوم أو زاويةٍ لحفظِ كتاب الله وبعضِ سنن المصطفى صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أو وُسِم بشهاداتٍ وإجازاتٍ وتزكياتٍ؛ لأنَّ المناهج الدراسية المتَّبعة حاليًّا قصيرةُ المدَّة لا تَفي بالغرض ولا تغطِّي المطلوبَ، وجوانبُ النقص في الطالب على العموم بارزةٌ بل حتَّى في أستاذه فهو ـ في الجملة ـ يحتاج بدوره إلى إعادة تأهيلٍ. وقد نُقِلَ عن الشافعيِّ ـ رحمه الله ـ قوله: «مَن طَلَبَ الرئاسةَ فرَّتْ منه، وإذا تَصَدَّرَ الحَدَثُ فاتَهُ علمٌ كثيرٌ»(٢).

                  وفي تعليقٍ لابن قتيبة ـ رحمه الله ـ على أثَرِ ابنِ مسعودٍ رضي الله عنه قولُه: «لا يَزال الناسُ بخيرٍ ما أخذوا العِلْمَ عن أكابرهم وأُمَنائهم وعلمائهم»(٣)، قال رحمه الله ـ شارحًا معنى الأثر ـ: «لأنَّ الشيخ قد زالت عنه متعةُ الشباب وحِدَّتُه وعجلتُه وسَفَهُه، واستصحب التجربةَ والخبرة؛ فلا يدخل عليه في عِلْمِه الشبهةُ، ولا يَغْلِب عليه الهوى، ولا يَميل به الطمعُ، ولا يستزلُّه الشيطانُ استزلالَ الحدث، فمع السنِّ والوقار والجلالة والهيبة، والحَدَثُ قد تدخل عليه هذه الأمورُ التي أُمِنَتْ على الشيخ، فإذا دَخَلَتْ عليه وأفتى هَلَكَ وأهلك»(٤).

                  وعليه، فإنَّ تلقيبَ مَن لا يَليق برتبة المشيخة يندرج تحت «وضعِ الأشياء في غير موضعها الصحيح» مع فتحِ مَداخِلِ الشيطان في نَفْسِ الطالب المتطلِّع وتُورِّثُه هذه التلقيباتُ مِن أنواع أمراض القلوب ما لا يخفى مِن العُجب والغرور والاكتفاء بالنفس والتكبُّر عند الطلب ونحوِ ذلك مِن آفات العلم، وقد ينعكس الأمرُ سلبًا على سلوكه النفسيِّ والتربويِّ؛ فيؤدِّي إلى التشنيع بالأكابر والتنقُّص منهم والنيلِ مِن مَناصِبِهم.

                  وفي مَقامِ الرئاسة والفضل والمكانة فإنَّ إطلاق لفظِ «الشيخ» يكون غالبًا مُضافًا إلى مكانٍ أو مكانةٍ كشيخ البلد فإنه يُطْلَق على منصبٍ إداريٍّ في القرية وهو دون العمدة، وشيخِ الفضل والإحسان وما يُقابِلُ ذلك في باب الرذيلة كشيخ الضلالة والغواية والفساد ونحو ذلك.

                  والعلمُ عند اللهِ تعالى، وآخرُ دعوانا أنِ الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، وصلَّى اللهُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آله وصحبه وإخوانِه إلى يوم الدِّين، وسلَّم تسليمًا.

                  الجزائر في: ١٥ جمادى الثانية ١٤٣٠ﻫ
                  الموافق ﻟ: ٠٨ جوان ٢٠٠٩م

                  (١) انظر: «التعريفات الفقهية» للبركتي (١٢٥).

                  (٢) «صفة الصفوة» لابن الجوزي (٢/ ٢٥٢).

                  (٣) «نصيحة أهل الحديث» للخطيب البغدادي (١/ ٢٨).

                  (٤) المصدر نفسه (١/ ٣٠).

                  المصدر: http://ferkous.com/home/?q=fatwa-1014

                  تعليق

                  الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
                  يعمل...
                  X