إلى كلِّ مَن يَسعَى لتَحقِيقِ أَمنِ البِلادِ و استِقرَارِها و البَحثِ عَن حُلولٍ جِذرِيَّةٍ للمَشَاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوَةُ السَّلَفيَّةُ هِيَ الحَل !(الحلقة الثانية)
بسم الله الرحمن الرحيم
منشأ الفتن الدموية و أسبابها، و جهود مشايخ السلفية في سدِّها وردمها
مرَّ معنا بأنَّ الفكر الثوريَّ التكفيري –الذي تتولد عنه الثورات و الانقلابات- يمرُّ بثلاث مراحل أساسية: التنفير، و التكفير، ثم القتل و التدمير، و أن هذه المراحل الثلاث تنقسم في الجملة إلى قسمين: أسبابٌ، ونتائج .
تتمثَّل الأسباب في المرحلتين الأوليتين، و النتائج في المرحلة الثالثة .
و سأتكلم في هذا الفصل عن المرحلتين الثانية و الثالثة، من مراحل الفكر التكفيري، مع إبراز دور مشايخ السلفية في علاجها؛ هذا الدور الذي أسهم في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة، و نشر الوعي الصحيح، و المنهج الوسطي المعتدل، و أثَّر بشكل مباشر في الحد من ظاهرة العنف، و تقزيمها، و تقليص رقعتها، و تضييق الخناق على أصحابها، و الحيلولة دون تأثُّر كثيرٍ من الشباب بأفكار أربابها، و توجهاتهم المتطرِّفة.
فأبدأ:
* بمرحلة « التكفير»: التي سبق و أن بيَّنتُ بأنَّها: المرحلة الأساس التي يتولَّد منها الخروج و القتل والتدمير؛ فالفكر الخارجي هو مآل الفكر التكفيري و نتيجته، و ذلك أنَّ اعتقاد كفر الحاكم، و خروجه عن ملة الإسلام، يُعتبر من أكبر المسوِّغات التي ترتكز عليها الجماعات المسلحة في الخروج عليه، و مقاتلته، و السعي في خلعه و إزالته، إذ هو في نظرهم مرتدٌّ حلال الدَّم، لا وِلاية له على المسلمين، بل هي باطلة .
و إذا رجعنا إلى منشأ فكرة التكفير من أصلها-عند هؤلاء- ، نجدها مبنية على قضيتين أساسيتين كبا فيهما جوادهم، و انحرف فيهما فهمهم، و ضلَّ فيهما سعيهم، فكانت –بذلك- أول نواة لفكرهم الثوري الخارجي، بل مضغته التي لما فسدت فسد منهجهم كله، و هوى بهم في مستنقع الثورات، و أغرقهم في وحل الدماء، التي استحلوها انطلاقًا منه .
القضية الأولى: عقيدتهم الفاسدة في عصاة المسلمين، و أهل الكبائر منهم، فهم يُكفرون من وقع في شيء من كبائر الذنوب، و من ثمَّ يستحلُّون دمه، و في ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في " مجموع الفتاوى "(19/71) : « الفرق الثاني في الخوارج، وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسَّيِّئات، ويترتَّب على تكفيرهم بالذُّنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنَّ دار الاسلام دار حرب ».
و هذا الذي برَّأ الله منه منهج أهل السنة و الجماعة السلفيين، حتى صار أحد الفروق الأساسية بينهم وبين التكفيريين و الخوارج .
يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، كما في " شرح الطحاوية "(442-443): « أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ..، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ..، وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ ».
هذا؛ و لمشايخ السنة السلفيين-في بلاد الجزائر و غيرها- جهودٌ مشكورة في تقرير العقيدة الإسلامية الصحيحة في أصحاب الكبائر، و نشرها و بيان فساد عقيدة أهل البدع من خوارج و غيرهم، التي هي أصل الفكر التكفيري و منشؤه، مما أسهم بشكل فعال في نشر الوعي الصحيح، و تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى العامة في هذا الباب، و التي يسعى أرباب الفكر التكفيري في بثِّها في أوساطهم و نشرها بينهم، و تقريرها في نفوسهم، لتكون مطيَّةً لهم إلى مرحلة التكفير التي تؤدي بهم-بدورها- إلى مرحلة القتل و التدمير .
* و أمَّا القضية الثانية التي نشأ عنها التكفير، و آلت بأولئك إلى التكفير، و من ثمَّ الخروج و القتل و التدمير-: فهي غبشٌ كبيرٌ في تصوُّر قضايا التكفير، و جهلٌ فظيعٌ بشروط هذا الباب الخطير، و خلطٌ و خبطٌ بين الإطلاق و التعيين، نتج عنه اعتقاد كفر كلِّ من وقع في الكفر، مع ترتيب أحكام الكفر عليه الدنيوية منها، و الأخروية، الأمر الذي أدَّى بهم إلى نتائج هذا الفكر -الكارثية-، من حمل السلاح، و استحلال الدماء، و استباحة الأعراض، و ترويع الآمنين، و نهب الممتلكات، و تدمير المنشآت، و غير ذلك من المخازي و الشرور .
و لمَّا كانت هذه القضية؛ أرضية صالحة لنموِّ هذا الفكر و تطوُّره، و رحمًا له، منها ينبت و يتولد، و همزة وصل يمتطيها أصحابه لبلوغ آخر مراحله؛ أولاها مشايخ السلفية اهتمامهم، و سخروا فيها أقلامهم و منابرهم، و ما أُتيح لهم من وسائل قصد علاجها، و الحيلولة دون تفاقم المرض و بلوغه مراحله النهائية.
* هذا كلُّه بالنسبة لجهود مشايخ السلفية في علاج المرحلة الثانية من مراحل الفكر الثوري الخارجي، و هي مرحلة « التكفير»، و بقي معنا:
المرحلة الثالثة: -من مراحل هذا الفكر- و هي الخروج، و ما يتبعه من سفك الدماء، و استباحة الأعراض، و القتل و التدمير و التخريب، و نحو ذلك .
فلمشايخ السلفية -كذلك- جهودٌ مُباركة في علاج هذه المرحلة ، و التخفيف من حدَّتها، و الحيلولة دون وصول الشباب إليها، و تتلخَّص جهودهم –في ذلك- في عدد من النقاط على النحو التالي :
النُّقطة الأولى: تحذير أهل السنة السلفيين من الخروج على ولاة الأمر، وإحداث الفتن والثورات، والتَّذكير بالنصوص الشرعية النَّاهية عن ذلك، و الحثِّ على الاعتبار بالغير، و لفت أنظار الناس إلى مفاسد الخروج و مآلاته الوخيمة .
النُّقطة الثانية: الحثُّ على مُقابلة جور الحكام و استئثارهم بالأموال والمناصب، بالصبر، كما أرشدت إلى ذلك الأحاديث النبوية .
النقطة الثالثة: الدعوة إلى اعتزال الفتن .
النقطة الرابعة: تصحيح المفاهيم الخاطئة حول موضوع الجهاد .
النقطة الخامسة: التشديد على حرمة دماء المسلمين.
النقطة السادسة: التَّذكير بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و قبل سرد هذه النقاط، و تفصيل القول فيها، يحسن أن أُقدِّم ببيان
عقيدة أهل السنة السلفيين في مسألة البيعة و الإمامة
فأقول: لما كان السبب المباشر والرئيس في كثير من الفتن الدائرة في البلاد العربية والإسلامية التي أدت إلى زعزعة أمن الناس واستقرارهم، هو الخروج على ولاة الأمر ومنازعتهم، وخلع يد الطاعة، الذي تتبناه وتدعوا إليه الجماعات الثورية التكفيريَّة، كان لابد من بيان عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين في ولاة الأمور والحكام، وطريقتهم في التَّعامل معهم، وذلك من خلال كتب العقائد المعتمدة عند السلفيين والتي تعتبر مراجعهم التي يستقون منها عقائدهم ومناهجهم، في هذا الباب وغيره من أبواب الدين .
فنبدأ أولا: برسالة " أصول السنة " لإمام أهل السنة والجماعة السلفيين أحمد بن حنبل رحمه الله، (ت سنة: 240 هـ ) الذي اتفق أهل السنة على جلالته وإمامته والسير على منهجه وطريقته في الأصول، حيث قرَّر في رسالته المذكورة (ص3)، أن من أصول أهل السنة السلفيين: « السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به ومن ظهر عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الإمام إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة من دفعها إليهم أجزأت عنه برًّا كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة باقية تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم، فالسنة بأن يصلي معهم ركعتين وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك من ذلك شيء .
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو الغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق » انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله .
* فتأمل كيف أن إمام أهل السنة صرَّح بتحريم الخروج على ولاة الأمور أبرارًا كانوا أم فجارًا، وأن من فعل ذلك فقد شق عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات على ذلك مات ميتة جاهلية، وأنه بخروجه على ولاة الأمر وإثارة الفتن على المسلمين يعتبر من أهل الأهواء والبدع، خارجًا عن جماعة أهل السنة، ومراده رحمه الله واضح في أن أهل السنة لا يدينون بالخروج على ولاة أمر المسلمين ولا يفعلونه، بل يحرمونه أشد التحريم، فمن فعل ذلك فليس منهم وإن زعم وادَّعى أنه منهم و جهد نفسه في الالتصاق بهم و الانتساب إليهم، و هذا اعتقاد و مسلك كلِّ من يسير على طريقة الإمام أحمد في الأصول، من علماء السنة المعاصرين، و كذا جمهور السلفيين، سواء في بلاد الجزائر أو غيرها .
ثانيًا: الإمام الصابوني رحمه الله (ت سنة: 449هـ) وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، في رسالته التي بعنوان " عقيدة السلف وأصحاب الحديث "، وهي من المراجع المعتمدة في العقائد عند أهل السنة ، قال فيها مبيِّنًا عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين في ولاة أمر المسلمين (ص32):« و يرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف، ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل » انتهى .
ثالثًا: الإمام الطحاوي رحمه الله(ت سنة: 321 هـ) وهو من أئمة أهل السنة، في رسالته " العقيدة الطحاوية "(ص:68 )، وهي أيضًا من أمهات المراجع المعتمدة عند أهل السنة السلفيين في العقائد، و التي ينقلها عن أئمة أهل السنة والجماعة، قال فيها:« و لا نرى- يعني: معشر أهل السنة- الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدًا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز و جل فريضة ما لم يأمروا بمعصية و ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة »انتهى.
رابعًا: الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله (ت سنة 620 هـ ) وهو من أئمة أهل السنة كذلك، قال في رسالته " لمعة الاعتقاد "(ص40) التي نقل فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة:« ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، و سمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين »انتهى .
* هذا؛ وقد نقل غير واحد من العلماء إجماع أهل السنة السلفيين على تحريم الخروج على الحكام وإن كانوا ظلمة، أو فسقـة، للأحاديث الناهيـة عن الخروج الآمرة بالصبر على جور الأئمة، ولما يترتب على ذلك من الفتن، والشرور .
و في بيان شيء من هذه المنقول، يقول شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله: «ومِنْ كلام الأئمَّة الذي يقرِّرُ إجماعَ السلف على السمع والطاعة لأئمَّةِ المسلمين وإِنْ جاروا وظلموا وفجروا، وأنَّ الإمام لا ينعزل بالفسق: ما ذَكَره ابنُ بطَّة ـ رحمه الله ـ بقوله: «وقد أجمعَتِ العلماءُ ـ مِنْ أهل الفقه والعلم، والنُّسَّاك والعُبَّاد والزُّهَّاد، مِنْ أوَّلِ هذه الأمَّةِ إلى وقتِنا هذا ـ: أنَّ صلاة الجمعة والعيدين ومِنًى وعرفاتٍ والغزوَ والجهادَ والهديَ مع كُلِّ أميرٍ، بَرٍّ أو فاجرٍ، وإعطاءَهم الخراجَ والصدقاتِ والأعشارَ جائزٌ، والصلاةَ في المساجد العظام التي بنَوْها، والمشيَ على القناطر والجسورِ التي عقدوها، والبيعَ والشراء وسائرَ التجارةِ والزراعةِ والصنائع كلها في كُلِّ عصرٍ ومع كُلِّ أميرٍ جائزٌ على حكم الكتاب والسنَّة، لا يضرُّ المحتاطَ لدِينه والمتمسِّكَ بسنَّةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ظلمُ ظالمٍ ولا جَوْرُ جائرٍ إذا كان ما يأتيهِ هو على حكم الكتاب والسنَّة، كما أنه لو باع واشترى ـ في زمن الإمام العادل ـ بيعًا يخالف الكتابَ والسنَّةَ لم ينفعه عدلُ الإمام، والمحاكمة إلى قُضاتهم ورَفْع الحدود والقصاص وانتزاع الحقوق مِنْ أيدي الظلمة بأُمَرائهم وشُرَطِهم، والسمع والطاعة لمَنْ ولَّوْه ـ وإِنْ كان عبدًا حبشيًّا ـ إلَّا في معصية الله عزَّ وجلَّ؛ فليس لمخلوقٍ فيها طاعةٌ»([1]) .
وقال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: « ويرى أصحابُ الحديثِ الجمعةَ والعيدين وغيرَهما مِنَ الصلوات خلف كُلِّ إمامٍ مسلمٍ بَرًّا كان أو فاجرًا، ويرَوْن جهادَ الكَفَرةِ معهم وإِنْ كانوا جَوَرةً فَجَرةً، ويرَوْن الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيقِ والصلاحِ وبسطِ العدل في الرعيَّة، ولا يرَوْن الخروجَ عليهم بالسيف وإِنْ رأَوْا منهم العدولَ عن العدل إلى الجَوْر والحيف، ويرَوْن قتالَ الفئةِ الباغية حتَّى ترجع إلى طاعة الإمامِ العدل»([2]) ، وقال أبو الحسن الأشعريُّ ـ وهو يُعدِّد ما أجمعَ عليه السلفُ مِنَ الأصول ـ: « وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمَّةِ المسلمين، وعلى أنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ شيئًا مِنْ أمورهم عن رِضًى أو غلبةٍ وامتدَّتْ طاعتُه مِنْ بَرٍّ وفاجرٍ لا يَلْزَمُ الخروجُ عليهم بالسيف جارَ أو عَدَل، وعلى أَنْ يغزوا معهم العدوَّ، ويُحَجَّ معهم البيتُ، وتُدْفَعَ إليهم الصدقاتُ إذا طلبوها، ويُصلَّى خلفهم الجُمَعُ والأعيادُ»([3]) .
وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «.. . وأمَّا الخروجُ عليهم وقتالُهُم فحرامٌ بإجماع المسلمين وإِنْ كانوا فَسَقَةً ظالمين، وقد تَظاهرَتِ الأحاديثُ بمعنَى ما ذكَرْتُه، وأجمعَ أهلُ السنَّةِ أنه لا ينعزل السلطانُ بالفسق» ([4]) »انتهى .
* فإذا عرفنا عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين التي أجمعوا عليها في ولاة أمر المسلمين، والتي ملخصها: وجوب السمع والطاعة لهم في غير معصية الله تعالى، وتحريم الخروج عليهم، والتحذير من ذلك لمخالفته للأدلة الكثيرة الناهية عن الخروج، الآمرة بالسمع والطاعة في المعروف، و عرفنا-كذلك- الأسباب المؤدية إلى الفتن والثورات والانقلابات، والتي من أعظمها الخروج على ولاة الأمر، ومنازعتهم: علمنا يقينًا، وظهر لنا جليًّا، بُعدُ أهل السنة السلفيين عن الثورات و الانقلابات الحزبية الهمجية، و عن إحداثها أو تأييدها، و أدركنا يقينًا دورهم الفعَّال في إخمادها و معالجتها .
والعلم عند الله
..يتبع
([1]) - «الشرح والإبانة» لابن بطَّة (٢٧٨ ـ ٢٨٠) .
([2]) - «عقيدة السلف» للصابوني (٩٢ ـ ٩٣). حاشية الأصل .
([3]) - « رسالةٌ إلى أهل الثغر» لأبي الحسن الأشعريِّ (٢٩٦ ـ ٢٩٧).
([4]) - «شرح مسلم» للنووي (١٢/ ٢٢٩)، «فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٨)، وانظر المزيدَ مِنْ عقيدةِ أهلِ السنَّة في هذه المسألةِ في: «العقيدة الطحاوية» (٤٢٨)، «الشريعة» للآجُرِّي (٤٠)، «الاعتقاد» للبيهقي (١٣٨). حواشي الأصل .
بسم الله الرحمن الرحيم
منشأ الفتن الدموية و أسبابها، و جهود مشايخ السلفية في سدِّها وردمها
مرَّ معنا بأنَّ الفكر الثوريَّ التكفيري –الذي تتولد عنه الثورات و الانقلابات- يمرُّ بثلاث مراحل أساسية: التنفير، و التكفير، ثم القتل و التدمير، و أن هذه المراحل الثلاث تنقسم في الجملة إلى قسمين: أسبابٌ، ونتائج .
تتمثَّل الأسباب في المرحلتين الأوليتين، و النتائج في المرحلة الثالثة .
و سأتكلم في هذا الفصل عن المرحلتين الثانية و الثالثة، من مراحل الفكر التكفيري، مع إبراز دور مشايخ السلفية في علاجها؛ هذا الدور الذي أسهم في تصحيح كثير من المفاهيم المغلوطة، و نشر الوعي الصحيح، و المنهج الوسطي المعتدل، و أثَّر بشكل مباشر في الحد من ظاهرة العنف، و تقزيمها، و تقليص رقعتها، و تضييق الخناق على أصحابها، و الحيلولة دون تأثُّر كثيرٍ من الشباب بأفكار أربابها، و توجهاتهم المتطرِّفة.
فأبدأ:
* بمرحلة « التكفير»: التي سبق و أن بيَّنتُ بأنَّها: المرحلة الأساس التي يتولَّد منها الخروج و القتل والتدمير؛ فالفكر الخارجي هو مآل الفكر التكفيري و نتيجته، و ذلك أنَّ اعتقاد كفر الحاكم، و خروجه عن ملة الإسلام، يُعتبر من أكبر المسوِّغات التي ترتكز عليها الجماعات المسلحة في الخروج عليه، و مقاتلته، و السعي في خلعه و إزالته، إذ هو في نظرهم مرتدٌّ حلال الدَّم، لا وِلاية له على المسلمين، بل هي باطلة .
و إذا رجعنا إلى منشأ فكرة التكفير من أصلها-عند هؤلاء- ، نجدها مبنية على قضيتين أساسيتين كبا فيهما جوادهم، و انحرف فيهما فهمهم، و ضلَّ فيهما سعيهم، فكانت –بذلك- أول نواة لفكرهم الثوري الخارجي، بل مضغته التي لما فسدت فسد منهجهم كله، و هوى بهم في مستنقع الثورات، و أغرقهم في وحل الدماء، التي استحلوها انطلاقًا منه .
القضية الأولى: عقيدتهم الفاسدة في عصاة المسلمين، و أهل الكبائر منهم، فهم يُكفرون من وقع في شيء من كبائر الذنوب، و من ثمَّ يستحلُّون دمه، و في ذلك يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كما في " مجموع الفتاوى "(19/71) : « الفرق الثاني في الخوارج، وأهل البدع: أنهم يكفرون بالذنوب والسَّيِّئات، ويترتَّب على تكفيرهم بالذُّنوب استحلال دماء المسلمين وأموالهم، وأنَّ دار الاسلام دار حرب ».
و هذا الذي برَّأ الله منه منهج أهل السنة و الجماعة السلفيين، حتى صار أحد الفروق الأساسية بينهم وبين التكفيريين و الخوارج .
يقول ابن أبي العز الحنفي رحمه الله، كما في " شرح الطحاوية "(442-443): « أَهْلَ السُّنَّةِ مُتَّفِقُونَ كُلُّهُمْ عَلَى أَنَّ مُرْتَكِبَ الْكَبِيرَةِ لَا يَكْفُرُ كُفْرًا يَنْقُلُ عَنِ الْمِلَّةِ بِالْكُلِّيَّةِ، كَمَا قَالَتِ الْخَوَارِجُ..، وَمُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ لَا يَخْرُجُ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِسْلَامِ، وَلَا يَدْخُلُ فِي الْكُفْرِ، وَلَا يَسْتَحِقُّ الْخُلُودَ مَعَ الْكَافِرِينَ، كَمَا قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ..، وَأَهْلُ السُّنَّةِ أَيْضًا مُتَّفِقُونَ عَلَى أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الْوَعِيدَ الْمُرَتَّبَ عَلَى ذَلِكَ الذَّنْبِ، كَمَا وَرَدَتْ بِهِ النُّصُوصُ، لَا كَمَا يَقُولُهُ الْمُرْجِئَةُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَضُرُّ مَعَ الْإِيمَانِ ذَنْبٌ ».
هذا؛ و لمشايخ السنة السلفيين-في بلاد الجزائر و غيرها- جهودٌ مشكورة في تقرير العقيدة الإسلامية الصحيحة في أصحاب الكبائر، و نشرها و بيان فساد عقيدة أهل البدع من خوارج و غيرهم، التي هي أصل الفكر التكفيري و منشؤه، مما أسهم بشكل فعال في نشر الوعي الصحيح، و تصحيح المفاهيم الخاطئة لدى العامة في هذا الباب، و التي يسعى أرباب الفكر التكفيري في بثِّها في أوساطهم و نشرها بينهم، و تقريرها في نفوسهم، لتكون مطيَّةً لهم إلى مرحلة التكفير التي تؤدي بهم-بدورها- إلى مرحلة القتل و التدمير .
* و أمَّا القضية الثانية التي نشأ عنها التكفير، و آلت بأولئك إلى التكفير، و من ثمَّ الخروج و القتل و التدمير-: فهي غبشٌ كبيرٌ في تصوُّر قضايا التكفير، و جهلٌ فظيعٌ بشروط هذا الباب الخطير، و خلطٌ و خبطٌ بين الإطلاق و التعيين، نتج عنه اعتقاد كفر كلِّ من وقع في الكفر، مع ترتيب أحكام الكفر عليه الدنيوية منها، و الأخروية، الأمر الذي أدَّى بهم إلى نتائج هذا الفكر -الكارثية-، من حمل السلاح، و استحلال الدماء، و استباحة الأعراض، و ترويع الآمنين، و نهب الممتلكات، و تدمير المنشآت، و غير ذلك من المخازي و الشرور .
و لمَّا كانت هذه القضية؛ أرضية صالحة لنموِّ هذا الفكر و تطوُّره، و رحمًا له، منها ينبت و يتولد، و همزة وصل يمتطيها أصحابه لبلوغ آخر مراحله؛ أولاها مشايخ السلفية اهتمامهم، و سخروا فيها أقلامهم و منابرهم، و ما أُتيح لهم من وسائل قصد علاجها، و الحيلولة دون تفاقم المرض و بلوغه مراحله النهائية.
* هذا كلُّه بالنسبة لجهود مشايخ السلفية في علاج المرحلة الثانية من مراحل الفكر الثوري الخارجي، و هي مرحلة « التكفير»، و بقي معنا:
المرحلة الثالثة: -من مراحل هذا الفكر- و هي الخروج، و ما يتبعه من سفك الدماء، و استباحة الأعراض، و القتل و التدمير و التخريب، و نحو ذلك .
فلمشايخ السلفية -كذلك- جهودٌ مُباركة في علاج هذه المرحلة ، و التخفيف من حدَّتها، و الحيلولة دون وصول الشباب إليها، و تتلخَّص جهودهم –في ذلك- في عدد من النقاط على النحو التالي :
النُّقطة الأولى: تحذير أهل السنة السلفيين من الخروج على ولاة الأمر، وإحداث الفتن والثورات، والتَّذكير بالنصوص الشرعية النَّاهية عن ذلك، و الحثِّ على الاعتبار بالغير، و لفت أنظار الناس إلى مفاسد الخروج و مآلاته الوخيمة .
النُّقطة الثانية: الحثُّ على مُقابلة جور الحكام و استئثارهم بالأموال والمناصب، بالصبر، كما أرشدت إلى ذلك الأحاديث النبوية .
النقطة الثالثة: الدعوة إلى اعتزال الفتن .
النقطة الرابعة: تصحيح المفاهيم الخاطئة حول موضوع الجهاد .
النقطة الخامسة: التشديد على حرمة دماء المسلمين.
النقطة السادسة: التَّذكير بقواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .
و قبل سرد هذه النقاط، و تفصيل القول فيها، يحسن أن أُقدِّم ببيان
عقيدة أهل السنة السلفيين في مسألة البيعة و الإمامة
فأقول: لما كان السبب المباشر والرئيس في كثير من الفتن الدائرة في البلاد العربية والإسلامية التي أدت إلى زعزعة أمن الناس واستقرارهم، هو الخروج على ولاة الأمر ومنازعتهم، وخلع يد الطاعة، الذي تتبناه وتدعوا إليه الجماعات الثورية التكفيريَّة، كان لابد من بيان عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين في ولاة الأمور والحكام، وطريقتهم في التَّعامل معهم، وذلك من خلال كتب العقائد المعتمدة عند السلفيين والتي تعتبر مراجعهم التي يستقون منها عقائدهم ومناهجهم، في هذا الباب وغيره من أبواب الدين .
فنبدأ أولا: برسالة " أصول السنة " لإمام أهل السنة والجماعة السلفيين أحمد بن حنبل رحمه الله، (ت سنة: 240 هـ ) الذي اتفق أهل السنة على جلالته وإمامته والسير على منهجه وطريقته في الأصول، حيث قرَّر في رسالته المذكورة (ص3)، أن من أصول أهل السنة السلفيين: « السمع والطاعة للأئمة وأمير المؤمنين البر والفاجر، ومن ولي الخلافة واجتمع الناس عليه ورضوا به ومن ظهر عليهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، والغزو ماض مع الإمام إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك، وقسمة الفيء وإقامة الحدود إلى الأئمة ماض ليس لأحد أن يطعن عليهم ولا ينازعهم، ودفع الصدقات إليهم جائزة نافذة من دفعها إليهم أجزأت عنه برًّا كان أو فاجرا، وصلاة الجمعة خلفه وخلف من ولاه جائزة باقية تامة ركعتين من أعادهما فهو مبتدع تارك للآثار مخالف للسنة ليس له من فضل الجمعة شيء إذا لم ير الصلاة خلف الأئمة من كانوا برهم وفاجرهم، فالسنة بأن يصلي معهم ركعتين وتدين بأنها تامة لا يكن في صدرك من ذلك شيء .
ومن خرج على إمام من أئمة المسلمين وقد كانوا اجتمعوا عليه وأقروا بالخلافة بأي وجه كان بالرضا أو الغلبة فقد شق هذا الخارج عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات الخارج عليه مات ميتة جاهلية، ولا يحل قتال السلطان ولا الخروج عليه لأحد من الناس فمن فعل ذلك فهو مبتدع على غير السنة والطريق » انتهى كلام الإمام أحمد رحمه الله .
* فتأمل كيف أن إمام أهل السنة صرَّح بتحريم الخروج على ولاة الأمور أبرارًا كانوا أم فجارًا، وأن من فعل ذلك فقد شق عصا المسلمين وخالف الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن مات على ذلك مات ميتة جاهلية، وأنه بخروجه على ولاة الأمر وإثارة الفتن على المسلمين يعتبر من أهل الأهواء والبدع، خارجًا عن جماعة أهل السنة، ومراده رحمه الله واضح في أن أهل السنة لا يدينون بالخروج على ولاة أمر المسلمين ولا يفعلونه، بل يحرمونه أشد التحريم، فمن فعل ذلك فليس منهم وإن زعم وادَّعى أنه منهم و جهد نفسه في الالتصاق بهم و الانتساب إليهم، و هذا اعتقاد و مسلك كلِّ من يسير على طريقة الإمام أحمد في الأصول، من علماء السنة المعاصرين، و كذا جمهور السلفيين، سواء في بلاد الجزائر أو غيرها .
ثانيًا: الإمام الصابوني رحمه الله (ت سنة: 449هـ) وهو من أئمة أهل السنة والجماعة، في رسالته التي بعنوان " عقيدة السلف وأصحاب الحديث "، وهي من المراجع المعتمدة في العقائد عند أهل السنة ، قال فيها مبيِّنًا عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين في ولاة أمر المسلمين (ص32):« و يرى أصحاب الحديث الجمعة والعيدين وغيرهما من الصلوات خلف كل إمام براً كان أو فاجراً، ويرون جهاد الكفرة معهم وإن كانوا جورة فجرة، ويرون الدعاء لهم بالإصلاح والتوفيق والصلاح وبسط العدل في الرعية، ولا يرون الخروج عليهم بالسيف، وإن رأوا منهم العدول عن العدل إلى الجور والحيف، ويرون قتال الفئة الباغية حتى ترجع إلى طاعة الإمام العدل » انتهى .
ثالثًا: الإمام الطحاوي رحمه الله(ت سنة: 321 هـ) وهو من أئمة أهل السنة، في رسالته " العقيدة الطحاوية "(ص:68 )، وهي أيضًا من أمهات المراجع المعتمدة عند أهل السنة السلفيين في العقائد، و التي ينقلها عن أئمة أهل السنة والجماعة، قال فيها:« و لا نرى- يعني: معشر أهل السنة- الخروج على أئمتنا وولاة أمورنا وإن جاروا ولا ندعوا عليهم ولا ننزع يدًا من طاعتهم ونرى طاعتهم من طاعة الله عز و جل فريضة ما لم يأمروا بمعصية و ندعوا لهم بالصلاح والمعافاة »انتهى.
رابعًا: الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله (ت سنة 620 هـ ) وهو من أئمة أهل السنة كذلك، قال في رسالته " لمعة الاعتقاد "(ص40) التي نقل فيها اعتقاد أهل السنة والجماعة:« ومن السنة: السمع والطاعة لأئمة المسلمين وأمراء المؤمنين برهم وفاجرهم ما لم يأمروا بمعصية الله، فإنه لا طاعة لأحد في معصية الله، ومن ولي الخلافة واجتمع عليه الناس ورضوا به، أو غلبهم بسيفه حتى صار الخليفة، و سمي أمير المؤمنين، وجبت طاعته وحرمت مخالفته والخروج عليه وشق عصا المسلمين »انتهى .
* هذا؛ وقد نقل غير واحد من العلماء إجماع أهل السنة السلفيين على تحريم الخروج على الحكام وإن كانوا ظلمة، أو فسقـة، للأحاديث الناهيـة عن الخروج الآمرة بالصبر على جور الأئمة، ولما يترتب على ذلك من الفتن، والشرور .
و في بيان شيء من هذه المنقول، يقول شيخنا العلامة محمد علي فركوس حفظه الله: «ومِنْ كلام الأئمَّة الذي يقرِّرُ إجماعَ السلف على السمع والطاعة لأئمَّةِ المسلمين وإِنْ جاروا وظلموا وفجروا، وأنَّ الإمام لا ينعزل بالفسق: ما ذَكَره ابنُ بطَّة ـ رحمه الله ـ بقوله: «وقد أجمعَتِ العلماءُ ـ مِنْ أهل الفقه والعلم، والنُّسَّاك والعُبَّاد والزُّهَّاد، مِنْ أوَّلِ هذه الأمَّةِ إلى وقتِنا هذا ـ: أنَّ صلاة الجمعة والعيدين ومِنًى وعرفاتٍ والغزوَ والجهادَ والهديَ مع كُلِّ أميرٍ، بَرٍّ أو فاجرٍ، وإعطاءَهم الخراجَ والصدقاتِ والأعشارَ جائزٌ، والصلاةَ في المساجد العظام التي بنَوْها، والمشيَ على القناطر والجسورِ التي عقدوها، والبيعَ والشراء وسائرَ التجارةِ والزراعةِ والصنائع كلها في كُلِّ عصرٍ ومع كُلِّ أميرٍ جائزٌ على حكم الكتاب والسنَّة، لا يضرُّ المحتاطَ لدِينه والمتمسِّكَ بسنَّةِ نبيِّه صلَّى الله عليه وسلَّم ظلمُ ظالمٍ ولا جَوْرُ جائرٍ إذا كان ما يأتيهِ هو على حكم الكتاب والسنَّة، كما أنه لو باع واشترى ـ في زمن الإمام العادل ـ بيعًا يخالف الكتابَ والسنَّةَ لم ينفعه عدلُ الإمام، والمحاكمة إلى قُضاتهم ورَفْع الحدود والقصاص وانتزاع الحقوق مِنْ أيدي الظلمة بأُمَرائهم وشُرَطِهم، والسمع والطاعة لمَنْ ولَّوْه ـ وإِنْ كان عبدًا حبشيًّا ـ إلَّا في معصية الله عزَّ وجلَّ؛ فليس لمخلوقٍ فيها طاعةٌ»([1]) .
وقال الصابونيُّ ـ رحمه الله ـ: « ويرى أصحابُ الحديثِ الجمعةَ والعيدين وغيرَهما مِنَ الصلوات خلف كُلِّ إمامٍ مسلمٍ بَرًّا كان أو فاجرًا، ويرَوْن جهادَ الكَفَرةِ معهم وإِنْ كانوا جَوَرةً فَجَرةً، ويرَوْن الدعاءَ لهم بالإصلاح والتوفيقِ والصلاحِ وبسطِ العدل في الرعيَّة، ولا يرَوْن الخروجَ عليهم بالسيف وإِنْ رأَوْا منهم العدولَ عن العدل إلى الجَوْر والحيف، ويرَوْن قتالَ الفئةِ الباغية حتَّى ترجع إلى طاعة الإمامِ العدل»([2]) ، وقال أبو الحسن الأشعريُّ ـ وهو يُعدِّد ما أجمعَ عليه السلفُ مِنَ الأصول ـ: « وأجمعوا على السمع والطاعة لأئمَّةِ المسلمين، وعلى أنَّ كُلَّ مَنْ وَلِيَ شيئًا مِنْ أمورهم عن رِضًى أو غلبةٍ وامتدَّتْ طاعتُه مِنْ بَرٍّ وفاجرٍ لا يَلْزَمُ الخروجُ عليهم بالسيف جارَ أو عَدَل، وعلى أَنْ يغزوا معهم العدوَّ، ويُحَجَّ معهم البيتُ، وتُدْفَعَ إليهم الصدقاتُ إذا طلبوها، ويُصلَّى خلفهم الجُمَعُ والأعيادُ»([3]) .
وقال النوويُّ ـ رحمه الله ـ: «.. . وأمَّا الخروجُ عليهم وقتالُهُم فحرامٌ بإجماع المسلمين وإِنْ كانوا فَسَقَةً ظالمين، وقد تَظاهرَتِ الأحاديثُ بمعنَى ما ذكَرْتُه، وأجمعَ أهلُ السنَّةِ أنه لا ينعزل السلطانُ بالفسق» ([4]) »انتهى .
* فإذا عرفنا عقيدة أهل السنة والجماعة السلفيين التي أجمعوا عليها في ولاة أمر المسلمين، والتي ملخصها: وجوب السمع والطاعة لهم في غير معصية الله تعالى، وتحريم الخروج عليهم، والتحذير من ذلك لمخالفته للأدلة الكثيرة الناهية عن الخروج، الآمرة بالسمع والطاعة في المعروف، و عرفنا-كذلك- الأسباب المؤدية إلى الفتن والثورات والانقلابات، والتي من أعظمها الخروج على ولاة الأمر، ومنازعتهم: علمنا يقينًا، وظهر لنا جليًّا، بُعدُ أهل السنة السلفيين عن الثورات و الانقلابات الحزبية الهمجية، و عن إحداثها أو تأييدها، و أدركنا يقينًا دورهم الفعَّال في إخمادها و معالجتها .
والعلم عند الله
..يتبع
([1]) - «الشرح والإبانة» لابن بطَّة (٢٧٨ ـ ٢٨٠) .
([2]) - «عقيدة السلف» للصابوني (٩٢ ـ ٩٣). حاشية الأصل .
([3]) - « رسالةٌ إلى أهل الثغر» لأبي الحسن الأشعريِّ (٢٩٦ ـ ٢٩٧).
([4]) - «شرح مسلم» للنووي (١٢/ ٢٢٩)، «فتح الباري» لابن حجر (١٣/ ٨)، وانظر المزيدَ مِنْ عقيدةِ أهلِ السنَّة في هذه المسألةِ في: «العقيدة الطحاوية» (٤٢٨)، «الشريعة» للآجُرِّي (٤٠)، «الاعتقاد» للبيهقي (١٣٨). حواشي الأصل .
..
تعليق