إلى كلِّ مَن يَسعَى لتَحقِيقِ أَمنِ البِلادِ و استِقرَارِها و البَحثِ عَن حُلولٍ جِذرِيَّةٍ للمَشَاكِل الأَمنِيَّة: الدَّعوَةُ السَّلَفيَّةُ هِيَ الحَل !
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين و بعد:
فإن من أعظم ما تسعى إليه الشُّعوب عامَّة و ولاة أمورها خاصَّة، و يجدُّ الجميع في سبيل تحقيقه: الأمن والاستقرار، و ما يتبع ذلك من رغد العيش، وراحة البال، و طمأنينة النفس، حتى بات موضوع الأمن و كيفية تحقيقه هو الشغل الشاغل لكثير من دول العالم، الإسلامية وغير الإسلامية، وصار من أكبر مطالب الشعوب، والمجتمعات، لا سيما في هذه السنين الأخيرة حيث أينعت رؤوس الجماعات التكفيرية الثورية، التي أضرمت نيران الفتن والثورات في جسد هذه الأمة، مما أدَّى إلى زعزعةِ أمنِ واستقرارِ كثيرٍ من المجتمعات و الدول .
وقد اجتهد المجتهدون وشمَّروا عن سواعد الجدَّ في البحث عن السُّبل الكفيلة للوقاية من حدوث الفتن، وتحقيق الأمن، غير أنهم فشلوا في كثير من الأحوال والأماكن، وسبب ذلك أنهم أغفلوا عنصرًا مُهمًّا في المعادلة الأمنية، وتناسوا شريكًا فعَّالًا في تحقيق هذا المطلب العزيز، وركَّزوا على الحلول الأمنية و العسكرية، التي لم تكن ناجعةً إلى حدٍّ كبير، حيث إنها غالبًا ما تُعالِجُ آثار الفتنةِ ونتائجها، دون أسبابها ودوافعها .
و الذي ينبغي على السَّاعين في القضاء على الفتن واستتباب الأمن، أن يدرسوا الأوضاع من جميع جوانبها، فينهجوا نهج الطبيب الحاذق في معالجة المريض، حيث تجده يُوجِّه العلاج ابتداءً لسبب المرض، لقصد اجتِثَاثِه والقضاء عليه، لا للأعراض المترتبة عليه .
ولا يخفى أن لهذه الفتن التي تُثار على الأمة الإسلامية، أسبابٌ ونتائج، فمن غير الحكمة القفزُ إلى علاج الأعراض والنتائج، والإبقاء على الأسباب، فإن أعراض المرض وإن عولجت وقُضي عليها إلا أننا لا نأمن عودة المرض من جديد لأن سببه لا يزال قائما .
و الذي أريد إفهامَه لمن يسعى في تحقيق الأمن والقضاء على الفتن، أن الحلول الأمنية والعسكرية لا يمكنها لوحدِها أبدًا أن تُحقِّق هذا المطلب العظيم! لماذا؟
لأن سببَ هذه الفتن التي زعزعةِ الأمن والاستقرار: فِكرِيٌّ بالدرجة الأولى، فمَنشؤُه الأفكار التكفيريَّة المنحرفة، والمناهج التحريضيَّة الفاسدة، هي خزَّانته، ومصدر تموينه، والفكرة لا تُحارب بالقوة العسكرية .
فما يحصل من فتنٍ وثورات وقتلٍ وقتال، وسفكٍ للدماء وزعزعة للأمن، وغير ذلك من المشاكل العظيمة هو ثمرةٌ من ثمرات فكرٍ منحرفٍ هذه نتيجته، و تعتبرُ آخر مرحلةٍ من مراحِله، وهي مسبوقة بعددٍ من المراحل المُمهِّدة لها، ولا يمكن للحلول الأمنية والعسكرية أن تتدخل إلا بعد وصول هذا الفكر إلى آخر مراحله، فلذلك لم تكن ناجعةً ولا قاضيةً على المشكلة .
فلا بدَّ إذن من حلٍّ جذريٍّ لهذه المعضلة، ولن يتمَّ ذلك، ولن يتحقَّق إلا بدراسةً مُعمَّقة لمراحل هذا الفكر الثوري التكفيريّ، ومن ثمَّ علاجُ كلِّ مرحلة بما يُناسبها من الدَّواء .
وباستقراء العلماء لهذا الفكر المنحرف، خلصوا إلى أنه يمرُّ بثلاث مراحل أساسيَّة:
المرحلة الأولى: التَّنفير .
المرحلة الثانية: التكفير .
المرحلة الثالثة: القتل والتدمير .
أما المرحلة الأولى: فنَعنِي بالتَّنفير، التنفير عن العلماء السلفيين ومجالِسهم، وإسقاطهم عند الشباب، بالشُّبه الكاذبة، والاتهامات الباطلة، كرَمْيهم كذبًا وزورًا بأنهم عملاء للحكام والأمراء، أو بأنهم لا يفقهون الواقع المعاش، أو بأنهم عبيدٌ للحكام يتقربون إليهم بالفتاوى التي تخدم مصالحهم، إلى غير ذلك من الافتراءات التي قصدهم منها صرف الشباب عن العلماء الناصحين الرَّبَّانيِّين، الذين يأخذون بأيدي الشباب إلى الخير، ويُحذِّرونهم من الشَّر والفتن، و من مفتعليها من التكفيريِّين الثَّوريِّين وغيرهم، لأن العلماء الربَّانيِّين السلفيِّين عند هؤلاء الثوريِّين حجرُ عثرةٍ في طريقهم، يُفسدون عليهم مخطَّطاتهم، ويكشفون شُبههم، ويُطفئون نيرانهم التي يسعون في إيقادها على هذه الأمة، فلذلك كانت أُولى مراحل فكرهم الطعن في العلماء الربَّانيين والتنفير عنهم وإثارة الشبهات حولهم، حتى يخلوا لهم الجوُّ، و يتمُّ لهم الانفراد بالشباب، و لك أن تتصوَّر حالَ قطيعِ الغنم إذا انفردت به الذِّئاب! .
و من مُخططاتهم في هذه المرحلة زيادةً على تنفيرهم عن العلماء الربانيين: تلميعهم لبعض الدعاة المنحرفين الثَّوريِّين بالهالات الإعلاميَّة الكاذبة، و سعيهم في ربط الشباب بهم، بإضفائهم الألقاب الضخمة، و جعلهم بديلًا لمن أسقطوهم من العلماء .
فإذا تمَّ لهم ما أرادوا من تسليم زمام أمر الشاب إلى دعاة الشَّرِّ و الفتنة، و حجبِهم عن العلماء شرع هؤلاء الدُّعاة في مهمتهم القذرة، بتلقين الشباب و تغذيتهم بالأفكار التكفيريَّة، وتهييجهم ضدَّ ولاة الأمور والحكام، بذكر مثالبهم، ونشر أخطائهم، في المجامع العامة، و في الدروس و المجالس و الخطب، و في كلِّ موضعٍ تُتاح لهم فيه مثل هذه الفرصة .
حتى إذا ارتوت قلوب الشباب من الأفكار التحريضية التكفيرية، و امتلأت قلوبهم غيضًا على الحكام، سهُل بعد ذلك نقلهم إلى المرحلة الثانية من مراحل هذا الفكر، و هي:
« مرحلة التكفير »، وهي المرحلة الأساس التي يتولَّد منها الخروج و القتل والتدمير؛ لأن اعتقاد كفر الحاكم ومن معه، معناه انتفاء الحرمة عن دمه وعرضه، وأنه حلال الدَّم والمال، فيندفع هؤلاء الثَّوَّار بعد الوصول إلى هذه النتيجة لمبارزة الحاكم و مقاتلته، لقصد إزالته وتنحيته، بدعوى أنَّ وِلايته على المسلمين باطلة لِكُفرِه، بل هي منكرٌ يجب إزالته، ولا يتم ذلك إلا بالخروج عليه، فحينذاك يحصلُ ما يحصلُ من الفتن العظيمة التي تؤدي إلى زوال الأمن وسفك الدِّماء .
و أما المرحلة الثالثة: من مراحل الفكر التَّكفيريّ الثَّوريِّ، فهي الخروج و القتل والتدمير و التخريب، وهي نتيجة هذا الفكر المنحرف، و مآله الذي يؤول إليه، و آخرُ مراحله، ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا من تشبَّع بالشبه التكفيريَّة وأُشربها قلبه، و هذه هي المرحلة التي يمكن أن تُعالج بالحلول الأمنية والعسكرية، على أنه يمكن تفادي الوصول إليها أو التَّخفيف الكبير من حِدَّتها و خطرها بعلاج ما قبلها من المراحل التي هي سببها و منبعها .
فإذا تأمَّلنا هذه المراحل الثلاث التي يمرُّ بها الفكر الثوري التكفيريّ، حقَّ التأمُّل وجدناها تنقسم في الجملة إلى قسمين: أسبابٌ، ونتائج .
أما الأسباب فتتمثَّل في المرحلة الأولى والثانية، وأما النتائج فهي المرحلة الثالثة .
وسبق أن بيَّنَّا بأن الحكمة تقتضي توجيه العلاج ابتداءً إلى سبب المرض لا إلى أعراضه ونتائجه .
لكن من هو الطبيب الحاذق الذي ينبغي أن توكَل إليه مهمة علاج داءِ هذه المراحل و اجتثاثه من أصله، و استئصال ورَم هذه الأسباب؟ وهل الوسائل و الحلول الأمنية والعسكرية كفيلة بمعالجة هذه المراحل والأسباب، و هل في مقدورها ذلك؟
والجواب بداهةً يكون، بلا؛ إذ لا يمكن لهذه الوسائِل الأمنية أن تعالج الأفكار، فلم يبق إذن إلا الأطبَّاء الحُذَّاق وهم في هذا الميدان بلا منازع! علماء السنة، ودعاة الهدى، الذين يُبيِّنون فساد تلك الأفكار والمناهج بالبراهين الشرعية و الدلائل العقلية، من الكتاب والسنة وآثار السلف، و صريح المعقول .
فيدمغون بحُجَجِهم أباطيل الثَّوريِّين و شبهاتهم، فيفتضح أمرهم، وينكشف باطلهم، فلا تنفُق في الناس عندها شبهاتهم .
فالمراحل الأولى من الفكر الثَّوري لا علاج لها إلا بالعلم و الدعوة، و أطبَّاؤها هم الدعاة الأمناء والعلماء الثقات، لا سيما إذا عرفنا بأن من يقوم بالتَّنظير للمرحلة الأولى والثانية من الفكر الثَّوري هم من يُلَقَّبون بالخوارج القعدة، وهم عبارة عن مجموعة من المُهيِّجين المُلبِّسين المُحرِّضين، ممن أوتوا فصاحة وبيانًا وقوةً على الإقناع، و قدرة على عرض الشُّبه وإثارة العواطف و استمالة الناس .
فهؤلاء كما قال أهل العلم: يُزيِّنون الخروج على الحكَّام، ولكن لا يباشرونه، فهم أوَّل من يجب أن يُتصدَّى له، لأنَّهم خزَّان الخوارج، ومنبع فتنتهم، و مصدر إمدادهم، وهذا إنما هو دور العلماء وميدانهم، و مِنْه نعلم عظيمَ دور العلماء والدُّعاة السَّلفيِّين، في القضاء على المرض قبل تفاقمه و انتشاره و نخره في جسد الأمة، وذلك بتربية الناس على الإسلام الصحيح، و توعية الشباب من الأفكار الهدامة و المناهج المنحرفة، و نشر العقائد الصحيحة السليمة، و المناهج السَّديدة، وفضح القعدة من الخوارج التكفيريِّين و التصدي لهم، و التَّحذير منهم ومن شبهاتهم و تهييجاتهم، وكشف أباطيلهم، فإذا تمَّ تحييد شرِّ هؤلاء، و إضعافه لم تكن نتائج هذه الفكر بتلك الخطورة، و لم يكن علاجها بتلك الصعوبة، و عندها يمكن الحديث عن تحقُّق الأمن و قطع دابر الفتن .
وهذا كلُّه لا يحصلُ إلَّا بالتعاون الصادق مع علماء السنة ودعاتها، و ذلك بتمكينهم من مختلف وسائل الدعوة، حتى تصِل توجيهاتهم ونصائحهم وإرشاداتهم إلى أكبر قدرٍ ممكنٍ من طبقات الأمة و شرائحها و أفرادها، و حينها تنقشع سحابة شبهات الثَّوريِّين، وغيرهم من أهل الفتن والضلال، و تتهاوى مخطَّطاتهم، فيَنفضُّ الناس من حولهم، و يتركونهم، وهذا هو المطلوب .
فصِمام الأمان الأول هو ربط الناس بالعلماء و المشايخ النَّصَحةِ الأمناء، و لا يكون ذلك إلا بتمكين هؤلاء المشايخ السلفيين من وسائل الدعوة التي من خلالها يتقربون من الشباب أكثر، و يكون تأثيرهم فيهم أكبر، و أسُّ هذه الوسائل هي المساجد، فليفهم هذا من يسعى لتحقيق أمن البلاد و استقرارها، و ليعلم أن أكبر شركائه في هذا المطلب العزيز، هم: أهل السنة و الجماعة و دعوتهم المباركة .
و الله أعلم، و آخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
مقالٌ مختصرٌ أفردته من رسالةٍ لي تحت الإنجاز، بعنوان " الدعوة السلفية و أثرها في تحقيق الأمن و الاستقرار "، يسَّر الله إتمامها، و نَفَعَ بها .
تعليق