إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المجلس الثاني والعشرون: في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المجلس الثاني والعشرون: في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر

    المجلس الثاني والعشرون: في الاجتهاد في العشر الأواخر وليلة القدر

    الحمد لله عالم السر والجهر، وقاصم الجبابرة بالعز والقهر، محصي قطرات الماء وهو يجري في النهر، وباعث ظلام الليل ينسخه نور الفجر، موفر الثواب للعابدين ومكمل الأجر، العالم بخائنة الأعين وخافية الصدر، شمل برزقه جميع خلقه فلم يترك النمل في الرمل ولا الفرخ في الوكر، أغنى وأفقر وبحكمته وقوع الغنى والفقر، وفضل بعض المخلوقات على بعض حتى أوقات الدهر، ليلة القدر خير من ألف شهر، أحمده حمدا لا منتهى لعدده، وأشكره شكرا يستجلب المزيد من مدده، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص في معتقده، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي نبع الماء من بين أصابع يده صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر صاحبه في رخائه وشدائده، وعلى عمر بن الخطاب كهف الإسلام وعضده، وعلى عثمان جامع كتاب الله وموحده، وعلى علي كافي الحروب وشجعانها بمفرده، وعلى آله وأصحابه المحسن كل منهم في عمله ومقصده، وسلم تسليما.

    إخواني: في هذه العشر المباركة ليلة القدر التي شرفها الله على غيرها، ومن على هذه الأمة بجزيل فضلها وخيرها، أشاد الله بفضلها في كتابة المبين فقال تعالى: {إنآ أنزلنه فى ليلة مبركة إنا كنا منذرين * فيها يفرق كل أمر حكيم * أمرا من عندنآ إنا كنا مرسلين * رحمة من ربك إنه هو السميع العليم * رب السماوت والأرض وما بينهمآ إن كنتم موقنين * لا إله إلا هو يحى ويميت ربكم وربءابآئكم الأولين} [الدخان: 3 - 8]. وصفها الله سبحانه بأنها مباركة لكثرة خيرها وبركتها وفضلها، فمن بركتها أن هذا القرآن المبارك أنزل فيها ووصفها سبحانه بأنه يفرق فيها كل أمر حكيم، يعني يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة ما هو كائن من أمر الله سبحانه في تلك السنة من الأرزاق والآجال والخير والشر وغير ذلك من كل أمر حكيم من أوامر الله المحكمة المتقنة التي ليس فيها خلل ولا نقص ولا سفه ولا باطل ذلك تقدير العزيز العليم. وقال تعالى: {إنا أنزلناه فى ليلة القدر * ومآ أدراك ما ليلة القدر * ليلة القدر خير من ألف شهر * تنزل الملائكة والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر والروح فيها بإذن ربهم من كل أمر * سلم هى حتى مطلع الفجر} [القدر: 1 - 5]. القدر بمعنى الشرف والتعظيم أو بمعنى التقدير والقضاء؛ لأن ليلة القدر شريفة عظيمة يقدر الله فيها ما يكون في السنة ويقضيه من أموره الحكيمة {ليلة القدر خير من ألف شهر} يعني في الفضل والشرف وكثرة الثواب والأجر ولذلك كان من قامها إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه. {تنزل الملائكة والروح فيها} الملائكة عباد من عباد الله قائمون بعبادته ليلا ونهار {لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون * يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 19، 20] يتنزلون في ليلة القدر إلى الأرض بالخير والبركة والرحمة {والروح} هو جبريل عليه السلام خصه بالذكر لشرفه وفضله. {سلام هى} يعني أن ليلة القدر ليلة سلام للمؤمنين من كل مخوف لكثرة من يعتق فيها من النار، ويسلم من عذابها. {حتى مطلع الفجر} يعني أن ليلة القدر تنتهي بطلوع الفجر لانتهاء عمل الليل به، وفي هذه السورة الكريمة فضائل متعددة لليلة القدر:

    الفضيلة الأولى: أن الله أنزل فيها القرآن الذي به هداية البشر وسعادتهم في الدنيا والاخره.

    الفضيلة الثانية: ما يدل عليه الاستفهام من التفخيم والتعظيم في قوله: {ومآ أدراك ما ليلة القدر}.

    الفضيلة الثالثة: أنها خير من ألف شهر.

    الفضيلة الرابعة: أن الملائكة تتنزل فيها وهم لاينزلون إلا بالخير والبركة والرحمة.

    الفضيلة الخامسة: أنها سلام لكثرة السلامة فيها من العقاب والعذاب بما يقوم به العبد من طاعة الله عز وجل.

    الفضيلة السادسة: أن الله أنزل في فضلها سورة كاملة تتلى إلى يوم القيامة.

    ومن فضائل ليلة القدر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه»، فقوله إيمانا واحتسابا يعني إيمانا بالله وبما أعد الله من الثواب للقائمين فيها واحتسابا للأجر وطلب الثواب.
    وهذا حاصل لمن علم بها ومن لم يعلم لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يشترط العلم بها في حصول هذا الأجر.

    وليلة القدر في رمضان، لأن الله أنزل القرآن فيها وقد أخبر أن إنزاله في شهر رمضان، قال تعالى: {إنا أنزلناه فى ليلة القدر} [القدر:1]، وقال: {شهر رمضان الذى أنزل فيه القرآن} [البقرة:185]. فبهذا تعين أن تكون ليلة القدر في رمضان، وهي موجودة في الأمم وفي هذه الأمة إلى يوم القيامة لما روى الإمام أحمد والنسائي عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: «يا رسول الله أخبرني عن ليلة القدر أهي في رمضان أم في غيره؟ قال: بل هي في رمضان. قال: تكون مع الأنبياء ما كانوا فإذا قبضوا رفعت أم هي إلى يوم القيامة؟ قال: بل هي إلى يوم القيامة» (1) (الحديث). لكن فضلها وأجرها يختص والله أعلم بهذه الأمة كما اختصت هذه الأمة بفضيلة يوم الجمعة وغيرها من الفضائل ولله الحمد.

    وليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في العشر الأواخر من رمضان»، متفق عليه. وهي في الأوتار أقرب من الأشفاع لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان»، رواه البخاري. وهي في السبع الأواخر أقرب، لحديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رجالا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم قد تواطأت (يعني اتفقت) في السبع الأواخر فمن كان متحريها فليتحرها في السبع الأواخر»، متفق عليه. ولمسلم عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «التمسوها في العشر الأواخر (يعني ليلة القدر) فإن ضعف أحدكم أو عجز فلا يغلبن على السبع البواقي». وأقرب أوتار السبع الأواخر ليلة سبع وعشرين لحديث أبي بن كعب رضي الله عنه أنه قال: «والله لأعلم أي ليلة هي الليلة التي أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيامها هي ليلة سبع وعشرين»، رواه مسلم. ولا تختص ليلة القدر بليلة معينة في جميع الأعوام بل تنتقل فتكون في عام ليلة سبع وعشرين مثلا وفي عام آخر ليلة خمس وعشرين تبعا لمشيئة الله وحكمته، ويدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: «التمسوها في تاسعة تبقى في سابعة تبقى في خامسة تبقى»، رواه البخاري. قال في فتح الباري: أرجح الأقوال أنها في وتر من العشر الأخير وأنها تنتقل. اهـ.

    وقد أخفى الله سبحانه علمها على العباد رحمة بهم ليكثر عملهم في طلبها في تلك الليالي الفاضلة بالصلاة والذكر والدعاء فيزدادوا قربة من الله وثوابا، وأخفاها اختبارا لهم أيضا ليتبين بذلك من كان جادا في طلبها حريصا عليها ممن كان كسلان متهاونا، فإن من حرص على شيء جد في طلبه وهان عليه التعب في سبيل الوصول إليه والظفر به، وربما يظهر الله علمها لبعض العباد بأمارات وعلامات يراها كما رأى النبي صلى الله عليه وسلم علامتها أنه يسجد في صبيحتها في ماء وطين فنزل المطر في تلك الليلة فسجد في صلاة الصبح في ماء وطين.
    إخواني: ليلة القدر يفتح فيها الباب، ويقرب فيها الأحباب، ويسمع الخطاب، ويرد الجواب، ويكتب للعاملين فيها عظيم الأجر، ليلة القدر خير من ألف شهر، فاجتهدوا رحمكم الله في طلبها، فهذا أوان الطلب، واحذروا من الغفلة ففي الغفلة العطب.

    تولى العمر في سهو ... وفي لهو وفي خسر
    فيا ضيعة ما أنفقـ ... ـت في الأيام من عمري
    وما لي في الذي ضيعـ ... ـت من عمري من عذر
    فما أغفلنا عن واجبـ ... ـات الحمد والشكر
    أما قد خصنا الله ... بشهر أيما شهر
    بشهر أنزل الرحمـ ... ـن فيه أشرف الذكر
    وهل يشبهه شهر ... وفيه ليلة القدر
    فكم من خبر صح ... بما فيها من الخير
    روينا عن ثقات أنهـ ... ـا تطلب في الوتر
    فطوبى لأمرىء يطلـ ... ـبها في هذه العشر
    ففيها تنزل الأملاك ... بالأنوار والبر
    وقد قال سلام هي ... حتى مطلع الفجر
    ألا فادخروها إنـ ... ـها من أنفس الذخر
    فكم من معتق فيها ... من النار ولا يدري
    اللهم اجعلنا ممن صام الشهر، وأدرك ليلة القدر، وفاز بالثواب الجزيل الأجر.
    اللهم اجعلنا من السابقين إلى الخيرات، الهاربين عن المنكرات، الآمنين في الغرفات، مع الذين أنعمت عليهم ووقيتهم السيئات، اللهم أعذنا من مضلات الفتن، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

    اللهم ارزقنا شكر نعمتك وحسن عبادتك، واجعلنا من أهل طاعتك وولايتك، وآتنا في الدنيا حسنة وفي الاخرة حسنة وقنا عذاب النار، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


    -------------------
    (1) رواه أيضا الحاكم وقال: حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه، ونقل عن الذهبي أنه أقره. والله أعلم.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
يعمل...
X