بسم الله الرَّحمن الرَّحيم
أمَّا بعد:
فهذه هي الحلقة الثَّامنة من «خزانة تُحف العناية بكتاب "البداية والنِّهاية"» ولا يزال الكلام متواصلًا عن (الفوائد المتعلِّقة بكتاب الله تعالى) وأوَّلها:
· البرهانان اللذان أوتيهما موسى عليه السلام مع سبع آيات فهي تسع وبسطها في موضع من كتاب الله
قال –رحمه الله- بعد أن تكلم عن العصا واليد «هاتان الآيتان وهما العصا واليد، وهما البرهانان المشار إليهما في قوله: ﴿فذانك برهانان من ربك إلى فرعون وملئه إنهم كانوا قوما فاسقين﴾[القصص: 32] ومع ذلك سبع آيات أخر فذلك تسع آيات بينات وهي المذكورة في آخر سورة " سبحان " حيث يقول تعالى: ﴿ولقد آتينا موسى تسع آيات بينات فاسأل بني إسرائيل إذ جاءهم فقال له فرعون إني لأظنك يا موسى مسحورا - قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر وإني لأظنك يا فرعون مثبورا﴾[الإسراء: 101 - 102].
وهي المبسوطة في سورة " الأعراف " في قوله: ﴿ولقد أخذنا آل فرعون بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يذكرون - فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيروا بموسى ومن معه ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون - وقالوا مهما تأتنا به من آية لتسحرنا بها فما نحن لك بمؤمنين - فأرسلنا عليهم الطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم آيات مفصلات فاستكبروا وكانوا قوما مجرمين﴾[الأعراف: 130 - 133]».[2/ 57-58]
قلت: وقد ورد كذلك أنها تسع آيات في سورة النمل -كما ذكر الحافظ رحمه الله- في قوله تعالى: ﴿وأدخل يدك في جيبك تخرج بيضاء من غير سوء في تسع آيات إلى فرعون وقومه إنهم كانوا قوما فاسقين﴾[النمل: 12].
· الرُّسل إنَّما يسألون بقدر الحاجة والدليل على ذلك
«قال تعالى في سورة " طه ": ﴿اذهب إلى فرعون إنه طغى - قال رب اشرح لي صدري - ويسر لي أمري - واحلل عقدة من لساني - يفقهوا قولي﴾[طه: 24 - 28].
قيل: إنه أصابه في لسانه لثغة; بسبب تلك الجمرة التي وضعها على لسانه، التي كان فرعون أراد اختبار عقله، حين أخذ بلحيته وهو صغير، فهم بقتله، فخافت عليه آسية، وقالت: إنه طفل. فاختبره بوضع تمرة وجمرة بين يديه، فهم بأخذ التمرة، فصرف الملك يده إلى الجمرة، فأخذها، فوضعها على لسانه، فأصابه لثغة بسببها، فسأل زوال بعضها بمقدار ما يفهمون قوله، ولم يسأل زوالها بالكلية؛ قال الحسن البصري: «والرسل إنما يسألون بحسب الحاجة». ولهذا بقيت في لسانه بقية، ولهذا قال فرعون، قبحه الله، فيما زعم إنه يعيب به الكليم: ﴿ولا يكاد يبين﴾[الزخرف: 52] أي: يفصح عن مراده، ويعبر عما في ضميره وفؤاده».[2/ 59-60]
· أمنُّ أخٍ على أخيه وبيان عظيم جاه موسى عليه السلام عند ربنا عز وجل
«قال موسى عليه السلام: ﴿واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي اشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبحك كثيرا ونذكرك كثيرا إنك كنت بنا بصيرا قال قد أوتيت سؤلك يا موسى﴾[طه: 29 - 36].
أي: قد أجبناك إلى جميع ما سألت، وأعطيناك الذي طلبت؛ وهذا من وجاهته عند ربه عز وجل، حين شفع أن يوحي الله إلى أخيه فأوحى إليه، وهذا جاه عظيم، قال الله تعالى: ﴿وكان عند الله وجيها﴾[الأحزاب: 69]، وقال تعالى: ﴿ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا﴾[مريم: 53].
وقد سمعت أم المؤمنين عائشة رجلا يقول لأناس، وهم سائرون في طريق الحج: أيُّ أخ أمنُّ على أخيه؟ فسكت القوم، فقالت عائشة لمن حول هودجها: هو موسى بن عمران حين شفع في أخيه أن يكون نبيا يوحى إليه. قال الله تعالى: {ووهبنا له من رحمتنا أخاه هارون نبيا} [مريم: 53]».[2/ 60].
· مقامان استعملهما موسى عليه السَّلام في محاجته لفرعون اجتمعا في آية أخرى من كتاب الله تعالى
قال موسى عليه السلام في محاجته مع فرعون لما سأله وما رب العالمين: ﴿قال رب السماوات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين قال لمن حوله ألا تستمعون قال ربكم ورب ءابائكم الأولين﴾ الآيات، وهذان المقامان هما المذكوران في قوله تعالى: ﴿سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق﴾[فصلت: 53]. [2/ 63-64].
· التَّماثل في المعنى بين آيات من القرآن الكريم
«يقول تعالى مخبرا عن فرعون أنه أنكر إثبات الصانع تعالى، قائلا: ﴿فمن ربكما يا موسى قال ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى﴾[طه: 49 - 50] أي: هو الذي خلق الخلق، وقدر لهم أعمالا وأرزاقا وآجالا، وكتب ذلك عنده في كتابه اللوح المحفوظ، ثم هدى كل مخلوق إلى ما قدره له، فطابق علمه فيهم على الوجه الذي قدره وعلمه; لكمال علمه وقدرته وقدره. وهذه الآية كقوله تعالى: ﴿سبح اسم ربك الأعلى الذي خلق فسوى والذي قدر فهدى﴾[الأعلى: 1 - 3] أي: قدر قدرا وهدى الخلائق إليه».[2/ 69].
· صار فرعون مذكِّرا! ومحلُّ استعمالها
«قال الله تعالى: ﴿وقال فرعون ذروني أقتل موسى وليدع ربه إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد﴾[غافر: 26]، ولهذا يقول الناس على سبيل التهكم: "صار فرعون مذكِّرا"، وهذا منه؛ فإن فرعون في زعمه يخاف على الناس أن يضلهم موسى، عليه السلام».[2/ 83]
· أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر وأعلى مرتبة فيه ووجه ذلك
«قال الله تعالى: ﴿وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم وإن يك كاذبا فعليه كذبه وإن يك صادقا يصبكم بعض الذي يعدكم إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا قال فرعون ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾[غافر: 28 - 29].
...المقصود أن هذا الرجل كان يكتم إيمانه، فلما هم فرعون، لعنه الله، بقتل موسى، عليه السلام، وعزم على ذلك وشاور ملأه فيه، خاف هذا المؤمن على موسى، فتلطف في رد فرعون بكلام جمع فيه الترغيب والترهيب، فقال كلمة الحق على وجه المشورة والرأي. وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: «أفضل الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر» وهذا من أعلى مراتب هذا المقام، فإن فرعون لا يكون أشد جورا منه، وهذا الكلام لا أعدل منه; لأن فيه عصمة دم نبي. ويحتمل أنه أشار لهم بإظهار إيمانه، وصرح لهم بما كان يكتمه. والأول أظهر. والله أعلم».[2/ 84-85]
· ما تعرَّضت الدُّول للدين إلا ...
«قال مؤمن آل فرعون: ﴿يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض﴾[غافر: 29] يحذرهم أن يسلبوا هذا الملك العزيز، فإنه ما تعرضت الدول للدين إلا سلبوا ملكهم وذلوا بعد عزهم، وكذا وقع لآل فرعون; ما زالوا في شك وريب، ومخالفة ومعاندة لما جاءهم موسى به، حتى أخرجهم الله مما كانوا فيه من الملك والأملاك والدور والقصور، والنعمة والحبور، ثم حولوا إلى البحر مهانين، ونقلت أرواحهم بعد العلو والرفعة إلى أسفل السافلين. ولهذا قال هذا الرجل المؤمن الصادق، البار الراشد، التابع للحق الناصح لقومه، الكامل العقل: ﴿يا قوم لكم الملك اليوم ظاهرين في الأرض﴾[غافر: 29] أي; عالين على الناس حاكمين عليهم، ﴿فمن ينصرنا من بأس الله إن جاءنا﴾[غافر: 29] أي; لو كنتم أضعاف ما أنتم فيه من العدد والعدة والقوة والشدة لما نفعنا ذلك ولا رد عنا بأس مالك الممالك».[2/ 86].
· لفظ السَّاحر في زمن موسى عليه السلام لم يكن نقصا ولا عيبا والدليل على ذلك
«قال الله تعالى: ﴿وقالوا يا أيها الساحر ادع لنا ربك بما عهد عندك إننا لمهتدون﴾[الزخرف: 49] لم يكن لفظ الساحر في زمانهم نقصا ولا عيبا; لأن علماءهم، في ذلك الوقت، هم السحرة; ولهذا خاطبوه به في حال احتياجهم إليه، وضراعتهم لديه».[2/ 100].
· الأساور في اليدين والزينة على البدن من حلية النساء لا يليق بشهامة الرجال
«قال الله تعالى حاكيا عن فرعون أنه عاب موسى عليه السلام بقوله: ﴿فلولا أن ألقي عليه أسورة من ذهب﴾ الآية.
نقصه فرعون، لعنه الله، بكونه لا أساور في يديه ولا زينة عليه، وإنما ذلك من حلية النساء، لا يليق بشهامة الرجال، فكيف بالرسل الذين هم أكمل عقلا، وأتم معرفة، وأعلى همة، وأزهد في الدنيا، وأعلم بما أعد الله لأوليائه في الأخرى».[2/ 100-101]
فتحي إدريس
9/ذو الحجة/1436
تعليق