إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تبيين الخطأ والخلل في نسبة بَيْتَيْ "خيال الظل"

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تبيين الخطأ والخلل في نسبة بَيْتَيْ "خيال الظل"

    الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

    فإن بعض المحققين قد ينسب القول إلى غير قائله، ويجزم بذلك، سهوا منه وغفلة، ووجب على من عرف ذلك التنبيه إلى الصواب من ذلك، ومن ذلك ما جاء عن بعضهم من نسبة البيتين الآتيين إلى الإمامين: الشافعي وابن الجوزي – رحمهما الله – وانجر عن ذلك ما ستعلمه قريبا:

    رأيت "خيال الظل" أعظم عبرة *** لمن هو في أوج الحقيقة راقي
    شخوص وأشباح تمر وتنقضي *** وتفنى جميعا والمحرك باقي

    وقد ورد البيتان بألفاظ مختلفة كما جاء في "المستطرف في كل فن مستظرف" (ص: 826 ) للأبهيشي محمد بن أحمد (ت:852 هـ) قال: "وقد شبَّهها – يعني الدنيا – بعضهم بـ "خيال الظل" فقال:

    رأيت "خيال الظل" أعظم عبرة *** لمن كان في علم الحقائق راقي
    شخوصا وأشباحا يخالف بعضها *** لبعض وأشكالا بغير وفاق
    تجيء وتمضي بابة بعد بابة *** وتفنى جميعا والمحرك باقي" اهـ.

    وذكر البيتين شهاب الدين الخفاجي (ت: 1069 هـ) في "ريحانة الألبا وزهرة الحياة الدنيا" (1 / 254) هكذا من غير نسبة:

    رأيت "خيال الظل" أكبر عبرة *** لمن هو في علم الحقيقة راقي
    شخوص وأشكال تمر وتنقضي *** وتفنى سريعا والمحرك باقي

    والبيتان ينسبان على اختلاف في بعض الألفاظ وعدد الأبيات - لكلٍّ من: الإمام الشافعي محمد بن إدريس (ت: 204 هـ)، وأبي الفرج ابن الجوزي (ت: 597 هـ) –كما قدَّمنا -، وأبي الفتح يحي بن حبيش الحكيم شهاب الدين السهروردي (ت: 587 هـ)، وسيف الدين علي بن عمر التركماني المُشَدّ (ت: 656 هـ)، وعبد الغني النابلسي (ت: 1143 هـ)، وجواد بن محمد البغدادي الشهير بزيني (ت: 1247هـ).

    قلت: ومن هذا تعلم خطأ المحقق عبد السلام هارون في كتابه "كناش النوادر" حيث قال (ص:9): "((خيال الظل)) وهو الأصل الأول للسِّنما المعاصرة، إذ تتحرك الأشخاص والأشكال خلف ستر وقد سلط عليها الضوء، فتبدو صورها متحركة من خلف الستر".
    قال: "ومن أقدم النصوص التي سجلت فيها هذه الظاهرة، قول ابن الجوزي (المتوفى سنة 597 هـ) ، أي: منذ ثمانية قرون:

    رأيت "خيال الظل" أعظم عبرة *** لمن هو في أوج الحقيقة راقي
    شخوص وأشباح تمر وتنقضي *** وتفنى جميعا والمحرك باقي" اهـ.

    وأشار في الهامش أنه أخذها من كتاب "النجوم الزاهرة" (6 / 176).

    قلت: والردُّ على هذا الكلام من ثلاثة أوجه:

    الوجه الأول: قوله: "وهو الأصل الأول للسِّنما المعاصرة" ولم يعرج ولو بالإشارة إلى حكم هذا النوع من المسرح، وقد قال الدكتور عبد السلام بن برجس آل عبد الكريم – رحمه الله – (ت: 1425 هـ) في كتابه الماتع "إيقاف النبيل على حكم التمثيل" (ص:33): "ومما يجدر إيراده هنا، ما ذكره السخاوي (ت: 902 هـ) في كتابه "التبر المسبوك" في حوادث شهر ذي القعدة من سنة 885 هـ حيث قال:
    "وفي يوم الثلاثاء العشرين منه حرَّق السلطان ما مع أصحاب "خيال الظل" من الشخوص ونحوها، وكتب عليهم قسائم في عدم العود إلى فعله، ونعم الصنيع، جوزي خيرا" اهـ كلام السخاوي.
    وفي "درر الفوائد المنظمة" للجريري : "أن أحد السلاطين حمله معه، لما ذهب إلى الحج سنة 778 هـ فأنكر الناس ذلك عليه" اهـ.

    قلت: فانظر إلى قول السخاوي: "ونعم الصنيع، جوزي خيرا" وقول الجريري: "فأنكر الناس عليه ذلك" تعلم أن اللعب بما يسمى "خيال الظل" لَهْوٌ باطل يجب إنكاره.

    الوجه الثاني: قوله: "ومن أقدم النصوص التي سجلت هذه الظاهرة" وقد جاء في "سلك الدرر في أعيان القرن الثالث عشر" (1 / 133) للمرادي (ت: 1206 هـ) عند ترجمة "السيد أحمد البيروتي":
    "ثم قال الأستاذ – يعني: عبد الغني النابلسي (ت: 1143 هـ) - وأنشدنا من لفظه "السيد أحمد" قوله:

    أرى هذا الوجود "خيال ظل" *** محرِّكه هو الرب الغفور
    فصندوق اليمين بطون حوا *** وصندوق الشمال هو القبور
    وأنشدنا أيضاً من لفظه لنفسه:

    ما "خيال الظل" إلا عبرة لمن اعتبر *** فاعتبر قولي إياه ذا تجده معتبر
    وكذا الدنيا شخوص تتراءى للنظر *** ثم تمضي وتولي مثل لمح بالبصر
    وهو من قول الإمام الشافعي - رضي الله عنه – (ت: 204 هـ):

    رأيت "خيال الظل" أكبر عبرة *** لمن كان في علم الحقيقة راقي
    شخوص وأشباح تمر وتنقضي *** الكل يفنى والمحرك باقي" اهـ.

    قلت: وبهذا فإن صحت النسبة فلا يصح أن نقول: أن أقدَم النصوص التي سجلت هذه الظاهرة...كما ذكر صاحب "الكناش".

    الوجه الثالث: جزمه بنسبة البيتين للإمام ابن الجوزي، والجزم بذلك يحتاج إلى توثيق وتدقيق، مع أنه من المحققين المشاهير، وهنا كلام جميل للدكتور ابن برجس – رحمه الله – في كتابه الآنف الذكر "إيقاف النبيل" (ص: 34) قال: " وقد ذكر بعض المؤرخين بيتين من الشعر ورد فيهما ذكر "خيال الظل" هما:

    رأيت "خيال الظل" أكبر عبرة *** لمن كان في علم الحقيقة راقي
    شخوص وأشباح تمر وتنقضي *** الكل يفنى والمحرك باقي

    وقد اختلف في نسبتها، فنسبها الأتابكي (ت: 874 هـ) في "النجوم الزاهرة" (6/176) إلى ابن الجوزي (ت: 597 هـ).
    ونسبها المرادي (ت: 1206 هـ) في "سلك الدرر" (1/133) إلى الإمام الشافعي (ت: 204 هـ).
    وعلى كلٍّ فإن نسبة البيتين لأحدهما تحتاج إلى توثيق، ولا أظن ثبوتهما عنهما، وذلك لأنَّ "خيال الظل" بمعناه الذي نقل إلينا فيه منكر متفق على تحريمه: هو الصورة المجسمة (الأصنام الصغيرة) وينزه الإمام الشافعي وابن الجوزي عن ضرب العبر بذلك" اهـ كلام ابن برجس - رحمه الله - وهو في غاية التحقيق.

    وقال ابن الجوزي – رحمه الله – (ت: 597 هـ) في "المدهش" (1/ 319) من "الفصل العاشر" - في معرض حديثه عن الدنيا وزينتها -: "كما أنَّ أضغاث الأحلام تسرُّ النائم، و"لعب الخيال" يحسبها الطفل حقيقة، فأمَّا العقل فيعلم ما وراء السِّتر.

    رأيت "خيال الظل" أكبر عبرة *** لمن هو في علم الحقيقة راقي
    شخوص وأشباح تمر وتنقضي *** جميعا ويفنى والمحرك باقي" اهـ.

    قلت: ولم ينسبها لنفسه حتى يُجزم بأنها له، ولعل هذا النص هو الذي جعل الناس من بعده يغترون وينسبون البيتين له، وبخاصة عندما لم ينسبهما ابن الجوزي لأحد ولا لقول قائل، والله أعلم.

    ثم لو سلمنا أن البيتين من قول الشافعي أو ابن الجوزي – رحمهما الله – لقطعنا أنهما أرادا بيان حقيقة الدنيا لا غير، فشبَّهاها بخيال الظل تقريبا للأفهام، وذلك ظاهر من كلام ابن الجوزي – رحمه الله – في "المدهش" الذي نقلناه سابقا، وقد يشبه المحمود بالمذموم، فكيف بتشبيه المذموم بالمذموم.

    قلت: ونظير هذا الحديث الذي في الصحيحين عن عائشة – رضي الله عنها – في صفة الوحي قال - صلى الله عليه وسلم -: "وأحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس".
    قال الحافظ في "الفتح" ( 1 / 19): "فَإِنْ قِيلَ : الْمَحْمُود لَا يُشَبَّه بِالْمَذْمُومِ ، إِذْ حَقِيقَة التَّشْبِيه إِلْحَاق نَاقِص بِكَامِلٍ ، وَالْمُشَبَّه الْوَحْي وَهُوَ مَحْمُود ، وَالْمُشَبَّه بِهِ صَوْت الْجَرَس وَهُوَ مَذْمُوم لِصِحَّةِ النَّهْي عَنْهُ وَالتَّنْفِير مِنْ مُرَافَقَة مَا هُوَ مُعَلَّق فِيهِ وَالْإِعْلَام بِأَنَّهُ لَا تَصْحَبهُمْ الْمَلَائِكَة كَمَا أَخْرَجَهُ مُسْلِم وَأَبُو دَاوُدَ وَغَيْرهُمَا، فَكَيْفَ يُشَبَّه مَا فَعَلَهُ الْمَلَك بِأَمْر تَنْفِر مِنْهُ الْمَلَائِكَة ؟
    وَالْجَوَاب: أَنَّهُ لَا يَلْزَم فِي التَّشْبِيه تَسَاوِي الْمُشَبَّه بِالْمُشَبَّهِ بِهِ فِي الصِّفَات كُلّهَا ، بَلْ وَلَا فِي أَخَصّ وَصْف لَهُ ، بَلْ يَكْفِي اِشْتِرَاكهمَا فِي صِفَة مَا ، فَالْمَقْصُود هُنَا بَيَان الْجِنْس ، فَذَكَرَ مَا أَلِفَ السَّامِعُونَ سَمَاعه تَقْرِيبًا لِأَفْهَامِهِمْ" اهـ كلام الحافظ – رحمه الله -.

    فشبها الحياة الدنيا الفانية بـ: "خيال الظل"، وأشارا بقولهما: "والمحرِّكُ باقي" إلى أن الله هو الباقي الدائم الذي لا يموت سبحانه وتعالى عن أن تضرب له الأمثال والله أعلم.

    ملاحظة مهمة: بعض المحققين ينخدع ببعض المظاهر العصرية المخالفة للشرع، فتجد في بعض تحقيقاته ما يوافق تلك المظاهر، فينغمس فيها ويرويها دون أدنى تحقيق أو تدقيق والله المستعان.




    وكتب: أبو الحارث يوسف بن عومر
    في: 30 / 10 / 1435 هـ الموافق لـ 26 / 08 / 2014 مـ
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف بن عومر; الساعة 2014-08-26, 03:40 PM.

  • #2
    جزاك الله خيرا أخي يوسف على هذا التَّحقيق المفيد.
    شيخ المحقِّقين عبد السلام هارون رحمه الله جهبذ له على تراث أمَّة الإسلام أيادٍ مشكورة، وهو من أحبِّ أعلام وقتنا إليَّ، وقد ثقُل عليَّ أوَّلا توبيخك إيَّاه، لكن الحقَّ أحق أن يتبَّع، وإنَّ لصاحب الحق مقالًا، فبارك الله فيك، وأجزل ثوابك، وأدام متَعَك.

    تعليق


    • #3
      آسف أخي الحبيب "خالد" على هذا، ولم أدر أن مقالي سبَّب هذا القلق والثقل، وفي الحقيقة أنا لم أوبِّخ بل نبَّهت وبيَّنت، كما يبدو من العنوان: "تبيين الخطأ..."، وهذا هو منهج النَّقد العلمي المفيد، ولا أقول عن المحقق عبد السلام هارون – رحمه الله – إلا كما قال الذهبي – رحمه الله – في "السير" عن الغزالي – رحمه الله -: "عالم كبير، وما من شرط العالم ألا يخطئ" اهـ.
      وكما قال أبو عبيد البكري – رحمه الله – في "التنبيه على أوهام أبي علي القالي في أماليه" (ص: 1 ): " ... ولكن البشر غير معصومين من الزَّلل، ولا مبَرَّئين من الوهم والخطل، والعالم من عُدَّت هفواته، وأحصيت سقطاته:
      * كفى بالمرء نُبلا أن تُعدَّ معايبه *
      وجزاك الله خيرا شيخ "خالد".

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيك أخي يوسف، قد أفدت وأجدت، وأنا قصدت أن الاستثقال كان مني ـ هوى مجانبًا للهدىـ بسبب ميلي إلى هارون رحمه الله، ثم رجعتُ إلى أنَّك قلتَ فأصبت وعدلت، والصَّوابُ فوقه وفوق من هو فوقه، فرضي الله عنك.

        تعليق


        • #5
          رضي الله عنك شيخ "خالد"

          تعليق

          الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
          يعمل...
          X