إياك أن تكون معدنا للفتن
الحمد لله وصلى الله على نبيه محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فإن من أعظم ما يفسد الصنائع والعلوم أن يدخل فيها من ليس من أهلها، وقد بلغ بنا زمان صار يتكلم فيه كل ذي لسان ويبدي رأيه كل ذي رأي، دون مراعاة لمنزلة ولا تخصص.
ومما فتح من الأبواب على مصراعيه باب الجرح والتعديل، فمع أنه قام له وبه رجال أكْفَاء وجهابذة علماء، ووفوا المقام حقه، إلا أنه تطفل عليهم أدعياء وسفهاء، فكان إفسادهم أعظم من نفعهم، هذا إن نفعوا بشيء.
وإن للكلام في الرجال شروطا وضوابطَ، وينبغي أن يُحصَّل لذلك علوما وآلاتها، وليس هذا بالهين، بل هو من أدق أبواب العلم وأصعبها، وهذا الأمر لا يستقيم إلاّ لمن كان جمع بين الورع والتّقوى والعلم التامّ والمعرفة بأحوال الناس وتنزيلهم منازلهم.
وهذه كلمات ذكرى لي ولمن يقف عليها عسى أن ينتفع بها من أراد الله به خيرا، فإنها من الفقه في الدين:
عقد ابن مفلح في الآداب الشرعية فصلا (في جرح رواة الحديث لبيان الحقيقة ومعرفة الصحيح من غيره )، ومما ذكر فيه:
«وقال أبو الحارث : سمعت أبا عبد الله غير مرة يقول : ما تكلم أحد في الناس إلا سقط وذهب حديثه قد كان بالبصرة رجل يقال له الأفطس كان يروي عن الأعمش والناس ، وكانت له مجالس وكان صحيح الحديث ، إلا أنه كان لا يسلم على لسانه أحد فذهب حديثه وذكره .
وقال في رواية الأثرم وذكر الأفطس واسمه عبد الله بن سلمة قال : إنما سقط بلسانه فليس نسمع أحدا يذكره .
وتكلم يحيى بن معين في أبي بدر فدعا عليه قال أحمد : فأراه استجيب له ، والمراد بذلك والله أعلم عدم التثبت والغيبة بغير حق .
وقال أبو زرعة عبد الله بن سلمة الأفطس : كان عندي صدوقا لكنه كان يتكلم في عبد الواحد بن زياد ويحيى القطان ، وذكر له يونس بن أبي إسحاق فقال : لا ينتهي يونس حتى يقول سمعت البراء .
قال أبو زرعة : فانظر كيف يرد أمره ، كل من لم يتكلم في هذا الشأن على الديانة فإنما يعطب نفسه ، وكان الثوري ومالك يتكلمون في الناس على الديانة فينفذ قولهم ، وكل من لم يتكلم فيهم على غير الديانة يرجع الأمر عليه ». اهـ
وقال ابن دقيق العيد –رحمه الله- :« أَعْرَاضُ المُسْلِمين حُفْرَةٌ مِنْ حُفَرِ النَّار؛ وَقَفَ عَلَى شَفِيرِهَا طَائِفَتَانِ مِنَ النَّاس: المُحَدِّثُونَ، وَالحُكَّام ».اهـ
وفي الجملة: «فمن من تكلم في هذا الأمر ديانة وعلما وتثبتا وإلا سقط».
وتأمَّل في هذه الآثار تجد أنها فيمن كان أهلا وتصدى لذلك، فكيف بمن لا ناقة له في العلم ولا جمل، بل أحسن أحواله أن تكون له معلومات وثقافة في العلم الشرعي، فإذا تكلم حسبته هو هو، ولا زال العلماء يزجرون من هذا حاله ويتكلف ما لا يعنيه.
ثم إن هذا الصنف من الدخلاء على العلوم هم معدن كل فتنة وحطبها، فلا هم بأصحاب جهل بسيط عرفوا قدرهم ولزموا حدهم، ولا بالمتمكنين المتفهمين للعلم، فيتكلموا ببرهان وحجة أو يسكتوا بحلم وأناة.
وانظر ما قاله الشيخ محمد بازمول –حفظه الله-: «ليس من منهج السلف أن يخوض كل طالب علم في الجرح والتعديل، فإن لكل فن رجاله، فكما لا يؤخذ العلم عن كل أحد فإنه لا يتكلم في الجرح والتعديل أي أحد».
ومن سيِّء الفهم في الدين أن يظن أن منهج السلف منحصر في الكلام في الرجال والجرح والتعديل، إنما المنهج هو كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم والفقه فيهما، فمن كان متمكنا من العلوم مقاصد ووسائل فهو المتمكن من منهج السلف، ولهذا لما قيل للشيخ مقبل –رحمه الله-: نريد أن تدرسنا في المنهج غضب وقال: «الكتاب والسنة هو المنهج».
قال الشيخ عبيد الجابري –حفظه الله- : « فالدين ليس باباً واحداً، والجرح والتعديل بابٌ من أبواب الدين، فلا ينبغي الاقتصار عليه » ، وقال الشيخ ربيع بن هادي –حفظه الله-: « فلو استمررنا في ردِّ مقالاتهم الباطلة والتي تدور حول أشياء افتعلوها قد بيَّنَّا مرَّات وكرَّات بُطلانها، والقوم لا هَمَّ لهم إلاَّ مشاغلتنا عن أهدافنا السَّامية من نشر الدَّعوة السَّلفية عقيدةً وعملاً ومنهجاً وأخلاقاً مع سائر جوانب الإسلام العظيمة؛ لو استمررنا في الردود عليهم لضيَّعنا كثيراً من هذه الأهداف. فأوَدُّ من إخواننا الإعراض عنهم والإقبال بجِدٍّ على القيام بالدَّعوة السامية؛ وإن كان الإخوة -ولله الحمد- قائمين بذلك، إلاَّ أنَّ المشاغلة بهم يُفوِّتُ ما تَكْمُلُ به دعوتهم-؛ فدَعُوهُم وما رسموه لأنفسهم ولا يَضِيرُنا ولا يَضِير دعوتنا ذلك لا سيما والسَّلفيون في كلِّ مكان مقتنعون بأننا على الحقِّ وخصُومنا على الباطل ».
ومما يحز في النفس كون صنيع هؤلاء ينسب إلى المنهج السلفي ظلما وزورا، ويُظهر تصرفهم على أن هذه هي طريقة مشايخ السنة وتربيتهم، فما أضرهم على الدعوة والعلم، والله المستعان.
تعليق