إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المجلس التاسع والعشرون: في التوبة

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المجلس التاسع والعشرون: في التوبة

    المجلس التاسع والعشرون: في التوبة

    الحمد لله الذي نصب من كل كائن على وحدانيته برهانا، وتصرف في خليقته كما شاء عزا وسلطانا، واختار المتقين فوهب لهم أمنا وإيمانا، وعم المذنبين بحلمه ورحمته عفوا وغفرانا، ولم يقطع أرزاق أهل معصيته جودا وامتنانا، روح أهل الإخلاص بنسيم قربه، وحذر يوم الحساب بجسيم كربه، وحفظ السالك نحو رضاه في سربه، وأكرم المؤمن إذ كتب الإيمان في قلبه. حكم في بريته فأمر ونهى، وأقام بمعونته ما ضعف ووهى، وأيقظ بموعظته من غفل وسها، ودعا المذنب إلى التوبة لغفران ذنبه، رب عظيم لا يماثل الأنام، وغني كريم لا يحتاج إلى الشراب والطعام، الخلق مفتقرون إليه وعلى الدوام، ومضطرون إلى رحمته في الليالي والأيام.

    أحمده حمد عابد لربه، معتذر إليه من تقصيره وذنبه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة مخلص من قلبه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله المصطفى من حزبه، صلى الله عليه وعلى أبي بكر خير صحبه، وعلى عمر الذي لا يسير الشيطان في سربه، وعلى عثمان الشهيد لا في صف حربه، وعلى علي معينه في حربه، وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهديه، وسلم تسليما.

    إخواني: اختموا شهر رمضان بالتوبة إلى الله من معاصيه، والإنابة إليه بفعل ما يرضيه، فإن الإنسان لا يخلو من الخطأ والتقصير، وكل بني آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون، وقد حث الله في كتابه وحث النبي صلى الله عليه وسلم في خطابه على استغفار الله تعالى والتوبة إليه، فقال سبحانه: {وأن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى ويؤت كل ذي فضل فضله وإن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير} [هود: 3]، وقال تعالى: {قل إنمآ أنا بشر مثلكم يوحى إلى أنمآ إلاهكم إلاه واحد فاستقيموا إليه واستغفروه} [فصلت: 6]، وقال تعالى: {وتوبوا إلى الله جميعا أيها المؤمنون لعلكم تفلحون} [النور: 31] وقال سبحانه: {يأيها الذين ءامنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا عسى ربكم أن يكفر عنكم سيئاتكم ويدخلكم جنات تجرى من تحتها الأنهار} [التحريم: 8]، وقال تعالى: {إن الله يحب التوبين ويحب المتطهرين} [البقرة: 222]. والآيات في ذكرالتوبة عديدة.

    وأما الأحاديث فمنها: عن الأغر بن يسار المزني رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أيها الناس توبوا إلى الله واستغفروه فإني أتوب في اليوم مئة مرة»، رواه مسلم. وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إني لأستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة»، رواه البخاري. وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لله أشد فرحا بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كان على راحلته بأرض فلاة فانفلتت منه وعليها طعامه وشرابه فأيس منها، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة عنده، فأخذ بخطامها، ثم قال من شدة الفرح: اللهم أنت عبدي وأنا ربك أخطأ من شدة الفرح»، رواه مسلم. وإنما يفرح سبحانه بتوبة عبده لمحبته للتوبة والعفو ورجوع عبده إليه بعد هربه منه، وعن أنس وابن عباس رضي الله عنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب»، متفق عليه.

    فالتوبة هي الرجوع من معصية الله إلى طاعته لأنه سبحانه هو المعبود حقا، وحقيقة العبودية هي التذلل والخضوع للمعبود محبة وتعظيما، فإذا حصل من العبد شرود عن طاعة ربه فتوبته أن يرجع إليه ويقف ببابه موقف الفقير الذليل الخائف المنكسر بين يديه.

    والتوبة واجبة على الفور لا يجوز تأخيرها ولا التسويف بها، لأن الله أمر بها ورسوله، وأوامر الله ورسوله كلها على الفور والمبادرة لأن العبد لا يدري ماذا يحصل له بالتأخير، فلعله أن يفجأه الموت فلا يستطيع التوبة، ولأن الإصرار على المعصية يوجب قسوة القلب وبعده عن الله عز وجل وضعف إيمانه، فإن الإيمان يزيد بالطاعات وينقص بالعصيان، ولأن الإصرار على المعصية يوجب إلفها والتشبث بها، فإن النفس إذا اعتادت على شيء صعب عليها فراقه وحيئنذ يعسر عليه التخلص من معصيته ويفتح عليه الشيطان باب معاص أخرى أكبر وأعظم مما كان عليه. ولذلك قال أهل العلم وأرباب السلوك: إن المعاصي بريد الكفر ينتقل الإنسان فيها مرحلة مرحلة حتى يزيغ عن دينه كله نسأل الله العافية والسلامة.

    والتوبة التي أمر الله بها هي التوبة النصوح التي تشتمل على شرائط التوبة وهي خمسة:

    الأول: أن تكون خالصة لله عز وجل بأن يكون الباعث لها حب الله وتعظيمه ورجاء ثوابه والخوف من عقابه، فلا يريد بها شيئا من الدنيا ولا تزلفا عند مخلوق، فإن أراد هذا لم تقبل توبته لأنه لم يتب إلى الله وإنما تاب إلى الغرض الذي قصده.

    الثاني: أن يكون نادما حزنا على ما سلف من ذنبه يتمنى أنه لم يحصل منه لأجل أن يحدث له ذلك الندم إنابة إلى الله وانكسارا بين يديه ومقتا لنفسه التي أمرته بالسوء فتكون توبته عن عقيدة وبصيرة.

    الثالث: أن يقلع عن المعصية فورا، فإن كانت المعصية بفعل محرم تركه في الحال، وإن كانت المعصية بترك واجب فعله في الحال إن كان مما يمكن قضاؤه كالزكاة والحج، فلا تصح التوبة مع الإصرار على المعصية فلو قال: إنه تاب من الربا مثلا وهو مستمر على التعامل به لم تصح توبته ولم تكن هذه إلا نوع استهزاء بالله وآياته لاتزيده من الله إلا بعدا. ولو تاب من ترك الصلاة مع الجماعة وهو مستمر على تركها لم تصح توبته.

    وإذا كانت المعصية فيما يتعلق بحقوق الخلق لم تصح التوبة منها حتى يتخلص من تلك الحقوق، فإذا كانت معصيته بأخذ مال للغير أو جحده لم تصح توبته حتى يؤدي المال إلى صاحبه إن كان حيا أو إلى ورثته إن كان ميتا، فإن لم يكن له ورثة أداه إلى بيت المال، وإن كان لا يدري من صاحب المال تصدق به له والله سبحانه يعلم به، وإن كانت معصيته بغيبة مسلم وجب أن يستحله من ذلك إن كان قد علم بغيبته إياه أو خاف أن يعلم بها وإلا استغفر له وأثنى عليه بصفاته المحمودة في المجلس الذي اغتابه فيه فإن الحسنات يذهبن السيئات.

    وتصح التوبة من ذنب مع الإصرار على غيره، لأن الأعمال تتبعض والإيمان يتفاضل، لكن لا يستحق الوصف المطلق للتوبة وما يستحقه التائبون على الإطلاق من الأوصاف الحميدة والمنازل العالية حتى يتوب إلى الله من جميع الذنوب.

    الرابع: أن يعزم على أن لا يعود في المستقبل إلى المعصية؛ لأن هذه ثمرة التوبة ودليل صدق صاحبها. قإن قال: إنه تائب وهو عازم أو متردد في فعل المعصية يوما ما لم تصح توبته لأن هذه توبة مؤقتة يتحين فيها صاحبها الفرص المناسبة ولا تدل على كراهيته للمعصية وفراره منها إلى طاعة الله عز وجل.

    الخامس: أن لا تكون بعد انتهاء وقت قبول التوبة. فإن كانت بعد انتهاء وقت القبول لم تقبل. وانتهاء وقت القبول نوعان. عام لكل أحد وخاص لكل شخص بنفسه.

    فأما العام: فهو طلوع الشمس من مغربها، فإذا طلعت الشمس من مغربها لم تنفع التوبة. قال الله تعالى: {يوم يأتى بعض ءايات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن ءامنت من قبل أو كسبت فى إيمانها خيرا} [الأنعام: 158] والمراد ببعض الايات طلوع الشمس من مغربها فسرها بذلك النبي صلى الله عليه وسلم، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها، فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه وكفى الناس العمل». قال ابن كثير: حسن الإسناد وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه»، رواه مسلم.

    وأما الخاص: فهو عند حضور الأجل فمتى حضر أجل الإنسان وعاين الموت لم تنفعه التوبة ولم تقبل منه. قال الله تعالى: {وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إنى تبت الأن} [النساء: 18] وعن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» يعني بروحه، رواه أحمد والترمذي وقال: حديث حسن.

    ومتى صحت التوبة باجتماع شروطها وقبلت محا الله بها ذلك الذنب الذي تاب منه وإن عظم. قال الله تعالى: {قل ياعبادى الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم} [الزمر: 35].

    وهذه الآية في التائبين المنيبين إلى ربهم المسلمين له. قال الله تعالى: {ومن يعمل سوءا أو يظلم نفسه ثم يستغفر الله يجد الله غفورا رحيما} [النساء: 110].

    فبادروا رحمكم الله أعماركم بالتوبة النصوح إلى ربكم قبل أن يفجأكم الموت فلا تستطيعون الخلاص.

    اللهم وفقنا للتوبة النصوح التي تمحو بها ما سلف من ذنوبنا ويسرنا لليسرى، وجنبنا العسرى، واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين في الآخرة والأولى، برحمتك يا أرحم الراحمين. وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.
    التعديل الأخير تم بواسطة أم ياسمين السلفية; الساعة 2016-07-04, 01:41 AM.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
يعمل...
X