إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

المجلس الثاني عشر: في النوع الثاني من تلاوة القرآن

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • المجلس الثاني عشر: في النوع الثاني من تلاوة القرآن

    المجلس الثاني عشر: في النوع الثاني من تلاوة القرآن

    الحمد لله معطي الجزيل لمن أطاعه ورجاه، وشديد العقاب لمن أعرض عن ذكره وعصاه، اجتبى من شاء بفضله فقربه وأدناه، وأبعد من شاء بعدله فولاه ما تولاه، أنزل القرآن رحمة للعالمين ومنارا للسالكين فمن تمسك به نال مناه، ومن تعدى حدوده وأضاع حقوقه خسر دينه ودنياه، أحمده على ما تفضل به من الإحسان وأعطاه، وأشكره على نعمه الدينية والدنيوية وما أجدر الشاكر بالمزيد وأولاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكامل في صفاته المتعالي عن النظراء والأشباه، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الذي اختاره على البشر واصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان ما انشق الصبح وأشرق ضياه، وسلم تسليما.

    إخواني: سبق في المجلس الخامس أن تلاوة القرآن على نوعين تلاوة لفظه وهي قراءته وتقدم الكلام عليها هناك.

    والنوع الثاني تلاوة حكمه بتصديق أخباره واتباع أحكامه، فعلا للمأمورات وتركا للمنهيات.

    وهذا النوع هو الغاية الكبرى من إنزال القرآن كما قال تعالى: {كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا ءاياته وليتذكر أولو الألباب} [ص: 29]. ولهذا درج السلف الصالح رضي الله عنهم على ذلك يتعلمون القرآن، ويصدقون به، ويطبقون أحكامه تطبيقا إيجابيا عن عقيدة راسخة ويقين صادق. قال أبو عبدالرحمن السلمي رحمه الله: حدثنا الذين كانوا يقرؤوننا القرآن، عثمان بن عفان وعبدالله بن مسعود، وغيرهما، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات لم يتجاوزوها حتى يتعلموها وما فيها من العلم والعمل، قالوا: فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعا. وهذا النوع من التلاوة هو الذي عليه مدار السعادة والشقاوة، قال الله تعالى: {فإما يأتينكم منى هدى فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى * ومن أعرض عن ذكرى فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى * قال رب لم حشرتنى أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى * وكذلك نجزي من أسرف ولم يؤمن بآيات ربه ولعذاب الآخرة أشد وأبقى} [طه: 123 - 127].

    فبين الله في هذه الآيات الكريمة ثواب المتبعين لهداه الذي أوحاه إلى رسله، وأعظمه هذا القرآن العظيم، وبين عقاب المعرضين عنه. أما ثواب المتبعين له فلا يضلون ولا يشقون، ونفي الضلال والشقاء عنهم يتضمن كمال الهداية والسعادة في الدنيا والآخرة، وأما عقاب المعرضين عنه المتكبرين عن العمل به فهو الشقاء والضلال في الدنيا والآخرة، فإن له معيشة ضنكا، فهو في دنياه في هم وقلق نفس ليس له عقيدة صحيحة، ولا عمل صالح: {أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون} [الأعراف: 179]. وهو في قبره في ضيق وضنك قد ضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه، وهو في حشره أعمى لا يبصر {ونحشرهم يوم القيامة على وجوههم عميا وبكما وصما مأواهم جهنم كلما خبت زدناهم سعيرا} [الإسراء: 97]. فهم لما عموا في الدنيا عن رؤية الحق وصموا عن سماعه وأمسكوا عن النطق به {وقالوا قلوبنا فى أكنة مما تدعونا إليه وفي ءاذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب فاعمل إننا عاملون} [فصلت: 5] جازاهم الله في الآخرة بمثل ما كانوا عليه في الدنيا، وأضاعهم كما أضاعوا شريعته {قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا * قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى} [طه: 125، 126] {جزآء وفاقا} [النبأ: 26] {ومن جآء بالسيئة فلا يجزى الذين عملوا السيئات إلا ما كانوا يعملون} [القصص: 84].

    وفي صحيح البخاري: عن سمرة بن جندب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا صلى صلاة، وفي لفظ: صلاة الغداة أقبل علينا بوجهه فقال: «من رأى منكم الليلة رؤيا؟ قال: فإن رأى أحد قصها، فيقول: ما شاء الله، فسألنا يوما فقال: هل رأى أحد منكم رؤيا؟ قلنا: لا. قال: لكني رأيت الليلة رجلين أتياني (فساق الحديث وفيه) فانطلقنا حتى أتينا على مضطجع وإذا آخر قائم عليه بصخرة وإذا هو يهوي بالصخرة لرأسه فيثلغ رأسه فيتدهده الحجر ههنا فيتبع الحجر فيأخذه فلا يرجع إلى الرجل حتى يصح رأسه كما كان، ثم يعود عليه فيفعل به مثل ما فعل به المرة الأولى، فقلت: سبحان الله! ما هذا؟ فقالا لي انطلق (فذكر الحديث وفيه) أما الرجل الذي أتيت عليه يثلغ رأسه بالحجر فهو الرجل يأخذ القرآن فيرفضه وينام عن الصلاة المكتوبة».

    وعن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب الناس في حجة الوداع فقال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد في أرضكم ولكن رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم فاحذروا، إني تركت فيكم ما إن تمسكتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه»، رواه الحاكم وقال: صحيح الإسناد (1).

    وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يمثل القرآن يوم القيامة رجلا فيؤتى بالرجل قد حمله فخالف أمره فيمثل له خصما، فيقول: يا رب حملته إياي فبئس الحامل، تعدى حدودي، وضيع فرائضي، وركب معصيتي، وترك طاعتي، فما يزال يقذف عليه بالحجج حتى يقال: شأنك به، فيأخذه بيده فما يرسله حتى يكبه على منخره في النار» (2).

    وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «القرآن حجة لك أو عليك». وقال ابن مسعود رضي الله عنه: القرآن شافع مشفع فمن جعله أمامه قاده إلى الجنة ومن جعله خلف ظهره ساقه إلى النار (3).
    فيا من كان القرآن خصمه؛ كيف ترجو ممن جعلته خصمك الشفاعة؟ ويل لمن شفعاؤه خصماؤه يوم تربح البضاعة.

    عباد الله: هذا كتاب الله يتلى بين أيديكم ويسمع. وهو القرآن الذي لو أنزل على جبل لرأيته خاشعا يتصدع، ومع هذا فلا أذن تسمع، ولا عين تدمع، ولا قلب يخشع، ولا امتثال للقرآن فيرجى به أن يشفع، قلوب خلت من التقوى فهي خراب بلقع، وتراكمت عليها ظلمة الذنوب فهي لا تبصر ولا تسمع، كم تتلى علينا آيات القرآن وقلوبنا كالحجارة أو أشد قسوة، وكم يتوالى علينا شهر رمضان وحالنا فيه كحال أهل الشقوة، لا الشاب منا ينتهي عن الصبوة، ولا الشيخ ينتهي عن القبيح فيلحق بأهل الصفوة، أين نحن من قوم إذا سمعوا داعي الله أجابوا الدعوة، وإذا تليت عليهم آياته وجلت قلوبهم وجلتها جلوة، أولئك قوم أنعم الله عليهم فعرفوا حقه فاختاروا الصفوة.

    قال ابن مسعود رضي الله عنه: ينبغي لقارئ القرآن أن يعرف بليله إذا الناس ينامون، وبنهاره إذا الناس يفطرون، وببكائه إذا الناس يضحكون، وبورعه إذا الناس يخلطون، وبصمته إذا الناس يخوضون، وبخشوعه إذا الناس يختالون، وبحزنه إذا الناس يفرحون.

    يا نفس فاز الصالحون بالتقى ... وأبصروا الحق وقلبي قد عمى
    يا حسنهم والليل قد أجنهم ... ونورهم يفوق نور الأنجم
    ترنموا بالذكر في ليلهمو ... فعيشهم قد طاب بالترنم
    قلوبهم للذكر قد تفرغت ... دموعهم كلؤلؤ منتظم
    أسحارهم بنورهم قد أشرقت ... وخلع الغفران خير القسم
    قد حفظوا صيامهم من لغوهم ... وخشعوا في الليل في ذكرهم
    ويحك يا نفس ألا تيقظي ... للنفع قبل أن تزل قدمي
    مضى الزمان في توان وهوى ... فاستدركي ما قد بقي واغتنمي

    إخواني: احفظوا القرآن قبل فوات الإمكان. وحافظوا على حدوده من التفريط والعصيان. واعلموا أنه شاهد لكم أو عليكم عند الملك الديان. ليس من شكر نعمة الله بإنزاله أن نتخذه وراءنا ظهريا. وليس من تعظيم حرمات الله أن تتخذ أحكامه سخريا. {ويوم يعض الظالم على يديه يقول يليتنى اتخذت مع الرسول سبيلا * ياويلتى ليتنى لم أتخذ فلانا خليلا * لقد أضلنى عن الذكر بعد إذ جآءنى وكان الشيطان للإنسان خذولا * وقال الرسول يرب إن قومى اتخذوا هذا القرءان مهجورا * وكذلك جعلنا لكل نبى عدوا من المجرمين وكفى بربك هاديا ونصيرا} [الفرقان: 27 - 31].

    اللهم ارزقنا تلاوة كتابك حق التلاوة، واجعلنا ممن نال به الفلاح والسعادة. اللهم ارزقنا إقامة لفظه ومعناه، وحفظ حدوده ورعاية حرمته. اللهم اجعلنا من الراسخين في العلم المؤمنين بمحكمه ومتشابهه تصديقا بأخباره وتنفيذا لأحكامه. واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

    ----------------
    (1) روى الإمام أحمد نحو الجملة الأولى منه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
    (2) ضعيف ونقل عن الحافظ ابن حجر تحسينه فإن ثبت أنه حسن فالممثل قراءة القارئ أو جزاؤها وهما مخلوقان أو يقال إن التمثيل يقتضي أن الممثل به به غير الممثل فلا يستلزم أن يخلق القرآن.
    (3) وقد روى عنه عنه مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
يعمل...
X