بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعد:
قال البخاري رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
قال الله تعالى:
(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ١٥٣ الأنعام
قال الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء ، حدثنا ليث - يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح ; أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعن جنبتي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس ، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك . لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " . ذكر الحافظ رحمه الله بعد هذا الموضع حكم الترمذي وهو قوله: حسن غريب، وحكم هو بصحته فقال كما في تفسير سورة الفاتحة حسن صحيح ووافقه الشيخ أحمد شاكر رحم الله الجميع.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى بسنده إلى محمد بن سيرين قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وعن ابن سيرين أيضا قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم.
وقال رحمه الله تعالى:
قال عبد الله – أي ابن مسعود -: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان، يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا. انتهى من مقدمة صحيح مسلم على غير ترتيب.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
عن أبي العالية قال: لا تقوم الساعة حتى يمشي إبليس في الطرق والأسواق، فيقول: حدثني فلان عن فلان عن نبي الله بكذا وكذا.
وبسنده رحمه الله:
قال الأغضف عمرو بن الوليد: قلت لعباد بن منصور: من حدثك أن أبي بن كعب رد على ابن مسعود حديثه في القدر؟ فقال: حدثني به رجل لا أعرفه.
قال: فأنا أعرفه، قال من هو؟ قلت: شيطان.
وقال رحمه الله:
أخبرنا محمد بن الحسين بن مكرم، حدثنا العباس بن محمد، قال: سمعت قراد يقول: سمعت شعبة يقول: إذا حدث المحدث ولم تر وجهه، فلا تصدقه، لعله شيطان قد يتصور في صورته يقول: حدثنا وأخبرنا. الكامل لابن عدي ج١ ص٩٢-٩٣.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة. انتهى من الكفاية ج١ ص ١٤٦-١٤٧.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى:
وقال محمد – يعني ابن عبد الله بن قهزاذ ـ سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال قلت له هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال ثقة، عمن؟ قال قلت: عن الحجاج بن دينار قال ثقة، عمن؟ قال قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف. انتهى من مقدمة صحيح مسلم
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة:
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه. انتهى من قرة عين المحتاج ج١ص٢٦٩
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
حدثني علي بن أحمد الهاشمي، قال: هذا كتاب جدي عيسى بن موسى بن أبي محمد بن المتوكل على الله، فقرأت فيه، حدثني أبو بكر محمد بن داود النيسابوري، قال سمعت محمد بن نعيم، يقول: سمعت محمد بن يحي – وهو الذهلي ـ يقول: ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصل، غير المنقطع، الذي ليس فيه رجل مجهول ولا رجل مجروح. انتهى من الكفاية ج١ص١١٢.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى:
وإنما ذكر التعليق في قسم المردود للجهل بحال المحذوف.
وقد يحكم بصحته إن عرف بأن يجيء مسمى من وجه آخر، فإن قال: جميع من أحذفه ثقات، جاءت مسألة التعديل على الإبهام، والجمهور لا يقبل حتى يسمى. انتهى نقلا عن شرح نزهة النظر للشيخ بن عثيمين رحمه الله ص٢٢٠ـ٢٢١.
وقال رحمه الله تعالى:
ولا يقبل حديث المبهم ما لم يسم، لأن شرط قبول الخبر عدالة رواته، ومن أبهم اسمه لا يعرف عينه، فكيف يعرف عدالته؟!.
وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل، كأن يقول الراوي عنه أخبرني الثقة، لأنه قد يكون ثقة عنده مجروح عند غيره، وهذا على الأصح في المسألة. انتهى كلامه رحمه الله المصدر السابق ص٣٠٧-٣٠٨.
قال الحاظ النووي رحمه الله تعالى:
وإذا قال حدثني الثقة، أو نحوه لم يكتف به على الصحيح.
وقيل يكتفى، فإن كان القائل عالما كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين.
قال الحاظ السيوطي رحمه الله تعالى:
قال الخطيب: ويوجد في بعض من أبهموه الضعفاء لخفاء حاله، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق.
إلى أن قال السيوطي رحمه الله:
وقال شيخ الإسلام ابن حجر في رجال الأربعة: إلى أن قال: وروينا في مسند الشافعي عن الأصم قال: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرني من لا أتهم، يريد به ابراهيم ابن أبي يحي. وإذا قال حدثني الثقة يريد به يحي بن حسان.
وقال السيوطي رحمه الله تعالى:
لو قال نحو الشافعي: أخبرني من لا أتهم، فهو كقوله أخبرني الثقة. انتهى من التدريب ج١ ص٤٧٠-٤٧٤.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
قال النسائي في ” الضعفاء “: الكذَّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة: إبراهيم بن أبي يحيى بالمدينة, ومُقاتل بخُراسان, ومحمد بن سعيد المصلوب بالشَّام, والواقديُّ ببغداد.[التهذيب 3/ 572] نقلا عن الشبكة.
قال جامعه عفا الله عنه:
وابراهيم ابن أبي يحي الذي روى عنه الشافعي ولم يتهمه وعلى قول السيوطي يقال وثقه الشافعي هو أحد الكذابين المعروفين بالكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل الحديث، كما قال النسائي رحمه الله تعالى وغيره.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى:
واعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بن صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين ألا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن ينتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله -تعالى ذكره-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[(6) سورة الحجرات]، وقال -جل ثناؤه-:{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[(282) سورة البقرة]، وقال -عز وجل-:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[(2) سورة الطلاق]، فدل بما ذكرنا من هذه الآي، أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيها إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم.
انتهى من مقدمة صحيحه رحمه الله تعالى
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم:
وقول مسلم رحمه الله تعالى: والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة ....الخ
ما أحسن قول مسلم هذا، وأبينه في الدلالة على كثرة علمه، وقوة فقهه، فاعلم أن الشهادة والخبر يجتمعان عندنا في خمسة أحوال، ويفترقان في خمسة أحوال.
فالخمسة الجامعة لهما: العقل، والبلوغ، والإسلام، والعدالة، وضبط الخبر، أو الشهادة حين السماع والأداء، فمتى اختل وصف من هذه الأوصاف في أحد لم يقبل خبره ولا شهادته.
وأما الخمسة التي يفترقان فيها: فالحرية، والذكورة، والعدد، ومراعاة الأهلية، والعدالة. انتهى كلامه نقلا عن قرة عين المحتاج ج١ص٤١٢.
قال جامعه عفا الله عنه:
فيما تقدم من كلام أئمة الحديث بيان للمنهج المتبع عند أهل السنة والحديث، في مسألة تلقي العلم وعمن يؤخذ، ومن يروى حديثه ويعتد به، ومن يرد خبره ولا يؤبه به، ومن تقبل شهادته ومن ترد، وبهذه القواعد المتينة المستقاة من نصوص الكتاب والسنة، تعاملوا رحمهم الله مع كل راو وكل مروي، فصانهم الله بتوفيقهم لفهم شريعته وصان بهم بعد توفيقهم شريعته، فله الحمد كله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وجزى علماء الحديث عنا خير الجزاء وأجزله وأوفاه.
وبعد هذه النقول اليسيرة الحاوية للمسائل العظيمة والفوائد الكثيرة، التي من أعظمها شدة عناية السلف بمسألة الأخذ والتحمل، كما تقدم.
حصل لك بإذن الله علم بأنهم لم يقبلوا كثيرا من أنواع الحديث وجعلوها في حيز المردود، كالمرسل والمنقطع والمعضل والمعلق والمبهم لأجل الجهالة بالساقط من رجال الإسناد كما صرح به الحافظ بن حجر رحمه الله وغيره، إلا أن يحصل عندهم من غير هذه الطريق ما يفيد العلم بما سقط أو أبهم. وقد سبق ذكره والحمد لله.
فإذا علمت منهج السلف الماضين، وتبينت طريقتهم، وتبصرت سبيلهم، فاقذف بما علمك الله من يقين على ما وقع فيه كثير من الناس اليوم من مخالفة لسبيل الأئمة المهديين ودع عنك تساهل الكثير منهم في باب التلقي والأخذ عن المجاهيل.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
المجهول عند أصحاب الحديث: هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائي، ....الخ انتهى من الكفاية ج١ص ٢٤٤-٢٤٥.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى:
فإن سمي الراوي وانفرد راو واحد بالرواية عنه، فهو مجهول العين كالمبهم، إلا أن يوثقه غير من ينفرد به عنه على الأصح، وكذا من ينفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك.
أو إن روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق، فهو مجهول الحال، وهو المستور، وقد قبل روايته جماعة بغير قيد، وردها الجمهور. انتهى من شرح نزهة النظر للشيخ بن عثيمين رحمه الله تعالى ص ٣١٠-٣١١.
قال جامعه عفا الله عنه:
والمجاهيل المذكورون في هذه الكتابة ليسوا على تعريف أهل الحديث، اللهم إلا من يأتي ذكره في الاستثناء وهم من عدل على الإبهام، ولكن المجاهيل هنا على أصل وضع أهل اللغة.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
( جَهِلَ ) الْجِيمُ وَالْهَاءُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا خِلَافُ الْعِلْمِ ، وَالْآخَرُ الْخِفَّةُ وَخِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ . معجم مقاييس اللغة ج١ ص٤٩٠.
فمجاهيل الشبكة العنكبوتية كثير منهم جمع بين الأمرين جهل هو عكس العلم، وجهل هو عكس الحلم.
جهلت أعيانهم وأحوالهم وبلدانهم، بل لا يعرف كثير منهم أمن الإنس هم أم من الجان، أذكور هم أم من النسوان، أمسلمون أم من غيرهم من بقية النحل والأديان، زد على ذلك طيش ومجاوزة حد وطغيان. إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
ولعل أحسن هؤلاء المجاهيل حالا من قال بعض المشايخ أعرف صاحب الحساب، فارتقى من كونه مجهولا لدى الجميع، إلى معروف عند من زكاه، فيكون والحال هذه كما قال الحافظ بن حجر وقد تقدم: تعديل على الإبهام، ولم يقبله الجمهور.
قال الشيخ وصي الله عباس حفظه الله تعالى معلقا على كلام الحافظ:
لم يقبلوه من الشافعي فكيف بغيره! انتهى من تعليق الشيخ على النزهة لابن حجر صوتيات على الشبكة.
ولا ينبغي لعاقل يرى ما آل إليه حال الدعوة اليوم من تبوء كثير من هذه القنوات وأصحاب الأسماء المستعارة منزلة النقاد من أهل العلم وصاروا هم المرجعية، لكثير ممن ينتسب إلى السلفية، تروى أخبارهم وتقبل شهاداتهم، بل يقبل جرحهم إذا تكلموا فيمن استفاضت عدالته واشتهرت في الناس ديانته، حتى استغنى كثير من الناس بهم عن أهل العلم والفضل، في شتى أبواب العلم. والواقع أكبر شاهد.
وهذا سبب والله من أكبر أسباب هذا التشرذم الحاصل في الساحة الدعوية اليوم. والله المستعان
قلت: لا ينبغي لعاقل أن يسكت عن هذا المنكر فضلا أن يتحجج بالمرجوح ويفتح بابا من أبواب الشر في وجه البقية الباقية من أهل السنة.
وليكن همنا جميعا الرجوع بالناس للمنبع الأصيل، والمورد العذب الزلال، بتعريف الناس بالشرع المطهر الحنيف، ودلالة الناس على حملته وهم العلماء الربانيون، وبيان منزلتهم للناس ووجوب الرجوع إليهم في أخذ العلم، والفتيا، والتوجيه، والجرح والتعديل، قال الله تعالى:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ٨٣ النساء
وإن تعجب فعجب ما يصدر عمن ينسب للعلم من تزكيات غريبة، تضمنت تقريرات عجيبة، لا تمت لطريقة أهل الحديث والسنة بصلة، وقد كان السلفيون ولا زالوا يستهجنون ويستقبحون قول الدكتور فركوس في تزكيته لمحب العلم قبل أن يعلم – أي في حال الجهالة بعينه وحاله -: من يطعن في محب العلم فهو يطعن في.
حتى بلينا بأشد منها:
من طعن في القناة الفلانية مشكوك في سلفيته.
فعلى هذا التقرير من حذر من مجهول عند عامة أهل العلم، وتحذيره لا يقتضي جرحا لذلك المجهول كما هو مقرر عند من له أدنى دراية بالعلم.
فالمحذر السني مشكوك في سلفيته!.
هكذا في إعراض صارخ عن أصول وقواعد هذه الدعوة الطيبة، وفي معزل عن مراعاة المصالح والمفاسد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعم، قد يثني المرء على مقال لصاحب اسم مستعار ألجأته الحاجة لستر هويته، كمن كان في بلاد لا يأمن فيها الكاتب على نفسه، ويشهد لكلامه بالصحة وموافقة الحق، كما جاء عن بعض علمائنا، وهذا لا غضاضة فيه. والحمد لله
أما أن يلقى الأمر على عواهنه ويجعل الأصل الأخذ عن المجاهيل، كما هو الحال اليوم فهذا أمر محدث ولا ينضبط، فمن أين لك يا مزكي القنوات المجهولة والأسماء المستعارة أن تمنع الناس من الأخذ عن أضرابهم؟!.
وهل من النصيحة للمسلمين أن ينصح بالمجاهيل من علم أن الشياطين حدثت الناس في زمن الأئمة مشافهة كما نقل ذلك مسلم وابن عدي وغيرهما، فما ظنك بزمن كهذا وما ظنك إن كان ذلك من وراء حجاب؟!.
ونحن بحمد الله في زمن علماء أهل السنة فيه كثر كثرهم الله والتواصل معهم ممكن يسير، والحمد لله فما الذي يلجئ جل الناس للتخفي والاستتار؟!.
ولا حرج أيضا أن يمدح المرء من يراه عدلا وهو عند الناس مجهول ويذكره بما فيه، ويعرف الناس به ليستفيدوا منه، ولكن ليس له أن يمتحن الناس به كأنه إمام من أئمة العلم.
قالَ أبو يَعْلَـى الموصلي :
سمعتُ أحمدَ بن إبراهيـم الدَّوْرقـيَّ يقولُ: مَن سمعتـموه يذكر أحمد بن حنبل بسوءٍ، فـاتهموه علـى الإسلام. تهذيب الكمال : ج١ص ٢٢٦ نقلا عن الشبكة
هذا وليعلم الدعاة إلى الله أن الناس اليوم أحوج ما يكونون لمعرفة مداخل الشر، وإعانتهم على سد كل منافذه، ولعل أكبر منافذ الباطل في هذه الأزمان هذه الوسائل التي أدخلت على المسلمين أنواع الشرور ولم يسلم منها إلا من سلمه الله تعالى. والله المستعان
فلنحرص على تعريف الناس بأهل العلم الربانيين، والسعي لحصر التوجيه فيهم، وتعليم الناس معرفة قدرهم ووجوب سؤالهم والرجوع إليهم، والناصح الذي يدل الناس على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم وأسوته في ذلك رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام، وقد تقدم قول الإمام محمد بن سيرين بنقل الإمام مسلم بن الحجاج عليهما رحمة الله وهما من أنصح الناس فيما نحسبهما والله حسيبهما: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه فإن العلم شجرة والعمل ثمرة ، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً ، وقيل : العلم والد والعمل مولود ، والعلم مع العمل والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل ، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما ، وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته ، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة وتمم على عبده النعمة ؛ فأما المدافعة والإهمال وحب الهوينى والاسترسال وإيثار الخفض والدعة والميل مع الراحة والسعة فإن خواتم هذه الخصال ذميمة وعقباها كريهة وخيمة ؛ والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة ؛ فإذا كان العمل قاصراً عن العلم [كان] كلاً على العالم ؛ ونعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غلاً .
قال بعض الحكماء : العلم خادم العمل والعمل غاية العلم فلولا العمل لم يطلب علم ولولا العلم لم يطلب عمل ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه .
وقال سهل بن مزاحم : الأمر أضيق على العالم من عقد التسعين مع أن الجاهل لا يعذر بجهالته لكن العالم أشد عذاباً إذا ترك ما علم فلم يعمل به .
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد والعمل الصالح والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟ وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضى بالميسور وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟ وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا ككانزها؟ وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها وراعى واجباتها فلينظر امرؤ لنفسه وليغتنم وقته فإن الثواء قليل والرحيل قريب والطريق مخوف والاغترار غالب والخطر عظيم والناقد بصير والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمعاد (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) انتهى من مقدمة اقتضاء العلم العمل.
هذا تذكير أسأل الله تعالى أن ينفعني به والمؤمنين، وكل ما خالف الحق فباطل مآله إلى الزوال والاضمحلال.
قال الله تعالى:
(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) ١٧ الرعد
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب: العبد الفقير إلى عفو ربه الغني أبو عبد الرحمن عمر مكي التيهرتي كان الله له يوم الأربعاء ٣جمادى الآخرة ١٤٤٦ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الموافق ٤-١٢-٢٠٢٤ تيهرت الجزائر حرسها الله وسائر بلاد المسلمين.
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ} .
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً} أما بعد: فإن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار، أما بعد:
قال البخاري رحمه الله تعالى:
حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ سَعِيدٍ الْأَنْصَارِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنِي مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ التَّيْمِيُّ أَنَّهُ سَمِعَ عَلْقَمَةَ بْنَ وَقَّاصٍ اللَّيْثِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْمِنْبَرِ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّمَا الْأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى فَمَنْ كَانَتْ هِجْرَتُهُ إِلَى دُنْيَا يُصِيبُهَا أَوْ إِلَى امْرَأَةٍ يَنْكِحُهَا فَهِجْرَتُهُ إِلَى مَا هَاجَرَ إِلَيْهِ.
قال الله تعالى:
(وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) ١٥٣ الأنعام
قال الحافظ بن كثير رحمه الله تعالى:
قال الإمام أحمد : حدثنا الحسن بن سوار أبو العلاء ، حدثنا ليث - يعني ابن سعد - عن معاوية بن صالح ; أن عبد الرحمن بن جبير بن نفير حدثه ، عن أبيه ، عن النواس بن سمعان ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ضرب الله مثلا صراطا مستقيما ، وعن جنبتي الصراط سوران ، فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : أيها الناس ، ادخلوا الصراط المستقيم جميعا ، ولا تعوجوا ، وداع يدعو من جوف الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئا من تلك الأبواب قال : ويحك . لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم " . ذكر الحافظ رحمه الله بعد هذا الموضع حكم الترمذي وهو قوله: حسن غريب، وحكم هو بصحته فقال كما في تفسير سورة الفاتحة حسن صحيح ووافقه الشيخ أحمد شاكر رحم الله الجميع.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى بسنده إلى محمد بن سيرين قال : إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
وعن ابن سيرين أيضا قال: لم يكونوا يسألون عن الإسناد فلما وقعت الفتنة قالوا سموا لنا رجالكم فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم وينظر إلى أهل البدعة فلا يؤخذ حديثهم.
وقال رحمه الله تعالى:
قال عبد الله – أي ابن مسعود -: إن الشيطان ليتمثل في صورة الرجل فيأتي القوم فيحدثهم بالحديث من الكذب، فيتفرقون، فيقول الرجل منهم: سمعت رجلا أعرف وجهه ولا أدري ما اسمه يحدث.
عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال: إن في البحر شياطين مسجونة أوثقها سليمان، يوشك أن تخرج فتقرأ على الناس قرآنا. انتهى من مقدمة صحيح مسلم على غير ترتيب.
قال ابن عدي رحمه الله تعالى:
عن أبي العالية قال: لا تقوم الساعة حتى يمشي إبليس في الطرق والأسواق، فيقول: حدثني فلان عن فلان عن نبي الله بكذا وكذا.
وبسنده رحمه الله:
قال الأغضف عمرو بن الوليد: قلت لعباد بن منصور: من حدثك أن أبي بن كعب رد على ابن مسعود حديثه في القدر؟ فقال: حدثني به رجل لا أعرفه.
قال: فأنا أعرفه، قال من هو؟ قلت: شيطان.
وقال رحمه الله:
أخبرنا محمد بن الحسين بن مكرم، حدثنا العباس بن محمد، قال: سمعت قراد يقول: سمعت شعبة يقول: إذا حدث المحدث ولم تر وجهه، فلا تصدقه، لعله شيطان قد يتصور في صورته يقول: حدثنا وأخبرنا. الكامل لابن عدي ج١ ص٩٢-٩٣.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
قيل لابن المبارك: هذه الأحاديث المصنوعة؟ قال: يعيش لها الجهابذة. انتهى من الكفاية ج١ ص ١٤٦-١٤٧.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى:
وقال محمد – يعني ابن عبد الله بن قهزاذ ـ سمعت أبا إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: إن من البر بعد البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك وتصوم لهما مع صومك، قال فقال عبد الله: يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال قلت له هذا من حديث شهاب بن خراش، فقال ثقة، عمن؟ قال قلت: عن الحجاج بن دينار قال ثقة، عمن؟ قال قلت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي صلى الله عليه وسلم مفاوز تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاف. انتهى من مقدمة صحيح مسلم
قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى في الرسالة:
ولا تقوم الحجة بخبر الخاصة حتى يجمع أمورا منها: أن يكون من حدث به ثقة في دينه، معروفا بالصدق في حديثه، عاقلا لما يحدث به، عالما بما يحيل معاني الحديث من اللفظ، أو أن يكون ممن يؤدي الحديث بحروفه كما سمعه. انتهى من قرة عين المحتاج ج١ص٢٦٩
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
حدثني علي بن أحمد الهاشمي، قال: هذا كتاب جدي عيسى بن موسى بن أبي محمد بن المتوكل على الله، فقرأت فيه، حدثني أبو بكر محمد بن داود النيسابوري، قال سمعت محمد بن نعيم، يقول: سمعت محمد بن يحي – وهو الذهلي ـ يقول: ولا يجوز الاحتجاج إلا بالحديث الموصل، غير المنقطع، الذي ليس فيه رجل مجهول ولا رجل مجروح. انتهى من الكفاية ج١ص١١٢.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى:
وإنما ذكر التعليق في قسم المردود للجهل بحال المحذوف.
وقد يحكم بصحته إن عرف بأن يجيء مسمى من وجه آخر، فإن قال: جميع من أحذفه ثقات، جاءت مسألة التعديل على الإبهام، والجمهور لا يقبل حتى يسمى. انتهى نقلا عن شرح نزهة النظر للشيخ بن عثيمين رحمه الله ص٢٢٠ـ٢٢١.
وقال رحمه الله تعالى:
ولا يقبل حديث المبهم ما لم يسم، لأن شرط قبول الخبر عدالة رواته، ومن أبهم اسمه لا يعرف عينه، فكيف يعرف عدالته؟!.
وكذا لا يقبل خبره ولو أبهم بلفظ التعديل، كأن يقول الراوي عنه أخبرني الثقة، لأنه قد يكون ثقة عنده مجروح عند غيره، وهذا على الأصح في المسألة. انتهى كلامه رحمه الله المصدر السابق ص٣٠٧-٣٠٨.
قال الحاظ النووي رحمه الله تعالى:
وإذا قال حدثني الثقة، أو نحوه لم يكتف به على الصحيح.
وقيل يكتفى، فإن كان القائل عالما كفى في حق موافقه في المذهب عند بعض المحققين.
قال الحاظ السيوطي رحمه الله تعالى:
قال الخطيب: ويوجد في بعض من أبهموه الضعفاء لخفاء حاله، كرواية مالك عن عبد الكريم بن أبي المخارق.
إلى أن قال السيوطي رحمه الله:
وقال شيخ الإسلام ابن حجر في رجال الأربعة: إلى أن قال: وروينا في مسند الشافعي عن الأصم قال: سمعت الربيع يقول: كان الشافعي إذا قال: أخبرني من لا أتهم، يريد به ابراهيم ابن أبي يحي. وإذا قال حدثني الثقة يريد به يحي بن حسان.
وقال السيوطي رحمه الله تعالى:
لو قال نحو الشافعي: أخبرني من لا أتهم، فهو كقوله أخبرني الثقة. انتهى من التدريب ج١ ص٤٧٠-٤٧٤.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:
قال النسائي في ” الضعفاء “: الكذَّابون المعروفون بوضع الحديث على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أربعة: إبراهيم بن أبي يحيى بالمدينة, ومُقاتل بخُراسان, ومحمد بن سعيد المصلوب بالشَّام, والواقديُّ ببغداد.[التهذيب 3/ 572] نقلا عن الشبكة.
قال جامعه عفا الله عنه:
وابراهيم ابن أبي يحي الذي روى عنه الشافعي ولم يتهمه وعلى قول السيوطي يقال وثقه الشافعي هو أحد الكذابين المعروفين بالكذب في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عند أهل الحديث، كما قال النسائي رحمه الله تعالى وغيره.
قال الإمام مسلم بن الحجاج رحمه الله تعالى:
واعلم -وفقك الله تعالى- أن الواجب على كل أحد عرف التمييز بن صحيح الروايات وسقيمها، وثقات الناقلين لها من المتهمين ألا يروي منها إلا ما عرف صحة مخارجه، والستارة في ناقليه وأن ينتقي منها ما كان عن أهل التهم والمعاندين من أهل البدع، والدليل على أن الذي قلنا من هذا هو اللازم دون ما خالفه قول الله -تعالى ذكره-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[(6) سورة الحجرات]، وقال -جل ثناؤه-:{مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء}[(282) سورة البقرة]، وقال -عز وجل-:{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ}[(2) سورة الطلاق]، فدل بما ذكرنا من هذه الآي، أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة في بعض الوجوه فقد يجتمعان في أعظم معانيها إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم، كما أن شهادته مردودة عند جميعهم.
انتهى من مقدمة صحيحه رحمه الله تعالى
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى في شرحه على صحيح مسلم:
وقول مسلم رحمه الله تعالى: والخبر وإن فارق معناه معنى الشهادة ....الخ
ما أحسن قول مسلم هذا، وأبينه في الدلالة على كثرة علمه، وقوة فقهه، فاعلم أن الشهادة والخبر يجتمعان عندنا في خمسة أحوال، ويفترقان في خمسة أحوال.
فالخمسة الجامعة لهما: العقل، والبلوغ، والإسلام، والعدالة، وضبط الخبر، أو الشهادة حين السماع والأداء، فمتى اختل وصف من هذه الأوصاف في أحد لم يقبل خبره ولا شهادته.
وأما الخمسة التي يفترقان فيها: فالحرية، والذكورة، والعدد، ومراعاة الأهلية، والعدالة. انتهى كلامه نقلا عن قرة عين المحتاج ج١ص٤١٢.
قال جامعه عفا الله عنه:
فيما تقدم من كلام أئمة الحديث بيان للمنهج المتبع عند أهل السنة والحديث، في مسألة تلقي العلم وعمن يؤخذ، ومن يروى حديثه ويعتد به، ومن يرد خبره ولا يؤبه به، ومن تقبل شهادته ومن ترد، وبهذه القواعد المتينة المستقاة من نصوص الكتاب والسنة، تعاملوا رحمهم الله مع كل راو وكل مروي، فصانهم الله بتوفيقهم لفهم شريعته وصان بهم بعد توفيقهم شريعته، فله الحمد كله على نعمه التي لا تعد ولا تحصى، وجزى علماء الحديث عنا خير الجزاء وأجزله وأوفاه.
وبعد هذه النقول اليسيرة الحاوية للمسائل العظيمة والفوائد الكثيرة، التي من أعظمها شدة عناية السلف بمسألة الأخذ والتحمل، كما تقدم.
حصل لك بإذن الله علم بأنهم لم يقبلوا كثيرا من أنواع الحديث وجعلوها في حيز المردود، كالمرسل والمنقطع والمعضل والمعلق والمبهم لأجل الجهالة بالساقط من رجال الإسناد كما صرح به الحافظ بن حجر رحمه الله وغيره، إلا أن يحصل عندهم من غير هذه الطريق ما يفيد العلم بما سقط أو أبهم. وقد سبق ذكره والحمد لله.
فإذا علمت منهج السلف الماضين، وتبينت طريقتهم، وتبصرت سبيلهم، فاقذف بما علمك الله من يقين على ما وقع فيه كثير من الناس اليوم من مخالفة لسبيل الأئمة المهديين ودع عنك تساهل الكثير منهم في باب التلقي والأخذ عن المجاهيل.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
المجهول عند أصحاب الحديث: هو كل من لم يشتهر بطلب العلم في نفسه، ولا عرفه العلماء به، ومن لم يعرف حديثه إلا من جهة راو واحد مثل: عمرو ذي مر، وجبار الطائي، ....الخ انتهى من الكفاية ج١ص ٢٤٤-٢٤٥.
قال الحافظ بن حجر رحمه الله تعالى:
فإن سمي الراوي وانفرد راو واحد بالرواية عنه، فهو مجهول العين كالمبهم، إلا أن يوثقه غير من ينفرد به عنه على الأصح، وكذا من ينفرد عنه إذا كان متأهلا لذلك.
أو إن روى عنه اثنان فصاعدا ولم يوثق، فهو مجهول الحال، وهو المستور، وقد قبل روايته جماعة بغير قيد، وردها الجمهور. انتهى من شرح نزهة النظر للشيخ بن عثيمين رحمه الله تعالى ص ٣١٠-٣١١.
قال جامعه عفا الله عنه:
والمجاهيل المذكورون في هذه الكتابة ليسوا على تعريف أهل الحديث، اللهم إلا من يأتي ذكره في الاستثناء وهم من عدل على الإبهام، ولكن المجاهيل هنا على أصل وضع أهل اللغة.
قال ابن فارس رحمه الله تعالى:
( جَهِلَ ) الْجِيمُ وَالْهَاءُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ : أَحَدُهُمَا خِلَافُ الْعِلْمِ ، وَالْآخَرُ الْخِفَّةُ وَخِلَافُ الطُّمَأْنِينَةِ . معجم مقاييس اللغة ج١ ص٤٩٠.
فمجاهيل الشبكة العنكبوتية كثير منهم جمع بين الأمرين جهل هو عكس العلم، وجهل هو عكس الحلم.
جهلت أعيانهم وأحوالهم وبلدانهم، بل لا يعرف كثير منهم أمن الإنس هم أم من الجان، أذكور هم أم من النسوان، أمسلمون أم من غيرهم من بقية النحل والأديان، زد على ذلك طيش ومجاوزة حد وطغيان. إلا من رحم ربك وقليل ما هم.
ولعل أحسن هؤلاء المجاهيل حالا من قال بعض المشايخ أعرف صاحب الحساب، فارتقى من كونه مجهولا لدى الجميع، إلى معروف عند من زكاه، فيكون والحال هذه كما قال الحافظ بن حجر وقد تقدم: تعديل على الإبهام، ولم يقبله الجمهور.
قال الشيخ وصي الله عباس حفظه الله تعالى معلقا على كلام الحافظ:
لم يقبلوه من الشافعي فكيف بغيره! انتهى من تعليق الشيخ على النزهة لابن حجر صوتيات على الشبكة.
ولا ينبغي لعاقل يرى ما آل إليه حال الدعوة اليوم من تبوء كثير من هذه القنوات وأصحاب الأسماء المستعارة منزلة النقاد من أهل العلم وصاروا هم المرجعية، لكثير ممن ينتسب إلى السلفية، تروى أخبارهم وتقبل شهاداتهم، بل يقبل جرحهم إذا تكلموا فيمن استفاضت عدالته واشتهرت في الناس ديانته، حتى استغنى كثير من الناس بهم عن أهل العلم والفضل، في شتى أبواب العلم. والواقع أكبر شاهد.
وهذا سبب والله من أكبر أسباب هذا التشرذم الحاصل في الساحة الدعوية اليوم. والله المستعان
قلت: لا ينبغي لعاقل أن يسكت عن هذا المنكر فضلا أن يتحجج بالمرجوح ويفتح بابا من أبواب الشر في وجه البقية الباقية من أهل السنة.
وليكن همنا جميعا الرجوع بالناس للمنبع الأصيل، والمورد العذب الزلال، بتعريف الناس بالشرع المطهر الحنيف، ودلالة الناس على حملته وهم العلماء الربانيون، وبيان منزلتهم للناس ووجوب الرجوع إليهم في أخذ العلم، والفتيا، والتوجيه، والجرح والتعديل، قال الله تعالى:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ ۗ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) ٨٣ النساء
وإن تعجب فعجب ما يصدر عمن ينسب للعلم من تزكيات غريبة، تضمنت تقريرات عجيبة، لا تمت لطريقة أهل الحديث والسنة بصلة، وقد كان السلفيون ولا زالوا يستهجنون ويستقبحون قول الدكتور فركوس في تزكيته لمحب العلم قبل أن يعلم – أي في حال الجهالة بعينه وحاله -: من يطعن في محب العلم فهو يطعن في.
حتى بلينا بأشد منها:
من طعن في القناة الفلانية مشكوك في سلفيته.
فعلى هذا التقرير من حذر من مجهول عند عامة أهل العلم، وتحذيره لا يقتضي جرحا لذلك المجهول كما هو مقرر عند من له أدنى دراية بالعلم.
فالمحذر السني مشكوك في سلفيته!.
هكذا في إعراض صارخ عن أصول وقواعد هذه الدعوة الطيبة، وفي معزل عن مراعاة المصالح والمفاسد، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
نعم، قد يثني المرء على مقال لصاحب اسم مستعار ألجأته الحاجة لستر هويته، كمن كان في بلاد لا يأمن فيها الكاتب على نفسه، ويشهد لكلامه بالصحة وموافقة الحق، كما جاء عن بعض علمائنا، وهذا لا غضاضة فيه. والحمد لله
أما أن يلقى الأمر على عواهنه ويجعل الأصل الأخذ عن المجاهيل، كما هو الحال اليوم فهذا أمر محدث ولا ينضبط، فمن أين لك يا مزكي القنوات المجهولة والأسماء المستعارة أن تمنع الناس من الأخذ عن أضرابهم؟!.
وهل من النصيحة للمسلمين أن ينصح بالمجاهيل من علم أن الشياطين حدثت الناس في زمن الأئمة مشافهة كما نقل ذلك مسلم وابن عدي وغيرهما، فما ظنك بزمن كهذا وما ظنك إن كان ذلك من وراء حجاب؟!.
ونحن بحمد الله في زمن علماء أهل السنة فيه كثر كثرهم الله والتواصل معهم ممكن يسير، والحمد لله فما الذي يلجئ جل الناس للتخفي والاستتار؟!.
ولا حرج أيضا أن يمدح المرء من يراه عدلا وهو عند الناس مجهول ويذكره بما فيه، ويعرف الناس به ليستفيدوا منه، ولكن ليس له أن يمتحن الناس به كأنه إمام من أئمة العلم.
قالَ أبو يَعْلَـى الموصلي :
سمعتُ أحمدَ بن إبراهيـم الدَّوْرقـيَّ يقولُ: مَن سمعتـموه يذكر أحمد بن حنبل بسوءٍ، فـاتهموه علـى الإسلام. تهذيب الكمال : ج١ص ٢٢٦ نقلا عن الشبكة
هذا وليعلم الدعاة إلى الله أن الناس اليوم أحوج ما يكونون لمعرفة مداخل الشر، وإعانتهم على سد كل منافذه، ولعل أكبر منافذ الباطل في هذه الأزمان هذه الوسائل التي أدخلت على المسلمين أنواع الشرور ولم يسلم منها إلا من سلمه الله تعالى. والله المستعان
فلنحرص على تعريف الناس بأهل العلم الربانيين، والسعي لحصر التوجيه فيهم، وتعليم الناس معرفة قدرهم ووجوب سؤالهم والرجوع إليهم، والناصح الذي يدل الناس على خير ما يعلمه لهم، ويحذرهم من شر ما يعلمه لهم وأسوته في ذلك رسل الله وأنبياؤه عليهم الصلاة والسلام، وقد تقدم قول الإمام محمد بن سيرين بنقل الإمام مسلم بن الحجاج عليهما رحمة الله وهما من أنصح الناس فيما نحسبهما والله حسيبهما: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
ثم إني موصيك يا طالب العلم بإخلاص النية في طلبه وإجهاد النفس على العمل بموجبه فإن العلم شجرة والعمل ثمرة ، وليس يعد عالماً من لم يكن بعلمه عاملاً ، وقيل : العلم والد والعمل مولود ، والعلم مع العمل والرواية مع الدراية، فلا تأنس بالعمل ما دمت مستوحشاً من العلم ولا تأنس بالعلم ما كنت مقصراً في العمل ، ولكن اجمع بينهما وإن قل نصيبك منهما ، وما شيء أضعف من عالم ترك الناس علمه لفساد طريقته وجاهل أخذ الناس بجهله لنظرهم إلى عبادته ، والقليل من هذا مع القليل من هذا أنجى في العاقبة إذا تفضل الله بالرحمة وتمم على عبده النعمة ؛ فأما المدافعة والإهمال وحب الهوينى والاسترسال وإيثار الخفض والدعة والميل مع الراحة والسعة فإن خواتم هذه الخصال ذميمة وعقباها كريهة وخيمة ؛ والعلم يراد للعمل كما العمل يراد للنجاة ؛ فإذا كان العمل قاصراً عن العلم [كان] كلاً على العالم ؛ ونعوذ بالله من علم عاد كلاً وأورث ذلاً وصار في رقبة صاحبه غلاً .
قال بعض الحكماء : العلم خادم العمل والعمل غاية العلم فلولا العمل لم يطلب علم ولولا العلم لم يطلب عمل ولأن أدع الحق جهلاً به أحب إلي من أن أدعه زهدا فيه .
وقال سهل بن مزاحم : الأمر أضيق على العالم من عقد التسعين مع أن الجاهل لا يعذر بجهالته لكن العالم أشد عذاباً إذا ترك ما علم فلم يعمل به .
وهل أدرك من أدرك من السلف الماضين الدرجات العلى إلا بإخلاص المعتقد والعمل الصالح والزهد الغالب في كل ما راق من الدنيا؟ وهل وصل الحكماء إلى السعادة العظمى إلا بالتشمير في السعي والرضى بالميسور وبذل ما فضل عن الحاجة للسائل والمحروم؟ وهل جامع كتب العلم إلا كجامع الفضة والذهب؟ وهل المنهوم بها إلا كالحريص الجشع عليهما؟ وهل المغرم بحبها إلا ككانزها؟ وكما لا تنفع الأموال إلا بإنفاقها كذلك لا تنفع العلوم إلا لمن عمل بها وراعى واجباتها فلينظر امرؤ لنفسه وليغتنم وقته فإن الثواء قليل والرحيل قريب والطريق مخوف والاغترار غالب والخطر عظيم والناقد بصير والله تعالى بالمرصاد وإليه المرجع والمعاد (فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره) انتهى من مقدمة اقتضاء العلم العمل.
هذا تذكير أسأل الله تعالى أن ينفعني به والمؤمنين، وكل ما خالف الحق فباطل مآله إلى الزوال والاضمحلال.
قال الله تعالى:
(أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ) ١٧ الرعد
والله تعالى أعلم وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وكتب: العبد الفقير إلى عفو ربه الغني أبو عبد الرحمن عمر مكي التيهرتي كان الله له يوم الأربعاء ٣جمادى الآخرة ١٤٤٦ من هجرة النبي صلى الله عليه وسلم الموافق ٤-١٢-٢٠٢٤ تيهرت الجزائر حرسها الله وسائر بلاد المسلمين.