بسم الله الرحمن الرحيم
كشف المستور لتحقيق الحجّ المبرور
كشف المستور لتحقيق الحجّ المبرور
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لّا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدا عبده ورسوله.
أمّا بعد:
فكلّنا يعلم أن فضائل الحج المبرور عظيمة وثمراته جليلة، لهذا ينبغي لمن أراد الحج أن يتعلم كيف يكون حجه مبرورا، وما هي الشروط التي يجب توفرها لأن يكون الحج مبرورًا، وما الذي يخدش هذا الحج ولا يجعله مبرورًا.
كثير من الناس عندهم تخلل في التوحيد وخلل في الإخلاص وعندهم شرك بشقيه الأكبر والأصغر وعندهم بدع وفسوق وظلم وتحايل مذموم للحج وإصرار على الصغائر وكل ما سبق وغيرها من الذنوب والمعاصي يخل بالظفر بالحج المبرور الذي جزاؤه مغفرة السيئات وحط الأوزار.
ومن أخطر الأشياء في عصرنا الحاضر انتشار كمرات الجولات واستخدامها في أعمال الحج، تجد بعض الحجاج -هداهم الله- يصوّرون أنفسهم في مشاعر الحجّ في عرفة وفي منى وعند رمي الجمار وعند الطّواف بالكعبة وعند السّعي بين الصّفا والمروة، وبعض هؤلاء الحجاج ينشر مباشرة على صفحات برامج التّواصل، وهذا أمر خطير يجرّ للرّياء ويخلّ بالإخلاص.
قال العلّامة ابن باز رحمه الله في ((التحقيق والإيضاح لكثير من مسائل الحج والعمرة والزيارة على ضوء الكتاب)) (ص: 80-84): "ويجب على الحجّاج وغيرهم اجتناب محارم الله تعالى. والحذر من ارتكابها كالزنا واللواط والسرقة وأكل الربا وأكل مال اليتيم والغش في المعاملات، والخيانة في الأمانات وشرب المسكرات والدخان، وإسبال الثياب والكبر والحسد والرياء والغيبة والنميمة والسخرية بالمسلمين واستعمال آلات الملاهي، كالاسطوانات والعود والرباب والمزامير وأشباهها واستماع الأغاني وآلات الطرب من الراديو وغيره، واللعب بالنرد والشطرنج والمعاملة بالميسر وهو القمار وتصوير ذات الأرواح من الآدميين وغيرهم، والرضا بذلك، فإن هذه كلها من المنكرات التي حرمها الله على عباده في كل زمان ومكان، فيجب أن يحذرها الحجاج وسكان بيت الله الحرام أكثر من غيرهم لأن المعاصي في هذا البلد الأمين إثمها أشد وعقوبتها أعظم. وقد قال الله تعالى {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الحج: 25] فإذا كان الله قد توعد من أراد أن يلحد في الحرم بظلم فكيف تكون عقوبة من فعل؟ لا شك أنها أعظم وأشد فيجب الحذر من ذلك ومن سائر المعاصي.
ولا يحصل للحجاج بر الحج وغفران الذنوب إلا بالحذر من هذه المعاصي وغيرها مما حرم الله عليهم كما في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه)).
وأشد من هذه المنكرات وأعظم منها دعاء الأموات والاستغاثة بهم والنذر لهم والذبح لهم رجاء أن يشفعوا لداعيهم عند الله أو يشفوا مريضه أو يردوا غائبه ونحو ذلك. وهذا من الشرك الأكبر الذي حرمه الله وهو دين مشركي الجاهلية وقد بعث الله الرسل وأنزل الكتب لإنكاره والنهي عنه.
فيجب على كل فرد من الحجاج وغيرهم أن يحذره وأن يتوب إلى الله مما سلف من ذلك إن كان قد سلف منه شيء، وأن يستأنف حجة جديدة بعد التوبة منه، لأن الشرك الأكبر يحبط الأعمال كلها كما قال الله تعالى {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الأنعام: 88].
ومن أنواع الشرك الأصغر الحلف بغير الله، كالحلف بالنبي والكعبة والأمانة ونحو ذلك.
ومن ذلك الرياء والسمعة وقول ما شاء الله وشئت ولولا الله وأنت، وهذا من الله ومنك وأشباه ذلك.
فيجب الحذر من هذه المنكرات الشركية والتواصي بتركها لما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال. ((من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)) أخرجه أحمد وأبو داود والترمذي بإسناد صحيح. وفي الصحيح عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من كان حالفا فليحلف بالله أو ليصمت)) وقال أيضا: ((من حلف بالأمانة فليس منا)) أخرجه أبو داود وقال صلى الله عليه وسلم أيضا: ((أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر فسئل عنه فقال الرياء)) وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تقولوا ما شاء الله وشاء فلان ولكن قولوا ما شاء الله ثم شاء فلان)) وأخرج النسائي عن ابن عباس ((أن رجلا قال يا رسول الله ما شاء الله وشئت فقال أجعلتني لله ندا بل ما شاء الله وحده)) وهذه الأحاديث تدل على حماية النبي صلى الله عليه وسلم جناب التوحيد، وتحذيره لأمته من الشرك الأكبر والأصغر، وحرصه على سلامة إيمانهم ونجاتهم من عذاب الله وأسباب غضبه فجزاه الله عن ذلك أفضل الجزاء فقد أبلغ وأنذر ونصح لله ولعباده صلى الله عليه وسلم صلاة وسلاما دائمين إلى يوم الدين" اهـ.
ومن الشروط لتحقيق الحج المبرور التوبة من الذنوب والمعاصي وترك السيئات – خاصة حلق اللحى للرجال والتبرج للنساء - عند القيام بأعمال الحج.
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((من حج لله فلم يرفث، ولم يفسق، رجع كيوم ولدته أمه)).
متفق عليه.
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح رياض الصالحين)) (5/323): ((ومن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه أي رجع من الذنوب نقيا لا ذنوب عليه كيوم ولدته أمه)) اهـ.
ومن هنا يتبين أن الذنوب والمعاصي لها أثر كبير في أن لا يظفر الحاج بالحج المبرور، وترك الذنوب شرط أساسي من شروط الحج المبرور.
وشروط تحقيق الحج المبرور هي:
قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((شرح رياض الصالحين)) (5/322-321): ((فالحج المبرور هو الذي اجتمعت فيه أمور: الأمر الثاني: أن يكون خالصا لله بأن لا يحمل الإنسان على الحج إلا ابتغاء رضوان الله والتقرب إليه سبحانه وتعالى لا يريد رياء ولا سمعة ولا أن يقول الناس فلان حج وإنما يريد وجه الله.
الثالث: أن يكون الحج على صفة حج النبي صلى الله عليه وسلم يعني أن يتبع الإنسان فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ما استطاع.
الرابع: أن يكون من مال مباح ليس حراما بأن لا يكون ربا ولا من غش ولا من ميسر ولا غير ذلك من أنواع المفاسد المحرمة بل يكون من مال حلال ولهذا قال بعضهم:
إذا حججت بمال أصله سحت *** فما حججت ولكن حجت العير
يعني الإبل حجت أما أنت فما حججت لماذا لأن مالك حراما.
الخامس: أن يجتنب فيه الرفث والفسوق والجدال لقول الله تعالى: فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج فيجتنب الرفث وهو الجماع ودواعيه ويجتنب الفسوق سواء كان في القول المحرم الغيبة النميمة والكذب أو الفعل كالنظر إلى النساء وما أشبه ذلك لابد أن يكون قد تجنب فيه الرفث والفسوق والجدال: المجادلة والمنازعة بين الناس في الحج هذه تنقص الحج كثيرا.
اللهم إلا جدالا يراد به إثبات الحق وإبطال الباطل فهذا واجب فلو جاء إنسان مبتدع يجادل والإنسان محرم فإنه لا يتركه بل يجادله ويبين الحق لأن الله أمر بذلك {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} لكن الجدال من غير داع يتشاحنون أيهم يتقدم أو عند رمي الجمرات أو عند المطار أو ما أشبه ذلك هذا كله مما ينقص الحج فلابد من ترك الجدال فالحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة.
ومن حج ولم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه أي رجع من الذنوب نقيا لا ذنوب عليه كيوم ولدته أمه)) اهـ.
فلتحقيق الحج المبرور يشترط الإخلاص والمتابعة للرسول عليه الصلاة والسلام وترك الذنوب والمعاصي وخاصة الرفث والفسوق والجدال المذموم والحج بالمال الحرام والتحايل للحج والحج بلا تصريح وغير ذلك.
قال العلامة الألباني رحمه الله في ((مناسك الحج والعمرة)) (ص: 7): ((على الحاج أن يتقي ربه ويحرص طاقته أن لا يقع فيما حرم الله عليه لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَلا فُسُوقَ وَلا جِدَالَ فِي الْحَجِّ} وقوله صلى الله عليه وسلم:
"من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، فإنه إن فعل ذلك كان حجه مبرورا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
"الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة". فلا بد من التحذير مما ابتلي به بعضهم لجهلهم أو ضلالهم:
أ- الإشراك بالله تعالى فقد رأينا كثيرا منهم يقعون في الشرك كالاستغاثة بغير الله والاستعانة بالأموات من الأنبياء أو الصالحين ودعائهم من دون الله والحلف بهم تعظيما لهم فيبطلون بذلك حجهم، قال تعالى: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} .
ب- تزين بعضهم بحلق اللحية فإنه فسق فيه مخالفات أربع مذكورة في "الأصل".
ج- تختم الرجال بالذهب فإنه حرام لا سيما ما كان منه من النوع الذي يسمى اليوم بـ"خاتم الخطبة"، فإن فيه أيضا تشبها بالنصارى)) اهـ.
وقال العلامة ابن باز رحمه الله في ((فتاوى نور على الدرب)) (18/ 123): ((والحج المبرور هو الذي ليس فيه رفث - وهو الجماع - ودواعيه، ولا فسوق - يعني المعاصي - فإذا كان حين حجّ يأتي بعض المعاصي فحجه ناقص، ولكنه يبرئ ذمته من الفريضة، لكن يكون حجه ناقصًا، لا يكون مبرورًا، يكون ناقصًا، مثل: إذا كان مثلاً يأكل الربا، أو عنده عقوق لوالديه، أو أحدهما، أو قاطعًا للرحم، أو يغتاب الناس، يتعاطى الغيبة، أو ما أشبه ذلك، أو خان في المعاملة، أو غش في المعاملة، كل هذه معاصٍ، يكون حجه بسببها ناقصًا، ودينه ناقصًا، وإيمانه ناقصًا، ولكن لا يكفر بذلك ولا يبطل حجه بذلك ما دام على الإسلام والتوحيد والإيمان بالله ورسوله، هذا الذي عليه أهل الحق من الصحابة ومن بعدهم، وهم أهل السنة والجماعة، وهم الفرقة الناجية، وهم الطائفة المنصورة الذين استقاموا على دين الله، ووحدوا الله، وأخلصوا له العمل، هؤلاء هم أهل الإسلام، وهم أهل الإيمان، وهم أهل التقوى والبر، فإذا وقع من أحدهم معصية صار نقصًا في الإيمان، وضعفًا في الإيمان)) اهـ.
وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله في ((مجموع فتاواه ورسائله)) (21/ 21-22): ((فيتجنب ما حرم الله عليه تحريما عاما في الحج وغيره من الفسوق والعصيان، والأقوال المحرمة، والأفعال المحرمة والاستماع إلى آلات اللهو ونحو ذلك، ويجتنب ما حرم الله عليه تحريما خاصا في الحج: كالرفث وهو إتيان النساء، وحلق الرأس. واجتناب ما نهى النبي - صلى الله عليه وسلم - عن لبسه في الإحرام. وبعبارة أعم: يجتنب جميع محظورات الإحرام، وينبغي أيضا للحاج أن يكون لينا سهلا كريما في ماله وعمله، وأن يحسن إلى إخوانه بقدر ما يستطيع، ويجب عليه أن يجتنب إيذاء المسلمين، سواء كان ذلك في المشاعر، أو في الأسواق، فيجتنب الإيذاء عند الازدحام في المطاف، وعند الازدحام في المسعى، وعند الازدحام في الجمرات، وغير ذلك. فهذه الأمور التي ينبغي على الحاج، أو يجب للحاج أن يقوم بها، ومن أقرب ما يحقق ذلك: أن يصحب الإنسان رجلا من أهل العلم حتى يذكره بدينه، وإذا لم يتيسر ذلك فليقرأ من كتب أهل العلم ما كان موثوقا قبل أن يذهب إلى الحج، حتى يعبد الله على بصيرة)) اهـ.
ومن تجنب المحرمات وفعل الواجبات وكان حجه مخلصًا في لله ومقتديًا برسول الله عليه الصلاة والسلام كان حجه مبرورًا، وجزاؤه جزاء مشكورًا.
عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((الحج المبرور ليس له جزاء إلا الجنة)).
أخرجه أحمد في ((المسند)) والطبراني في ((الأوسط)) وفي ((الصغير)) والبيهقي في ((الشعب))؛ وصححه الألباني.
هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
كتبه
عزّالدّين بن سالم بن الصّادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأثنين 26 ذي القعدة سنة 1445 هـ
الموافق لـ: 3 يونيو سنة 2024 ف
عزّالدّين بن سالم بن الصّادق أبوزخار
طرابلس الغرب: يوم الأثنين 26 ذي القعدة سنة 1445 هـ
الموافق لـ: 3 يونيو سنة 2024 ف
تعليق