إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الشعاع بإظهار من طلب العلم وهو جوعان

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الشعاع بإظهار من طلب العلم وهو جوعان

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الشّعاع بإظهار من طلب العلم وهو جوعان
    ـــــــــــــــــ


    إنّ الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لّا إله إلّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله.
    أمّا بعد:
    فإنّ طريق العلم محفوف بالمشاقّ، فطالب العلم يحتاج لقطع المسافات الطّويلة للوصول لحلق العلم ولقاء المشايخ وربمّا الرّحلة في طلب العلم مع بذل المال لتحقيق هذا المطلب النّبيل، وطول السّهر، ومنهم من يقدّم لذّة العلم على لذّة النساء، منهم من يجوع اليوم واليومين وتخور قواه ولا يمد يديه، ومنهم من يشتهي الأكلة فلا يتمكّن منها لانشغاله بالعلم، وكلّ هذا لمعرفتهم قيم العلم ونفاسته.
    قال الحافظ ابن الجوزي رحمه الله في صيد الخاطر: "كل نفيس يكثر التعب في تحصيله. تأمّلت عجبًا، وهو أنّ كلّ شيء نفيس خطير يطول طريقه، ويكثر التّعب في تحصيله. فإنّ العلم لمّا كان أشرف الأشياء، لم يحصل إلّا بالتّعب والسّهر والتّكرار، وهجر اللّذّات والرّاحة، حتّى قال بعض الفقهاء: بقيت سنين أشتهي الهريسة لا أقدر؛ لأنّ وقت بيعها وقت سماع الدّرس!" اهـ.
    قلت للفقر أين أنت مقيم *** قال لي في محابر العلماء

    وهذه نماذج مشرفة من السّلف الكرام ممّن أكلهم الجوع وهم صابرون على طلب العلم.

    جاء أنّ أبا هريرة رضي الله عنه، كان يقول: ألله الذي لا إله إلّا هو، إن كنت لأعتمد بكبدي على الأرض من الجوع، وإن كنت لأشدّ الحجر على بطني من الجوع، ولقد قعدت يوما على طريقهم الذي يخرجون منه، فمرّ أبو بكر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ ولم يفعل، ثمّ مرّ بي عمر، فسألته عن آية من كتاب الله، ما سألته إلّا ليشبعني، فمرّ فلم يفعل، ثمّ مرّ بي أبو القاسم صلى الله عليه وسلم، فتبسّم حين رآني، وعرف ما في نفسي وما في وجهي، ثمّ قال: "يا أبا هرّ" قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: "الحقّ" ومضى فتبعته، فدخل، فاستأذن، فأذن لي، فدخل، فوجد لبنا في قدح، فقال: "من أين هذا اللّبن؟" قالوا: أهداه لك فلان أو فلانة، قال: "أبا هر" قلت: لبّيك يا رسول الله، قال: "الحقّ إلى أهل الصّفة فادعهم لي"، قال: وأهل الصّفة أضياف الإسلام، لا يأوون إلى أهل ولا مال ولا على أحد، إذا أتته صدقة بعث بها إليهم ولم يتناول منها شيئا، وإذا أتته هديّة أرسل إليهم وأصاب منها وأشركهم فيها، فساءني ذلك، فقلت: وما هذا اللّبن في أهل الصّفة، كنت أحقّ أنا أن أصيب من هذا اللّبن شربة أتقوّى بها، فإذا جاء أمرني، فكنت أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلغني من هذا اللّبن، ولم يكن من طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم بد، فأتيتهم فدعوتهم فأقبلوا، فاستأذنوا فأذن لهم، وأخذوا مجالسهم من البيت، قال: "يا أبا هر" قلت: لبّيك يا رسول الله، قال "خذ؛ فأعطهم" قال: فأخذت القدح، فجعلت أعطيه الرّجل فيشرب حتىّ يروى، ثمّ يرد عليّ القدح، فأعطيه الرّجل فيشرب حتّى يروى، ثمّ يردّ عليّ القدح فيشرب حتىّ يروى، ثمّ يرد عليّ القدح، حتىّ انتهيت إلى النّبيّ صلى الله عليه وسلم وقد رَوي القوم كلّهم، فأخذ القدح فوضعه على يده، فنظر إلي فتبسّم، فقال: "أبا هرّ" قلت: لبيك يا رسول الله، قال: "بقيت أنا وأنت" قلت: صدقت يا رسول الله، قال: "اقعد فاشرب" فقعدت فشربت، فقال: "اشرب" فشربت، فما زال يقول: "اشرب" حتى قلت: لا والذي بعثك بالحقّ، ما أجد له مسلكا، قال: "فأرني" فأعطيته القدح، فحمد الله وسمّى وشرب الفضلة. أخرجه البخاري.
    فكان أبو هريرة رضي الله عنه يطلب العلم ويلازم النّبيّ عليه الصلاة والسلام على ملىء بطنه.
    عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: "كنت ألزم النّبيّ صلى الله عليه وسلم لشبع بطني، حين لا آكل الخمير ولا ألبس الحرير، ولا يخدمني فلان ولا فلانة، وألصق بطني بالحصباء، وأستقرئ الرّجل الآية، وهي معي، كي ينقلب بي فيطعمني، وخير النّاس للمساكين جعفر بن أبي طالب، ينقلب بنا فيطعمنا ما كان في بيته، حتّى إن كان ليخرج إلينا العكّة ليس فيها شيء، فنشتقّها فنلعق ما فيها". أخرجه البخاري.
    وعَنْ إِبْرَاهِيم بْن يَعْقُوبَ قَالَ: كان أَحْمَد بن حنبل يصلّي بعبد الرّزاق فسها يوما فِي صلاته فسأله عبد الرّزّاق فأخبره أنّه لم يطعم شيئًا منذ ثلاث. أخرجه أبو يعلى في طبقات الحنابلة (1/ 99).
    وعن أبي شهاب الحنّاط، قال: بعثت أخت سفيان الثّوريّ معي بجراب إلى سفيان وهو بمكّة فيه كعك وخشكنانج فقدمت مكّة فسألت عنه فقيل لي إنّه ربمّا قعد دبر الكعبة ممّا يلي باب الحنّاطين، قال: فأتيته هناك وكان لي صديقا، فوجدته مستلقيا فسلّمت عليه فلم يسألني تلك المساءلة ولم يسلّم عليّ كما كنت أعرف منه، فقلت له: إنّ أختك بعثت إليك معي بجراب فيه كعك وخشكنانج.
    قال: فعجل به علي، واستوى جالسا.
    فقلت: يا أبا عبد الله أتيتك وأنا صديقك فسلّمت عليك فلم تردّ عليّ ذاك الرّدّ، فلمّا أخبرتك أنّي أتيتك بجراب كعك لا يساوي شيئا جلست وكلّمتني.
    فقال: يا أبا شهاب لا تلمني فإنّ هذه لي ثلاثة أيّام لم أذق فيها ذواقا، فعذرته. أخرجه ابن سعد في الطبقات الكبرى (6/ 372-373).
    وعن أبي حاتم قال: بقيت بالبصرة في سنة أربع عشرة ومائتين ثمانية أشهر، وكان في نفسي أن أقيم سنة، فانقطع نفقتي فجعلت أبيع ثياب بدني شيئا بعد شيء حتّى بقيت بلا نفقة ومضيت أطوف مع صديق لي إلى المشيخة وأسمع منهم إلى المساء فانصرف رفيقي ورجعت إلى بيت خال فجعلت اشرب الماء الجوع ثمّ أصبحت من الغد وغدا على رفيقي فجعلت أطوف معه في سماع الحديث على جوع شديد فانصرف عنيّ وانصرفت جائعا فلمّا كان من الغد غدا علي فقال مُرّ بنا إلى المشايخ قلت أنا ضعيف لا يمكنني قال ما ضعفك؟ قلت لا أكتمك أمري قد مضى يومان ما طعمت فيهما شيئا، فقال لي قد بقي معي دينار فأنا أواسيك بنصفه ونجعل النّصف الآخر في الكراء فخرجنا من البصرة وقبضت منه النّصف دينار. أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/ 363-364).
    وعن أبي حاتم قال: لمّا خرجنا من المدينة من عند داود الجعفري صرنا إلى الجار وركبنا البحر وكنّا ثلاثة أنفس؛ أبو زهير المرورزذي شيخ، وآخر نيسابوري فركبنا البحر وكانت الرّيح في وجوهنا فبقينا في البحر ثلاثة أشهر وضاقت صدورنا وفني ما كان معنا من الزّاد وبقيت بقيّة فخرجنا إلى البرّ فجعلنا نمشي أيّاما على البرّ حتّى فني ما كان معنا من الزّاد والماء فمشينا يوما وليلة لم يأكل أحد منّا شيئا ولا شربنا واليوم الثّاني كمثل واليوم الثّالث كلّ يوم نمشي إلى اللّيل فإذا جاء المساء صلّينا وألقينا بأنفسنا حيث كنّا وقد ضعفت أبداننا من الجوع والعطش والعياء، فلمّا أصبحنا اليوم الثّالث جعلنا نمشي على قدر طاقتنا فسقط الشّيخ مغشيّا عليه فجئنا نحرّكه وهو لا يعقل فتركناه ومشينا أنا وصاحبي النّيسابوري قدر فرسخ أو فرسخين فضعفت وسقطت مغشيّا علي ومضى صاحبي وتركني فلم يزل هو يمشي إذ بصر من بعيد قوما قد قرّبوا سفينتهم من البرّ ونزلوا على بئر موسى صلى الله عليه وسلم فلمّا عاينهم لوح بثوبه إليهم فجاءوه معهم الماء في إداوة فسقوه وأخذوا بيده فقال لهم الحقوا رفيقين لي قد القوا بأنفسهم مغشيّا عليهم فما شعرت إلّا برجل يصبّ الماء على وجهي ففتحت عيني فقلت اسقني فصبّ من الماء في ركوة أو مشربة شيئا يسيرا فشربت ورجعت إلى نفسي ولم يروني ذلك القدر فقلت اسقني فسقاني شيئا يسيرا وأخذ بيدي فقلت: ورائي شيخ ملقى، قال قد ذهب إلى ذاك جماعة، فأخذ بيدي وأنا أمشي أجرّ رجلي ويسقيني شيئا بعد شيء حتّى إذا بلغت إلى عند سفينتهم وأتوا برفيقي الثّالث الشّيخ وأحسنوا إلينا أهل السّفينة فبقينا أيّاما حتّى رجعت إلينا أنفسنا، ثمّ كتبوا لنا كتابا إلى مدينة يقال لها راية إلى واليهم وزوّدونا من الكعك والسّويق والماء فلم نزل نمشي حتّى نفذ ما كان معنا من الماء والسّويق والكعك فجعلنا نمشي جياعا عطاشا على شطّ البحر حتّى وقعنا إلى سلحفاة قد رمى به البحر مثل التّرس فعمدنا إلى حجر كبير فضربنا على ظهر السّلحفاة فانفلق ظهره وإذا فيها مثل صفرة البيض فأخذنا من بعض الأصداف الملقى على شطّ البحر فجعلنا نغترف من ذلك الاصفر فنتحساه حتىّ سكن عنّا الجوع والعطش، ثمّ مررنا وتحمّلنا حتّى دخلنا مدينة الرّاية وأوصلنا الكتاب إلى عاملهم فأنزلنا في داره وأحسن إلينا وكان يقدّم إلينا كلّ يوم القرع ويقول لخادمه هاتي لهم باليقطين المبارك فيقدّم إلينا من ذاك اليقطين مع الخبز أيّاما فقال واحد مناّ بالفارسية: لا تدعو باللّحم المشؤوم؟ وجعل يسمع الرّجل صاحب الدّار، فقال: أنا أحسن بالفارسيّة فإنّ جدتي كانت هرويّة فأتانا بعد ذلك باللّحم، ثمّ خرجنا من هناك وزودنا إلى أن بلغنا مصر. أخرجه ابن أبي حاتم في الجرح والتعديل (1/ 364-366).
    وقال أبو العباس البكري: جمعت الرحلة في طلب العلم بين محمد بن جرير الطبري ومحمد بن إسحاق بن خزيمة ومحمد بن نصر المروزي ومحمد بن هارون الروياني، فنفدت نفقتهم وافتقروا واشتد عليهم الجوع، فاتفقوا على أن يقدموا واحداً منهم ليدعوا الله أن يفرج عنهم، وييسر لهم طعاماً، والبقية يؤمنون، فكل واحد منهم اعتذر وقال: لست لذلك بأهل، احتقاراً منهم لأنفسهم، فاقترعوا فخرجت القرعة على محمد بن إسحاق بن خزيمة، فقال لهم: أمهلوني حتى أصلي ركعتين وبعدها أدعوا لكم، فتوضأ وشرع في الصلاة، فبينا هو في صلاته لم يفرغ منها إذ طرق الباب، ففتح أحدهم فإذا عبد مملوك لوالي مصر يقول: أيكم محمد بن نصر المروزي؟ قالوا: هذا، وأشاروا إليه، فأخرج صرة فيها خمسين ديناراً، وفعل نفس الشيء مع محمد بن جرير ومحمد بن هارون ومحمد بن خزيمة ثم قال: إن الأمير كان قائلاً بالأمس فرأى في المنام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول له أدرك المحمدين الأربعة؛ فإنهم جياع في مكان كذا وكذا، ثم قال هذا المملوك: وإن الأمير يقسم عليكم إذا نفذ هذا المال أن تبعثوا إليه ليرسل لكم بمال آخر. ذكره الذّهبي في تذكرة الحفاظ.
    وقال محمّد بن طاهر: لمّا رحلت لطلب العلم أقمت بتنّيس مدّة، ونفذت نفقتي هناك، ولم يبق معي إلّا درهم واحد، وكنت محتاجاً إلى خبز لأسدّ به جوعي، وإلى ورق لأكتب عليه الحديث، فإن صرفته للخبز فاتني ورق الكتابة، وإن صرفته للكتابة فاتني الخبز، فبقيت ثلاثة أيّام بلياليهنّ متردّداً لم أذق فيها طعاماً، فلمّا كان بكرة اليوم الرّابع، قلت لنفسي: لو كان معي ورق ما استطعت أن أكتب فيه، لما بي من الجوع والتّعب، فعزمت على أن أشتريَ به خبزاً، فذهبت إلى السّوق وجعلت الدّرهم في فمي، فبينا أنا أسير إلى السّوق إذ بلعت الدّرهم بدون شعور منّي، فلمّا شعرت بذلك جعلت أضحك كثيراً، فلقيني أحد أصدقائي فسألني: ما يضحكك؟ فأبيت أن أخبره، فألحّ عليّ فأخبرته الخبر، فأخذني إلى منزله وأطعمني؛ ثمّ دبر له مالاً من بيت المال أغناه الله به. ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ.
    وقال الوخشي: سمعت ورحلت وقاسيت المشاق والذّلّ ورجعت إلى وخش وما عرف أحد قدري ولا فهم ما حصّلته فقلت: أموت ولا ينتشر ذكري ولا يترحّم أحد عليّ، فسهّل الله ووفّق نظام الملك حتّى بنى هذه المدرسة وأجلسني فيها حتّى أحدّث، لقد كنت بعسقلان أسمع من ابن مصحّح وغيره فضاقت عليّ النّفقة وبقيت أيامًا بلا أكل فأخذت لأكتب فعجزت فذهبت إلى دكّان خبّاز وقعدت بقربه لأشمّ رائحة الخبز وأتقوّى بها، ثمّ فتح الله تعالى عليّ. ذكره الذهبي في تذكرة الحفاظ (3/ 242).
    وقال الحافظ بن النّجار: كتب إلى عبد الله بن أبي الحسن الجبالي، نقلته من خطّه قال: كان شيخنا عبد القادر الجيلي يقول: الخلق حجابك عن نفسك، ونفسك حجابك عن ربك. ما دمت ترى الخلق لا ترى نفسك، وما دمت ترى نفسك لا ترى ربّك. وقال: ما ثمّ إلّا خلق وخالق، فإن اخترت الخالق فقل كما قال: {فإنّهم عدوّ لي إلّا ربّ العالمين}[الشعراء: 77]، ثمّ قال: من ذاقه فقد عرفه، فاعترضه سائل، فقال: يا سيّدي، من غلبت عليه مرارة الصّفراء كيف يجد حلاوة الذّوق؟ قال: يتعمّد قيء الشّهوات من قلبه، وقال: طالبتني نفسي يوما بشهوة من السّوق، فكنت أدافعها، وأخرج من عرب إلى عرب، وأطلب الصّحارى. فبينا أنا أمشي إذ رأيت ورقة فأخذتها، فإذا فيها مكتوب: ما للأقوياء والشّهوات؟ إنمّا هي للضّعفاء من عبادي، ليتقوّوا بها على طاعتي. فخرجت تلك الشّهوة من قلبي.
    قال: وكنت أقتات بخرنوب الشّوك، وقمامة البقل، وورق الخسّ من جانب النّهر والشّطّ، وبلغت الضّائقة في غلاء نزل ببغداد إلى أن بقيت أيّاما لم آكل فيها طعاما، بل كنت أتتبّع المنبوذات أطعمها، فخرجت يوما من شدّة الجوع إلى الشّطّ لعلّي أجد ورق الخسّ أو البقل، أو غير ذلك فأتقوّت به. فما ذهبت إلى موضع إلّا وغيري قد سبقني إليه وإن وجدت أجد الفقراء يتزاحمون عليه فأتركه حبّا، فرجعت أمشي وسط البلد أدرك منبوذا إلّا وقد سبقت إليه، حتّى وصلت إلى مسجد ياسين بسوق الريحانيين ببغداد وقد أجهدني الضّعف، وعجزت عن التّماسك، فدخلت إليه وقعدت في جانب منه وقد كدت أصافح الموت، إذ دخل شابّ أعجمي ومعه خبز صافي وشواء، وجلس يأكل، فكنت أكاد كلّما رفع يده باللّقحة أن أفتح فمي من شدّة الجوع، حتّى أنكرت ذلك على نفسي: فقلت ما هذا. وقلت: ما ههنا إلّا الله، أو ما قضاه من الموت، إذ التفت إلى العجميّ فرآني، فقال: بسم الله يا أخي، فأبيت، فأقسم عليّ فبادرت نفسي فخالفتها، فأقسم أيضا، فأجبته، فكلت متقاصرا، فأخذ يسألني: ما شغلك. ومن أين أنت. وبمن تعرف؟ فقلت: أنا متفقّه من جيلان. فقال: وأنا من جيلان فهل تعرف شابّا جيلانيّا يسمّى عبد القادر يعرف بسبط أبي عبد الله الصّومعيّ الزّاهد؟ فقلت: أنا هو فاضطرب وتغيّر وجهه، وقال: والله لقد وصلت إلى بغداد، معي بقيّة نفقة لي، فسألت عنك فلم يرشدني أحد ونفذت عقّتي، ولي ثلاثة أيّام لا أجد ثمن قوتي، إلّا ممّا كان لك معي، وقد حلّت لي الميتة، وأخذت من وديعتك هذا الخبز والشّواء، فكل طيّبا، فإنمّا هو لك، وأنا ضيفك الآن، بعد أن كنت ضيفي، فقلت له: وما ذاك. فقال: أمّك وجّهت لك معي ثمانية دنانير، فاشتريت منها هذا للاضطرار، فأنا معتذر إليك، فسكّته، وطيّبت نفسه، ودفعت إليه باقي الطّعام، وشيئا من الذّهب برسم النّفقة، فقبله وانصرف.
    قال: وكنت أعامل بقليّا كلّ يوم برغيف وبقل، فبقي له عليّ، فضقت، وما أقدر على ما أوفيه، فقيل لي: امض إلى المكان الفلاني، فمضيت، فوجدت قطعة ذهب، فوفيت بها البقلي. فكنت أشتغل بالعلم، فيطرقني الحال، فأخرج إلى الصّحاري، ليلا أو نهارا، فأصرخ، وأهجّ على وجهي، فصرخت ليلة، فسمعني العبّارون، ففزعوا، وجاءوا فعرفوني، فقالوا: عبد القادر المجنون، أفزعتنا، وكان ربمّا أغشى عليّ، فيغسلوني، ويحسبون أنّي متّ من الحال التي تطرقني، وربّما أردت الخروج من بغداد، فيقال لي: ارجع: فإن للنّاس فيك منفعة. ذكره ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (2/ 203-205).
    وقال ابن القادسيّ: لما حضروا واسط جمع النّاس، وادّعى ابن عبد القادر على الشّيخ: أنّه تصرف في وقف المدرسة، واقتطع من مالها كذا وكذا، وكذب فيما ادّعاه، وأنكر الشّيخ، وصدق وبرّ، أفرد للشّيخ دار بدرب الدّيوان، وأفرد له من يخدمه، وبقي الشّيخ محبوسا بواسط في دار بدرب الدّيوان، وعلى بابها بوّاب. كان بعض النّاس يدخلون عليه، ويستمعون منه، ويملي عليهم. كان يرسل أشعارا كثيرة إلى بغداد. وأقام بها خمس سنين يخدم نفسه بنفسه، ويغسل ثوبه ويطبخ، ويستقي الماء من البئر، ولا يتمكّن من خروج إلى حمّام ولا غيره وقد قارب الثّمانين. ويقال: إنّه بقي خمسة أيّام في السّفينة حتّى وصل إلى واسط لم يأكل فيها طعاما.
    ذكره ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة (2/ 505).
    فهذه نماذج مشرقة ممّن قدّم زاد المعرفة والعلم على زاد الجسم والبطن.
    فهذا حالهم فكيف بحالنا؟
    فالجوع بوّابة تحصيل العلم.
    وقال داود بن مخراق: سمعت النّضر بن شميل يقول: لا يجد الرّجل لذّة العلم حتّى يجوع وينسى جوعه.
    ذكره الذّهبيّ في تاريخ الإسلام (5/ 208).
    هذا والله أعلم، وبالله التوفيق، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.
    كتبه
    عزالدّين بن سالم بن الصّادق أبوزخار
    طرابلس الغرب: ليلة السبت 22 ربيع الأول سنة 1445 هـ
    الموافق لـ: 7 أكتوبر سنة 2023 ف
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2023-10-08, 10:49 AM.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
يعمل...
X