إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

أصناف المتَّبعين للمقدَّس فركوس وهل يمكن رجوعهم مع انحرافهم الملموس

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • أصناف المتَّبعين للمقدَّس فركوس وهل يمكن رجوعهم مع انحرافهم الملموس

    بسم الله الرحمن الرحيم

    أصناف المتَّبعين للمقدَّس فركوس
    وهل يمكن رجوعهم مع انحرافهم الملموس


    الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أما بعد:
    الذي يظهر لي والله أعلم أنهم أصناف متعدِّدون وأنواع مختلفون ويمكن تقسيمهم بعدَّة اعتبارات:
    الاعتبار الأول: باعتبار وجود المستوي العلمي وانعدامه:
    وهم بهذا الاعتبار ينقسمون إلى قسمين:
    القسم الأول: الجهال، وهم أكثر أتباعه والغالب على مقلديه والسائرين خلفه، فالجهل صفة بارزة فيهم، وقلَّة الزاد بل انعدام البضاعة هي حقيقتهم، وبأدنى نظرة إليهم وإلى واقعهم تعلم هذا منهم، وتتأكد من تحققه فيهم، فهم جهلة مقلِّدة لا فقه لهم ولا علم لديهم؛ لا يُعرفون بطلب، ولا يُدلون للعلم بسبب، إذ هم من الهمج الرعاع التَّابعين لكل ناعق، ولذلك تجدهم ينساقون لمن يقودهم بعواطفهم -من المُقَدَّسِ واتباعه- لجهلهم بالمسائل والحقائق.
    القسم الثاني: من عنده نصيب من العلم يعدون به من طلبته وهم أقلهم والنادر فيهم؛ لكنهم مقلِّدَةٌ للمقدَّسِ إلى النخاع، أو ممن اتَّبَعه لأغراض جعلتهم كالهمج الرعاع، وسيأتي في الاعتبار الثالث ذكر بعض تلكم الأغراض، التي منعتهم -مع علمهم بانحرافه لبروز الأدلة وكثرتها- من الاعتراض.
    الاعتبار الثاني: باعتبار العلم بحقيقة ما يُنتقد على المقدَّس من عدمه:
    وهم بهذا الاعتبار ينقسمون إلى قسمين:
    القسم الأول: وهم كل من اطلع على انحرافات المقدَّس وضلالاته، وبلغته انتقادات أهل العلم عليه، وكلامهم فيه، وتحذيرهم منه؛ ولكنه مضى في طريق نصرته لمقدَّسِه، وكأن شيئا لم يبلغه، فأصرَّ ولدعاة الحق عاند، وكابر وفي التمسك بالباطل تجلَّد؛ لسبب من الأسباب التي عظَّمها وملأت عليه قلبه فقدَّمها، والتي سيأتي في الاعتبار الثالث ذكر بعضها، بل التنبيه على ما أمكن منها.
    القسم الثاني: من بلغته -في العموم- الانتقادات، وأن أهل العلم يخالفونه، وينكرون عليه، ويتكلمون فيه، أو على الأقل لا يوافقونه، ولا يثنون –الآن- عليه، فأعرض عن الاطلاع عليها، والاستكشاف لأمرها؛ حتَّى لا يتَّخذ الموقف الذي يلزمه حينها، ظنا منه أن هذا الإعراض، وعدم الاطلاع على ما يواجَهُ به مقدَّسه من أنواع الانتقاد والاعتراض؛ سَيُخْلِيهِ من المسؤولية يوم القيامة، ولا تكون الحجَّة قائمة عليه فيحوز العافية والسَّلامة، وما علم الغافل أو المتغافل أن حجَّة الله قائمةٌ عليه، وأن الإعراض عن أخذ الحقِّ من أهله هو مما يذم المرء به، ويحاسب عليه، ويكون سببا لهلكته حين يبعث بين يدي ربه. وما مثل هذا الصنف من ناحية الإعراض وليس من ناحية حكمه في شريعة الله سبحانه إلا كمثل من ذكرهم العلماء في باب نواقض الإسلام: قال الإمام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله في نواقض الإسلام:" العاشر: الإعراض عن دين الله لا يتعلمه ولا يعمل به، والدليل قوله تعالى:" وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ" [السجدة: 22].
    الاعتبار الثالث: باعتبار الأغراض الدافعة لهم والأسباب التي كانت مؤثرة في اختيارهم حتَّى أضحوا معها أصنافا عدَّة وهي:
    - الصِّنف الأوَّل: الطَّالب للدُّنيا؛ والذي إنَّما اتَّبع المقدَّس وناصره وأتباعَه، من أجل دنيا يصيبها، أو منزلة يحرص عليها، كمن كان يعمل عند بعضهم، أو كمن بقاؤه في وظيفته أو تنصيبه في عمله مرتبط بواحد منهم، فهذا ما دامت الدنيا معهم، وأمر دنياه –فيما يعتقد ويظن- بين أيديهم، فلا يمكن رجوعه، إلا أن يتغيَّر ويَرْجِعَ هؤلاء الذين عَلَّقَ دينه بدنياهم، وتوجُّهَهُ بما ينالهم منهم، ويدخل في هؤلاء من صارت له منزلة ومكانة، بسبب هذه الفتنة؛ كمن صار شيخا موجها، بعد أن كان نكرة تافها، فكم هم أولئك الذين لم يكونوا أصلا مع السلفيين، ولا لإخوانهم مخالطين –ولكل سببه في ذلك من كبر وحسد وغلٍّ وحقد وانحراف وزيغ- فلما أطلَّت الفتنة بقرونها، ورأى بريق الدُّنيا يلوح من خلالها، قفز بكل قوَّة إليها، وصار موجها لهم بين عشيِّة وضحاها، وإن كنتَ لا تعجب من مثل هذا الطَّالب للمنزلة، الحريص على نيل المكانة؛ فقطعا سيعظم عجبك ممن وثق به، وصار تابعا له مع علمه بحاله، وإنكاره لكثير من أحواله.
    ويدخل في هذا الصنف من ناصر المقدَّس فركوسا لأجل فتوى انفرد بها، وخالف العلماء قاطبة فيها؛ له في الأخذ بها مصلحة دنيويَّة، وشهوة نفسيَّة، فيخشى إن اعترف بانحراف فركوس أن تذهب مصلحته عليه، وتضيق دنياه بسبب اعترافه، ففضَّل البقاء معه والانتصار لكل ما ذهب إليه إبقاءً على مصلحته ودنياه، ومن أمثلة ذلك: من أخذ بفتواه في جواز العمل في الاختلاط.
    ولله في خلقه شؤون.
    - الصِّنف الثَّاني: المبغض الحاسد؛ الذي إنما اختار جانبا دون جانب، واتَّبع مذهبا دون مذهب، ليس لاعتقاده أنه الحقُّ الذي يجب عليه اتِّبَاعُه، ولا يجوز له تركه، وإنما اتَّبَعَه واختاره لأن عدوَّه ومحسوده اختار غيره، واتَّبَعَ سواه، ولو كان محسودُه –والعياذ بالله- مع الطَّرف الثَّاني لاختار هو الأوَّل، وأصرَّ عليه ولم يتحوَّل، فمهما يكون محسودُه في جانب يختار هو الجانبَ الذي يخالفُه، فهو فيما يأتي ويَذَرُ تابعٌ لهواه، وهذا لا يمكن رجوعُه إلى الحق ما دام محسودُه من أهله وغريمُه متمسكًا به، إلا أن يشاء الله سبحانه.
    - الصِّنف الثَّالث: ذو الغلِّ الحاقد؛ الذي إنما اتَّبع المقدَّس وناصره، وصار من أتباعه والمروِّجين له ولأفكاره، بسبب حقده على بعض من تكلم المقدَّسُ فيهم، ممن ناله بعض السوء -على حسب ظنه- من قبلهم، كأن يكون أحدهم حذَّرَ منه –يوما- لما يعلمه فيه من تعاظم وتعالم، أو ادعاء وافتراء، أو انحراف خفيٍّ أو سوء أخلاق جليٍّ، أو قد يكون عامله بما يُعَرِّفُه قدره الذي غفل عنه، وحاول أن يتجاوزه، فحقد عليه ولما جاءته فرصة كلام المقدَّس فيه ركبها لينتقم منه؛ ومن أمثلة هؤلاء: من أشار عليه أحد مشايخنا -من باب النصيحة له ولإخوانه- أن لا يتجاوز في الدعوة حيَّه الذي يسكن فيه، أو مسجده الذي يؤمُّ أهله، فيقصر مجهوده الدَّعويَّ على هذه الأماكن دون الانتقال إلى غيرها من المواطن، وما ذلك إلى لعلم الشَّيخ به وبمستواه، أو لخوفه عليه أن يغترَّ بنفسه أو يغترَّ إخوانه المبتدئون به، وقد يكون الشَّيخ نصح الإخوة بدورهم بأن يتركوا استقدامه أو استقباله فحقد عليه وواتته هذه الفرصة لينتقم منه؛ فاختار جانب المقدَّس، ليشفي غيظه وينفِّس عن حقده.
    - الصِّنف الرَّابع: الجاهل المعاند؛ الذي اتَّبع الباطل لجهله، وسلك سبيله لقلَّةِ علمه وفهمه، ممن قد أثَّرَ عليه المخالطون له، وقاده إلى الشرِّ –بالشُّبه- الملبِّسون من حوله، والصَّاحب ساحب، والمجالسة تقتضي المجانسة، والجاهل يمكن رجوعه إذا لم يكن جهله مركبا، ولم يكن مكابرا معاندا، لأن هذين يبعد رجوعُهما، ويستبعدُ اعترافهما بجهلهما وخطئهما، وبخاصة إذا اجتمع له مع حاله هذه وجود من يؤزه على الإصرار، ويزيِّن له الاستمرار، أو من تكون له معه مصلحة، ويخاف زوالها إن هو وافق الأدلَّة الرَّاجحة الواضحة، والله المستعان.
    - الصِّنف الخامس: الجاهل المتورِّط؛ الذي تورَّط -بسبب جهله وقلَّة علمه مع حسن ظنِّه بنفسه ومخالطيه الذين من حوله- في الشَّرِّ؛ من خوض فيما لا يحسنه، وكلام في أهل الحقِّ جهده؛ فَسَبَّ وَشَتَمَ وَقَدَحَ وَذَمَّ –ويعظم الأمر على من فعل ذلك في وسائل التواصل- فهذا مستبعدٌ رجوعه، ضئيلٌ الأمل في أوبته، وبخاصة إذا انعدمت عنده الشَّجاعة على الاعتراف بالخطأ، والرُّجولة على الاستعلان بالغلط.
    - الصِّنف السَّادس: الجاهل المقلِّد؛ الذي يختار موقفه لأمور تؤثر في مثله:
    - كاختياره للمذهب لأن من يعتقده عالما أو صالحا مستقيما صار في ذلكم الجانب.
    - أو اتِّخاذه للموقف واختياره للمذهب بناء على كون الأكثر صاروا في ذلكم الجانب.
    - أو اختياره للمذهب اتِّباعا لأوَّل ناعق نعق به، ودعاه إلى مذهبه.
    - أو اتِّباعا لأصحابه وأهل أنسه ممن لا يقوى على مفارقتهم، ولا يتصوَّر نفسه بعيدا عنهم.
    والبعض من أهل هذا الصِّنف يمكن رجوعه إلى الحق إذا ظهر له، وذُكرت له أدلَّتُه، وكان رضى الله هو طلبه وبغيته؛ أي لم يقارن جهله شيء آخر مما يؤثِّر عليه؛ من دنيا يطلبها، أو عناد يوصف به، أو غيرها من الأمور التي تقدم ذكرها والإشارة إليها، وإنَّما كان ممن لُبِّس عليه، وحتَّى لا يسمع أدلَّةَ أهل الحقِّ أحيط به من كل جوانبه.
    - الصِّنف السَّابع: المنحرف الأصليُّ؛ الذي اتَّبع المقدَّس لأنَّه وجد فيه ضالَّته، وما تهواه نفسه؛ من بِدَعٍ قال المقدَّس مؤخرا بها، وأهواء تُلائمه صار فركوس من أعظم دعاتها، وهذا الصِّنف على قسمين:
    - قسم مندسٍّ في صفوف السَّلفيِّين من قديم؛ بسبب مهمَّة كلِّف بها، أو لغلبة أهل الحقِّ في ناحيته فتظاهر بلزوم السُّنَّة والسَّلفيَّة خوفا من أهلها.
    وقسم إنَّما التحق بالرَّكب، وصار يدافع عن المقدَّس برفع راية القتال والحرب؛ لأنَّه التمس من المقدَّس دنوَّه من مذهبهم، ودفاعه عن عقائدهم وتصوُّراتهم، وبعبارة أخرى أنَّه أصبح مثلهم بل منهم، فرأى أنَّ من حقِّ هذا العائد لمنهجهم عليه؛ أن يناصره جهده، ويبذل في تأييده وسعه.
    وهذا الصِّنف ظاهر على السَّاحة، وهو من أعظم الموجِّهين اليوم لأتباع المقدَّس بكلِّ صراحة.
    وهذا الصِّنفُ السَّابعُ بقسميه يستحيل رجوعه؛ لأنَّه عدوٌّ للحقِّ الذي يحمله ويدعو إليه السَّلفيُّون، وبخاصة وقد وجد سندا قويًّا فيمن كان ينتسب للسَّلفيَّة ويدعو بالدَّعوة السُّنِّيَّة.
    وهذه بعض الأصناف الواضحة، الظاهر وجودها على السَّاحة؛ ولعلَّ الأصناف أكثر من هذا وأكثر بناء على اختلاف مراداتهم ومقاصدهم ودخائل نفوسهم، والله هو المطلع على حقائقهم، والتي ستظهر يوم تبلى السَّرائر.
    تنبيه1: أن رجوع هؤلاء كما تقدَّم مستبعد لاستحكام الدَّاء، وقوَّة المانع من الرُّجوعِ إلى الحقِّ ولو كان فيه عظيم الجزاء، وهذا -كما لا يخفى- إلَّا أن يشاء الله سبحانه وتعالى أن يهديهم بمنِّه وفضله وهو على كل شيء قدير.
    تنبيه2: قد تتداخل بعض هذه الأغراض والدوافع في الشَّخص الواحد، ويكون حينئذ رجوعه أصعب وأصعب.
    تنبيه3: أن الأمر قد يبدأ مجرَّد طلب شهوة، أو تلبية رغبة؛ لكنَّه سرعان ما ينقلب ويصير دينا وعقيدة، فكم من شهوة جرَّت إلى شبهة؛ ولأجل هذا تجد أهل العقائد الباطلة، والنِّحل المنحرفة، يعمدون إلى الشَّهوات والدُّنيا ليصطادوا بها فرائسهم، ويصيِّروهم من أتباعهم.
    ولكن السؤال الذي يُطرح: ما هو سبب ظهور هذه الأصناف وسط من كانوا يوما من السَّلفيين، ويعدُّون من السُّنِّيِّين؟ كيف انحرفوا؟ ولماذا زاغوا عن الصِّراط ولأهله خالفوا؟.
    اعلم -رحمك الله- أن انحراف من يدَّعي السَّلفيَّة، وينتسب للطَّريقة السُّنيَّة المرضيَّة؛ له أسباب عديدة، ودواعي متعدِّدة، والتي يجمعها: ترك التَّمسُّك بطريق السَّلف الصَّالح، والمنهج الواضح؛ الذي من تمسَّك به كان من النَّاجين، ومن تنكب طريقه كان من الهالكين، والمقصود بالتمسُّك بمنهج السَّلف الصَّالح هو: السَّير على طريقهم في أبواب الدِّين كلِّها، والعمل بآثارهم التي جاءت عنهم جميعِها، فلا يفرِّط في شيء منها، لأن التَّفريط فيها قد يكون سببا في خروجه عنها، وانحرافه عن سبيلها؛ وقبل أن نذكر النُّصوص والآثار والتي فرَّط فيها هؤلاء، وكانت سببا في زيغهم وانحرافهم، لابدَّ من تقرير مسائل مهمَّة لا يجوز إغفالها؛ وهي:
    - المسألة المهمَّةُ الأولى والتي يجب أن تكون عقيدة راسخة: أنَّ الله سبحانه ليس بظلَّام للعبيد، فلا يُزِيغُ أحدا من خلقه إلا بسبب زيغ كان عليه:
    - قال الله تعالى:" ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182)" سورة آل عمران وسورة الأنفال الآية 51.
    - وقال تعالى:" ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)" سورة الحج.
    - وقال تعالى:" مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46)" سورة فصلت.
    - وقال تعالى:" مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)" سورة ق.
    قال الإمام الطبري رحمه الله عند تفسيره لآية الأنفال: لا يعاقب أحدًا من خلقه إلا بجرم اجترمه، ولا يعذبه إلا بمعصيته إياه، لأن الظُّلم لا يجوز أن يكون منه" اهـ.
    قلت: وزيغ القلب هو عقوبة من العقوبات التي ينزلها الله بمن قارف أسبابها، ووقع في موجباتها؛ وهي: الذنوب والمعاصي، والعقوبة عدل من الله جل جلاله، وليست ظلما لأن الظُّلم يستحيل عليه سبحانه، ومما يدل على هذا الأمر ويزيده وضوحا:
    قول الله تعالى:" فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" سورة الصف من الآية 5.
    - قال الإمام الطبري رحمه الله: وقوله:" فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" يقول: فلما عدلوا وجاروا عن قصد السَّبيل أزاغ الله قلوبهم: يقول: أمال الله قلوبهم عنه.
    وقد حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا هشيم، قال: أخبرنا العوّام، قال: ثنا أَبو غالب، عن أَبي أمامة في قوله:" فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" قال: هم الخوارج "وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" يقول: والله لا يوفِّق لإصابة الحقّ القوم الذين اختاروا الكفر على الإيمان" اهـ.
    - قال الإمام ابن كثير رحمه الله:" وقوله:" فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" أي: فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى، وأسكنها الشَّكَّ والحيرة والخذلان، كما قال تعالى:" وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)" سورة الأنعام. وقال:" وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)" سورة النساء. ولهذا قال الله تعالى في هذه الآية:" وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ".
    - قال العلامة السعدي رحمه الله عند تفسيره لهذه الآية: والزَّيغ عن الصِّراط المستقيم، الذي قد علموه وتركوه، ولهذا قال:" فَلَمَّا زَاغُوا" أي: انصرفوا عن الحق بقصدهم "أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ" عقوبة لهم على زيغهم الذي اختاروه لأنفسهم ورضوه لها، ولم يوفقهم الله للهدى، لأنهم لا يليق بهم الخير، ولا يصلحون إلا للشر، "وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ" أي: الذين لم يزل الفسق وصفا لهم، لا لهم قصد في الهدى، وهذه الآية الكريمة تفيد أن إضلال الله لعباده، ليس ظلما منه، ولا حجَّة لهم عليه، وإنَّما ذلك بسبب منهم، فإنَّهم الذين أغلقوا على أنفسهم باب الهدى بعد ما عرفوه، فيجازيهم بعد ذلك بالإضلال والزَّيغ الذي لا حيلة لهم في دفعه وتقليب القلوب عقوبة لهم وعدلا منه بهم كما قال تعالى:" وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)" سورة الأنعام".
    - ومن الآيات التي تدل على أن العبد هو المتسبِّب في زيغه وانحرافه، وأنَّه هو من سلط عدوَّه –الشَّيطان- على نفسه فأضلَّه عن سواء السَّبيل وحرفه عن الصِّرط المستقيم:
    - قول الله تعالى:" إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)" سورة آل عمران.
    ومثلها قول الله تعالى:" فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62)" سورة النساء.
    وغيرها من الآيات في موضوعها.
    - المسألة المهمَّةُ الثَّانية والتي يجب أن تكون عقيدة راسخة: أن السَّلفيَّ معرَّضٌ بعد استقامته إلى مخالفة الحقِّ وتنكُّبِه، وانحرافه عن الصِّراط المستقيم وسلوكه لغيره، وأن الثَّبات على الحقِّ إنَّما هو من الله سبحانه يتفضَّل به على من يشاء من عباده:
    من الأمور التي انتشرت في هذه الفتنة، وردَّدها كثير من إخواننا من أهل السُّنَّة: أن هؤلاء الذين انحرفوا لم يكونوا على الجادَّة أصلا، وإنَّما كانوا يتظاهرون بما لا يعتقدونه حقيقة، فجاءت الفتنة ففضحتهم، وأظهرتهم على حقيقتهم؛ وكأنَّهم يظنُّون أنَّ السَّلفيَّ لا يمكن أن يزيغ، ويستحيل عليه بعد معرفته للحقِّ أن يتنكَّبه وينحرف عنه، وهذا التَّصَوُّر من الأخطاء البيِّنة، وهو مخالف لنصوص عديدة من الكتاب والسنَّة، وَلَئِنْ صدق هذا الكلام في بعضهم، وانطبق على أفراد منهم، فهو غير صادق في أغلبهم ومعظمهم، ومن الأدلَّة على هذا الأمر التَّالي:
    - الآيات السابقة في المسألة المتقدِّمة.
    - وقول النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم:" بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" رواه مسلم من حديث أبي هريرة. فأخبر أنه يصبح مؤمنا ويمسي كافرا؛ فيترك الدِّين، ويكفر بربِّ العالمين، بعد أن كان سائرا عليه، مهتديا بهديه، والعياذ بالله، فما بالكم بترك السَّلفيَّة للنِّحَلِ الرَّدِيَّة؟.
    - قال الله تعالى:" وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)" سورة الإسراء.
    ويؤيِّدُ هذا المعنى ما رواه البخاري رحمه الله: عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيٍّ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" مَا بَعَثَ اللَّهُ مِنْ نَبِيٍّ وَلاَ اسْتَخْلَفَ مِنْ خَلِيفَةٍ، إِلاَّ كَانَتْ لَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، وَبِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالشَّرِّ وَتَحُضُّهُ عَلَيْهِ، فَالْمَعْصُومُ مَنْ عَصَمَ اللَّهُ تَعَالَى". وله روايات عند البخاري وغيره.
    - قال الله تعالى:" وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94)" سورة النحل.
    إذن قد يزلُّ الإنسان بعد ثَبَاتٍ كان عليه، وحُسْنِ حَالٍ عُرِفَ به.
    ولأجل هذا ثبت عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم سؤال الله الثَّبات على الدِّين، والاستقامة على مراضي ربِّ العالمين:
    عَنْ أَنَسٍ قَالَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ:" يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ". فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ آمَنَّا بِكَ وَبِمَا جِئْتَ بِهِ فَهَلْ تَخَافُ عَلَيْنَا قَالَ:" نَعَمْ إِنَّ الْقُلُوبَ بَيْنَ أَصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ اللَّهِ يُقَلِّبُهَا كَيْفَ يَشَاءُ" رواه الترمذي وصححه العلامة الألباني رحمه الله في صحيح الجامع رقم7987 وفي غيره.
    سؤال مهم: فإذا تقرَّرَ أن زيغ العبد الذي يقع فيه، هو بسبب زيغ تقدمه كان عليه، فما هو سبب زيغ الكثيرين في هذه الفتنة ومثيلاتها؟
    الجواب:
    الشُّبهات والشَّهوات، والغلوُّ في المعظَّم من الشَّخصيَّات، وترك الاهتداء بالنُّصوص الشَّرعيَّة، والآثار السَّلفيَّة، والقواعد المرعيَّة.
    فلما زاغ بعضهم بالتَّلبُّس بالشُّبهات، وبعضهم بتقديم الشَّهوات، والكلُّ بتعظيم الشَّخصيَّات، وترك الاهتداء بالنُّصوص الواضحات الجليَّات، والقواعد المرعيَّات؛ أزاغ الله قلوبهم، حتَّى صاروا كمن لا عقول لهم ولا فهم لديهم، فأصبحنا نرى من كان يدَّعي السَّلفيَّة واتِّباعَ النُّصوص الشَّرعيَّة يتنكَّب طريقها، ويترك الاهتداء بهديها، ليس لشيء إلا لقول مقدَّسه ومعظَّمه:
    وإلى ذكر النُّصوص الشَّرعيَّة، والآثار السلفيَّة، والقواعد المرعيَّة، التي تنكَّبتها الأصناف المتقدِّمة من الفراكسة المقدِّسة، والتي كان تركهم لها سببا في الذي صاروا من الزَّيغ إليه، وأضحوا من الانحراف عليه:

    - الصِّنف الأوَّل: الطالب للدنيا:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي كانت سببا في زيغه عن الصِّراط المستقيم، وانحرافه عن الدِّين القويم؛ فهي: كلُّ النُّصوص التي جاءت في ذمِّ الدُّنيا والتَّحذير منها، وبيان حقيقتها، وسرعة زوالها، وأنَّ العبد يجب عليه أن يقدِّم الآخرة عليها، ولا يبيعَ الباقية من أجلها، وأنَّ الرِّزق مضمون للعبيد، وليس أحد إلاَّ وينال منه ما قدَّره له الحكيم الحميد، وهي نصوص كثيرة من كتاب الله وسنَّة النَّبي صلوات الله وسلامه عليه، وكذلك من آثار السَّلف الصَّالحين والأئمَّة المُتَّبَعِينَ، وقد أُلِّفت مؤلَّفات عدَّة في هذه الأبواب من أئمَّتنا وعلمائنا، ولكنَّ النَّاس قصَّروا بل فرَّطوا في قراءتها، والتَّبصُّر في مضامينها؛ ولذلك غلبت عليهم شقوتهم، ومالت إلى الدُّنيا نفوسهم؛ فباعوا آخرتهم بدنياهم نسأل الله السَّلامة والعافية.
    ومن أعظم النُّصوص التي تنكَّبها هذا الصِّنف ولم ينتفع بها، مع كثرة ترداد العلماء لها، ونصحهم للخلق بذكرها، والتي لوحظ في الفتنة الأخيرة أثرُ تركها، وعدمِ الاستقامة عليها، الحديثُ التَّالي:
    عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" رواه مسلم.
    وهذا النَّصُّ يصف حال هذا الصِّنف؛ وهم الصِّنف الأوَّل الذين باعوا دينهم بدنياهم، فكان نسيانه علميا بمعنى الجهل به سببا لبيع من باع دينه بدنياه، وكذلك النسيان العملي بالنِّسبة لمن كان على دراية به، واطِّلاع عليه؛ هو الذي أوقعهم فيما وقعوا فيه؛ من تنكُّب الحقِّ مع ظهور أدلَّته، واتِّباع الباطل مع تيقُّن بطلانه.
    فهو خبر من الصَّادق المصدوق يتضمَّن تحذيرا من الدُّنيا، ونهيا عن بيع الدِّين بها، والانحراف عن الصِّراط المستقيم بسببها، وبخاصة أيام الابتلاءات والفتن، والاختبارات والمحن، حينَ يشتَّدُ الأمر ويعظم، فيرقُّ دِينُ الكثير وينثلم.
    فأمثال هذه النُّصوص العظيمة تذكر الدَّاءَ وترغِّبُ في الدَّواء، وتجلب للعامل بها العصمة من شرور الفتن المدلهمَّة، ولكن من تركها، وتنكَّب طريقها، فإنَّه قطعا سيقع فيما جاء التحذير منه فيها من الافتتان والانحراف.
    فهو من النُّصوص التي كان نسيانها وعدمُ العمل بها سببا قويًّا من أسباب انحراف هؤلاء وزيغهم، واتِّباعهم الباطل مع علمهم به، وتيقُّنهم منه، والنَّاظر في أحوال كثير منهم يجد -كما تقدم- أن الدُّنيا هي سبب ميلهم إلى المقدَّس واتِّباعهم له، ونصرتهم لمذهبه، مع وضوح الأدلَّة على انحرافه وزيغه، ومع تتابع العلماء على تخطئته والتَّحذير منه، وأمثلة هذا الصِّنف موجودة في واقعنا أظهرتهم هذه الفتنة حتَّى رأيناهم بأمِّ أعيننا، فكان أن شاهدنا في أوَّل الفتنة –ولي أمثلة على ذلك- من كان على الجادَّة يخالف المقدَّس فيما صار إليه، وخطَّه بنانه؛ مما تضمنته "شهادة للتَّاريخ"، وما انبنى عليها من فرقة وغلو وتجريح، ثم بمجرد أن تمايزت نوعا ما الصُّفوفُ، وانحاز أهل الجَدِّ والثَّراء إلى المقدَّس انقلب على عقبيه، وأظهر الولاء له ولأتباعه، وخالف ما كان يعلمه يقينا، ولا يشك فيه قطعا، بل منهم من صار أشدَّ حربا على أهل الحقِّ ممن انحاز إليهم، يخطب ودَّهم، ويطلب رضاهم؛ طمعا فيما عندهم وملكته أيديهم، أو خوفا من فقد ما يأتيه من قِبَلِهِمْ: كوظيفة هو فيها، أو وُعد بها، أو إعانة يستفيدها ويخشى انقطاعها، والله المستعان.
    ومن عجيب أمر أمثال هؤلاء البائعين لدينهم بدنياهم، المستبدلين لطرق الضَّلالة بالسُّنَّة وللانحراف بالاستقامة من أجل أعراض الدُّنيا الزَّائلة، وحظوظها الفانية؛ أن تجدهم يطعنون فيمن لا يدركون كعبهم -في الدِّيانة والاستقامة والعلم والعمل ونفع الأمَّة- بالتَّأَكُّل بالدَّعوة، ويبنون عليها الولاء والبرآء، والحبَّ والبغض، والتَّبديع والتَّضليل، والهجر والتَّحذير، مع أنَّهم أحقُّ بهذا الوصف منهم، وأجدر بأن يلاموا عليه من الأبرياء الذين يحاربونهم، ويفترون عليهم، والله لقد هزلت كما يقال.
    ومع ذلك أنصح كل من كان من هذا الصِّنف أن يقرأ كتاب الله، ويتدبَّرَ فيه، وكذلك في كتب السُّنَّة، وكتب أهل العلم الخاصَّة بهذه المسألة، لعلَّ الله أن يُحيي قلبه، ويقوِّي عزيمته على تدارك نفسه، قبل أن يفوت الأوان ويندم ساعة لا ينفعه النَّدم، والله المستعان.

    - الصِّنف الثَّاني: المبغض الحاسد:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي كانت سببا في زيغه عن الصِّراط المستقيم، وانحرافه عن الدِّين القويم؛ فهي كثيرة وكثيرة جدًّا، من كتاب الله العظيم، وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم، وآثار السَّلف الصَّالحين، وكلام أئمَّة الدِّين، وعلمائه المرضيِّين،ولقد تظافرت النُّصوص على بيان هذا المرض والتَّحذير منه؛ بإبراز حقيقته، وخطورته، وثماره الخبيثة التي تنتج عنه.
    داء الحسد؛ داء الأمم القديم المؤبَّد، الدَّاءُ الذي أهلك به الشَّيطان نفسه، وهو حريص على أن يهلك به غيره؛ الدَّاءُ الذي تترتب عليه مفاسد خطيرة، وأضرار مُبيرة، الدَّاءُ الذي يجب على كل مسلم أن يعلم حقيقته، وأسبابه الدَّاعيةَ إليه، ومفاسدَه المترتِّبَة عليه، وطرقَ العلاج منه، الدَّاءُ الذي صرنا نراه ونلاحظه في كثير من النَّاس، من عوامهم وحتَّى من الخواص، فترى ذلك في الرَّجل؛ في نبرات صوته، ولحن قوله، ومعاني كلماته، ومختلف تصرفاته، وفي أحكامه وآرائه، ونصرته وخذلانه، بل قد تلاحظ ذلك في شأن الحاسد كلِّه.
    ومع كثرة ما ورد فيه، وتعدُّد كلام الأئمَّة عليه للتَّحذير منه؛ إلَّا أنَّنا وجدنا من ينتسب إلى الإسلام، وسنَّةِ النَّبيِّ عليه الصلاة والسَّلام، ولمنهج السَّلف الكرام؛ يتَّصف به، ويبني أحكامه وتصرفاته، وحبَّه وبغضه، وولاءه وبراءه عليه، وهو فعل اللِّئام لا فعل الكرام، كما قيل قديما:" مَا خلا ‌جَسَد ‌من ‌حسد لَكِن اللَّئِيم يبديه، والكريم يخفيه".
    ولو لم يكن في الحسد من القبائح إلَّا أنَّه: 1- سبب كفر إبليس اللَّعين. 2- وأنَّه الدَّاءُ الذي مَنَعَ اليهودَ من الإيمان بعيسى عليه السَّلام. 3- وهو الذي حمل اليهودَ على الكفر برسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفته، بل وحربه ومقاتلته.3- وهو سبب إصرار أبي جهل على الكفر بالنَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وحربه له، وتألبيه النَّاس عليه مع علمه بصدقه وأمانته. 4- وهو سبب خروج الشَّيطان من الجنان. 5- وهو دليل على مهانة صاحبه وعجزه.6- وهو من أصول الخطايا الثَّلاثة التي هي الكبر والحرص والحسد.7- وهو سبب قتل أحدِ ابْنَيْ آدم لأخيه. 8- وأن من ثمراته البغي والظُّلم. 9- وهو سبب عداء ابليس لآدم عليه السَّلام. 10- وهو أحد أركان الكفر الأربعة الْكبر والحسد وَالْغَضَب والشَّهوة. 11- وهو من أكبر موانع بذل النَّصيحة وقَبُولِها.12- وصاحبه متشبه بالشَّيطان في بعض صفاته، وهو من أتباع إبليس، ونائبه، وخليفته، ولذلك يُعينه الشيطان ولو لم يستعن به.13- كما أن المتَّصف به عدوٌّ للنِّعَمِ وعدوٌّ لله ولعباده[1].
    فلو لو يكن فيه إلا هذه القبائح لكفت العاقل فضلا عن المؤمن في التَّنفير منه، والتَّرغيب عنه، وتشجيع المسلم في تجنُّبه، والحرص على السَّلامة من شرِّه وضرره.
    ومن أعظم ما يكون من ضرر الحاسد على نفسه أن يترك الحقَّ الذي يلزمه، ولا نجاة له في الدُّنيا والآخرة إلَّا به، بسبب حسده لغريمه الذي سلك طريق الحقِّ وسبيله، فهو يخالفه ولو كان بترك سبيل الهداية، وسلوك طرق الضَّلالة والغواية، والله المستعان.

    - الصِّنف الثَّالثُ: ذو الغلِّ الحاقد:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي كانت سببا في زيغه عن الصِّراط المستقيم، وانحرافه عن الدِّين القويم؛ فهي: كلُّ النُّصوص التي جاءت في النَّهي عن الحقد على أهل الإسلام وبغضهم، ومعاداتهم في غير الله ومخاصمتهم، ومحاولةِ إذايتهم وتربُّص الدَّوائر بهم؛ لأن الحقد: "إمساكُ العَداوة في القلب والتَرَبُّصُ بفُرصتها"[2]، ولو لم يكن في هذه الصِّفة الذَّميمة إلَّا أنَّها: 1- من أوصاف الكافرين والمنافقين، وأعداء الملَّة والدِّين. 2- وأنَّها مناقضة للأخوَّة الإسلاميَّة والمحبَّة الإيمانيَّة. 3- وأنَّها طاعة للشَّيطان المحرِّش بين الإخوان. 4- وأنَّها سبيل حصول الفرقة وتمزيق الجماعة التي نهى الله عنها وحذَّر منها. 5- وأنَّها تهدم الأخلاق الإسلاميَّة وتوقع في التَّخلُّق بأخلاق النُّفوس السبعيَّة والكلبيَّة. وغيرها.
    لكفى العاقل فضلا عن المؤمن في بغضها، والتَّنفير عنها، وتجنُّب التَّلبُّس بها، ولكن للأسف الشَّديد وجدنا من يدَّعي السَّلفيَّة، بل من ينسب نفسه للعلوم الشَّرعيَّة، ويزعم أنَّه من الدُّعاة إلى الاتِّباع، وترك الابتداع؛ يتَّصف بها، وينساق في تبنيه للمواقف وراءها، ويبني معاملاته في القضايا المختلفة على أساسها، ولو كان في ذلك نصرته للباطل وذويه، وخذلانه للحقِّ وأهله.
    ولو لم يترتَّب عليها من الشَّرِّ إلَّا هذه الأخيرة من ترك الحقِّ واتِّباع الباطل نكاية بالمحقود عليه، وتنفيسًا عن بعض الغلِّ الذي في الباطن تجاهه؛ لكفى في بيان شرِّها، والتَّحذير منها، والحرص على البعد عنها، وتجنُّبِ الاتِّصاف بها، والله المستعان.
    - الصِّنف الرَّابع: الجاهل المعاند:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي كانت سببا في زيغه عن الصِّراط المستقيم، وانحرافه عن الدِّين القويم؛ فهي: كلُّ النُّصوص التي جاءت تأمر بطلب العلم وتحصيله، وأخذه عن أهله الذين عرفوا به، وسلموا من جَرْحٍ فيهم، وكَلَامٍ يسقط عدالتهم، مع سائر النُّصوص التي تأمر بالخضوع للحقِّ، والإذعان له، وعدم المكابرة عند وروده، ولا الإباء له والميل عنه، ولا العناد في الاعتراف به والقبول له.
    إذن هي نصوص كثيرة: جاء فيها ذمُّ الجهل وأهله، والعناد الذي يهلك صاحبه، ولو لم يكن في هذين الخلقين -الجهل والعناد- إلا أنَّهما من صفات الكفَّار والفجَّار، وجبابرة المجرمين من الأشرار، وكذلك ما عرف من أنَّ العناد من صفات أهل الحزبيَّة المقيتة والحميَّة الجاهليَّة؛ لكفى في ذمِّهما، والتَّنفير عنهما، والبعد عن الاتِّصاف بهما:
    - فأمَّا صفة الجهل فالأدلَّةُ أكثر من أن تُذكر، وأشهر من أن تُجهل.
    - وأمَّا ما يتعلق بالعناد فممَّا ورد فيه ويدل على أنَّه من صفات أهل الشَّر على اختلاف أصنافهم ومللهم:
    قول الله تعالى:" وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)" سورة هود. وقوله تعالى:" وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)" سورة إبراهيم. وقوله تعالى:" أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24)" سورة ق.
    فالمؤمن لا يعاند الحقَّ إذا جاءه، ولا يدفعه إذا أقيمت الدَّلائل عليه؛ مهما كانت الأسباب والدَّواعي، بل يخضع ويذلُّ له، ويلتزم ويتمسَّكُ به؛ فترك العناد من صفات أهل الإيمان التي يحبها الرَّحيمُ الرَّحمن، ففي حديث عبد الله بن بسر أنَّ النَّبيَّ صلَّى الله عليه وسلم قال:" إِنَّ اللَّهَ جَعَلَنِي عَبْدًا كَرِيمًا وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا عَنِيدًا" رواه أبو داود وغيره وحسَّنه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع" رقم1740.
    - ولأجل أنَّ الحزبيَّة المقيتة هي من دواعي العناد، جاء الشَّرعُ بالنَّهي عنها، والتَّحذير منها، وبيان سوء عاقبة أصحابها:
    قال الله تعالى:" فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53)" سورة المؤمنون. وكذلك قال في سورة الروم:" مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)".
    - وعن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ -رضي الله عنهما- قَالَ كُنَّا فِي غَزَاةٍ -قَالَ سُفْيَانُ مَرَّةً فِي جَيْشٍ- فَكَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ فَقَالَ الأَنْصَارِيُّ يَا لَلأَنْصَارِ. وَقَالَ الْمُهَاجِرِيُّ يَا لَلْمُهَاجِرِينَ. فَسَمِعَ ذَاكَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ:" مَا بَالُ دَعْوَى جَاهِلِيَّةٍ" قَالُوا يَا رَسُولَ اللَّهِ كَسَعَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ رَجُلاً مِنَ الأَنْصَارِ. فَقَالَ:" دَعُوهَا فَإِنَّهَا مُنْتِنَةٌ". فَسَمِعَ بِذَلِكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ فَقَالَ فَعَلُوهَا، أَمَا وَاللَّهِ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ. فَبَلَغَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- فَقَامَ عُمَرُ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِي أَضْرِبْ عُنُقَ هَذَا الْمُنَافِقِ. فَقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-:" دَعْهُ لاَ يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ" وَكَانَتِ الأَنْصَارُ أَكْثَرَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ حِينَ قَدِمُوا الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّ الْمُهَاجِرِينَ كَثُرُوا بَعْدُ. قَالَ سُفْيَانُ فَحَفِظْتُهُ مِنْ عَمْرٍو قَالَ عَمْرٌو سَمِعْتُ جَابِرًا كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم–" رواه البخاري.
    - وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- أَنَّهُ قَالَ:" مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبَةٍ أَوْ يَدْعُو إِلَى عَصَبَةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبَةً فَقُتِلَ فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلاَ يَتَحَاشَ مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلاَ يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ" رواه مسلم.
    - وعَنْ جُنْدَبِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-:" مَنْ قُتِلَ تَحْتَ رَايَةٍ عُمِّيَّةٍ يَدْعُو عَصَبِيَّةً أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ" رواه مسلم.
    ومما يدلُّ على أن هؤلاء الفراكِسَة المقدِّسَة صاروا على الحزبيَّة المقيتة، والحميَّة الجاهليَّة؛ أمور:
    الأوَّل: أن دعوتهم التي يعرفون الآن بها، ويجتمعون فيما بينهم -شرقا وغربا وشمالا وجنوبا- عليها، هي: اتِّباع مقدَّسهم، والانتصار له، وعقد الولاء والبراء عليه، ولذلك يعادون من خطَّأه فضلا عمَّن ضلَّله ولو كان من العلماء، ويوالون من اتَّبعه وناصره ولو كان من المنحرفين والسُّفهاء.
    الثَّاني: أنَّهم صاروا لا ينتصرون للنُّصوص الشَّرعيَّة، وإنَّما لكلام مقدَّسهم، وتقريرات معظَّمهم؛ فمهما قال من قول باطل، وقرَّر من تقرير عاطل؛ إلَّا واجتهدوا في البحث له عن المخارج ولو بالتّأويلات الفاسدة، والمعاني المستكرهة البعيدة، وهذا هو فعل المتحزِّبة حذو القذَّة بالقذَّة، وإنَّ المتتبِّع لحالهم مع زلَّات وشطحات شيخهم، ليتيقَّن هذا منهم، ولا يشكُّ طرفة عين في تحقُّقه فيهم، والله المستعان.
    الثَّالث: أنهم جعلوا كلام شيخهم ميزانا يزنون النُّصوص الشَّرعيَّة وكلام علماء الأمَّة الإسلاميَّة به وعلى وفقه، قال الإمام ابن القيِّم رحمه الله في "الصواعق المرسلة" ص1525:" وبقوله:" أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اِللَّهُ اُلَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اِللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا اَلْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً" سورة التوبة من الآية 16؛ أيُّ وليجة أعظم ممَّن اتَّخذ رجلًا بعينه عيارًا على كلام الله ورسوله وكلام سائر علماء الأُمَّة، يزن القرآن والسُّنَّة وكلام سائر العلماء على قوله، فما خالفه ردَّه، وما وافقه قبله" اهـ. وهذا والله هو حالهم الذي يراه كلُّ مبصر منصف، وقد يعمى عنه كلُّ متعصِّبٍ عن السَّبيل انحرف.
    الرَّابع: أنَّهم نصبوا العداء لكل عالم من علماء السُّنَّة لأجله، وحاربوهم غضبا له، وانتصارا لشخصه، فكلَّما تكلَّم عالم فيه، أو أظهر مخالفتَه له، وعدمَ رضاه على منهجه الذي صار إليه؛ قاموا عليه قومة رجل واحد يطعنون فيه، ويحقِّرون من قدره، ويلتمسون القوادح والمعايب له، فطعنوا في العلَّامة صالح السُّحيمي، والشَّيخ العلَّامة سليمان الرحيلي، والشَّيخ الدُّكتور محمد بازمول، والشَّيخ الدُّكتور محمد بن ربيع المدخلي، والشَّيخ علي رضا، والشَّيخ علي السَّالم حفظهم الله، والشَّيخ عبد الرحمن محي الدِّين رحمه الله، وغيرهم كثير، وقد ذكرت بعض كلماتهم في مقالة من المقالات السَّابقة.
    كل ذلك لأنَّهم لا يستطيعون الجمع بين موالاة شيخهم وعلماء السُّنَّة؛ فأصبحوا على طريقة الرَّافضة القائلين في أئمَّتهم: لا ولاء إلا ببراء؛ أي لا ولاء لأهل البيت إلَّا بالبراءة من الصَّحابة، وهؤلاء -وإن لم يصرِّحوا بهذه الكلمة إلَّا أنَّهم يطبِّقونها ويعملون بها- أي لا ولاء لشيخهم إلا بالبراءة من كلِّ من خالفه، أو تكلَّم فيه، أو ردَّ عليه، أو فُهم من كلامه وطريقته أنَّه لا يرتضيه وأقوالَه التي خالف بها أهل الحقِّ.
    فهذه كلُّها دلائل على حزبيَّتهم المقيتة، وحميَّتهم الجاهليَّة، نسأل الله لنا ولهم الهداية.

    - الصِّنف الخَّامس: الجاهل المتورِّط:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي كانت سببا في زيغه عن الصِّراط المستقيم، وانحرافه عن الدِّين القويم؛ فهي: جملة من النُّصوص التي جاءت تأمر الجاهل بلزوم حدِّه، ومعرفة قدره، وعدم خوضه فيما لا يتقنه، ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأنَّ الواجب عليه أن يردَّ الأمر إلى أهله، ويسأل من كُلِّف بسؤالهم والرُّجوعِ إليهم، ثمَّ يتابعهم على ما أفتوه به وأرشدوه إليه؛ ومن تلكم النُّصوص:
    قول الله تعالى:" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)" سورة الإسراء.
    وقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)" سورة البقرة.
    وقوله تعالى:" قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)" سورة الأعراف.
    وقوله تعالى:" يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ" سورة الحجرات من الآية 12.
    وقوله تعالى:" قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)" سورة يونس.
    وقوله تعالى:" وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)" سورة يونس.
    وقوله تعالى:" مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ" سورة النساء من الآية 157.
    قال العلَّامة الشنقيطيُّ في "أضواء البيان" بعد سوقه لهذه الآيات عند تفسيره لقول الله تعالى:" وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ": والآيات بمثل هذا في ذم اتباع غير العلم المنهيِّ عنه في هذه الآية الكريمة كثيرة جداً. وفي الحديث:" إِيَّاكُمْ وَالظَّنَّ فَإِنَّ الظَّنَّ أَكْذَبُ الْحَدِيثِ"[3].
    - هذا والأصل في الجاهل أن لا يورِّط نفسه، بل يتريَّث فيما يقبل عليه، ولا يستعجل في كلِّ أموره:
    - عن الْحَسَنُ أَنَّ رَجُلًا تُوُفِّيَ وتَركَ ابْنًا لَه ومولَى لَه فَأوصى مَولاهُ بِابْنِهِ فَلم يَأْلُوهُ حَتَّى أَدركَ وزَوَّجهُ فَقال لَه: جَهزنِي أَطلب العِلم فَجهزهُ فَأتى عَالماً فَسأَله فَقال: إِذَا أَردت أنْ تَنطلق فَقل لِي أُعلِمْكَ فَقال: حَضر مِني الخُروجُ فَعلمني فَقال: اتقِ اللَّهَ واصبِر ‌وَلَا ‌تَستعجِل. قَال الحَسن: فِي هَذا الخَير كُلهُ فَجاء وَلَا يَكاد يَنساهُن إنَّما هُن ثَلاث فَلما جَاء أَهله نَزلَ عَن راحِلتِه فَلما نَزل الدَّار إِذَا هُو بِرجُلٍ نَائِم مُتراخٍ عَنِ المَرأة، وَإِذَا امرأَتهُ نَائمةُ، قَال وَاللَّهِ مَا أُريد مَا أَنتظرُ بِهذا، فَرجَع إِلَى رَاحلتِه فَلما أَراد أنْ يَأخذ السَّيفَ قَال: اتقِ اللَّهَ واصبِر ‌وَلَا ‌تَستَعجِل، فَرجع فَلما قَام عَلَى رأسِه قَال: مَا أنَتظر بِهذا شَيئاً فَرجع إِلَى راحلتِه فَلما أَراد أنْ يَأخذ سَيفَه ذَكرهُ فَرجع إِلَيْهِ، فَلما قَام عَلى رَأسِه استَيقَظ الرَّجلُ فَلما رَآهُ وثَب إليهِ فَعانَقهُ وقَبلهُ وسَاءَلَه. قَال: مَا أَصبتَ بَعدي؟ قَال: أَصبتُ وَاللَّهِ بَعدكَ خَيْرًا كَثِيرًا أَصبتُ وَاللَّهِ بَعدك أَني مَشيتُ اللَّيْلَةَ بَين السَيف وبَين رأسِك ثَلاثَ مِرار، فَحجَزنِي مَا أَصبتُ مِن العِلم عَن قتلك" رواه البخاري رحمه الله في "الأدب المفرد" تحت باب التؤدة في الأمور وصحح إسناده الإمام الألباني رحمه الله في "صحيح الأدب المفرد" رقم 454.
    - ومن أعظم ما ينجي الجاهل مع تقواه وصبره وعدم استعجاله: الرُّجوع لأهل العلم المعروفين بسلامة المنهج، وصحَّة المعتقد؛ كما أمره ربه سبحانه وتعالى:
    قال الله سبحانه:" وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43)" سورة النحل.
    وقال تعالى:" وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) " سورة الأنبياء.
    - وكل هذه النُّصوص المتقدِّمة قد فرَّط فيها هذا الصِّنف من الفراكسة المقدِّسة، ولو أنَّهم عملوا بما أمروا به، ورغِّبوا فيه، لكان أفضلَ لهم، وأبعدَ من افتتانهم، وأقربَ إلى هدايتهم وثباتهم؛ قال الله تعالى:" وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68)" سورة النساء من الآية 66 والآيتان 67-68.
    ويشهد الله سبحانه ثمَّ العديد من إخواننا السَّلفيِّين أن وصيَّتي لإخواني في أوَّل الفتنة كانت أثرَ الحسن البصري المتقدِّم، فمنهم من استجاب -والحمد لله-، ومنهم من ركب رأسه وخاض فيما نُهي عنه مع جهله، والآن هو من أتباع المقدَّس قد تورَّط في نصرته والدِّفاع عنه، والتَّعرض لكلِّ من خالفه بالطَّعن والقدح، والكلام السَّيِّء القبيح، نسأل الله لنا ولهم الهداية.
    ومع ذلك أقول لهؤلاء: لا يدفعكم سوء صنيعكم، وخوضكم في الأعراض وتورُّطُكم، أن تستمرُّوا على باطلكم، وتزدادوا خوضا في الأوحال التي تكون فيها هلكتكم، بل ارجعوا إلى رشدكم، وتوبوا إلى ربِّكم، وتحلَّلوا ممن ظلمتموهم، وهم إن شاء الله –نحسبهم والله حسيبهم- سيتجاوزون عنكم، ويسامحونكم، ليس كالمقدَّس الذي قال وهو يتكلم على أحد الدُّعاة إلى الله أنَّه ولو تراجع لا يُقبل منه ونحوه من الكلام الباطل نسأل الله السَّلامة والعافية.

    - الصِّنف السَّادس: الجاهل المقلِّد:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي كانت سببا في زيغه عن الصِّراط المستقيم، وانحرافه عن الدِّين القويم؛ فهي: النُّصوص نفسها التي تقدَّم ذكرها في الأصناف المتقدِّمة والتي تأمر الجاهل بلزوم حدِّه، ومعرفة قدره، وعدم خوضه فيما لا يتقنه، ولا يدخل تحت طاقته وقدرته، وأن الواجب عليه أن يردَّ الأمر إلى أهله، ويسأل من كُلِّف بسؤالهم والرُّجوع إليهم، ثم يتابعهم على ما أفتوه به وأرشدوه إليه، ومع هذا فإنَّ كلَّ واحد من هذا الصِّنف إلَّا وتجده يختار المذاهب عند اختلاف النَّاس على وفق طرق غير شرعيّة، وطرائق تخالف الطريقة السَّلفيَّة وهي:
    - كاختياره للمذهب لأن من يعتقده عالما أو صالحا مستقيما صار في ذلكم الجانب:
    فليس كل من تعتقده عالما يكون كذلك وممَّا يدلُّ على هذا الآتي:
    - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – يَقُولُ:" إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا، اتَّخَذَ النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا" رواه البخاري ومسلم.
    - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" كَانَ فِيمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ رَجُلٌ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَسَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَاهِبٍ فَأَتَاهُ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ نَفْسًا فَهَلْ لَهُ مِنَ تَوْبَةٍ فَقَالَ لاَ. فَقَتَلَهُ فَكَمَّلَ بِهِ مِائَةً ثُمَّ سَأَلَ عَنْ أَعْلَمِ أَهْلِ الأَرْضِ فَدُلَّ عَلَى رَجُلٍ عَالِمٍ فَقَالَ إِنَّهُ قَتَلَ مِائَةَ نَفْسٍ فَهَلْ لَهُ مِنْ تَوْبَةٍ فَقَالَ نَعَمْ وَمَنْ يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ التَّوْبَةِ انْطَلِقْ إِلَى أَرْضِ كَذَا وَكَذَا فَإِنَّ بِهَا أُنَاسًا يَعْبُدُونَ اللَّهَ فَاعْبُدِ اللَّهَ مَعَهُمْ وَلاَ تَرْجِعْ إِلَى أَرْضِكَ فَإِنَّهَا أَرْضُ سَوْءٍ. فَانْطَلَقَ حَتَّى إِذَا نَصَفَ الطَّرِيقَ أَتَاهُ الْمَوْتُ فَاخْتَصَمَتْ فِيهِ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ وَمَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ فَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ جَاءَ تَائِبًا مُقْبِلاً بِقَلْبِهِ إِلَى اللَّهِ. وَقَالَتْ مَلاَئِكَةُ الْعَذَابِ إِنَّهُ لَمْ يَعْمَلْ خَيْرًا قَطُّ. فَأَتَاهُمْ مَلَكٌ فِي صُورَةِ آدَمِيٍّ فَجَعَلُوهُ بَيْنَهُمْ فَقَالَ قِيسُوا مَا بَيْنَ الأَرْضَيْنِ فَإِلَى أَيَّتِهِمَا كَانَ أَدْنَى فَهُوَ لَهُ. فَقَاسُوهُ فَوَجَدُوهُ أَدْنَى إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أَرَادَ فَقَبَضَتْهُ مَلاَئِكَةُ الرَّحْمَةِ". قَالَ قَتَادَةُ فَقَالَ الْحَسَنُ ذُكِرَ لَنَا أَنَّهُ لَمَّا أَتَاهُ الْمَوْتُ نَأَى بِصَدْرِهِ. رواه البخاري ومسلم واللفظ لمسلم.
    ففي الحديثين ما يدلُّ على أنَّ النَّاس قد يعتقدون عالما من ليس بعالم، ويرجعون إليه ويستفتونه وقد يكون سبب هلكتهم، وهذا بسبب جهلهم وضعف بصيرتهم، وكان الواجب في حقهم أن يسألوا أهل العلم عن كل من تصدر للتعليم والفتيا؛ فإذا نصحوا به، وحكموا بأهليته، أخذ عنه وإلَّا تُرك لغيره، لا أن يحكُموا هم مع جهلهم على الرِّجال، ثمّ حتَّى لو كان الرَّجل معدلا ثم جرحه العلماءُ بعد تعديلهم له وجب الأخذ بقولهم، والاعتماد على أحكامهم، لأنَّه الأصل الذي أمر الله تعالى به وحضَّ عليه.
    - كما أنه ليس كل من تعتقده صالحا يكون كذلك ومما يدلُّ على هذا الآتي:
    - عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ -رضي الله عنه- أَنَّهُ قَالَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَقُولُ:" يَخْرُجُ فِيكُمْ قَوْمٌ تَحْقِرُونَ صَلاَتَكُمْ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَعَمَلَكُمْ مَعَ عَمَلِهِمْ، وَيَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لاَ يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينَ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ فِي النَّصْلِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الْقِدْحِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا، وَيَنْظُرُ فِي الرِّيشِ فَلاَ يَرَى شَيْئًا، وَيَتَمَارَى فِي الْفُوقِ" رواه البخاري ومسلم.
    بل قد يكون صالحا ولا يصلح لاتِّباعه والاقتداء به؛ لضعف علمه وبصيرته، أو لوقوعه في البدع التي قد تخفى على مثله، أو حتَّى لتعمُّده لها مع علمه الذي يُفترض أن يعصمه منها، والأمثلة على هذا كثيرة؛ وانظر على سبيل المثال: ترجمة الحسن بن صالح بن حيٍّ.
    - أو اتِّخاذه للموقف واختياره للمذهب بناء على كون الأكثر صاروا في ذلكم الجانب:
    وهذا من جهلهم المخيِّم عليهم بكتاب الله العظيم وطريقة السَّلف الصَّالحين، فالحقُّ لا يعرف بعدد متابعيه؛ فالكثرة لا تعني عند أهل الحقِّ شيئا، بل في كثير من الأحيان تكون في جانب أهل الباطل كما هو معلوم من كتاب الله سبحانه:
    قال الله تعالى:" وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)" سورة الأنعام.
    وقال تعالى:" إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ" سورة ص من الآية 24.
    وقال تعالى:" وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ" سورة سبأ من الآية 13.
    والآيات في هذ المعنى كثيرة تذمُّ الكثرة وتمدح القلَّة فليست الكثرة دليلا على الحقِّ في الغالب.
    أما طريقة السَّلف فهي واضحة في هذه المسألة وقد وردت آثار عنهم منها: أثر جليل معروف عند معظم السَّلفيِّين والحمد لله ربِّ العالمين وهو:
    - عن الفضيل بن عياض - رحمه الله تعالى-:" اتَّبعْ طُرقَ الهُدى ولا يَضرك قلَّةُ السَّالكينَ، وإِيَّاكَ وطُرُقَ الضَّلالة، ولا تغترَّ بكثرة الهالكين".
    - عن سفيان بن عيينة، يقول: " كان يقال:" اسلكوا سبل الحقِّ ولا تستوحشوا من قلِّة أهلها" حلية الأولياء.
    وهذا المذكور في هذا الأثر من الأسباب التي لوحظ في هذه الفتنة أنَّه كان له الأثر البالغ في تنكُّب بعضهم للحقِّ والطَّريق السَّويِّ، وسلوكهم للباطل والسَّبيل الملتوي، من العوامِّ وهم الأكثر، وطلَّاب العلم والأسف عليهم أكبر.
    فكثير من عوامِّهم اجتمع عليهم الجهل بحقائق الأمور، والغلوُّ والتقدِّيس للدكتور، واتِّباع الأكثر –وإن كانوا عوامًّا- ظانًّا منهم أن الحقَّ دوما مع الأكثر والجمهور، أو عجزا عن مخالفتهم، وخوفا من انعزالهم عنهم، وتعظيما لوحشة الانفراد، وحرصا على صحبة سلكت غير طريق السَّداد والرَّشاد.
    وأمَّا طلبة العلم منهم فأكثرهم على علم بالحقِّ وأهله ولكنَّهم اغترُّوا بكثرة الهالكين، وخافوا نفرتهم عنهم وانفضاضهم من حولهم، وذهاب منزلتهم من قلوبهم، وبخاصَّة إذا اجتمع مع هذه الأمور أن يكون محتاجا في شيء من دنياه إليهم، ومنتفعًا في تحصيل بعض مصالحه بهم.
    - فاختار أن يكون رأسا في أهل الباطل مع علمه بما ورد عن السَّلف من النَّهي عن ذلك، والتَّرغيب في لزوم الحقِّ ولو أدَّى إلى أن يكون تابعا لغيره، نازلا في منزلته، ومن كلمات سلفنا في هذا الأمر:
    قول عبيد الله بن الحسن:" لَأَنْ أَكُونَ ذَنَبًا فِي الْحَقِّ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ".
    وهذا من الآثار التي ضيَّعها الكثيرون في هذه الفتنة، فتسبب ذلك في انحرافهم عن طريق أهل السُّنَّة، فكم رأينا في هذه الفتنة من أبى أن ينقاد للحقِّ وأصرَّ على الباطل وعلى رأسهم المقدَّس فيهم وذلك لأسباب كثيرة منها:
    - مخافة أن تزول مكانته، ويسقط من أعين النَّاس قدره، فاختار أن يُخفي على النّاس خَطأه، حفاظا على رياسته وتقدُّمه؛ ولو كان ذلك في الباطل والعياذ بالله.
    - استنكافا من اتِّباع من هو دونه ممن فُضِّل عليه بالتَّوفيق لإصابة الحقِّ الذي غاب عنه؛ ظنًّا منه أن اتِّباعه للأدنى يُزري به، ويُنقص من قدره، ويرفع غيره عليه، وكلُّ هذا بسبب رؤيته لنفسه، وإحسانه الظَّنَّ بشخصه، وحسدا لمن هو دونه أن يرفع في العلم عليه، بخلاف ما كان عليه علماء السُّنَّة وأئمَّة المِّلَّة.
    - خوفا من أن ينفضَّ النَّاس من حوله إذا اطَّلعوا على خطئه الذي وُفِّقَ له غيره؛ أولئك الذين طلب رضاهم، وحرص على أن يبقى معظَّما عندهم، ونسي أنَّهم لا ينفعون ولا يضرُّون، ولا يقدِّمون ولا يأخِّرون، وأنَّ رضى الله هو المطلوب، ولا يكون إلا بلزوم الحقِّ والخضوع له.
    - خوفا من أن يظهر على حقيقته التي يخفيها عن غيره، ولا يريد أن يطَّلع عليها أحد من أتباعه والمعظِّمين له، وهي أنُّه يصيب ويخطأ، ويضبط ويغلط، ونسي أو تناسى أنَّه بشر، وأن هذا من بشريَّته التي لا يمكن أن ينفكَّ عنها، ولا أن يّسْلَمَ منها، وكفى المرء نبلا أن تعدَّ معايبه.
    - حرصا على مكانة يطلبها، ولم يجد سبيلا إليها؛ فلما ظهرت هذه الفتنة لمس فيها بغيته، ووجد فيها ضالَّته، فالتحق بالركب، وسار مع المقدِّسة على الدَّرب، فتمكَّن من حلول منزلة في محلَّته، ونيل شرف طالما حرص عليه؛ كتشييخ كان أسمى أمانيه، أو تدريس لم يكن –لو لا هذه الفتنة- ليقوم به، ونسي هؤلاء جميعا أنهم لن يعدُوا قدرهم ولن يتجاوزوا حدَّهم، وأنَّهم سعوا إلى حتفهم بظلفهم، وقبروا أنفسهم بأيديهم، لأنَّهم اتَّبعوا من سلك غير السَّبيل، وخبط في الشَّرع خبط أهل الضَّلال والتَّضليل.
    وللأثر هذا سبب يحسن إيراده ليظهر حال السَّلف الذي خالفه هؤلاء الصَّعافقة، وعلى رأسهم شيخُهم ومعظَّمُهم ومقدَّسُهم:
    - عن عبد الرحمن بن مهدي يقول:" كنّا في جنازةٍ فيها عُبيدُ الله بن الحسن وهو على القَضاء، فلمَّا وُضِعَ السَّرِير جلس، وجلس الناس حولَه، قال: فسألتُه عن مسألةٍ، فغَلِطَ فيها فقلت: أصلحك الله، القولُ في هذه المسألة كذا وكذا، إلا أَنِّي لم أُرِدْ هذه، إنما أردتُ أن أدفعَك إلى ما هو أكبرُ منها، فأطرقَ ساعة ثمَّ رفع رأسَه فقال: إذا أرجِع وأنا صاغِرٌ، إذا أرجِع وأنا صاغرٌ، لأَنْ أكونَ ذَنَباً في الحق أحبُّ إِلَيَّ من أن أكونَ رأسا في الباطل".
    ومثله ما جاء :
    - عَنْ مَعْمَرٍ قَالَ: قُلْتُ لِحَمَّادٍ: كُنْتَ رَأْسًا، وَكُنْتَ إِمَامًا فِي أَصْحَابِكَ، فَخَالَفْتَهُمْ؛ فَصِرْتَ تَابِعًا قَالَ:" إِنِّي أَنْ أَكُونَ تَابِعًا فِي الْحَقِّ خَيْرٌ مِنْ أَنْ أَكُونَ رَأْسًا فِي الْبَاطِلِ".
    هكذا كانت أحوال السَّلف دالَّةً أقوالُهم عليها، والتي ضيَّعها هؤلاء الصَّعافقة وتنكَّبوا طريقها، وهم ينتمون إليهم، وينتسبون إلى منهجهم، ومنهج الأسلاف بريء منهم ومن شيخهم ومقدَّسهم.
    ولهذا الصِّنف أقول: يا هؤلاء اتَّقوا الله ربَّكم، وتداركوا أنفسكم قبل أن يفوتكم الأوان، وتصيروا إلى الذلِّ والهوان، بل قد صرتم إليه وإن لم تتفطَّنوا له، لأنَّ المُقيمَ بين القُمامة لا يجدُ نتانةَ ريحِها، والفَاقِدَ للبصر لا فرق عنده بين نور الدُّنيا وظلمتها.
    - أو اختياره للمذهب اتِّباعا لأول ناعق نعق به، ودعاه إلى مذهبه:
    وهذا حال كثير من المقلِّدة أنَّهم إنَّما يتَّبعون عند الاختلاف من سبق إليهم وكلَّمهم بما أثَّر به على قلوبهم، ولذلك أُثر عن السَّلف ما يدلُّ على أنَّ من سبق أهل السُّنَّة إليه، فهذا من نعم الله العظيمة عليه:
    روى اللالكائي رحمه الله في "شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة":
    - عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ شَوْذَبٍ, عَنْ أَيُّوبَ, قَالَ:" إِنَّ مِنْ سَعَادَةِ الْحَدَثِ وَالْأَعْجَمِيِّ أَنْ يُوَفِّقَهُمَا اللَّهُ لِعَالِمٍ مِنْ أَهْلِ السُّنَّةِ".
    - عَنِ ابْنِ شَوْذَبٍ, قَالَ:" إِنَّ مِنْ نِعْمَةِ اللَّهِ عَلَى الشَّابِّ إِذَا نَسَكَ أَنْ يُؤَاخِيَ صَاحِبَ سُنَّةٍ يَحْمِلُهُ عَلَيْهَا.
    لأنّ الجاهل لا يميِّز بين الحقِّ والباطل، ولذلك فهو تابعٌ لمن سبق إليه، آخذٌ بكلِّ ما يأتيه من قِبَلِهِ، ولهذا كان طلب العلم واجبا، والخروجُ عن دائرة التَّقليدِ متحتما، حتَّى يصير العبد على بصيرة من أمره، فلا يأخذ إلَّا عمَّن صحَّ مُعتقده وسَلِمَ منهجه، وإذا وقع الخلاف ولو بين السَّلفيِّين السُّنيِّين تبصَّر ونظر ولم يكن كالبهيمة كلُّ من سبق إلى لجامها قادها إلى ما يريده منها.
    - أو اتِّباعا لأصحابه وأهل أنسه ممن لا يقوى على مفارقتهم، ولا يتصوَّر نفسه بعيدا عنهم:
    وهذا من قلَّة تديُّنهم وصدقهم، وقد يكون من ضعف يقينهم وإخلاصهم؛ إذ قدَّموا رضا الأصحاب والخلَّان، على رضا خالق الإنس والجان، كما أنَّه قد يكون من نسيانهم لنصوص شرعيَّة إمَّا نسيانا علميًّا أو نسيانا عمليًّا ومنها:
    قول الله تعالى:" هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67)" سورة الزخرف.
    وقوله تعالى:" وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)" سورة الفريقان.
    ولأجل هذا جاء عن النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم الأمر باختيار الأصحاب والأصدقاء، والخلَّان والجلساء:
    - عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَلْيَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ" رواه أبو داود وغيره وحسنه العلامة الألباني رحمه الله في "صحيح الجامع" رقم3545.
    - عَنْ أَبِي مُوسَى -رضي الله عنه- عَنِ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ:" مَثَلُ الْجَلِيسِ الصَّالِحِ وَالسَّوْءِ كَحَامِلِ الْمِسْكِ وَنَافِخِ الْكِيرِ، فَحَامِلُ الْمِسْكِ إِمَّا أَنْ يُحْذِيَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَبْتَاعَ مِنْهُ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ مِنْهُ رِيحًا طَيِّبَةً، وَنَافِخُ الْكِيرِ إِمَّا أَنْ يُحْرِقَ ثِيَابَكَ، وَإِمَّا أَنْ تَجِدَ رِيحًا خَبِيثَةً" رواه البخاري ومسلم.
    فالصَّاحب الذي تبيع دينك من أجله هو عدوٌّ في حقيقته، وحتَّى لو لم يبق معك أحد فأنت مع الأحد الصَّمد الذي لم يلد ولم يولد، كما أنَّك على طريق خير خلق الله والخُلَّصِ من عباده:
    قال الله تعالى:" اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)" سورة الفاتحة.
    قال الإمام ابن القيم رحمه الله في "مدارج السالكين" ج1 ص45:" وَلَمَّا كَانَ طَالِبُ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ طَالِبَ أَمْرٍ أَكْثَرُ النَّاسِ نَاكِبُونَ عَنْهُ، مُرِيدًا لِسُلُوكِ طَرِيقٍ مُرَافِقُهُ فِيهَا فِي غَايَةِ الْقِلَّةِ وَالْعِزَّةِ، وَالنُّفُوسُ مَجْبُولَةٌ عَلَى وَحْشَةِ التَّفَرُّدِ، وَعَلَى الْأُنْسِ بِالرَّفِيقِ، نَبَّهَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ عَلَى الرَّفِيقِ فِي هَذِهِ الطَّرِيقِ، وَأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ "أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" [النساء: 69] فَأَضَافَ الصِّرَاطَ إِلَى الرَّفِيقِ السَّالِكِينَ لَهُ، وَهُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، لِيَزُولَ عَنِ الطَّالِبِ لِلْهِدَايَةِ وَسُلُوكِ الصِّرَاطِ وَحْشَةُ تَفَرُّدِهِ عَنْ أَهْلِ زَمَانِهِ وَبَنِي جِنْسِهِ، وَلِيَعْلَمَ أَنَّ رَفِيقَهُ فِي هَذَا الصِّرَاطِ هُمُ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَلَا يَكْتَرِثُ بِمُخَالَفَةِ النَّاكِبِينَ عَنْهُ لَهُ، فَإِنَّهُمْ هُمُ الَأَقَلُّونَ قَدْرًا، وَإِنْ كَانُوا الْأَكْثَرِينَ عَدَدًا، كَمَا قَالَ بَعْضُ السَّلَفِ:" عَلَيْكَ بِطَرِيقِ الْحَقِّ، وَلَا تَسْتَوْحِشْ لِقِلَّةِ السَّالِكِينَ، وَإِيَّاكَ وَطَرِيقَ الْبَاطِلِ، وَلَا تَغْتَرَّ بِكَثْرَةِ الْهَالِكِينَ"، وَكُلَّمَا اسْتَوْحَشْتَ فِي تَفَرُّدِكَ فَانْظُرْ إِلَى الرَّفِيقِ السَّابِقِ، وَاحْرِصْ عَلَى اللَّحَاقِ بِهِمْ، وَغُضَّ الطَّرْفَ عَمَّنْ سِوَاهُمْ، فَإِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَإِذَا صَاحُوا بِكَ فِي طَرِيقِ سَيْرِكَ فَلَا تَلْتَفِتْ إِلَيْهِمْ، فَإِنَّكَ مَتَى الْتَفَتَّ إِلَيْهِمْ أَخَذُوكَ وَعَاقُوكَ" اهـ.
    هذا مع أنَّ من ذهب في هذه الفتنة –كسابقاتها- لا يؤسف على أغلبهم؛ لِمَا كانوا عليه، وعرفوا حتَّى بين العوامِّ به، فكانوا عبئا ثقيلا على السَّلفيَّة وأهلها، يضطَّرون إخوانهم إلى التَّبرير في كثير من الأحيان لهم، ولَمْلَمَةِ ما كانوا يفسدونه بجهلهم أو سوء أعمالهم وتصرُّفاتهم وأخلاقهم، فالسَّويُّ لا يحزن على أمثال هؤلاء فضلا أن يبيع دينه من أجلهم.
    - الصِّنف السَّابع: المنحرف الأصليُّ:

    فأمَّا النُّصوص الشَّرعيَّة التي فرَّط فيها هذا الصِّنف، والتي هي سبب فيما هو عليه ويتبناه في حياته -إمّا بنصرته للباطل إذ يظنُّه الحقَّ الذي لا حقَّ غيره أو بتظاهره بلزوم السَّلفيَّة وهو عدوٌّ لها يبغي الغوائل لأهلها- فكثيرة جدا: كالنُّصوص الآمرة بلزوم الحقِّ وأهله، وترك الباطل وذويه، وكالنُّصوص النَّاهية عن النِّفاق والآمرة بالصِّدق، وكالنُّصوص الأخرى التي جاءت تذمُّ المكر والخداع والخيانة، وتخبر عن سوء مغبَّتها في الدُّنيا والآخرة؛ ومن أمثلتها:
    قول الله تعالى:" وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)" سورة البقرة.
    وقوله تعالى:" وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)" سورة الأنفال.
    وقوله تعالى:" وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)" سورة آل عمران.
    وقوله تعالى:" قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26)" سورة النحل.
    وقول النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم:" الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ وَالْخِيَانَةُ فِي النَّارِ" رواه أبو داود في مراسيله عن الحسن مرسلا وحسَّنه العلَّامة الألبانيُّ في "صحيح الجامع" رقم6726 وفي غيره.
    وصحَّ مرفوعا إلى النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم فعَنْ قَيْسِ بْنِ سَعْدٍ، قَالَ: لَوْلَا أَنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:" الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ " لَكُنْتُ أَمْكَرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ. رواه البيهقي في "الشُّعب" وصحَّحه الألبانيُّ رحمه الله في "الصحيحة" رقم1057.
    وهذا الصِّنف وبخاصَّة القسم المندسُّ منه؛ ممكورٌ به وهو يظنُّ أنَّه يمكر بأهل الحقِّ جهده، مخدوعٌ وهو يظنُّ أنَّه خدع السَّلفيِّين بذكائه وفطنته؛ فهو ساع في سبيل هلاك نفسه وذلَّتها، ويعتقد أنَّه ينفعها ويرفع من قدرها؛ "وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ" سورة يوسف من الآية 21.
    ووالله لو لم يكن في مثل هذه الفتن، إلَّا أن يخرج الله بها المندَّس بين السَّلفيِّين الكامن؛ لكفى بها نعمة على أهل السُّنَّة، ومنَّة عظيمة على أتباع نَبِيِّ الرَّحمة، وسلف الأمَّة.
    وكل هذه الأصناف المتقدِّمة قد تركوا قواعد سلفيَّة مهمَّة كان تركهم لها سببا في ضلالهم وانحرافهم وزيغهم عن الصِّراط المستقيم؛ منها:
    - لا معصوم بعد النبي المعصوم صلوات الله وسلامه وبركاته عليه، فقد عاملوا المقدَّس معاملة من لا يخطأ ولا ينبغي له أن يخطأ فغلو غلوًّا شديدا فيه، وبالغوا في تعظيمه إلى أن وقعوا في تقديسه.
    - كل يؤخذ من قوله ويردُّ إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما قال إمام دار الهجرة.
    - أن العالم يحتجُّ له ولا يحتجُّ به.
    - أَنَّ الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ ‌لِفَضْلِ ‌قَائِلِهِ وَإِنَّمَا يَصِحُّ بِدَلَالَةِ الدَّلِيلِ عَلَيْهِ، كما قال الإمام ابن عبد البر في "جامع بيان العلم وفضله" ج2 ص994.
    - أن العالم معرض بسبب بشريته للزَّيغ والزَّلل.
    والخلاصة: أنَّ سبب زيغهم عن الصِّراط المستقيم، والمنهج القويم، هو: تركهم لهذه النُّصوص الشَّرعيَّة العظيمة، والآثار السَّلفيَّة الكريمة، والقواعد المأخوذة منها، والأصول المبنيَّة عليها، فلا يَظُنَّنَّ أحدٌ أنَّهم صاروا في منأى عن السَّلفيَّة وهم متمسِّكون بأصولها لم يتركوا شيئا منها، لأنَّ حقيقتهم أنَّهم تخلَّوا عن السَّلفيَّة التي ينتسبون إليها بتخلِّيهم عن حقيقتها، وعن أعظم أصولها: كتابِ الله بترك كثير من آياته، وسنَّة النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلم بترك كثير من أحاديثه، وآثار السَّلف بترك جُملةٍ هامَّةٍ منها، وكُلُّ هذا استوجب لهم الوصول إلى ما هم عليه، وما ربك بظلَّامٍ للعبيد.
    والعبرة العظيمة التي تؤخذ من هذه الوقائع: أنَّ العبد ما دام يخالف نصوص الكتاب والسُّنَّة في نواحي عديدة من الدِّين، فلا يأمنُ على نفسه أن ينجرَّ إلى الخروج من السَّلفيَّة، بل من دين ربِّ البريَّة، والحديث المتقدِّم الذي رواه الإمام مسلم عن أبي هريرة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:" بَادِرُوا بِالأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا" خير دليل على هذه الحقيقة المُخيفة، قال تعالى:" فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ" سورة النور من الآية 63.
    هذا والله أعلم وصلَّى الله وسلَّم على نبيِّنا محمَّد وعلى آله وصحبه ومن اتَّبع هديه واقتفى أثره إلى يوم الدِّين.
    وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلَّا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    وكتبه:
    أبو عبد السلام عبد الصمد بن الحسين سليمان

    يوم السبت: 22 ربيع الأول 1445 هـ
    07 / 10 / 2023 م


    ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
    [1]- ولي رسالة قمت فيها بجمع ما يتعلق بهذا الداء العضال من كلام الإمام ابن القيم رحمه الله أسأل الله جل وعلا الإعانة على إتمامها ونشرها على صفحات هذه المنتديات.
    [2]- انظر كتاب "العين" للخليل بن أحمد الفراهيدي ‌‌باب الحاء والقاف والدال.
    [3]- رواه البخاري ومسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.


    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2023-10-08, 09:39 AM.

  • #2
    جزاك الله خيرا اخي الفاضل وبارك فيك عبد الصمد

    تعليق


    • #3
      بارك الله فيكم

      تعليق


      • #4
        جزاك الله خيرا وبارك الله فيك أخي أبا الحسين على هذا المقال الطيب النافع.

        تعليق


        • #5
          جزاكم اللّه خيرا و بارك فيكم أخي عبد الصمد .

          تعليق


          • #6
            جزاكم الله خيرا و وفقكم لنصر الكتاب و السنة بفهم سلف الامة رضوان الله عليهم اجمعين

            تعليق


            • #7
              جزى الله خيرا شيخنا ووالدنا أزهر سنيقرة حفظه الله ورعاه وثبتنا وإياه على الحق المبين ووفقنا وإياه لكل خير ورفع قدره وأجزل مثوبته إنه ولي ذلك والقادر عليه.
              وجزى الله خيرا سائر إخواننا المعلقين على دعواتهم الطيبة وبارك الله فيهم ونفع بهم.

              تعليق

              الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
              يعمل...
              X