بسم الله الرحمن الرحيم
الرّسالة الموجهة الأولى
الرّسالة الموجهة الأولى
الحمد لله والصّلاة والسّلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه أمّا بعد:
أريد أن أوجّه سؤالا للفراكسة المقدّسة ماذا لو سُجن شيخُكم أو قتل من قبل السّلطان؟ هل يوجد فيكم اليوم من يقف موقف الصّحابة الكرام وأئمّة الإسلام تجاه السّلطان القائم والإمام الحاكم؟ أم أنّكم ستثورون ولمنهج الخوارج تسلكون؛ على الأقل بألسنتكم بسبه وشتمه والقدح فيه وتأليب من استطعتم من الغوغاء عليه، هذا إن لم تصرّحوا بتكفيره؛ كما فعل بعضكم اليوم مع وجود العافية.
المثال الأول:
من فعل صحابي من أفضل الصّحابة رضوان الله عليهم وهم قدوتنا وأسوتنا وعلى اتّباعهم يبنى منهجنا الذي تزعمون الانتساب إليه.
ماذا فعل الصّحابة رضوان الله عليهم لما قتل الحجّاج بن يوسف الثّقفي عبد الله بن الزّبير رضي الله عنهما، ونكّل بجثّته فصلبه ثمّ بعد أن أنزله ألقاه في قبور شرّ خلق الله سبحانه؛ وهو صحابيّ رضي الله عنه وأرضاه، وأبوه الصّحابي الجليل حواري رسول الله وابن عمّته الزّبير بن العوام رضي الله عنه، وأمّه الصّحابيّة الكريمة ذات النِّطاقين أسماء بنت أبي بكر الصّديق رضي الله عنهما وجده الخليفة الرّاشد الأوّل وأفضل أصحاب النبّيّ صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصّديق رضي الله عنه وأرضاه، وخالته الصّديقة بنت الصّديق عائشة زوج النّبيّ صلى الله عليه وسلم ورضي الله عنها وأرضاها.
كلّ هذا؛ ولمّا قتل وصلب لم يثر الصّحابة على الحجّاج، ولم يخلعوا يدا من طاعة ولا ألّبوا النّاس على من فعل هذه الأفعال الشّنيعة، وإليك ما وقع من بعض الصّحابة يا من تنتسب إلى السّلفيّة وتدّعي سلوك الطّريقة السّويّة.
روى مسلم في صحيحه: عَنْ أَبي نَوْفَلِ رَأَيْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْرِ عَلَى عَقَبَةِ الْمَدِينَةِ قَالَ -فَجَعَلَتْ قُرَيْسٌ تَمُرُّ عَلَيْهِ وَالنَّاسُ حَتَّى مَرَّ عَلَيْهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَوَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: السّلامُ عَلَيْكَ أَبَا حُبَيْبِ السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا حُبَيْبِ، السَّلامُ عَلَيْكَ أَبَا حُبَيْبِ؛ أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنْتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا، أَمَا وَاللَّهِ لَقَدْ كُنتُ أَنْهَاكَ عَنْ هَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنْ كُنتَ مَا عَلِمْتُ صَوَّامًا قَوَّامًا وَسُولاً لِلرَّحِمِ، أَمَا وَاللَّهِ لأُمَّةٌ أَنْتَ أَشَرُّهَا لِأُمَّةٌ خَيْرٌ. ثُمَّ نَفَدَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ فَبَلَغَ الْحَجَّاجَ مَوْقِفُ عَبْدِ اللَّهِ وَقَوْلُهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ فَأُنْزِلَ عَنْ جِذْعِهِ فَأُلْقِيَ فِي قُبُورِ الْيَهُودِ ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَى أُمِّهِ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ فَأَبَتْ أَنْ تَأْتِيَهُ فَأَعَادَ عَلَيْهَا الرَّسُولَ لَتَأْتِيَنِّي أَوْ لأَبْعَثَنَّ إِلَيْكِ مِنْ يَسْحَبُكِ بِقُرُونِكِ قَالَ فَأَبَتْ وَقَالَتْ وَاللَّهِ لا آتِيكَ حَتَّى تَبْعَثَ إِلَيَّ مَنْ يَسْحَبُنِي بِقُرُونِي -قَالَ- فَقَالَ أَرُونِي سِبْتَي. فَأَخَذَ نَعْلَيْهِ ثُمَّ انْطَلَقَ يَتَوَفَّفُ حَتَّى دَخَلَ عَلَيْهَا فَقَالَ: كَيْفَ رَأَيْتِنِي صَنَعْتُ بِعَدُوّ اللَّهِ قَالَتْ: رَأَيْتُكَ أَفْسَدْتَ عَلَيْهِ دُنْيَاهُ وَأَفْسَدَ عَلَيْكَ آخِرَتَكَ، بَلْغَنِي أَنَّكَ تَقُولُ لَهُ: يَا ابْنَ ذَاتِ النِّطَاقَيْنِ أَنَا وَاللَّهِ ذَاتُ النِّطَاقَيْنِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكُنْتُ أَرْفَعُ بِهِ طَعَامَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم - وَطَعَامَ أَبِي بَكْرِ مِنَ الدَّوَابِّ، وَأَمَّا الْآخَرُ فَبِطَاقُ الْمَرْأَةِ التي لا تَسْتَغْنِي عَنْهُ أَمَا إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- حَدَّثَنَا : أَنَّ فِي ثَقِيفِ كَذَّابًا وَمُبِيرًا". فَأَمَّا الْكَذَّابُ فَرَأَيْنَاهُ، وَأَمَّا الْمُبِيرُ فَلَا إخالُكَ إِلَّا إِيَّاهُ -قَالَ- فَقَامَ عَنْهَا وَلَمْ يُرَاجِعُهَا.
إذن هذا هو فعل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وهذا قوله لعبد الله بن الزّبير وهو مقتول مصلوب.
والسّؤال الموجّه إليكم لو فعل بشيخكم أقلّ من هذا الذي فعل بأحد أفضل الصّحابة وأشرفهم نسبا وأكثرهم علما وأعظمهم عبادة وجهادا في سبيل الله كيف كنتم ستتصرّفون وما أنتم على الأقلّ يومها قائلون؟!
إنّ ما يدور في صفحاتكم ومجموعاتكم ومواقع التّواصل من كلماتكم ومنشوراتكم اليوم -وشيخكم في عافية- لَيدلّ أعظم الدّلالة على ما سيكون عليه حالكم لو وقع بعض هذا بشيخكم! والله المستعان.
المثال الثّاني: من فعل إمام من أئمّة الإسلام وعلمائه المقدّمين العظام وهو الإمام أحمد رحمه الله:
قال الشيخ عبد السلام بن برجس رحمه الله في معاملة الحكّام في ضوء الكتاب والسّنّة ص8-9 وهو يتكلّم على الإمام أحمد رحمه الله: "فلقد تبنّى الولاة في زمنه أحد المذاهب الفكريّة السّيّئة، وحملوا النّاس عليه بالقوّة والسّيف وأهريقت دماء جمّ غفير من العلماء بسبب ذلك، وفرض القول بخلق القرآن الكريم على الأمّة، وقرّر ذلك في كتاتيب الصّبيان... إلى غير ذلك من الطّامّات والعظائم، ومع ذلك كلّه فالإمام أحمد لا ينزعه هوى ولا تستجيشه العواطف "العواصف"، بل ثبت على السّنّة؛ لأنّها خير وأهدى، فأمر بطاعة وليّ الأمر، وجمع العامّة عليه، ووقف كالجبل الشّامخ في وجه من أراد مخالفة المنهج النّبويّ والسّير السّلفيّ؛ انسياقا وراء العواطف المجرّدة عن قيود الكتاب والسّنّة، أو المذاهب الثّوريّة الفاسدة.
يقول حنبل رحمه الله تعالى: "اجتمع فقهاء بغداد في ولاية الواثق إلي أبي عبد الله يعني: الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى -وقالوا له: أنّ الأمر قد تفاقم وفشا- يعنون: إظهار القول بخلق القرآن، وغير ذلك ولا نرضى بإمارته ولا سلطانه فناظرهم في ذلك، وقال عليكم بالإنكار في قلوبكم ولا تخلعوا يداً من طاعة ولا تشقّوا عصا المسلمين ولا تسفكوا دماءكم ودماء المسلمين معكم وانظروا في عاقبة أمركم واصبروا حتّى يستريح بَرّ، ويُستراح من فاجر، وقال ليس هذا يعني نزع أيديهم من طاعته صواباً، هذا خلاف الآثار"(1).
هذه هي طريقة السّلف في معاملة حكّامهم، والصّبر عليهم مهما صدر من الظّلم والجور منهم؛ حتّى ولو سفكوا دماء الصّالحين، والعلماء العاملين، وقالوا بما يناقض الدّين متأوّلين، فهل لو وقع لشيخكم بعض هذا الذي وقع للعلماء في زمن الإمام أحمد أكنتم تفعلون كفعله وتتصرّفون كتصرّفه وتعتقدون ولاية الحاكم عليكم كاعتقاده وتدعون لحاكمكم كما كان يدعو رحمه الله الحاكمه؟ أم تغضبون وتثورون وتطعنون وتحرّضون وفيما نهيتم عنهم من طرق السّياسة التي ليست من شأنكم تخضّون وهذا التّساؤل هو من باب بيان حالتكم التي وصلتم إليها، أو بالأحرى أوصلكم مقدّسكم إليها وأوقعكم في براثينها؛ حتّى صرتم تخالفون هدي سلفكم الصّالح، ونهج أئمّتكم الواضح، فأفيقوا قبل أن يفوت الأوان ويحلّ بكم الهوان، هذا إن لم يكن قد فات بذهاب الغيرة على منهج السّلف من نفوسكم، وحلول الغلوّ المهلك في قلوبكم، أسأل الله لنا ولكم الهداية.
وكتبه
أبو عبد السّلام عبد الصّمد بن الحسين سليمان
يوم الخميس 15 صفر 1445هـ
2023/08/31
_______
1 الآداب الشّرعيّة لابن مفلح ( 196/195/1)، وأخرج القصّة الخلّال في السّنّة: (ص 133).