إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

وقفات مع سورة الحجرات وبيان ما تضمنته من حقوق وآداب مهمات

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • وقفات مع سورة الحجرات وبيان ما تضمنته من حقوق وآداب مهمات

    وقفات مع سورة الحجرات
    وبيان ما تضمنته من حقوق وآداب مهمات



    الحمد الله الرحمن الرحيم، الذي هدانا إلى الصراط المستقيم، و أرسل الرسل فأرشدوا الناس وعلموهم أحسن تعليم، وصلى الله على نبينا محمد الأمين، المبعوث إلى الناس أجمعين، وعلى آله الأطهار، وصحبه الأخيار، ومن تبعهم بإحسان كلما تعاقب ليل ونهار.
    أما بعد، فإن الله تعالى قد أنزل القرآن على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلًا} [الإنسان 23]، كتاب أنزله لله تعالى {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَىٰ لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل 89]، أنزله الله تعالى {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ} [الشعراء 195]، { لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص 29].
    وإن كتاب الله تعالى {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء 9]، قص الله تعالى فيه أحسن القصص {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ} [يوسف 3]، وصرف الله تعالى فيه من كل مثل {وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَٰذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِن كُلِّ مَثَلٍ} [الكهف 54]، وإن الله تعالى فصل لعباده في كتاب كل شيء {وَمَا كَانَ هَٰذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَىٰ مِن دُونِ اللَّهِ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} [يونس 37] وقال تعالى {مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [يوسف 111]، فيه تفصيل ما يحتاج إليه العباد من أصول الدين وفروعه، م ن حلال وحرام، ومن الأدلة والبراهين. قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم (2/731) : "من تحليل وتحريم، ومحبوب ومكروه، وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات، والإخبار عن الأمور على الجلية، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات، وتنزيهه عن مماثلة المخلوقات".
    وفيه تفصيل ما يتعلق بالحقوق والمعاملات، والآداب والأخلاق، فيما يكون من العباد تجاه ربهم، وفيما يكون للعباد فيما بينهم.
    وإن من السور العظيمة التي فصل الله تعالى فيها بعضا من الحقوق والآداب : سورة الحجرات، هي سورة مدنية بإجماع وهي ثماني عشرة آية [تفسير القرطبي (19/352) ]، وهي محل دراستنا، نقف مع آياتها ومن حوته من حقوق وآداب.
    وإن المتأمل في هذه السورة العظيمة، يلاحظ تقسيمها إلى ثلاثة أقسام :
    القسم الأول : ما يتعلق بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض ما يجب من حسن الأدب معه.
    القسم الثاني : ما يتعلق بحقوق المؤمنين فيما بينهم، وبعض الآداب المهمة، وهي على قسمين :
    الأول : ما ينهى عنه في التعامل بين المؤمنين ويحذر منه.
    الثاني : ما يرغب فيه ويندب إليه من الآداب.
    القسم الثالث : ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وبيان حقيقة الإيمان به سبحانه وتعالى.
    وسيأتي تفصيل ذلك وبيانه، بتوفيق الله تعالى.
    القسم الأول : ما يتعلق بحقوق النبي صلى الله عليه وسلم، وبعض ما يجب من حسن الأدب معه.


    إن منزلة النبي صلى الله عليه وسلم عند الله تعالى عظيمة، وله مكانة رفيعة، فهو خليل الرحمن ، وصاحب المقام المحمود والحوض المورود، وصاحب الشفاعة العظمى، خاتم النبيين المرسلين، عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليم، خصه الله تعالى ببعض الحقوق على عبده المؤمنين، وأمرهم بالتأدب معه، وقد جاء شيء من تلكم الآداب في مطلع هذه السورة، ومنها :
    الأمر الأول : عدم التقدم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم.
    يقول الله سبحانه في مطلع هذه السورة {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [الحجرات 1].
    قال الإمام ابن كثير رحمه لله في تفسير القرآن العظيم (4/298) : "هذه آداب أدب الله بها عباده المؤمنين فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام والتبجيل والإعظام، فقال : (ياأيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسولواتقوا الله)، أي : لا تسرعوا في الأشياء بين يديه، أي : قبله، بل كونوا تبعا له في جميع الأمور".
    وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 764) : "هذا متضمن للأدب، مع الله تعالى، ومع رسول الله صلى الله عليه وسلم، والتعظيم له، واحترامه، وإكرامه، فأمر الله عباده المؤمنين، بما يقتضيه الإيمان، بالله وبرسوله، من امتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، وأن يكونوا ماشين، خلف أوامر الله، متبعين لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، في جميع أمورهم، و أن لا يتقدموا بين يدي الله ورسوله، ولا يقولوا، حتى يقول، ولا يأمروا، حتى يأمر، فإن هذا، حقيقة الأدب الواجب، مع الله ورسوله، وهو عنوان سعادة العبد وفلاحه، وبفواته، تفوته السعادة الأبدية، والنعيم السرمدي، وفي هذا، النهي الشديد عن تقديم قول غير الرسول صلى الله عليه وسلم، على قوله، فإنه متى استبانت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجب اتباعها، وتقديمها على غيرها، كائنا ما كان".
    قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه لله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/335) : "لا تعجلوا بقضاء أمر في حروبكم أو دينكم، قبل أن يقضي الله لكم فيه ورسوله، فتقضوا بخلاف أمر الله وأمر رسوله".
    وقال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (19/352) : "لا تقدموا قولا ولا فعلا بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا".
    ومن كلام الأئمة يتبين أن معنى التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم هو : أن نكون تبعا للنبي صلى الله عليه وسلم في أمور الدين والدنيا كلها، لا من جهة الأقوال ولا من جهة الأفعال، أمرا كان أو نهيا.
    وجماع معنى عدم التقدم فيما رواه الإمام الطبري بسنده عن ابن عباس رضي الله عنه قال : "لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة".
    فالنهي عن التقدم بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته، وبين سنته بعد موته صلوات الله وسلامه عليه.
    الأمر الثاني : خفض الصوت عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
    يقول الله سبحانه وتعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لَا تَشْعُرُونَ} [الحجرات 2].
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم (4/298) : "هذا أدب ثان أدب الله به المؤمنين ألا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته".
    وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 764) : "وهذا أدب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، في خطابه، أي: لا يرفع المخاطب له، صوته معه، فوق صوته، ولا يجهر له بالقول، بل يغض الصوت، ويخاطبه بأدب ولين، وتعظيم وتكريم، وإجلال وإعظام، ولا يكون الرسول كأحدهم، بل يميزوه في خطابهم، كما تميز عن غيره، في وجوب حقه على الأمة، ووجوب الإيمان به، والحب الذي لا يتم الإيمان إلا به، فإن في عدم القيام بذلك، محذورًا، وخشية أن يحبط عمل العبد وهو لا يشعر، كما أن الأدب معه، من أسباب حصول الثواب وقبول الأعمال".
    وقال الإمام البغوي رحمه الله في معالم التنزيل (7/335) : "أمرهم أن يبجلوه ويفخموه ولا يرفعوا أصواتهم عنده ، ولا ينادونه كما ينادي بعضهم بعضا".
    فنبينا محمد صلى الله عليه وسلم حقه التوقير وتعظيم شأنه و التأدب معه، قال الله تعالى {لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الفتح 9]، ورفع الصوت عند مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والجهر له بالقول ومناداته كما ينادى غيره، ينافي هذا التعظيم التوقير والتبجيل.
    ومما ورد في سبب نزول الآية ما رواه البخاري عن ابن أبي مليكة قال : "كاد الخيران أن يهلكا أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر -قال نافع لا أحفظ اسمه- فقال أبو بكر لعمر : ما أردت إلا خلافي، قال : ما أردت خلافك فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله : {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم} الآية قال ابن الزبير : " فما كان عمر يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية حتى يستفهمه ، ولم يذكر ذلك عن أبيه يعني أبا بكر ".
    وقد كان لهذه الآية الوقع الكبير على نفوس الصحابة، كما وقع لثابت بن قيس رضي الله عنه، فيما رواه مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك، أنه قال لما نزلت هذه الآية : {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي} إلى آخر الآية، جلس ثابت بن قيس في بيته، وقال : أنا من أهل النار، واحتبس عن النبي صلى الله عليه وسلم، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن معاذ، فقال : "يا أبا عمرو، ما شأن ثابت؟ اشتكى؟" قال سعد : إنه لجاري، وما علمت له بشكوى، قال : فأتاه سعد، فذكر له قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال ثابت : أنزلت هذه الآية، ولقد علمتم أني من أرفعكم صوتا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنا من أهل النار، فذكر ذلك سعد للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "بل هو من أهل الجنة".
    الأمر الثالث : عدم مناداته من خلف حجرات نسائه صلة الله عليه وسلم.
    قال الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [الحجرات 4].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 765) : "نزلت هذه الآيات الكريمة، في أناس من الأعراب، الذين وصفهم الله تعالى بالجفاء، وأنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله، قدموا وافدين على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوجدوه في بيته وحجرات نسائه، فلم يصبروا ويتأدبوا حتى يخرج، بل نادوه: يا محمد يا محمد، أي: اخرج إلينا، فذمهم الله بعدم العقل، حيث لم يعقلوا عن الله الأدب مع رسوله واحترامه، كما أن من العقل وعلامته استعمال الأدب".
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم (4/302) : "ثم إنه تعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات، وهي بيوت نسائه، كما يصنع أجلاف الأعراب، فقال {أكثرهم لا يعقلون}.
    ثم أرشد إلى الأدب في ذلك فقال {ولو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم} أي : لكان لهم في ذلك الخيرة والمصلحة في الدنيا والآخرة. ثم قال دعيا لهم إلى التوبة الإنابة {والله غفور رحيم}".
    هذا، وإن احترام النبي صلى الله عليه وسلم وتعظيمه وتوقيره ثابت حتى بعد موته صلوات الله وسلامه عليه.
    قال العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله في كتابه حقوق النبي صلى الله عليه و سلم و الانتصار لشريعته (هامش ص 22) : "فقدنا شخْصَه صلى الله عليه و سلم فيجب أن نحترم سنته، فكأنه حاضر بين أيدينا، فنوقر سنته و نعظمها، توقيرا له، و تعزيرا له صلى الله عليه و سلم".
    القسم الثاني : ما يتعلق بحقوق المؤمنين فيما بينهم، وبعض الآداب المهمة.


    إن الله سبحانه وتعالى خلق الخلف، وجعلهم {شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} [الحجرات 13]، وإن هذا التعارف يقتضي المخالطة، التي توجب آدابا وحقوقا في المعاملة بين الناس، والواجب أن تعطي "لكل ذي حق حقه" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن وهب بن عبد الله.
    وسورة الحجرات جمعت شيئا من حقوق مسلمين وآداب المتعاملين، ولنا أن نجعلها على قسمين :
    الأول : ما يرغب فيه ويندب إليه من الآداب.
    الثاني : ما ينهى عنه في التعامل بين المؤمنين ويحذر منه.
    فتشمل النهي عما يعود بالإفساد على علاقة المؤمنين فيما بينهم والإضرار بها، والأمر والحث على ما يبعد نزغات الشيطان بين أهل الإيمان {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينًا} [الإسارء 53]، وإنه جاء مقررا في الهدي النبوي التحذير والأمر باجتناب كل ما يفضي إلى إفساد الأخوة الإيمانية أو ينغصها، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "إياكم و الظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا" رواه الشيخان عن أبي هريرة.
    القسم الأول : ما يرغب فيه ويندب إليه من الآداب.
    ويتضمن ثلاثة أمور :
    الأمر الأول : التثبت من أخبار غير الثقات.
    يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} [الحجرات 6].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 765) : "وهذا أيضًا، من الآداب التي على أولي الألباب، التأدب بها واستعمالها، وهو أنه إذا أخبرهم فاسق بخبر أن يتثبتوا في خبره، ولا يأخذوه مجردًا، فإن في ذلك خطرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثم، فإن خبره إذا جعل بمنزلة خبر الصادق العدل، حكم بموجب ذلك ومقتضاه، فحصل من تلف النفوس والأموال، بغير حق، بسبب ذلك الخبر ما يكون سببًا للندامة، بل الواجب عند خبر الفاسق، التثبت والتبين، فإن دلت الدلائل والقرائن على صدقه، عمل به وصدق، وإن دلت على كذبه، كذب، ولم يعمل به، ففيه دليل، على أن خبر الصادق مقبول، وخبر الكاذب، مردود، وخبر الفاسق متوقف فيه كما ذكرنا، ولهذا كان السلف يقبلون روايات كثير من الخوارج، المعروفين بالصدق، ولو كانوا فساقًا".
    وجاء بيان سبب نزول هذه الآية فيما رواه الطبري بسنده عن ابن عباس قال : "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط، ثم أحد بني عمرو بن أمية ، ثم أحد بني أبي معيط إلى بني المصطلق، ليأخذ منهم الصدقات، وإنه لما أتاهم الخبر فرحوا، وخرجوا ليتلقوا رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنه لما حدث الوليد أنهم خرجوا يتلقونه، رجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : يا رسول الله إن بني المصطلق قد منعوا الصدقة، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبا شديدا، فبينما هو يحدث نفسه أن يغزوهم، إذ أتاه الوفد، فقالوا : يا رسول الله، إنا حدثنا أن رسولك رجع من نصف الطريق، وإنا خشينا أن يكون إنما رده كتاب جاءه منك لغضب غضبته علينا، وإنا نعوذ بالله من غضبه وغضب رسوله، فأنزل الله عذرهم في الكتاب، فقال {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبإ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين}".
    قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/3036) : "صرح الله تعالى في موضع آخر بالنهي عن قبول شهادة الفاسق، وذلك في قوله {وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور 4]، ولا خلاف بين العلماء في رد شهادة الفاسق وعدم قبوله".
    فالشريعة جاءت آمرة بالتثبت من خبر الفاسق مخافة وكراهة إصابة قوم برآء مما قذفوا به بالخطإ، فتحصل العداوة والبغضاء بسبب خبر هذا الفاسق، "فمن ثبت فسقه بطل قوله في الأخبار إجماعا" [تفسير القرطبي (19/369)].
    وفي المقابل فإنه يقبل خبر الثقة الواحد؛ لأن الأمر بالتثبت جاء في خبر الفاسق دون خبر العدل الثقة.
    الأمر الثاني : إصلاح ذات البين.
    يقول الله تعالى {وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات 9].
    وقال تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} [الحجرات 10].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 766) : "إذا اقتتلت طائفتان من المؤمنين، فإن على غيرهم من المؤمنين أن يتلافوا هذا الشر الكبير، بالإصلاح بينهم، والتوسط بذلك على أكمل وجه يقع به الصلح، ويسلكوا الطريق الموصلة إلى ذلك".
    قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه لله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/357) : "وإن طائفتان من أهل الإيمان اقتتلوا، فأصلحوا أيها المؤمنون بينهما بالدعاء إلى حكم كتاب الله، والرضا بما فيه لهما وعليهما، وذلك هو الإصلاح بينهما بالعدل".
    وإن الندب إلى إصلاح ذات البين من المتخاصمين من المؤمنين، جاء الحث عليه والترغيب فيه بكثرة في شريعتنا الغراء، حفاظا على وحدة المسلمين وتمكين شوكتهم، حي لا يضعفها التشقق والتصدع بسبب الخصومات والصراعات.
    أن إصلاح ذات البين من خير كلام الناس، يقول الله تعالى {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء 114].
    أن الله تعالى ندب إلى الصلح أنه من الخير، قال الله تعالى {وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ} [النساء 128].
    أن إصلاح ذات البين ما سمات المؤمنين، قال الله سبحانه وتعالى {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [الأنفال 1].
    فإصلاح ذات البين من خير الصدقات، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "كل سلامى من الناس عليه صدقة، كل يوم تطلع فيه الشمس يعدل بين الناس صدقة" رواه البخاري عن أبي هريرة.
    وللطبراني في المعجم عن عبد الله بن عمرو، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "أفضل الصدقة إصلاح ذات البين" صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (1012).
    وإصلاح ذات البين خير من درجة الصيام والقيام، روى أبو داود والترمذي وغيرهما عن أبي الدرداء قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدقة؟" قالوا : بلى، يا رسول الله قال : "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين الحالقة" صححه الإمام الألباني رحمه الله في صححيح الجامع (2595).
    فإن استعملك الله تعالى في الإصلاح بين الناس، فذلك من الخير الذي وفقت إليه، وإن لم تكن طرفا في الخير بالسعي في الإصلاح، فلا تكن الثالث، وهو المفسد بين الناس، فإنها الحالقة، روى ابن حبان عن أبي الدرداء، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "ألا أخبركم، بأفضل من درجة الصيام والقيام؟ "، قالوا : بلى يا رسول الله، قال : "إصلاح ذات البين، وفساد ذات البين هي الحالقة " صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2595).
    وإنها لا "تحلق الشعر ولكن تحلق الدين" كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه الترمذي وغيره عن الزبير بن العوام، وصححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2510).
    الأمر الثالث : إقامة العدل والقسط بين الناس.
    يقول الله جل وعلا {فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [الحجرات 9].
    قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه لله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/357) : "وقوله {وَأَقْسِطُوا} يقول تعالى ذكره: واعدلوا أيها المؤمنون في حكمكم بين من حكمتم بينهم بأن لا تتجاوزوا في أحكامكم حكم الله وحكم رسوله {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} يقول: إن الله يحب العادلين في أحكامهم, القاضين بين خلقه بالقسط".
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 766) : "{فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ} هذا أمر بالصلح، وبالعدل في الصلح، فإن الصلح، قد يوجد، ولكن لا يكون بالعدل، بل بالظلم والحيف على أحد الخصمين، فهذا ليس هو الصلح المأمور به، فيجب أن لا يراعى أحدهما، لقرابة، أو وطن، أو غير ذلك من المقاصد والأغراض، التي توجب العدول عن العدل، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} أي: العادلين في حكمهم بين الناس وفي جميع الولايات، التي تولوها".
    والعدل والقسط جاء الأمر الجازم به في شرعنا، في كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، يقول الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ} [النحل 90].
    فقد جاء الأمر بالعدل من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم خاصة، كما في قوله تعالى {وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ} [الشورى 15].
    وجاء الأمر بالعدل للناس عامة، كما قال سبحانه {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ} [المائدة 8].
    والأمر بالعدل جاء في :
    1 _ الأقوال، كما في قوله تعالى قال سبحانه {وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا} [الأنعام 152].
    2 _ وفي الكتابة، كما في قوله تعالى {فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ} [البقرة 282].
    3 _ في الحكم بين الناس، كما في قوله جل وعلا {وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ} [النساء 58].
    4 _ وفي الشهادة، كما قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [المائدة 8].
    5 _ وفي الكيل والميزان، كما قال تعالى {وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ} [الأنعام 152]، وقال تعالى {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} [الرخمن 9].
    6 _ وفي المعاملات، كما قال تعالى {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} [الحديد 25].
    وجاءت نصوص كثيرة ترغب في العدل وتحث عليه، لما له من الفضائل العظيمة، والفوائد العميمة، التي يصلح بها حال العباد والبلاد والأمم.
    وصف الله تعالى كلماته بهذه الصفة العظيمة، فقال {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الأنعام 115].
    والله تعالى وصف نفسه أنه قائم بالعدل، قال تعالى {شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ} [آل عمران 18].
    فالعدل من أسباب الاستظلال بظل الله تعالى يوم القيامة، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "سبعة يظلهم الله يوم القيامة في ظله، يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل..." رواه البخاري عن أبي هريرة.
    أن العدل من أسباب نيل محبة الله تعالى، {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ} [المائدة 48].
    القسم الثاني : ما ينهى عنه في التعامل بين المؤمنين ويحذر منه.
    ويتضمن ستة أمور :
    الأمر الأول : حرمة السخرية من المؤمنين.
    يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَىٰ أَن يَكُونُوا خَيْرًا} [الحجرات 11].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "وهذا أيضًا، من حقوق المؤمنين، بعضهم على بعض، أن {لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ} بكل كلام، وقول، وفعل دال على تحقير الأخ المسلم، فإن ذلك حرام، لا يجوز، وهو دال على إعجاب الساخر بنفسه، وعسى أن يكون المسخور به خيرًا من الساخر، كما هو الغالب والواقع، فإن السخرية، لا تقع إلا من قلب ممتلئ من مساوئ الأخلاق، متحل بكل خلق ذميم، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم "بحسب امرئ من الشر، أن يحقر أخاه المسلم".
    قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه لله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/357) : "إن الله عمّ بنهيه المؤمنين عن أن يسخر بعضهم من بعض جميع معاني السخرية، فلا يحلّ لمؤمن أن يسخر من مؤمن لا لفقره، ولا لذنب ركبه، ولا لغير ذلك".
    والسخرية من المؤمنين أمر عظيم، فإنه مما خصه الله تعالى بالذم من أفعال كفار قريش فقال سبحانه {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة 212].
    وإن من أعظم ما يتحسر عليه المرء يوم القيامة سخريته في الدنيا، يقول الله تعالى {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَىٰ مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ وَإِن كُنتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ} [الزمر 56].
    والسخرية من الناس تكون بأمور، وكلها جاء ذمها في شريعة الإسلام، ومنها :
    1 _ السخرية بسبب الفقر، قال الله تعالى {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [التوبة 79].
    2 _ السخرية بسبب الخِلقة، روى الطياليسي وغيره معاوية بن قرة أن ابن مسعود أنه ذهب يأتي النبي صلى الله عليه وسلم بالسواك، فجعلوا ينظرون إلى دقة ساقه أو يعجبون من دقة ساقه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "لهما أثقل في الميزان من أحد" حسنه الإمام الألباني رحمه الله في غاية المرام (420).
    روى أبو داود في سسنه عن عائشة قالت : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا، -قال غير مسدد : تعني قصيرة-، فقال : "لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته" صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (4875).
    وإن من أعظم صور السخرية والاستهزاء، ما كان متعلقا بشرع الله وسبحانه وتعالى وشعائر دينه الحنيف، فإن جرمه كبير وأثره خطير، يصل بصاحبه إلى درجة الكفر والعياذ بالله، قال الله تعالى {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَائِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)} [التوبة].
    روى الطبري في جامع البيان بإسناده عن عبد الله بن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس، ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء أرغب بطونا ولا أكذب ألسنة ولا أجبن عند اللقاء، فقال رجل في المجلس : كذبت، ولكنك منافق، لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم، ونزل القرآن، قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلقا بحقب ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، تنكبه الحجارة، وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : "أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم".
    فمن صور الاستهزاء بشرع الله وشعائره :
    السخرية من رسل الله سبحانه وتعالى، كما قال سبحانه {وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الأنبياء 41].
    وقال تعالى {وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ} [الحجر 11].
    ومن أعظم صور السخرية : السخرية من آيات الله تعالى، قال الله تعالى {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء 140].
    ومن أعظم السخرية : السخرية من الصلاة، قال الله تعالى {وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ} [المائدة 58].
    ومن أعظم السخرية : السخرية من سبيل الله عز وجل، كما قال تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ} [لقمان 31].
    روى الطبري بإسناده في جامع البيان عن قَتادة، قال : "بِحَسْب المرء من الضلالة أن يختار حديث الباطل على حديث الحقّ، وما يضرّ على ما ينفع، ويتخذها هزوا يستهزئ بها ويكذّب بها. وهما من أن يكونا من ذكر سبيل الله أشبه عندي لقربهما منها، وإن كان القول الآخر غير بعيد من الصواب، واتخاذه ذلك هزوا هو استهزاؤه به".
    الأمر الثاني : حرمة اللمز والهمز.
    يقول الله تعالى {وَلَا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات 11].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "أي : لا يعب بعضكم على بعض، واللمز: بالقول، والهمز: بالفعل، وكلاهما منهي عنه حرام، متوعد عليه بالنار.
    كما قال تعالى {وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَة} الآية، وسمي الأخ المؤمن نفسًا لأخيه، لأن المؤمنين ينبغي أن يكون هكذا حالهم كالجسد الواحد، ولأنه إذا همز غيره، أوجب للغير أن يهمزه، فيكون هو المتسبب لذلك".
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم (4/308) : "أي : لا تلمزوا الناس. والهماز اللماز من الرجال مذموم ملعون، كما قال تعالى {ويل لكل همزة لمزة} [ الهمزة 1]، فالهمز بالفعل واللمز بالقول، كما قال {هماز مشاء بنميم} [القلم 11 ] أي : يحتقر الناس ويهمزهم طاعنا عليهم، ويمشي بينهم بالنميمة، وهي : اللمز بالمقال ولهذا قال هاهنا {ولا تلمزوا أنفسكم}، كما قال {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء 29 ]أي : لا يقتل بعضكم بعضا".
    قال الإمام الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (6/3038) : "قال بعض العلماء : الهمز يكون بالفعل، كالغمز بالعين احتقارا وازدراء، واللمز باللسان، وتدخل فيه الغيبة".
    وقد جاء الوعيد الشديد في الهمز واللمز مما يجب الحذر منه والابتعاد عن هذا الخلق الذميم، كما قال تعالى {وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ} [الهمزة 1].
    كما أن الهمز واللمز من سيء الأخلاق التي عابها الله تعالى على المنافقين، بحيث كانوا يلمزون النبي صلى الله عليه وسلم، كما قال الله تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} [التوبة 58].
    وكانوا يلمزون المؤمنين أيضا، وكله عابه الله تعالى عليهم قائلا {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ} [التوبة 79].
    والله تعالى نهى عن طاعة من كان من صفته الهمز، فقال سبحانه وتعالى {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَّهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11)} [القلم].
    الأمر الثالث : حرمة التنابز بالألقاب.
    يقول الله تعالى { وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات 11].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "لا يعير أحدكم أخاه، ويلقبه بلقب ذم يكره أن يطلق عليه وهذا هو التنابز، وأما الألقاب غير المذمومة، فلا تدخل في هذا.
    {بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ} أي : بئسما تبدلتم عن الإيمان والعمل بشرائعه، وما تقتضيه، بالإعراض عن أوامره ونواهيه، باسم الفسوق والعصيان، الذي هو التنابز بالألقاب".
    والتنابز بالألقاب يكون بأمور منها :
    1 _ أن يرمي أخاه بفسق أو كفر، قال عكرمة : " قال عكرمة : هو قول الرجل للرجل : يا فاسق يا منافق يا كافر" [الطبري (21/369)].
    2 _ أن ينبز أخاه بما كان عليه من سيء الأعمال التي تاب منها، قال ابن عباس : "التنابز بالألقاب أن يكون الرجل عمل السيئات ثم تاب منها, وراجع الحقّ, فنهى الله أن يعير بما سلف من عمله" [الطبري (21/371)].
    3 _ أن ينادي أخاه بأسماء ما يستقبح من الحيوانات، قال عطاء : "قال عطاء : هو أن تقول لأخيك : يا كلب يا حمار يا خنزير" [البغوي (7/344)].
    4 _ أن يدعو أخاه باسم أو صفة مما يكرهه، قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه لله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/371) : "إن الله تعالى ذكره نهى المؤمنين أن يتنابزوا بالألقاب؛ والتنابز بالألقاب : هو دعاء المرء صاحبه بما يكرهه من اسم أو صفة، وعمّ الله بنهية ذلك، ولم يخصص به بعض الألقاب دون بعض، فغير جائز لأحد من المسلمين أن ينبز أخاه باسم يكرهه، أو صفة يكرهها".
    ويكفي في هذا المقام زاجرا قوله تعالى في آخر الآية {وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات 11]، فالله تعالى عد التنابز بالألقاب من جملة الظلم، الذي حرمه الله تعالى على نفسه وعلى عباده "يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما، فلا تظالموا" رواه مسلم عن أبي ذر الغفاري.
    الأمر الرابع : ظن السوء بالمؤمنين.
    يقول الله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات 12].
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "نهى الله تعالى عن كثير من الظن السوء بالمؤمنين، فـ {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} وذلك، كالظن الخالي من الحقيقة والقرينة، وكظن السوء، الذي يقترن به كثير من الأقوال، والأفعال المحرمة، فإن بقاء ظن السوء بالقلب، لا يقتصر صاحبه على مجرد ذلك، بل لا يزال به، حتى يقول ما لا ينبغي، ويفعل ما لا ينبغي، وفي ذلك أيضًا، إساءة الظن بالمسلم، وبغضه، وعداوته المأمور بخلاف ذلك منه".
    قال الإمام ابن كثير رحمه الله في تفسير القرآن العظيم (4/308) : "يقول تعالى ناهيا عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والأقارب والناس في غير محله؛ لأن بعض ذلك يكون إثما محضا، فليجتنب كثير منه احتياطا".
    وقال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (19/397) : "للظن حالتان : حالة تعرف وتقوى بوجه من وجوه الأدلة فيجوز الحكم بها، وأكثر أحكام الشريعة مبنية على غلبة الظن، كالقياس وخبر الواحد وغير ذلك من قيم المتلفات وأروش الجنايات.
    والحالة الثانية : أن يقع في النفس شيء من غير دلالة فلا يكون ذلك أولى من ضده، فهذا هو الشك، فلا يجوز الحكم به، وهو المنهي عنه على ما قررناه آنفا".
    والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الظن، كما قال : "إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث" رواه الشيخان عن أبي هريرة.
    ويجوز للمسلم أن يدفع الظن السيء عن نفسه بالبيان بما يذهب ذلك عن غيره، كما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم حين "جاءت –زوجته صفية- إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوره في اعتكافه في المسجد في العشر الأواخر من رمضان، فتحدثت عنده ساعة، ثم قامت تنقلب، فقام النبي صلى الله عليه وسلم معها يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد عند باب أم سلمة، مر رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : "على رسلكما، إنما هي صفية بنت حيي"، فقالا : سبحان الله يا رسول الله، وكبر عليهما، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : "إن الشيطان يبلغ من الإنسان مبلغ الدم، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئا –عند مسلم : شرا-" رواه الشيخان.
    وإن المؤمن لمطالب بضد الظن السيء وهو الظن الحسن، فيما يتعلق بعباد الله تعالى المؤمنين، وفيما يتعلق بأنفسهم، قال الله تعالى {لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا } [النور 12].
    وفيما يتعلق برب العزة والجلال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "قال الله جل وعلا : أنا عند ظن عبدي بي إن ظن خيرا، وإن ظن شرا" رواه ابن حبان والحاكم وأحمد وغيرهم وصححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (4316).
    الأمر الخامس : حرمة التجسس.
    يقول الله تعالى {وَلَا تَجَسَّسُوا} [الحجرات 12].
    قال الإمام القرطبي في الجامع لأحكام القرآن (19/397) : "معنى الآية : خذوا ما ظهر ولا تتبعوا عورات المسلمين، أي : لا يبحث أحدكم عن عيب أخيه حتى يطلع عليه بعد أن ستره الله".
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "أي : لا تفتشوا عن عورات المسلمين، ولا تتبعوها، واتركوا المسلم على حاله، واستعملوا التغافل عن أحواله التي إذا فتشت، ظهر منها ما لا ينبغي".
    وقد قرأ أبو رجاء والحسن باختلاف وغيرهما {ولا تحسسوا} بالحاء [تفسير القرطبي (19/379)].
    فيجتمع النهي عن التجسس والتحسس جميعا، كما جاء النهي عنهما في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، كما سيأتي آنفا.
    والتجسس هو : "التفتيش عن بواطن الأمور، وأكثر ما يقال في الشر" [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/272)].
    والفرق بين التجسس والتحسس هو : "قيل التجسس بالجيم أن يطلبه لغيره، وبالحاء أن يطلبه لنفسه. وقيل بالجيم : البحث عن العورات، وبالحاء الاستماع، وقيل معناهما واحد" [النهاية في غريب الحديث لابن الأثير (1/272)].
    وقيل : "التجسس غالبا يطلق في الشر، ومنه الجاسوس. وأما التحسس فيكون غالبا في الخير، كما قال تعالى إخبارا عن يعقوب عليه السلام أنه قال {يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف وأخيه ولا تيأسوا من روح الله} [يوسف 87]، وقد يستعمل كل منهما في الشر، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال "لا تجسسوا، ولا تحسسوا..." [تفسير ابن كثير (4/310)].
    وقيل : "إن التجسس (بالجيم) هو البحث، ومنه قيل : رجل جاسوس إذا كان يبحث عن الأمور. وبالحاء : هو ما أدركه الإنسان ببعض حواسه" [تفسير القرطبي (19/380)].
    وإنه قد جاء النهي عن التجسس والزجر عنه في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ما يدل على شناعة هذا الفعل وقبحه.
    فالتجسس مما يقدح ويخدش في أواصر الأخوة الإيمانية، روى الشيخان عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إياكم و الظن ، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تحسسوا، ولا تجسسوا، ولا تحاسدوا، ولا تدابروا، ولا تباغضوا، وكونوا عباد الله إخوانا".
    وإن التجسس مما يفسد به صاحبه على الناس، كما قال صلوات الله وسلامه عليه : "إنك إن اتبعت عورات الناس أفسدتهم، أو كدت أن تفسدهم" رواه ابن حبان وغيره وصححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2295).
    بل أن التجسس لما يفسد الرعية، روى أبو داود في السنن عن جبير بن نفير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "إن الأمير إذا ابتغى الريبة في الناس أفسدهم" صححه الإمام الأمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (4889).
    وإن من عقاب الله تعالى أن يتتبع عورة من هتك عورة أخيه وتتبعها حتى يفضحه، روى الترمذي في جامعه عن ابن عمر قال : صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر فنادى بصوت رفيع، فقال : "يا معشر من أسلم بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه، لا تؤذوا المسلمين ولا تعيروهم ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته، ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله" حسنه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2032).
    ومن شر أنواع التجسس : التجسس على بيوت المسلمين، قال النبي صلى الله عليه وسلم : "أيما رجل كشف سترا فأدخل بصره من قبل أن يؤذن له، فقد أتى حدا لا يحل له أن يأتيه، ولو أن رجلا فقأ عينه، لهدرت، ولو أن رجلا مر على باب لا ستر له فرأى عورة أهله، فلا خطيئة عليه إنما الخطيئة على أهل البيت"رواه أحمد في المسند عن أبي ذر وصححه الإمام الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (3463).
    الأمر السادس : حرمة الغيبة وشناعتها.
    يقول الله تعالى {لَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات 12].
    والغيبة جاء بيان معناها في سنة النبي صلى الله عليه الصلاة والسلام، فيما رواه مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : "أتدرون ما الغيبة؟ " قالوا : الله ورسوله أعلم، قال : "ذكرك أخاك بما يكره" قيل أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال : "إن كان فيه ما تقول، فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته".
    فالغيبة أن يقول "بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه" [تفسير الطبري (21/371)].
    والفرق بين الغيبة والبهتان كما جاء موضحا في الحديث، أن تذكر من أخيك ما تعلم فيه من مساوئ أعماله، فإذا ذكرته بما ليس فيه فذلك البهتان" [تفسير الطبري (21/371)].
    روى مالك في الموطأ المطلب بن عبد الله بن حنطب المخزومي، أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الغيبة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أن تذكر من المرء ما يكره أن يسمع"، قال : يا رسول الله، وإن كان حقا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إذا قلت باطلا فذلك البهتان" والحديث في الصحيحة للإمام الألباني رحمه الله (1992).
    واعلم أن الغيبة من أشنع الأفعال التي نهى الله تعالى عنها في كتابه والنبي صلى الله عليه وسلم في سنته، وأجمع علماء الأمة على حرمتها وشناعتها.
    والله تعالى قد ضرب مثالا يبين شناعة وفضاعة الغيبة فقال سبحانه {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} [الحجرات 12]، تنفيرا منه وتحذيرا سبحانه وتعالى.
    قال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "ثم ذكر مثلاً منفرًا عن الغيبة، فقال {أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ} شبه أكل لحمه ميتًا، المكروه للنفوس غاية الكراهة، باغتيابه، فكما أنكم تكرهون أكل لحمه، وخصوصًا إذا كان ميتًا، فاقد الروح، فكذلك فلتكرهوا غيبته، وأكل لحمه حيًا".
    والنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الغيبة وحذر منها، كما قال عليه الصلاة والسلام : "يا معشر من آمن بلسانه، ولم يدخل الإيمان قلبه ، لا تغتابوا المسلمين، ولا تتبعوا عوراتهم، فإنه من اتبع عوراتهم يتبع الله عورته، ومن يتبع الله عورته يفضحه في بيته" رواه أبو داود وصححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (4880).
    والغيبة من أسباب أفظع عذاب النار، روى أبو داود في السنن عن أنس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم، فقلت : من هؤلاء يا جبريل، قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس، ويقعون في أعراضهم" صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن أبي داود (4878).
    والغيبة من أسباب عذاب القبر، روى ابن أبي شيبة في مصنفه أبي بكرة قال : مر النبي صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : "إنهما ليعذبان، وما يعذبان في كبير، أما أحدهما فيعذب في البول، وأما الآخر ففي الغيبة"، وعند أحمد ف المسند : "إنهما ليعذبان في الغيبة والبول" صححه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (2441).
    وإن من أعظم الزواجر عن الغيبة والبهتان أن لا كفارة له، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه أحمد في المسند عن أبي هريرة قال : "وخمس ليس لهن كفارة : الشرك بالله، وقتل النفس بغير حق، أو بهت مؤمن، أو الفرار يوم الزحف، أو يمين صابرة يقتطع بها مالا بغير حق" حسنه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح الجامع (3247).
    وقد جاء الفضل العظيم في ترك غيبة المسلمين، كما قال صلى الله عليه وسلم "من جاهد في سبيل الله كان ضامنا على الله، ومن جلس في بيته لا يغتاب أحدا بسوء كان ضامنا على الله" رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو وصححه الإمام الألباني رحمه الله في السنة لابن أبي عاصم (1022).
    القسم الثالث : ما يتعلق بحقوق الله تعالى، وبيان حقيقة الإيمان به وتوحيده وتقواه سبحانه وتعالى.


    حق الله تعالى أعظم الحقوق التي يجب على المؤمن تأديتها، وأعظم حقوق الله تعالى توحيده والإيمان به سبحانه، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "حق الله على العباد أن يعبدوا الله، ولا يشركوا به شيئا" رواه الشيخان من حديث معاذ.
    إن فضائل الإيمان وتوحيد الله تعالى وتقواه عظيمة لمن عقل ذلك، مما يمنع من ذلك إلا يأتي المرء بأسبابها، وأن يعلم حقيقة التقوى ويعمل بها.
    الأمر الأول : تقوى الله تعالى.
    يقول الله تعالى {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات 13].
    قال الإمام ابن جرير الطبري رحمه لله في جامع البيان عن تأويل آي القرآن (21/371) : "إن أكرمكم أيها الناس عند ربكم، أشدّكم اتقاء له بأداء فرائضه واجتناب معاصيه، لا أعظمكم بيتا ولا أكثركم عشيرة".
    وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 767) : "الكرم بالتقوى، فأكرمهم عند الله، أتقاهم، وهو أكثرهم طاعة وانكفافًا عن المعاصي، لا أكثرهم قرابة وقومًا، ولا أشرفهم نسبًا، ولكن الله تعالى عليم خبير، يعلم من يقوم منهم بتقوى الله، ظاهرًا وباطنًا، ممن يقوم بذلك، ظاهرًا لا باطنًا، فيجازي كلا، بما يستحق".
    فالتقوى هي ميزان التفاضل بين الخلق، لا بالأنساب ولا الأحساب، وإنما معيار الفضل والكرم تقوى الله تعالى، روى الطبري في جامع البيان عن عقبة بن عامر، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "الناس لآدم وحواء كطف الصاع لم يملأوه، إن الله لا يسألكم عن أحسابكم ولا عن أنسابكم يوم القيامة، إن أكرمكم عند الله أتقاكم" صححه الإمام الألباني رحمه الله في الصحيحة (1038).
    وخير ما يتزود به المؤمن في دنياه لأخراه تقوى الله تعالى، قال سبحانه {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [البقرة 197].
    لأن جزاء التقوى جنات عدن، كما قال تعالى {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ} [القمر 54].
    بل التقوى أكثر أسباب دخول الجنة، كما قال النبي صلوات الله وسلامه عليه فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : ما أكثر ما يدخل الناس الجنة ؟، قال : "تقوى الله، وحسن الخلق" حسنه الإمام الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (2004).
    والتقوى سبب نيل معية الله تعالى، التي تقتضي العناية الرعاية والنصرة منه سبحانه لعباده المتقين، كما قال سبحانه {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة 36].
    كما أنها سبب لنيل محبة الله عز وجل، قال الله تعالى {بَلَىٰ مَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ وَاتَّقَىٰ فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} [آل عمران 76].
    والتقوى من أعظم و أهم ما أمر الله به عباده و أوصاهم به، حيث قال تعالى {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ} [النساء 131]، و قال ربنا {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عمران 102]، كما كانت من وصايا النبي صلى الله عليه وسلم، كما في حديث العرباض بن سارية : "أوصيكم بتقوى الله" رواه ابن حبان و الحاكم و الترمذي و غيرهم، و صححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب و الترهيب (37).
    و إن التقوى هي كما عرفها طلق بن حبيب فيما ابن أبي شيبة الإيمان عن عاصم، قال : قلنا لطلق بن حبيب : صف لنا التقوى فقال : "التقوى عمل بطاعة الله رجاء رحمة الله على نور من الله، والتقوى ترك معصية الله مخافة الله على نور من الله" والأثر صححه الإمام الألباني رحمه الله في تخريجه لكتاب الإيمان لابن أبي شيبة (99).
    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرح رياض الصالحين (1/513) : "التقوى اسم مأخوذ من الوقاية؛ و هو أن يتخذ الإنسان ما يقيه من عذاب الله. و الذي يقيك من عذاب الله هو فعل أوامر الله، و اجتناب نواهيه".
    الأمر الثاني : الإيمان بالله سبحانه وتعالى.
    يقول اله تعالى {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ} [الحجرات 15].
    والإيمان بالله تعالى وتوحيده شأنهما عظيم، فلأجل ذلك خلق الله تعالى الخلق وأوجد الكون، كما قال تعالى {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات 51].
    ولأجل ذلك أرسل الله تعالى الرسل، قال سبحانه {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل 36].
    ولأجل ذلك عقد الولاء والبراء، قال الله تعالى {لَّا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران 28]، وقال تعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} [التوبة 71].
    ولأجل ذلك شرع الجهاد، قال الله تعالى {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ} [التوبة 36].
    وإن الإيمان والتوحيد لهما سبب النصر والتمكين، كما قال تعالى {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} [النور 55]، وقال سبحانه {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم 47].
    وبالتوحيد والإيمان يدخل الناس الجنة وينجون من النار، {وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَّهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [النساء 57].
    وإن عذب العصاة من الموحدين فإن إيمانهم وتوحيدهم يمنعهم من الخلود في العذاب، قال النبي صلى الله عليه وسلم وسلم : "يعذب ناس من أهل التوحيد في النار، حتى يكونوا حمما فيها، ثم تدركهم الرحمة، فيخرجون، فيلقون على باب الجنة، فيرش عليهم أهل الجنة الماء، فينبتون كما ينبت الغثاء في حمالة السيل، ثم يدخلون الجنة" رواه أحمد وغيره عن جابر وصححه الإمام الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة (2451).
    والإيمان من أسباب خيرية هذه الأمة المحدية، قال الله عز وجل {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عمران 110].
    والإيمان سبب فلاح صاحبه يوم القيامة، قال الله سبحانه {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون 1].
    والإيمان سبب نيل ولاية الله تعالى، قال الله تعالى {وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران 68].
    والإيمان سبب نيل معية الله تعالى، التي تقتضي الرعاية التامة والنصرة والتأييد، قال الله تعالى {وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ} [الأنفال 19].
    ففضائل الإيمان وتوحيد الله تعالى كثيرة عظيمة، لكن لنيلها لابد على المرء من تحقيق الإيمان بالله تعالى حقا وصدقا، ومن ثم يلزم كل امرئ أن يعلم معنى الإيمان.
    فالإيمان هو : اعتقاد بالقلب، وقول باللسان وعمل بالجوارح، يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية.
    وقد يعبر عنه بعبارة أخصر من هذه، فيقال : قول وعمل، وقد يزاد : ونية.
    وأركانه ستة، كما جاءت مبينة في حديث جبريل الطويل: "أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره" رواه مسلم من حديث عمر.
    والإيمان بضع وسبعون شعبة، روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : "الإيمان بضع وستون شعبة، والحياء شعبة من الإيمان".
    وإنه لحري بالمؤمن أن يعتني بإيمانه، فإن الإيمان يضعف في قلب صاحبه فيحتاج أن يجدده، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن الإيمان ليخلق في جوف أحدكم كما يخلق الثوب الخلق، فاسألوا الله أن يجدد الإيمان في قلوبكم" رواه الحاكم في المستدرك عن عبد الله بن عمرو وصححه الإمام الألبني رحمه الله في صحيح الجامع (1590).
    فيحتاج العبد إلى الإتيان على أسباب زيادة الإيمان، والابتعاد عن أسباب ضعفه ونقصانه، واجتناب ما يقدح في كماله، والأعظم من ذلك اجتناب ما يقض إيمانه، من كفر وشرك.
    وإن مما يجدر التنبيه عليه، أن الإيمان نعمة وفضل من الله تعالى امتن الله تعالى بها على صاحبها، لذلك ختم الله تعالى هذه السورة بقوله {بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات 17].
    وقال العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي رحمه الله في تيسير الكريم الرحمن (ص 768) : "إن المنة لله تعالى عليهم، فكما أنه تعالى يمن عليهم، بالخلق والرزق، والنعم الظاهرة والباطنة، فمنته عليهم بهدايتهم إلى الإسلام، ومنته عليهم بالإيمان، أعظم من كل شيء".

    نسأل الله تعالى أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما يفعنا، وأن يزيدنا علما، بأن يفقهنا في دينه ويعلمنا تأويل كتابه.
    وسبحانك اللهم بحمدك، أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
    كتبه :
    أبو البراء يوسف صفصاف
    الأحد 24شوال 1444
    الموافق لـ 14 ماي 2023

    لتحميل الملف :

    وورد https://www.gulf-up.com/es1zn2dn61qx

    بي دي ف https://www.gulf-up.com/mol5ko8kp8wf
    الملفات المرفقة
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
يعمل...
X