إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

نقدُ حكايةٍ باطلةٍ؛ رُوِيتْ عنْ ربيعةَ الرأيِ

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • نقدُ حكايةٍ باطلةٍ؛ رُوِيتْ عنْ ربيعةَ الرأيِ

    بسم الله الرحمن الرحيم



    نقدُ حكايةٍ باطلةٍ؛ رُوِيتْ عنْ ربيعةَ الرأيِ
    ـــ . ـــ



    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
    أمّا بعد:
    فهذا نقد لقصّة مشهورة متداولة بين النّاس، تداولها بعض الأدباء وبعض المشايخ والعامّة على مواقع التّواصل الاجتماعي، ونُسجت عليها أفلاما كرتونيّة ومسلسلات وغير ذلك، مع أنّ القصّة -كما سيتبيّن من كلام النّقاد- إمّا أنّها مكذوبة برمّتها، أو زيد فيها أشياء كثيرة مختلقة!
    وسأورد القصّة من «تاريخ بغداد» للخطيب البغدادي -رحمه الله- باعتبار أنّه أقدمُ المصادر -فيما أعلم- التي روت القصّة بالإسناد:

    قال الخطيب البغدادي: أخبرنا أبو القاسم الأزهري، قال: أخبرنا أحمد بن إبراهيم بن شاذان، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن مروان بن محمد المالكي الدينوري القاضي، قراءة عليه بمصر، قال: حدثنا يحيى بن أبي طالب، قال: حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف، قال: "حدثني مشيخة أهل المدينة أن فرّوخ أبا عبد الرحمن -أبا ربيعة- خرج في البعوث إلى خراسان أيام بني أمية غازيا، وربيعة حمل في بطن أمه، وخلَّف عند زوجته أم ربيعة ثلاثين ألف دينار، فقدم المدينة بعد سبع وعشرين سنة وهو راكب فرسا في يده رمح، فنزل عن فرسه، ثمّ دفع الباب برمحه فخرج ربيعة.
    فقال له: يا عدوّ الله! أتهجم على منزلي؟ فقال: لا، وقال فرّوخ: يا عدوّ الله! أنت رجل دخلت على حرمتي.
    فتواثبا وتلبَّبَ كلّ واحد منهما بصاحبه، حتّى اجتمع الجيران فبلغ مالك بن أنس، والمشيخة، فأتوا يُعِينُونَ ربيعةَ، فجعل ربيعةُ، يقول: والله لا فارقتك إلا عند السلطان وجعل فروخ، يقول: والله لا فارقتك إلا بالسلطان، وأنت مع امرأتي، وكثر الضجيج.
    فلما بصروا بمالك، سكت الناس كلّهم، فقال مالك: أيها الشيخ؛ لك سعة في غير هذه الدار.

    فقال الشيخ: هي داري، وأنا فرّوخ مولى بني فلان.
    فسمعت امرأته كلامه، فخرجت، فقالت: هذا زوجي، وهذا ابني الذي خلّفته، وأنا حامل به، فاعتنقا جميعا، وبكيا.
    فدخل فروخ المنزل، وقال: هذا ابني؟ قالت: نعم، قال: فأخرجي المال الذي لي عندك، وهذه معي أربعة آلاف دينار.
    فقالت: المال قد دفنته، وأنا أخرجه بعد أيّام.
    فخرج ربيعة إلى المسجد، وجلس في حلقته، وأتاه مالك بن أنس، والحسن بن زيد، وابن أبي علي اللهبي، والمساحقي، وأشراف أهل المدينة، وأحدق النّاس به. فقالت امرأته: اخرج صلّ في مسجد الرسول، فخرج، فصلى، فنظر إلى حلقة وافرة، فأتاه، فوقف عليه، ففرّجوا له قليلا، ونكس ربيعة رأسه يوهمه أنّه لم يره، وعليه طويلة، فشكّ فيه أبو عبد الرحمن، فقال: من هذا الرجل؟ فقالوا له: هذا ربيعة بن أبي عبد الرحمن، فقال أبو عبد الرحمن: لقد رفع الله ابني.
    فرجع إلى منزله، فقال لوالدته: لقد رأيت ولدك في حالة ما رأيت أحدا من أهل العلم والفقه عليها، فقالت أمه: أيّما أحب إليك ثلاثون ألف دينار أو هذا الذي هو فيه من الجاه؟ قال: لا والله إلا هذا! قالت: فإني قد أنفقت المال كله عليه. قال: فوالله ما ضيّعتِه
    . اهــ
    قلت: هذه الحكاية أخرجها الخطيب في «تاريخ بغداد» (9/ 414-415) ومن طريقه ابن الجوزي في «المنتظم» (7/349) والمزي في «تهذيب الكمال» (9/ 127) والذهبي في «السير» (6/ 94-95).
    ورويت في كثير من الكتب القديمة والحديثة من غير إسناد، بل توسع علي الطنطاوي في حكايتها -كعادة الأدباء- في كتابه «قصص من التاريخ» (من ص 137 إلى ص153 أي ما يقارب 16 صفحة)!
    وقد انتقد هذه القصّة الحافظ الذهبي (المتوفى: 748هـ) ومن بعده العلامة المعلمي اليماني (المتوفى: 1386هـ)، وإليك كلامهما:
    أولا: كلام الذهبي -رحمه الله-.
    قال الذهبي في «سير أعلام النبلاء» (6/ 94-95): «ذكر حكاية باطلة قد رويت» ثم ذكر القصّة السابقة بطولها وقال:
    «قلت: لو صح ذلك، لكان يكفيه ألف دينار في السبع والعشرين سنة، بل نصفها، فهذه مجازفة بعيدة، ثمّ لما كان ربيعة ابن سبع وعشرين سنة، كان شابّا لا حلقة له؛ بل الدَّسْتُ لمثل سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، ومشايخ ربيعة، وكان مالك لم يولد بعدُ، أو هو رضيع.
    والطّويلة: إنمّا أخرجها للنّاس المنصور بعد موت ربيعة
    [1]، والحسن بن زيد وإنما كبر واشتهر بعد ربيعة بدهر، وإسنادها منقطع، ولعله قد جرى بعض ذلك» اهـ .
    وقال في تاريخ الإسلام (3/ 647): «قَالَ أَحْمَدُ بْنُ مَرْوَانَ الدينوري صاحب "المجالسة" وقد تُكُلِّمَ فيه» فأشار بقوله «وقد تُكلم فيه» إلى ضعف الإسناد من جهة هذا الرّاوي، ثمّ ساق القصّة بسنده وقال: «قلت: حكاية مُعْجِبَةٌ لكنها مكذوبة لوجوه:
    • منها أنّ ربيعة لم يكن له حلقة، وهو ابن سبع وعشرين سنة؛ بل كان ذلك الوقت شيوخ المدينة مثل القاسم، وسالم، وسليمان بن يسار، وغيرهم من الفقهاء السّبعة.
    • الثّاني: أنّه لمّا كان ابن سبع وعشرين سنة كان مالك فطيما أو لم يولد بعد.
    • الثّالث: أنّ الطّويلة لم تكن خرجت للنّاس وإنمّا أخرجها المنصور فما أظنّ ربيعة لبسها وإن كان قد لبسها فيكون في آخر عمره، وهو ابن سبعين سنة لا شابّا.
    • الرابع: كان يكفيه في السّبع والعشرين سنة ألف دينار أو أكثر» اهـ .
    ثانيا: كلام المعلمي -رحمه الله-.
    ثمّ وقفت على تعليق نفيس للعلّامة المعلميّ اليماني في تحقيقه لكتاب «الأنساب» (6/ 61) عند نسبة (الرّايي) أو (الرأي) فذكر السّمعانيّ من لقب بذلك ومنهم ربيعة الرّأي ثمّ حكى قصّته هذه فعلّق المعلّمي على هذه القصّة فقال:
    «هذه الحكاية ساقها الخطيب في «التاريخ» (8/ 421) بسنده وسكت عنها وهي كما يقال «وردة، تقول: شمني ولا تدعكني» ولكنى شممت منها رائحة مريبة دعتني إلى دعكها، ففي السند «أحمد بن مروان بن محمد المالكي الدينَوَريّ القاضي قراءة عليه بمصر- حدثنا يحيى بن أبى طالب حدثنا عبد الوهاب بن عطاء الخفاف حدثني مشيخة أهل المدينة أن فروخا ... »
    أحمد بن مروان قال الدارقطني: هو عندي ممن يضع الحديث.
    وقال مسلمة بن قاسم: أدركته ولم أكتب عنه وكان ثقة.
    ويحيى بن أبى طالب وثّقه الدّارقطني وقال موسى بن هارون الحافظ: أشهد أنّه يكذب. راجع: «لسان الميزان» (ج 1 رقم 931 وج 6 رقم 921)، وعبد الوهّاب بن عطاء صدوق وقد سمع من مالك وغيره من أهل المدينة، ولا ندري إن كان روى هذه القصّة من شيخه فيها؟
    وفي القصّة ما يُنكر، ومنه أنهّا تفيد أنّ عمر ربيعة عند وقوعها كان 27 سنة ونقول «فبلغ مالك بن أنس والمشيخة فأتوا يعينون ربيعة ... وكثر الضّجيج فلمّا بصروا بمالك سكت النّاس كلّهم فقال مالك ...» وهذا يعطى أنّ مالكا كان إذ ذاك من المشيخة، وأنّه كان في أوجّ شهرته وجلالته عند النّاس فكم ينبغي أن يكون عمر مالك إذ ذاك؟
    أجب عن هذا في نفسك بما يلائم ما تقدّم، ثمّ انظر ترجمة ربيعة في الكتب تجد في «تاريخ البخاري» (ج 2 ق 1 رقم 976) «سمع أنسا والسّائب بن يزيد» وكذا في غيره، وحديثه عن أنس في الصحيحين وهو من طريق مالك وغيره عن ربيعة «سمعت أنس بن مالك يصف النّبيّ صلى الله عليه وسلم ...»
    وربيعة نشأ بالمدينة، وكان أنس بالكوفة فكأنّه سمع منه في قَدْمَةٍ قدمها أنس المدينة، وقد عَمَّرَ أنس وكَبُرَ وضَعُفَ ومات سنة 93 أو قبلها، فقدمته المدينة لا بد أن تكون قبل هذه السّنة بمدّة، وكان سماع ربيعة من أنس سماعا متقنا، كما يدلّ عليه سياق الحديث، ورواية مالك وغيره له، واعتماد صاحبي الصّحيحين عليه، فكم تُرى يكون سنّ ربيعة حين سمع من أنس؟
    وكم ترى يكون سنّه في سنة 93؟
    وإنمّا ولد مالك سنة 93، فكم ترى يكون سنّ مالك حين بلغ سنّ ربيعة 27 سنة؟
    وهي السّنة التي وقعت فيها القصّة؛ كما يزعم راويها وهل يمكن أن يكون في ذاك السّنّ من المشيخة وقد بلغ من الشّهرة والجلالة ما تقوله القصّة؟
    أمّا السّائب بن يزيد فقد قيل: إنّه توفى سنة 82 وقيل سنة 91 وقيل غير ذلك. وبالجملة فإنّ لم تكن القصّة مختلقة برمّتها فقد زيد فيها أشياء مختلقة -والله المستعان-» اهـ .

    الخلاصة:
    يتّضح ممّا سبق من كلام هذين العالمين الجليلين أنّ هذه القصّة لا تصحّ من جهتين: من جهة إسنادها ومن جهة متنها.
    أمّا إسنادها: فمداره على أبي بكر أحمد بن مروان بن محمّد المالكي الدّينوريّ، وهو متكلّم فيه؛ كما قال الحافظ الذّهبيّ -رحمه الله-، وقد مرّ بيان حاله في كلام المعلّميّ -رحمه الله- وأنّ الدّارقطنيّ قد ضعّفه، بل اتّهمه بالوضع.
    وكذلك ممّا أشار إليه الحافظ الذّهبيّ في كلامه أنّ في الإسناد انقطاعا فقال -رحمه الله-: «وإسنادها منقطع» اهـ
    قلت: وذلك -والله أعلم- لإبهام عبد الوهّاب بن عطاء الخفّاف مشيخة أهل المدينة.
    ولكن قد يجاب: أنّ الجمع يجبر الجهالة
    [2]، فلا يضرّ إبهام عبد الوهّاب بن عطاء لمشيخة المدينة، لاسيما وقد سمع مالك بن أنس وغيره من مشايخ المدينة، والله أعلم.
    وأمّا من ناحية متنها: فقد ذكر الذّهبيّ -رحمه الله- أربع أوجه لبيان بطلان القصّة:
    الأوّل: أنّ ربيعة الرّأي -رحمه الله- لم يكن له حلقة، وهو ابن سبع وعشرين سنة.
    الثاني: أنّه لمّا كان ابن سبع وعشرين سنة كان مالك فطيما أو لم يولد بعد، وهذا بخلاف ما جاء في القصّة أنّ مالكا كان إذ ذاك من المشيخة، وأنّه كان في أوجّ شهرته وجلالته عند النّاس!
    الثالث: أنّه جاء في القصّة أنّ ربيعة كانت عليه طويلة، أي قلنسوة طويلة -ولعلّها كانت رمزا خاصّا بالمفتي في ذلك الوقت أو نحو ذلك- والطّويلة هذه -كما قال الذّهبي- لم تكن خرجت بَعدُ للنّاس وإنمّا أخرجها المنصور فما يُظنّ أنّ ربيعة لبسها وإن كان قد لبسها فيكون في آخر عمره، لا وهو ابن سبع وعشرين سنة!
    والرابع: أنّه كان يكفيه في السّبع والعشرين سنة ألف دينار أو أكثر من ذلك قليلا، أمّا ثلاثون ألف دينار فهذا مجازفة بعيدة.

    وفي الأخير: ينبغي أن يُعلم أن كُلًّا من الحافظ الذّهبيّ والعلّامة المعلميّ لم ينفيا أن يقع بعض هذه القصّة ولذلك قال الذّهبيّ: «ولعلّه قد جرى بعض ذلك» وقال المعلّمي: «وبالجملة فإنّ لم تكن القصّة مختلقة برمّتها، فقد زِيدَ فيها أشياء مختلقة -والله المستعان-».

    * * *

    وكتب:
    أبو معاذ طارق بن محمّد سرايش
    السبت 27 شوال 1443 هـ
    الموافق لـ 28 مايو 2022 م
    ــ . ــ



    ــــــــــــــــــــــــــــــــ
    [1] قلت: لعلّه يقصد بالطّويلة قلنسوةً طويلةً -على اختلاف أشكالها وألوانها-كانت منتشرة في تلك الأزمان والله أعلم. ينظر: «تكملة المعاجم العربية» (5/ 154) (7/ 99).
    [2] أشار إلى نحو هذا الكلام السخاوي في «فتح المغيث (1/ 338). »
    الملفات المرفقة
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2022-05-28, 02:45 PM.

  • #2
    بارك الله فيك أخي طارق وجزاك الله خيراً.

    تعليق


    • #3
      وفيكم بارك الله أخي حسان

      تعليق


      • #4
        وفقكم الله أبا معاذ

        تعليق


        • #5
          جزاك الله خيرا

          تعليق


          • #6
            المشاركة الأصلية بواسطة عبدالسلام بن عجال الورفلي مشاهدة المشاركة
            وفقكم الله أبا معاذ
            آمين وإياكم يا أبا الطيب

            تعليق


            • #7
              المشاركة الأصلية بواسطة أبو إسحاق إبراهيم عزيزي مشاهدة المشاركة
              جزاك الله خيرا
              وجزاكم أخي الحبيب

              تعليق


              • #8
                جزاك الله خيراً ونفع بك اخي طارق

                تعليق


                • #9
                  المشاركة الأصلية بواسطة وديع عبد المحسن مشاهدة المشاركة
                  جزاك الله خيراً ونفع بك اخي طارق
                  وجزاكم أخي الحبيب ونفع بكم

                  تعليق

                  الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
                  يعمل...
                  X