إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الفرق بين الغيبة والجرح

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الفرق بين الغيبة والجرح

    بسم الله الرحمن الرحيم


    الفرق بين الغيبة والجرح
    ـــ . ـــ

    الحمد لله رب العالمين. وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
    فقد روى البيهقي في الشعب عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اطلع على أبي بكر رضي الله عنه وهو يمد لسانه، فقال: ما تصنع يا خليفة رسول الله؟ فقال: هذا أوردني الموارد؛ إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ليس شيء من الجسد إلا يشكو إلى الله اللسان على حدته.
    وروى الطبراني في الكبير عن عبد الله بن مسعود أنه قال -وهو على الصفا-: يا لسان قل خيرا تغنم واسكت تسلم من قبل أن تندم. قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذا شيء أنت تقوله أم سمعته؟ قال: لا بل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: أكثر خطايا ابن آدم في لسانه. والحديثان في الصحيحة.
    لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم في هذين الحديثين خطورة هذا العضو الصغير -اللسان-؛ الذي تخشاه أعضاء الجسم كلها وتخشى آفاته.
    فقد روى الترمذي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا أصبح ابن آدم أصبحت الأعضاء كلها تكفر اللسان تقول: اتق الله فينا فإنما نحن بك فإن استقمت استقمنا وإن اعوججت اعوججنا.
    فتعظم خطورة اللسان حين بين صلى الله عليه وسلم أن أكثر خطايا ابن آدم في لسانه. ومن ثم فهذا اللسان يدخل الإنسان الجنة أو يدخلُه النار.
    قال صلى الله عليه وسلم: من ضمن لي ما بين لحييه -أي: اللسانُ- وما بين رجليه أي: الفرج- أضمن له الجنة. رواه البخاري. وفي رواية عند الترمذي: من وقاهُ اللهُ شرَّ مابين لحييه وشرَّ ما بين رجليه دخل الجنة. فانظروا! كيف أن اللسان سببٌ لدخول الجنة.
    وقال صلى الله عليه وسلم: إن العبد ليتكلم بالكلمة مايتبين فيها يَزِلُّ بها في النار أبعدَ مما بين المشرق. رواه البخاري ومسلم. وفي رواية مسلم: أبعدَ مما بين المشرق والمغرب.
    وقال صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل: ثكلِتكُ أُمُّكَ يامعاذ، وهل يكبُّ الناسَ في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم. رواه الترمذي. فهذا يدل على أن اللسان قد يكون سببا لدخول النار.
    وحتى نعلم أن الأمر عظيم خطير أذكر مثالين يدلان على خطورة اللسان.
    المثال الأول: قالت عائشة رضي الله عنها: قلتُ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم: حسبك من صفية كذا وكذا -تعني أنها قصيرة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: لقد قلت كلمة لو مُزجت بماء البحر لمزجته.أي: غيرته. رواه الترمذي وأبو داود
    المثال الثاني: قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: كَانَ رَجُلاَنِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَآخِيَيْنِ فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ فَكَانَ لاَ يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ فَيَقُولُ أَقْصِرْ. فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ فَقَالَ لَهُ أَقْصِرْ فَقَالَ خَلِّنِي وَرَبِّى أَبُعِثْتَ عَلَىَّ رَقِيبًا فَقَالَ: وَاللَّهِ لاَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ أَوْ لاَ يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقَبِضَ أَرْوَاحُهُمَا فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ. فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا .وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ اذْهَبْ فَادْخُلِ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي وَقَالَ لِلآخَرِ اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ . قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتَكَلَّمَ بِكَلِمَةٍ أَوْبَقَتْ دُنْيَاهُ وَآخِرَتَهُ. رواه أبو داود.
    فهذا يدل على خطورة اللسان مما يجعل المرء حريصا على تجنب آفاته. فإن للسان آفات يجب الحذر منها. ومن هذه الآفات الغيبة وما أدراكم ما الغيبة.
    الغيبة هي من أسهل آفات اللسان التي يتلذذ بها المغتاب. والواجب على المسلم أن يترك الغيبة وأن يحذرها.
    والغيبة هي التي عرفها نبينا صلى الله عليه وسلم؛ كما في حديث أبي هريرة عند مسلم وغيره: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أتدرون ما الغيبة؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: ذكرك أخاك بما يكره، قيل: أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال: إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن فيه فقد بهته.
    لقد بين النبي صلى الله عليه وسلم معنى الغيبة؛ لأن كثيرا من أهل الغيبة إذا نُصحوا قالوا: نحن لا نكذب عليه -على المغتاب- هو يعمل كذا! فالرسول صلى الله عليه وسلم بيّن لأمته أن الغيبة أن تعيب أخاك بما فيه، أما إذا عبته بما ليس فيه فإنّ ذلك جامع لمفسدتين البهتان والغيبة.
    وعرّفها الإمام النووي -في كتابه الأذكار- تعريفا مفصلا فقال: الغيبة: فهي ذكرُك الإِنسانَ بما فيه مما يكرهُ، سواءٌ كان في بدنه، أو دينه، أو دنياهُ، أو نفسهِ، أوخلقهِ، أو خلُقهِ، أو ماله، أو ولدهِ، أو والدهِ، أو زوجهِ، أو خادمهِ، أو مملوكهِ، أو عمامتهِ، أو ثوبهِ، أو مشيته، وحركتهِ، وبشاشته، وخلاعته، وعبُوسه، وطلاقته، أوغير ذلك مما يتعلق به، سواءٌ ذكرتهُ بلفظك أو كتابك، أو رمزتَ، أو أشرتَ إليه بعينك، أو يدك، أو رأسك، أو نحو ذلك.
    هذه هي الغيبة المحرمة بإجماع المسلمين. لتظافر الأدلة الصريحة على ذلك في الكتاب والسنة.
    ومن ذلك قول الله تعالى: {وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ}.
    وروى أبو داود عن أبي برزة السلمي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ، وَلَمْ يَدْخُلِ الْإِيمَانُ قَلْبَهُ، لَا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْرَاتِهِمْ يَتَّبِعُ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ يَتَّبِعِ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ.
    وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح منتنة؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أتدرون ما هذه الريح المنتنة هذه ريح الذين يغتابون المؤمنين . رواه أحمد
    وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسلم: لما عرجَ بِي ربِّي مَرَرْتُ بِقَوْمٍ لَهُمْ أَظْفَارٌ مِنْ نُحَاسٍ يَخْمِشُونَ وجوهَهم وصدورهم فَقُلْتُ: مَنْ هَؤُلَاءِ يَا جِبْرِيلُ؟ قَالَ: هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ لُحُومَ النَّاسِ وَيَقَعُونَ فِي أَعْرَاضِهِمْ. رَوَاهُ أَبُو دَاوُد.
    وروى أبو داود -أيضا- عَنْ سَعِيدِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: إِنَّ مِنْ أَرْبَى الرِّبَا الِاسْتِطَالَةَ فِي عِرْضِ الْمُسْلِمِ بِغَيْرِ حَقٍّ.
    فهذه النصوص من الكتاب والسنة تدل على تحريم الغيبة، وأنها من الكبائر.
    قال القرطبي -في التفسير-: لَا خِلَافَ أَنَّ الْغِيبَةَ مِنَ الْكَبَائِرِ، وَأَنَّ مَنِ اغْتَابَ أَحَدًا عَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
    والغيبة كما أنها محرمة على المتكلم بها الذي هو المغتاب، فإنها تحرم من جهة سماعها وإقرارها. فلا يجوز لمن سمع الغيبة أن يرضى بذلك ويقره.
    قال النووي -في الأذكار-: اعلم أن الغيبة كما يحرمُ على المغتابِ ذكرها، يُحرمُ على السامعِ استماعُها وإقرارُها، فيجبُ على من سمع إنساناً يبتدئُ بغيبةٍ محرمةٍ أن ينهاهُ إن لم يَخَفْ ضرراً ظاهراً، فإن خافهُ وجب عليه الإنكارُ بقلبه، ومفارقةُ ذلك المجلس إن تمكن من مفارقته، فإن قدرَ على الإِنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلامٍ آخر لزمهُ ذلك، فإن لم يفعل عصى.
    ودليل ما قاله النووي قول الله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آَيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
    فالمستمع للغيبة مشارك للمغتاب فيها وفي وزرها، ولهذا وجب على المسلم إذا سمع من يغتاب أخاه أن يمنعه على حسب مقدرته ذبا عن عرض أخيه. وقد قال صلى الله عليه وسلم: مَنْ رَدَّ عَنْ عِرْضِ أَخِيهِ رَدَّ اللَّهُ عَنْ وَجْهِهِ النَّارَ يَوْمَ القِيَامَة. رواه الترمذي.
    فتقرر أن الغيبة محرمة المتكلم بها المستمع المقر لها.
    ومع أن الغيبة محرمة، إلا أنها قد تباح لوجود مصلحة متمثلة في وجود غرض شرعي صحيح؛ لا يمكن الوصول إليه إلا بالغيبة.
    قال ابن حجر -في الفتح-: قال العلماء: تباح الغيبة في كل غرض صحيح شرعا.
    وقال ابن كثير -في تفسيره-: وَالْغِيبَةُ مُحَرَّمَةٌ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَا يُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ إِلَّا مَا رَجَحَتْ مَصْلَحَتُهُ، كَمَا فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ وَالنَّصِيحَةِ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا اسْتَأْذَنَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الرَّجُلُ الْفَاجِرُ: ائْذَنُوا له بئس أخو العشيرة، وكقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِفَاطِمَةَ بِنْتِ قَيْسٍ رضي الله عنها وَقَدْ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ وَأَبُو الْجَهْمِ: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ وَأَمَّا أَبُو الْجَهْمِ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَكَذَا مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ، ثُمَّ بَقِيَّتُهَا عَلَى التَّحْرِيمِ الشَّدِيدِ، وَقَدْ وَرَدَ فيها الزجر الأكيد.
    فذكر ابن كثير هنا ما يستثنى من الغيبة وهو الجرح والتعديل الذي هو من النصيحة.
    وقال النووي -في رياض الصالحين-: باب ما يباح من الغيبة اعلم أن الغيبة تباح لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه بها وهو ستة أسباب: الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم، وذلك من وجوه: منها جرح المجروحين من الرواة والشهود، وذلك جائز بإجماع.
    ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان، أو مشاركته، أو إيداعه، أو معاملته، أو غير ذلك، أو محاورته، ويجب على المشاور أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساوئ التي فيه بنية النصيحة.
    ومنها إذا رأى متفقها يتردد إلى مبتدع، أو فاسق يأخذ عنه العلم، وخاف أن يتضرر المتفقه بذلك، فعليه نصيحته ببيان حاله، بشرط أن يقصد النصيحة، وهذا مما يغلط فيه، وقد يحمل المتكلم بذلك الحسد، ويلبس الشيطان عليه ذلك، ويخيل إليه أنه نصيحة فليتفطن لذلك
    .
    وقال الصنعاني -في معرض ذكر مستثنيات الغيبة في سبل السلام-: (الرَّابِعُ) التَّحْذِيرُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ الِاغتِرار به. كَجُرْحِ الرُّوَاةِ وَالشُّهُودِ، وَمَنْ يَتَصَدَّرُ لِلتَّدْرِيسِ، وَالْإِفْتَاءِ مَعَ عَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ، وَدَلِيلُهُ قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: بِئْسَ أَخُو الْعَشِيرَةِ. وَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ. وَذَلِكَ أَنَّهَا جَاءَتْ فَاطِمَةُ بِنْتُ قَيْسٍ تَسْتَأْذِنُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتَسْتَشِيرُهُ وَتَذْكُرُ أَنَّهُ خَطَبَهَا مُعَاوِيَةُ بْنُ أَبِي سُفْيَانَ وَخَطَبَهَا أَبُو جَهْمٍ فَقَالَ: أَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مُحَالَ لَهُ وَأَمَّا أَبُو جَهْمٍ فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ... الْحَدِيثَ.
    وقد ذكر الصنعاني هنا أدلة استثناء الجرح من الغيبة المحرمة. فقد استدل العلماء على جواز الغيبة في هذا الموضع بأدلة:
    *ما رواه البخاري ومسلم أَنَّ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَخْبَرَتْ عروة بن الزبير قَالَتْ: اسْتَأْذَنَ رَجُلٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ائْذَنُوا لَهُ، بِئْسَ أَخُو العَشِيرَةِ، أَوِ ابْنُ العَشِيرَةِ. فَلَمَّا دَخَلَ أَلاَنَ لَهُ الكَلاَمَ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قُلْتَ الَّذِي قُلْتَ، ثُمَّ أَلَنْتَ لَهُ الكَلاَمَ؟ قَالَ: أَيْ عَائِشَةُ، إِنَّ شَرَّ النَّاسِ مَنْ تَرَكَهُ النَّاسُ، أَوْ وَدَعَهُ النَّاسُ، اتِّقَاءَ فُحْشِهِ.
    هذا الحديث ترجم له البخاري بقوله: باب ما يجوز من اغتياب أهل الفساد والريب.
    قال الخطيب البغدادي -في الكفاية في علم الرواية عن هذا الحديث-: دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ إِخْبَارَ الْمُخْبِرِ بِمَا يَكُونُ فِي الرَّجُلِ مِنَ الْعَيْبِ عَلَى مَا يُوجِبُهُ الْعِلْمُ وَالدِّينُ مِنَ النَّصِيحَةِ لِلسَّائِلِ لَيْسَ بِغِيبَةٍ , إِذْ لَوْ كَانَ ذَلِكَ غِيبَةً لَمَا أَطْلَقَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَّ , وَإِنَّمَا أَرَادَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِمَا ذَكَرَ فِيهِ , وَاللَّهُ أَعْلَمُ , أَنَّ يُبَيِّنَ لِلنَّاسِ الْحَالَةَ الْمَذْمُومَةَ مِنْهُ وَهِيَ الْفُحْشُ فَيَجْتَنِبُوهَا , لَا أَنَّهُ أَرَادَ الطَّعْنَ عَلَيْهِ وَالثَّلْبَ لَهُ , وَكَذَلِكَ أَئِمَّتُنَا فِي الْعِلْمِ بِهَذِهِ الصِّنَاعَةِ , إِنَّمَا أَطْلَقُوا الْجَرْحَ فِيمَنْ لَيْسَ بِعَدْلٍ لِئَلَّا يَتَغَطَّى أَمْرُهُ عَلَى مَنْ لَا يَخْبُرُهُ , فَيَظُنُّهُ مِنْ أَهْلِ الْعَدَالَةِ فَيَحْتَجُّ بِخَبَرِهِ , وَالْإِخْبَارُ عَنْ حَقِيقَةِ الْأَمْرِ إِذَا كَانَ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ لَا يَكُونُ غِيبَةً.
    *وما أخرجه مسلم عن فاطمة بنت قيس في قصة طلاقها قالت: فَلَمَّا حَلَلْتُ ذَكَرْتُ لَهُ أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ، وَأَبَا جَهْمٍ خَطَبَانِي، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَمَّا أَبُو جَهْمٍ، فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ، انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ.
    قال أبو عمر بن عبد البر -في التمهيد-: فَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ قَوْلَ الْمَرْءِ فِي غَيْرِهِ مَا فِيهِ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ عِنْدَ الْخِطْبَةِ جَائِزٌ وَأَنَّ إِظْهَارَ مَا هُوَ عَلَيْهِ مِنْ عَيْبٍ فِيهِ صَوَابٌ لَا بَأْسَ بِهِ وَلَيْسَ مِنْ بَابِ الْغَيْبَةِ فِي شَيْءٍ وَهُوَ يُعَارِضُ قَوْلَهُ إِذَا قُلْتَ فِي أَخِيكَ مَا فِيهِ فَقَدِ اغْتَبْتَهُ وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّهُ جَائِزٌ تَبْيِينُ حَالِ الشَّاهِدِ إِذَا سَأَلَ عَنْهُ الْحَاكِمُ وَتَبَيُّنُ حَالِ نَاقِلِ الْحَدِيثِ وَتَبَيُّنُ حَالِ الْخَاطِبِ إِذَا سُئِلَ عَنْهُ وَفِي ذَلِكَ أَوْضَحُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّ حَدِيثَ الْغَيْبَةِ لَيْسَ عَلَى عُمُومِهِ.
    وهنا ذكر ابن عبد البر إجماع العلماء على استثناء ذلك من الغيبة المحرمة. ونقل الاجماع -أيضا- ابنُ رجب -في كتابه شرح العلل-، حيث قال: وجوب الكلام في الجرح والتعديل.
    مقصود الترمذي رحمه الله أن يبين أن الكلام في الجرح والتعديل جائز، قد أجمع عليه سلف الأمة وأئمتها، لما فيه من تمييز ما يجب قبوله من السنن مما لا يجوز قبوله.
    وهذا الإجماع الذي نقله ابن رجب لا يختص بتجريح الرواة فقط، بل يشمل أيضا جرح أهل الأهواء والبدع وأصحاب التأويلات الفاسدة؛ لذا قال في -الفرق بين النصيحة والتعيير-: ولا فرق بين الطعن في رواة حفَّاظ الحديث ولا التمييز بين من تقبل روايته منهم ومن لا تقبل، وبين تبيين خطأ من أخطأ في فهم معاني الكتاب والسنة وتأوَّلَ شيئاً منها على غير تأويله وتمسك بما لا يتمسك به ليُحذِّر من الاقتداء به فيما أخطأ فيه، وقد أجمع العلماء على جواز ذلك أيضًا.
    فهذه الأدلة من السنة والإجماع تدل على أن الجرح ليس من الغيبة المحرمة. فهذا فيه الرد على من يسوّي بين الجرح والرد على المخالف وبين الغيبة. حيث تجده ينفّر من جرح أهل الأهواء والرد على المخالف بحجة أن هذا غيبة ويذكر أدلة تحريم الغيبة. والحقيقة أن مراده هو تنفير الناس من دعوة الحق.
    وقد علمنا من النصوص وأقوال العلماء التي نقلتها. الفرق بين الأمرين.
    وقد قال ابن رجب -في الفرق بين النصيحة والتعيير-: وقد قرر علماء الحديث هذا في كتبهم في الجرح والتعديل وذكروا الفرق بين جرح الرواة وبين الغيبة وردُّوا على من سوَّى بينهما من المتعبدين وغيرهم ممن لا يتسع علمه.
    ففي الحديث السابق النبي صلى الله عليه وسلم نصح لفاطمة بنت قيس وذكر لها عيب رجلين خطبها. ومثل هذا كان في مصلحة خاصة. فكيف بما كانت المصلحة فيه عامة. فيه مصلحة للإسلام والمسلمين.
    ولهذا يقول ابن رجب -في شرح العلل-: وقد ظن بعض من لا علم عنده أن ذلك من باب الغيبة، وليس كذلك، فإن ذكر عيب الرجل إذا كان فيه مصلحة، ولو كانت خاصة كالقدح في شهادة شاهد الزور، جائز بغير نزاع، فما كان فيه مصلحة عامة للمسلمين أولى.
    فالنبي صلى الله عليه وسلم الذي حرم الغيبة وبين معناها، هو الذي ذكر معاوية وأبا الجهم بما يكرهون. وهذا كما ذكرت آنفا في مصلحة خاصة. فكيف بمصلحة المسلمين العامة. ومن ذلك تحذيرهم من البدع وأهلها. فهذا ليس من الغيبة في شيء.
    قال العلامة ابن العثيمين – لقاء الباب المفتوح 120-: الكلام في أهل البدع ومن عندهم أفكار غير سليمة أو منهج غير مستقيم، هذا من النصيحة وليس من الغيبة، بل هو من النصيحة لله ولكتابه ولرسوله وللمسلمين، فإذا رأينا أحداً مبتدعاً ينشر بدعته، فعلينا أن نبين أنه مبتدع حتى يسلم الناس من شره، وإذا رأينا شخصاً عنده أفكار تخالف ما كان عليه السلف فعلينا أن نبين ذلك حتى لا يغتر الناس به، وإذا رأينا إنساناً له منهج معين عواقبه سيئة علينا أن نبين ذلك حتى يسلم الناس من شره، وهذا من باب النصيحة لله ولكتابه ورسوله ولأئمة والمسلمين وعامتهم. وسواء كان الكلام في أهل البدع فيما بين الطلبة أو في المجالس الأخرى فليس بغيبة، وما دمنا نخشى من انتشار هذه البدعة أو هذا الفكر أو هذا المنهج المخالف لمنهج السلف يجب علينا أن نبين حتى لا يغتر الناس بذلك.
    إذا تقرر هذا فإني أنبه على أمرين:
    الأمر الأول: أن الجرح الذي ليس من الغيبة، لا ينبغي أن يتصدى له كل أحد من الناس. لأن الذي يتصدى لهذا الباب العظيم هو الذي تحققت فيه شروط قد ذكرها أهل العلم. فإذا تصدى له من لا يحسنه فإنه يفسد وهو يحسب نفسه مصلحا.
    قال شيخنا محمد علي فركوس -في الفتوى رقم 1103-: والكلامُ في بيانِ أحوال المجروحين يُعَدُّ وسيلةً لا غايةً في حدِّ ذاته، لا يقوم بهذه المَهَمَّة إلَّا أهلُ العلم المعروفون بالأمانة والنزاهة والعدلِ في الحكم، مع الدقَّة في البحث عن أحوالهم، إلى جانب التقوى والورع، والتجرُّدِ مِنَ التعصُّب والهوى، والْتزامِ الحَيْطة والأدب في نقد الرجال؛ حذرًا مِنِ انتهاك الأعراض وتجريحِ الناس مِنْ غيرِ مسوِّغٍ شرعيٍّ؛ لذلك اشترط العلماءُ في قَبولِ الجَرْحِ بيانَ سببِه مفصَّلًا على أَرْجَحِ الأقوال.
    ويقول الشيخ محمد بن آدم الأثيوبي -في قرة عين المحتاج مبينا شروط من يتصدى للجرح والعديل-: فمنها: العلم، والتقوى، والورع، والصدق، والأمانة، والابتعاد عن التعصّب، ومعرفة أسباب الجرح والتعديل، وأن يكون مستيقظًا، مستحضرًا، متحريا لأقوال العلماء، ضابطا لما يصدر منه؛ لئلا يقع في التناقض، عالما بتصاريف الكلام؛ لئلا يُغيّر كلام الناس إلى عكس ما يريدونه، وأن لا تحمله العداوة الشخصية في الجرح، وأن يكون حليمًا صبورًا، فلا يغضب في كلام الناس فيه، فيرميهم بما لا يستحقّونه، وأن لا تحمله القرابة على العدول عن قول الحقّ في الراوي.
    فمن خلال هذا نعلم خطورة الإقبال على هذا الباب لمن ليس أهلا. فباب الجرح والتعديل يترك لأهله ثم لا بأس بعد بيانهم من نقله وحكايته عنهم. ومن نصائح الشيخ أحمد النجمي -كما في الفتاوى الجلية الجزء الثاني-: لا تتسرعوا أنتم أيها الطلاب الصغار بالحكم على أي شخص بالتبديع حتى و لو كان عنده بدعة حتى تعرضوا ذلك على العلماء، و يؤيدونكم فيه، بدون هذا لا تفعلوا شيئا من ذلك.
    وقال -أيضا-: لا يجوز لطالب العلم المبتدئ أن يبدع أو يكفر إلا بعد أن يتأهل لذلك، و عليه إسناد الأمر لكبار أهل العلم خاصة.
    الأمر الثاني: وهو التنبيه على أن أعراض المسلمين محرمة. وقد جوّزها الشرع لمقاصد. ومن ثمة فلا يجوز تجاوز هذه المقاصد بسبب الهوى أو التعصب وغير ذلك؛ لأن هذا انحراف عن الحق.
    قال ابن دقيق العيد -في الاقتراح-: أَعْرَاض الْمُسلمين حُفْرَة من حفر النَّار وقف على شفيرها طَائِفَتَانِ من النَّاس المحدثون والحكام. ومن ثم فلا يجوز التساهل في هذا الباب والتكلم فيه بلا تثبت ولا علم. حتى تجد من يقع بذلك في الغيبة وهو يتستر بالجرح والتعديل.
    فالجرح أبيح من الغيبة بقصد النصيحة فلا يجوز تعدي ذلك؛ كأن يقصد الجارح التهكم والتفكه بتمزيق الأعراض. بل يذكرون بما هم عليه؛ كما قال الشاطبي في الاعتصام.
    وقال ابن القيم -في كتابه الروح-: وَالْفرق بَين النَّصِيحَة والغيبة أَن النَّصِيحَة يكون الْقَصْد فِيهَا تحذير الْمُسلم من مُبْتَدع أَو فتان أَو غاش أَو مُفسد فَتذكر مَا فِيهِ إِذا استشارك فِي صحبته ومعاملته والتعلق بِهِ ...فَإِذا وَقعت الْغيبَة على وَجه النَّصِيحَة لله وَرَسُوله وعباده الْمُسلمين فَهِيَ قربَة إِلَى الله من جملَة الْحَسَنَات وَإِذا وَقعت على وَجه ذمّ أَخِيك وتمزيق عرضه والتفكه بِلَحْمِهِ والغض مِنْهُ لتَضَع مَنْزِلَته من قُلُوب النَّاس فَهِيَ الدَّاء العضال ونار الْحَسَنَات الَّتِي تأكلها كَمَا تَأْكُل النَّار الْحَطب.
    وقال ابن رجب -في الفرق بين النصيحة والتعيير-: اعلم أن ذِكر الإنسان بما يكره محرم إذا كان المقصود منه مجرد الذمِّ والعيب والنقص. فأما إن كان فيه مصلحة لعامة المسلمين خاصة لبعضهم وكان المقصود منه تحصيل تلك المصلحة فليس بمحرم بل مندوب إليه.
    قال القرافي -في الفروق-: الْفَرْقُ الثَّالِثُ وَالْخَمْسُونَ وَالْمِائَتَانِ بَيْنَ قَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الْمُحَرَّمَةِ وَقَاعِدَةِ الْغِيبَةِ الَّتِي لَا تَحْرُمُ... (الرَّابِعَةُ) أَرْبَابُ الْبِدَعِ وَالتَّصَانِيفِ الْمُضِلَّةِ يَنْبَغِي أَنْ يُشْهِرَ النَّاسُ فَسَادَهَا وَعَيْبَهَا وَأَنَّهُمْ عَلَى غَيْرِ الصَّوَابِ لِيَحْذَرَهَا النَّاسُ الضُّعَفَاءُ فَلَا يَقَعُوا فِيهَا، وَيُنَفَّرُ عَنْ تِلْكَ الْمَفَاسِدِ مَا أَمْكَنَ بِشَرْطِ أَنْ لَا يُتَعَدَّى فِيهَا الصِّدْقُ وَلَا يُفْتَرَى عَلَى أَهْلِهَا مِنْ الْفُسُوقِ وَالْفَوَاحِشِ مَا لَمْ يَفْعَلُوهُ بَلْ يُقْتَصَرُ عَلَى مَا فِيهِمْ مِنْ الْمُنَفِّرَاتِ خَاصَّةً فَلَا يُقَالُ عَلَى الْمُبْتَدِعِ إنَّهُ يَشْرَبُ الْخَمْرَ، وَلَا أَنَّهُ يَزْنِي وَلَا غَيْرُ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ فِيهِ.
    قال ابن العثيمين -في شرح رياض الصالحين-: وقد شاع عند الناس كلمة غير صحيحة وهي قولهم: [لا غيبة لفاسق] هذا ليس حديثًا وليس قولاً مقبولا بل الفاسق له غيبة مثل غيره، وقد لا يكون له غيبة فإذا ذكرنا فسقه على وجه العيب والسب فإن ذلك لا يجوز، وإذا ذكرناه على سبيل النصيحة والتحذير منه فلا بأس بل قد يجب.

    فتبين لنا من هذا كله أن ثمة فرقا بين الغيبة المحرمة والجرح. وأن الجرح لابد أن يصدر ممن له أهلية ذلك، مع الحرص على العدل فيه وعدم تجاوز الحد المشروع.

    أسأل الله تعالى أن يرزقنا العلم النافع والعمل الصالح. ونسأله سبحانه أن يرينا الحق حقا ويرزقنا اتباعه وأن يرينا الباطل باطلا ويرزقنا اجتنابه.
    وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد ألا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2022-02-15, 09:26 AM.

  • #2
    جزاكم الله خيرا وبارك فيكم

    تعليق


    • #3
      جزاكم الله خيرا.

      تعليق


      • #4
        جزاكم الله خيرا

        تعليق


        • #5
          بارك الله فيكم ونفع بكم
          اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
          وسيم بن أحمد قاسيمي -غفر الله له-

          تعليق


          • #6
            أحسنت أخي محمد
            التعديل الأخير تم بواسطة إدارة الإبانة السلفية; الساعة 2022-02-18, 10:25 PM.

            تعليق


            • #7
              جزاك الله خيرا و نفع بك

              تعليق


              • #8
                جزاكم الله خيرا ونفع بكم شيخ محمد

                تعليق

                الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
                يعمل...
                X