إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

[ليلة عيد الميلاد] ليلة مضت وانقضت... وبقيت الأوزار والأوضار.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [جديد] [ليلة عيد الميلاد] ليلة مضت وانقضت... وبقيت الأوزار والأوضار.

    بسم الله الرحمن الرحيم

    ليلة عيد الميلاد!
    ليلة مضت وانقضت... وبقيت الأوزار والأوضار!

    ــــــ . ــــــ


    الحمد لله وحده، والصّلاة والسّلام على من لا نبيّ بعده، أمّا بعد:
    ففي صبيحة هذا اليوم تذكرتُ حديث زيد بن خالد الجهني رضي الله عنه، أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال لهم على إثر سماء -مطر- نزلت من اللّيل: «هل تدرون ماذا قال ربّكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر...»(متفق عليه؛ رواه البخاري برقم 7503، ومسلم برقم 125).
    فإذا كان عند نزول النّعمة عليهم أصبح من عباد الله مؤمن به وكافر؛ فكذلك بسبب تعاطي أسباب النّقمة بيننا أصبح من عباد الله مؤمن به وكافر بعد ليلة مُلئت كُفرا وفُجورا، وإلحادا وزورا؛ ففريق:
    من النّصارى تمادوا وطغوا، وتنادوا وبغوا؛ فنسبوا الولد للرّبّ جل وجلاله وما قدروا الله حقّ قدره، ولا عرفوه حقّ معرفته؛ فٱذوه حقّ الإذاية، وسبّوه وشتموه بنسبة الولد والصّاحبة؛ وهو صابر عليهم حليم بهم؛ قال صلى الله عليه و سلم: «مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللهِ تَعَالَى، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ[1]»(متفق عليه؛ رواه البخاري برقم 7378، ومسلم برقم 2804).
    قال عبد العزيز الرّاجحي حفظه الله: «قوله: «أَصبرَ» فيه: إشارة إلى القدرة على الإحسان إليهم مع إساءتهم...
    وفيه: أنّ المشركين حينما يدّعون الولد وينسبونه لله أنّ هذا يؤذي الله سبحانه وتعالى، لكن لا يلزم من الأذى الضّرر؛ لأنّ الله لا يلحقه ضرر، ولا يضرّه أحد من خلقه سبحانه وتعالى؛ كما قال سبحانه: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يُؤۡذُونَ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ لَعَنَهُمُ ٱللَّهُ فِي ٱلدُّنيَا وَٱلأٓخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمۡ عَذَابا مُّهِينا ٥٧}[سورة الأحزاب:57]، وكذلك -أيضا- المؤمنون الذين يؤذيهم الكفّار بالكلام لا يضرّهم ذلك، فلا يلزم من الأذى الضّرر»[2]اهـ.
    قال المُناوي رحمه الله: «وقوله: «على أذى» مصدر أذى يؤذي، يعني: المؤذي؛ أي:كلام مؤذ.
    «سمعه من الله»؛ أي: ليس أحد أشدّ صبرا من الله بإرسال العذاب.
    إلى مستحقّه، وهم الكفّار على القول القبيح المذكور...
    ولو نسب ذلك إلى ملك من أحقر ملوك الدّنيا لاستنكف، وامتلأ غضبا، وأهلك قائله، فسبحانه ما أحلمه، وما أرحمه، {وَرَبُّكَ ٱلغَفُورُ ذُو ٱلرَّحمَةِۖ لَوۡ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ ٱلعَذَابَۚ }[سورة الكهف:58]، وهو مع ذلك يحبس عقوبته عنهم، ولا يعاجلهم، بل يعافيهم؛ أي: يدفع عنهم المكاره، والمعافاة: دفع المكروه، ويرزقهم، فهو أصبر على الأذى من الخلق، فإنهم يؤذون بما هو فيهم، وهو يؤذى بما ليس فيه، وهم إن صبروا صبروا تكلفا، وضعفا، وصبره حلم، ولطف»[3]اهـ.
    ومن طيش عقول النّصارى، وقُبح أقوالهم أنّهم مع إذايتهم الله سبحانه وتعالى الكامل في أسمائه وصفاته ينزِّهون المخلوق النّاقص الضّعيف عمّا رموا به الكامل القويّ.
    قال القاضي ابن الباقلانيّ لراهبٍ أمام طاغية الرّوم: «كيف الأهل والأولاد؟ فقال: ملك الرّوم: مه! أما علمت أنّ الرّاهب يتنزّه عن هذا؟[4] فقال: تُنزّهونه عن هذا، ولا تنزّهون ربَّ العالمين عن الصّاحبة و الولد»[5]اهـ.
    وهم في إفكهم وزيفهم[6] مع شدة اختلافهم وتشرذمهم[7]كالغريق المتعلّق بالقشّة: يتمسّكون بباطلهم، ويُسوِّغون لكذبهم بأمور نسفها علماء الإسلام، ودحرها أذكياء الأنام الذين يأتي في مقدّمتهم وعلى رأسهم شيخ الإسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيميّة رحمه الله في كتابه الموسوعيّ الذي يُعدّ مفخرة أهل الإسلام في الرّدّ على النّصارى؛ فإنّه ردّ على أقوالهم قولا قولا، وفنَّد شبههم شبهة شبهة؛ وكان ممّا ذكره ردّا على أخبارٍ استدلّوا بها على ربوبيّبة عيسى عليه السلام قوله: «فَإِنْ قُلْتُمْ: إِنَّكُمُ ‌اسْتَدْلَلْتُمْ ‌عَلَى ‌رُبُوبِيَّتِهِ بِأَنَّهُ أَحْيَا الْمَوْتَى، وَأَبْرَأَ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ، وَمَشَى عَلَى الْمَاءِ وَصَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ، وَصَيَّرَ الْمَاءَ خَمْرًا، وَكَثَّرَ الْقَلِيلَ، فَيَجِبُ الْآنَ أَنْ يُنْظَرَ إِلَى كُلِّ مَنْ فَعَلَ مِنْ هَذِهِ الْأُمُورِ فِعْلًا فَنَجْعَلَهُ رَبًّا وَإِلَهًا، وَإِلَّا فَمَا الْفَرْقُ؟
    فَمِنْ ذَلِكَ أَنَّ كِتَابَ «سِفْرُ الْمُلُوكِ» يُخْبِرُ أَنَّ إِلْيَاسَ أَحْيَا ابْنَ الْأَرْمَلَةِ، وَأَنَّ الْيَسَعَ أَحْيَا ابْنَ الْإِسْرَائِيلِيَّةِ، وَأَنَّ «حِزْقِيَالَ» أَحْيَا بَشَرًا كَثِيرًا، وَلَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِمَنْ ذَكَرْنَا بِإِحْيَائِهِ الْمَوْتَى إِلَهًا.
    وَأَمَّا إِبْرَاءُ الْأَكْمَهِ فَهَذِهِ التَّوْرَاةُ تُخْبِرُ أَنَّ يُوسُفَ أَبْرَأَ عَيْنَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ بَعْدَ أَنْ ذَهَبَتْ، وَهَذَا مُوسَى طَرَحَ الْعَصَا فَصَارَتْ حَيَّةً لَهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَضَرَبَ بِهَا الرَّمْلَ فَصَارَ قُمَّلًا لِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا عَيْنَانِ تُبْصِرُ بِهِمَا، وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمْ بِذَلِكَ إِلَهًا.
    وَأَمَّا إِبْرَاءُ الْأَبْرَصِ، فَإِنَّ كِتَابَ «سِفْرُ الْمُلُوكِ» يُخْبِرُ بِأَنَّ رَجُلًا مِنْ عُظَمَاءَ الرُّومِ بَرِصَ فَرَحَلَ مِنْ بَلَدِهِ قَاصِدًا الْيَسَعَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لِيُبْرِأَهُ مِنْ بَرَصِهِ، فَأَخْبَرَ الْكِتَابُ بِأَنَّ الرَّجُلَ وَقَفَ بِبَابِ الْيَسَعَ أَيَّامًا لَا يُؤْذَنُ لَهُ، فَقِيلَ لِلْيَسَعِ: إِنَّ بِبَابِكَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ «نَعْمَانُ» وَهُوَ أَجَلُّ عُظَمَاءِ الرُّومِ، بِهِ بَرَصٌ وَقَدْ قَصَدَكَ لِتُبْرِأَهِ مِنْ مَرَضِهِ، فَإِنْ أَذِنْتَ لَهُ دَخَلَ إِلَيْكَ، فَلَمْ يَأْذَنْ لَهُ، وَقَالَ لِرَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ: اخْرُجْ إِلَى هَذَا الرَّجُلِ فَقُلْ لَهُ: يَنْغَمِسُ فِي الْأُرْدُنِّ سَبْعَ مَرَّاتٍ، فَأَبْلَغَ الرَّسُولُ لِنَعْمَانَ مَا أَمَرَهُ بِهِ الْيَسَعُ، فَفَعَلَ ذَلِكَ، فَذَهَبَ عَنْهُ الْبَرَصُ وَرَجَعَ قَافِلًا إِلَى بَلَدِهِ، فَأَتْبَعَهُ خَادِمُ الْيَسَعَ فَأَوْهَمَهُ أَنَّ الْيَسَعَ وَجَّهَ بِهِ إِلَيْهِ يُطْلَبُ مِنْهُ مَالَا، فَسُرَّ الرَّجُلُ بِذَلِكَ وَدَفَعَ إِلَى الْخَادِمِ مَالًا وَجَوْهَرًا، وَرَجَعَ فَأَخْفَى ذَلِكَ وَسَتَرَهُ.
    ثُمَّ دَخَلَ إِلَى الْيَسَعَ، فَلَمَّا مَثُلَ بَيْنَ يَدَيْهِ قَالَ لَهُ: تَبِعْتَ نَعْمَانَ وَأَوْهَمْتَهُ عَنِّي كَذَا وَكَذَا، وَأَخَذْتَ مِنْهُ كَذَا وَأَخْفَيْتَهُ فِي مَوْضِعِ كَذَا، إِذْ فَعَلْتَ الَّذِي فَعَلْتَ بِهِ، فَلْيَصِرْ بَرَصُهُ عَلَيْكَ وَعَلَى نَسْلِكَ، فَبِرَصَ ذَلِكَ الْخَادِمُ عَلَى الْمَكَانِ.
    قَالَ: فَهَذَا الْيَسَعُ قَدْ أَبْرَأَ أَبْرَصًا، وَأَبْرَصَ صَحِيحًا، وَهُوَ أَعْظَمُ مِمَّا فَعَلَ الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَلَمْ يَكُنْ فِي فِعْلِهِ ذَلِكَ إِلَهًا.
    قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ مَشَى عَلَى الْمَاءِ، فَإِنَّ كِتَابَ «سِفْرَ الْمُلُوكِ» يُخْبِرُ بِأَنَّ إِلْيَاسَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- سَارَ إِلَى الْأُرْدُنِّ وَمَعَهُ الْيَسَعُ تِلْمِيذُهُ، فَأَخَذَ عِمَامَتَهُ فَضَرْبَ بِهَا الْأُرْدُنَّ فَاسْتَيْبَسَ لَهُ الْمَاءَ حَتَّى مَشَى عَلَيْهِ هُوَ وَالْيَسَعُ، ثُمَّ صَعِدَ إِلَى السَّمَاءِ عَلَى فَرَسٍ مِنْ نُورٍ وَالْيَسَعُ يَرَاهُ، وَدَفَعَ عِمَامَتَهُ إِلَى الْيَسَعَ، فَلَمَّا رَجَعَ الْيَسَعُ إِلَى الْأُرْدُنِّ ضَرَبَ بِهَا الْمَاءَ فَاسْتَيْبَسَ لَهُ حَتَّى مَشَى عَلَيْهِ رَاجِعًا وَلَمْ يَكُنْ وَاحِدٌ مِنْهُمَا بِمَشْيِهِ عَلَى الْمَاءِ إِلَهًا، وَلَا كَانَ إِلْيَاسُ بِصُعُودِهِ إِلَى السَّمَاءِ إِلَهًا.
    قَالَ: وَأَمَّا قَوْلُكُمْ أَنَّهُ صَيَّرَ الْمَاءَ خَمْرًا، فَهَذَا كِتَابُ «سِفْرَ الْمُلُوكَ» يُخْبِرُ بِأَنَّ الْيَسَعَ نَزَلَ بِامْرَأَةٍ إِسْرَائِيلِيَّةٍ فَأَضَافَتْهُ وَأَحْسَنَتْ إِلَيْهِ، فَلَمَّا أَرَادَ الِانْصِرَافَ قَالَ لَهَا: هَلْ لَكِ مِنْ حَاجَةٍ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ إِنَّ عَلَى زَوْجِي دَيْنًا قَدْ فَدَحَهُ، فَإِنْ رَأَيْتَ أَنْ تَدْعُوَ اللَّهَ لَنَا بِقَضَاءِ دَيْنَنَا فَافْعَلْ.
    فَقَالَ لَهَا الْيَسَعُ: اجْمَعِي كُلَّ مَا عِنْدَكِ مِنَ الْآنِيَةِ، وَاسْتَعِيرِي مِنْ جِيرَانِكِ جَمِيعَ مَا قَدَرْتِ عَلَيْهِ مِنْ آنِيَتِهِمْ. فَفَعَلَتْ، ثُمَّ أَمَرَهَا فَمَلَأَتِ الْآنِيَةَ كُلَّهَا مَاءً فَقَالَ: اتْرُكِيهِ لَيْلَتَكِ هَذِهِ. وَمَضَى مِنْ عِنْدِهَا فَأَصْبَحَتِ الْمَرْأَةُ وَقَدْ صَارَ ذَلِكَ الْمَاءُ كُلُّهُ زَيْتًا، فَبَاعُوهُ فَقَضَوْا دَيْنَهُمْ.
    وَتَحْوِيلُ الْمَاءِ زَيْتًا أَبْدَعُ مِنْ تَحْوِيلِهِ خَمْرًا، وَلَمْ يَكُنِ الْيَسَعُ بِذَلِكَ إِلَهًا.
    وَأَمَّا قَوْلُكُمُ: الْمَسِيحُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَثَّرَ الْقَلِيلَ حَتَّى أَكَلَ خَلْقٌ كَثِيرٌ مِنْ أَرْغِفَةٍ يَسِيرَةٍ، فَإِنَّ كِتَابَ «سِفْرُ الْمُلُوكِ» يُخْبِرُ بِأَنَّ إِلْيَاسَ نَزَلَ بِامْرَأَةٍ أَرْمَلَةٍ، وَكَانَ الْقَحْطُ قَدْ عَمَّ النَّاسَ وَأَجْدَبَتِ الْبِلَادُ، وَمَاتَ الْخَلْقُ ضُرًّا وَهَزْلًا، وَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، فَقَالَ لِلْأَرْمَلَةِ: هَلْ عِنْدَكِ طَعَامٌ؟ فَقَالَتْ: وَاللَّهِ مَا عِنْدِي إِلَّا كَفٌّ مِنْ دَقِيقٍ فِي قِلَّةٍ، أَرَدْتُ أَنْ أَخْبِزَهُ لِطِفْلٍ لِي، وَقَدْ أَيْقَنَّا بِالْهَلَاكِ لِمَا النَّاسُ فِيهِ مِنَ الْقَحْطِ.
    فَقَالَ لَهَا: أَحْضِرِيهِ فَلَا عَلَيْكِ. فَأَتَتْهُ بِهِ، فَبَارَكَ عَلَيْهِ، فَمَكَثَ عِنْدَهَا ثَلَاثَ سِنِينَ وَسِتَّةَ أَشْهُرٍ تَأْكُلُ هِيَ وَأَهْلُهَا وَجِيرَانُهَا مِنْهُ حَتَّى فَرَّجَ اللَّهُ عَنِ النَّاسِ، فَقَدْ فَعَلَ إِلْيَاسُ فِي ذَلِكَ أَكْثَرَ مِمَّا فَعَلَ الْمَسِيحُ، لِأَنَّ إِلْيَاسَ كَثَّرَ الْقَلِيلَ وَأَدَامَهُ، وَالْمَسِيحَ كَثَّرَ الْقَلِيلَ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَلَمْ يَكُنْ إِلْيَاسُ بِفِعْلِهِ هَذَا إِلَهًا...
    فَهَذَا مَا حَضَرَنَا مِنَ الْآيَاتِ فِي تَصْحِيحِ خَلْقِ الْمَسِيحِ وَعُبُودِيَّتِهِ، وَبُطْلَانِ مَا يَدَّعُونَهُ مِنْ رُبُوبِيَّتِهِ، وَمِثْلُهُ كَثِيرٌ فِي الْإِنْجِيلِ لَا يُحْصَى، فَإِذَا كَانَتِ الشَّهَادَاتُ مِنْهُ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِنَ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِ، وَمِنْ تَلَامِيذِهِ بِمِثْلِ مَا قَدْ بَيَّنَاهُ فِي هَذَا الْكِتَابِ، وَإِنَّمَا اقْتَصَرْنَا عَلَى الِاحْتِجَاجِ عَلَيْكُمْ مِنْ كُتُبِكُمْ، فَمَا الْحُجَّةُ فِيمَا تَدَّعُونَهُ لَهُ وَمِنْ أَيِّ جِهَةٍ أَخَذْتُمْ ذَلِكَ وَاخْتَرْتُمُ الْكَلَامَ الشَّنِيعَ الَّذِي يَخْرُجُ عَنِ الْمَعْقُولِ، وَتُنْكِرُهُ النُّفُوسُ، وَتَنْفِرُ مِنْهُ الْقُلُوبُ، الَّذِي لَا يَصِحُّ بِحُجَّةٍ وَلَا قِيَاسٍ وَلَا تَأْوِيلٍ عَلَى الْقَوْلِ الْجَمِيلِ الَّذِي تَشْهَدُ بِهِ الْعُقُولُ وَتَسْكُنُ إِلَيْهِ النُّفُوسُ وَيُشَاكِلُ عَظَمَةَ اللَّهِ وَجَلَالَهُ»[8]اهـ.
    وفريق من المسلمين: انتكست فطرتهم، وتأثرت عقيدتهم، وتزلزلت ثوابتهم؛ فانجرفوا مع تيارات الكفر، وخاضوا في مستنقعات الإلحاد؛ واحتفلوا بعيد ميلاد ابن الرّبّ -تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا -مُنتشين، وشاركوا أعداء الله وأعدائهم في كفرهم فرحين؛ فهذه حلويات تشترى بأنفس الأموال، وتلك مفرقعات تحرق بين النّساء والرّجال، معرضين عن نصائح علمائهم، وتوجيهات فقهائهم.
    قال ابن عثيمين رحمه الله: «والله إن هذا لحرام، وقد يوصل بصاحبه إلى الكفر؛ لأن إشاعة التهنئة بعيد الكفار رضاً بشرائعهم ودينهم، والرضا بالكفر كفر، وقد نص على ذلك ابن القيم رحمه الله في كتابه أحكام أهل الذّمّة، وأنّه لا يجوز إظهار أيّ شعيرة من شعائر الكفر في مناسباتها، ولا يحلّ للخبّازين أن يفعلوا ذلك، أي: أن يرسموا صليباً أو كلّ عام وأنتم بخير أو ما أشبه ذلك، سبحان الله! نهنّئ النّاس بعيد كفّار لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر، ثمّ نهنّئ بِعِيد مَن؟ بعيد نصارى هتكوا أعراض المسلمين، واستباحوا دماءهم، واحتلوا ديارهم، ولو مكن لهم لقضوا على الإسلام كله، كيف نهنئ الناس بعيد هؤلاء؟! والله لو كان عيداً وطنياً لا شرعياً فلا يستحقّون أن يهنّئوا به، فكيف وهو عيد شرعيّ عندهم من شعائر دينهم، والرّضا بشعائر الكفر كفر؛ لأنّه رضاً بالكفر، وخطر على القلوب، خطر أن يزيغ القلب والعياذ بالله ثمّ لا يميز الإنسان بين عدوّ الله ووليّ الله»[9]اهـ.
    ولم يكتفِ قومي بهذه المصيبة العظيمة حتّى أضافوا لها أخرى من جنسها وهي نسبة الحوادث -خيرا أو شرّا- إلى الدّهر؛ فتجدهم ينسبون شقائهم للعامّ السّابق، ويعلِّقون آمالهم بالعامّ اللّاحق حيث تعدّدت في ذلك عباراتهم، واختلفت أساليبهم؛ الأمر الذي يدلّ على تصدُّع عقديّ خطير، وخلل إيماني كبير تغلغل في نفوس عوامّ النّاس ومثقّفيهم.
    قال ابن باز رحمه الله: «كثيرٌ من النّاس لجهله إذا ضاقه أمر وحزبه أمر سبّ الدّهر، لا بارك الله في هذه السّنّة، لا بارك الله في هذه السّاعة، لا بارك الله في هذا اليوم، أو ما أشبه ذلك لجهله، فلا يجوز سبّ الدّهر، بل ذلك من التّأسّي بالجاهليّة، حيث قالوا: {مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا ٱلدُّنيَا نَمُوتُ وَنَحيَا وَمَا يُهلِكُنَآ إِلَّا ٱلدَّهرُۚ}[سورةالجاثية:24] ما عندهم إيمان بالآخرة والبعث والجزاء، فالله جل وعلا هو مقلّب الدّهر، والدّهر هو الزّمان، والله خالقه، ومقلّب ليله ونهاره، فلا يجوز سبّه، ليس في يده شيء لا ينفع ولا يضرّ الدّهر، وليس في يد الدّهر عطاء ولا منع، بل هو مخلوق ومدبّر ليل ونهار بأمر الله جل وعلا، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا تسبّوا الدهر؛ فإنّ الله هو الدّهر»، وفي اللّفظ الآخر: «مقلّب ليله ونهاره»، وفي اللّفظ الآخر: «يقلّب اللّيل والنّهار فأنا الدّهر»، يعني أنّه خالقه ومدبّره ومسيّره في ليله ونهاره.
    وفي اللّفظ الآخر يقول الله جل وعلا: «يؤذيني ابن آدم يسبّ الدّهر، وأنا الدّهر أقلّب ليله ونهاره» فهذا يدلّ على أنّ سبّ الدّهر أذيّة لله وإغضاب لله، فلا يجوز سبّه لا بالشّتم ولا بغيره، لا يقال: لعن الله الدّهر أو فعل الله بالدّهر، أو أشغلنا هذا الدّهر، أو لا بارك الله في هذا الزّمان، أو في هذه اللّيلة، أو في هذه السّاعة، أو في هذا الزّمان، كلّ هذا لا يجوز، بل إذا أصابه شيء يكرهه يقول: قدّر الله وما شاء فعل، إنّا لله وإنّا إليه راجعون، يسأل ربّه العافية والسلامة»[10]اهـ.
    أمّا الفريق الأخير وهم أسعد النّاس بإيمانهم، وأعرف الخلق بعظمة ربّهم: أهل الصّلاح الثّابتين، والسّاعين في الإصلاح بصدق ويقين الذين بحثوا في الكتب وفتّشوا بين الأوراق، واستخرجوا ما ظنّوه كفيلا لهداية البشر من شرّ قد اقترب، فنشروه في المجامع والمنتديات، وبثّوه في الرّسائل والجوّالات، مقدّمين في ذلك أموالهم وأعراضهم، متحمّلين ما ينالهم من سبٍّ في ذواتهم وأعيانهم، مقتدين بعيسى عليه السلام عندما قدم -مقرّرا عبوديته لمولاه- دفع التّهمة عن ربّه على دفع تهمة الزّنا عن أمّه.
    قال بعض المفسّرين في قوله تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبدُ ٱللَّهِ ءَاتَنِيَ ٱلكِتَٰبَ وَجَعَلَنِي نَبِيّا}[سورة مريم:30]: «إنَّ الَّذِي اشْتَدَّتِ الحاجَةُ إلَيْهِ في ذَلِكَ الوَقْتِ إنَّما هو نَفْيُ تُهْمَةِ الزِّنا عَنْ مَرْيَمَ عَلَيْها السَّلامُ، ثُمَّ إنَّ عِيسى عَلَيْهِ السَّلامُ لَمْ يَنُصَّ عَلى ذَلِكَ، وإنَّما نَصَّ عَلى إثْباتِ عُبُودِيَّةِ نَفْسِهِ كَأنَّهُ جَعَلَ إزالَةَ التُّهْمَةِ عَنِ اللَّهِ تَعالى أوْلى مِن إزالَةِ التُّهْمَةِ عَنِ الأُمِّ، فَلِهَذا أوَّلَ ما تَكَلَّمَ إنَّما تَكَلَّمَ بِها»اهـ.
    ولما اقتربت ساعة الصفر باتوا يتألمون، وأصبحوا يتضرّعون خوفا من عموم العذاب، وخشية نزول العقاب؛ وقد امتلأت قلوبهم غيرة من انتهاك محارم الله، وشُحنت أفئتدهم غيظا على أعداء الإله.
    قال ابن القيّم رحمه الله: «إنّ أصل الدّين الغَيْرة، ومن لا غيرة له لا دين له، فالغَيْرة تحمي القلب فتحمي له الجوارح، فتدفع السّوء والفواحش، وعدم الغَيْرة تميت القلب، فتموت له الجوارح؛ فلا يبقى عندها دفع البتة، ومثل الغَيْرة في القلب مثل القوّة التي تدفع المرض وتقاومه، فإذا ذهبت القوّة وجد الدّاء المحلّ قابلًا، ولم يجد دافعًا، فتمكَّن، فكان الهلاك، ومثلها مثل صياصي الجاموس التي تدفع بها عن نفسه وولده، فإذا تكسّرت طمع فيها عدوه»[11]اهـ.

    فنسأل الله جل في علاه أن يهدي ضال المسلمين، ويعافي مبتلاهم، ويشفي مريضهم إنه ولي ذلك والقادر عليه.

    ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
    [1] «منحة الجليل شرح صحيح محمد بن اسماعيل» 13 /524.
    [2] قال المُناوي في «فيض القدير شرح الجامع الصغير» 5 /363: «أن فيه إبانة عن كرم الله -عز وجل-، وصفحه، وفضله، في تأخير معاجلة العذاب، وإدرار الرزق على مؤذيه، فهذا كرمه في معاملة أعدائه، فما ظنك بمعاملة أصفيائه»اهـ.
    [3] «فيض القدير شرح الجامع الصغير» 5 /363.
    [4] انظر إلى جمعهم بين النقيضين كيف ينزهون رهبانهم عن مقارفة النساء وإتيانهم وغشيانهم تطهرا -زعموا- مع شدة نجاستهم فإنهم «لا يوجبون الطهارة من الجنابة، ولا الوضوء للصلاة، ولا اجتناب النجاسة في الصلاة، بل يَعُدُّ كثير من عبادهم مباشرة النجاسات من أنواع القرب والطاعات حتى يُقال في فضائل الراهب: «له أربعون سنة ما مس الماء»» [«الجواب الصحيح فيمن بدل دين المسيح» لابن تيمية -رحمه الله- 1 /12 ].
    [5] «سير أعلام النبلاء» (17 /191).
    [6] قال ابن عثيمين رحمه الله: «وقد برهن الله عز وجل على بطلان هذا في سورة الأنعام، فقال الله تعالى: {وَجَعَلُواْ لِلَّهِ شُرَكَآءَ ٱلجِنَّ وَخَلَقَهُمۡۖ وَخَرَقُواْ لَهُۥ بَنِينَ وَبَنَٰتِۢ بِغَيرِ عِلمٖۚ سُبحَٰنَهُۥ وَتَعَٰلَىٰ عَمَّا يَصِفُونَ، بَدِيعُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرۡضِۖ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖۖ وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ}[سورة الأنعام:100-101]؛ فقال:{أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُۥ وَلَدٞ وَلَمۡ تَكُن لَّهُۥ صَٰحِبَةٞۖ} كيف يكون له ولد وليس له صاحبة؟ يعني زوجة، هذا مستحيل!
    والثانية: {وَخَلَقَ كُلَّ شَيۡءٖ}، والخالق لكل شيء لا يمكن أن يكون له ولد؛ لأن الولد جزء من الوالد، وإذا كان جزءًا منه لم يكن شيئًا مخلوقًا؛ لأن جزء الخالق يكون خالِقًا مثله، قال الله تعالى: {وَجَعَلُواْ لَهُۥ مِنۡ عِبَادِهِۦ جُزۡءًاۚ إِنَّ ٱلإِنسَٰنَ لَكَفُور مُّبِينٌ}
    [سورة الزخرف:15].
    {وَهُوَ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيم}
    [سورة الأنعام:101] وقد أعلمنا أنّه ليس له ولد، فكيف يكون خبرهم غير مطابق للواقع، فبرهن الله على امتناع الولد من وجوه ثلاثة: امتناع الصاحبة، وأنه خلق كل شيء، وأنه بكل شيء عليم»اهـ [تفسير صورة الصافات ص221 ].
    [7] قال ابن تيمية رحمه الله: «الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح» 2 /280: «ولهذا قال طائفة من العقلاء إن عامة مقالات الناس يمكن تصورها إلا مقالة النصارى، وذلك أن الذين وضعوها لم يتصوروا ما قالوا، بل تكلموا بجهل وجمعوا في كلامهم بين النقيضين؛ ولهذا قال بعضهم: «لو اجتمع عشرة نصارى لتفرقوا عن أحد عشر قولا».
    وقال آخر: «لو سألت بعض النصارى وامرأته وابنه عن توحيدهم لقال الرجل قولا، وامرأته قولا آخر، وابنه قولا ثالثا»»اهـ

    [8] «الجواب الصحيح فيمن بدل دين المسيح» لابن تيمية -رحمه الله- 3 /49.
    [9] اللقاء الشهري رقم 31.
    [10] «شرح كتاب التوحيد» باب من سبّ الدّهر فقد آذى الله.
    [11] «الداء والدواء» لابن القيّم رحمه الله، ص167.
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2023-01-02, 08:09 AM.

  • #2
    يعاد رفعه للمناسبة مع بعض الزيادات في أصل المقال.

    تعليق

    الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
    يعمل...
    X