إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

«الغَيْثُ النَدِي فِي تَرْجَمَةِ الإِمَامِ الدَاوُدِي» -أحد البحوث الفائزة في مسابقة التصفية الرسمية الأولى- (الحلقة الأولى).

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • [جديد] «الغَيْثُ النَدِي فِي تَرْجَمَةِ الإِمَامِ الدَاوُدِي» -أحد البحوث الفائزة في مسابقة التصفية الرسمية الأولى- (الحلقة الأولى).

    بسم الله الرحمن الرحيم



    الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، أما بعد:

    فإن من محاسن الاجتماع -على الحق-، ضمان الاستفادة والانتفاع، وانتشار العلم وبثه، مع تمييز سمينه من غثه، وكان من جميل آثاره، وجليل أخباره، ما قام به شيخنا الحبيب أزهر سنيقرة -حفظه ربي ورعاه- قبل ثلاث سنوات -في شعبان 1438 هـ- من إعلان مسابقة (التصفية والتربية الرسمية الأولى)، وما إن نُشر الإعلان، حتى تهافت الإخوان، بين سائل ومُستفسِر، وعازم ومُستنفِر، فاستقر الأمر على مشاركة قرابة عشرين بحثا انتخبت منها الخمسة الأولى.
    وكان من توفيق الله لي حينها أن شاركت ببحث بعنوان:
    «الغَيْثُ النَدِي فِي تَرْجَمَةِ الإِمَامِ الدَاوُدِي» تم اختياره مع البحوث الفائزة.
    ثم بقي البحث حبيس الحاسوب برهة من الزمن، فاستشرت شيخنا أزهر -حفظه الله- في نشره على حلقات فأشار بذلك، حيث فتحت فيه ورشة من التصليحات، وحليته بباقة من الزيادات والإضافات، والله أسأل أن ينفع به كاتبه وقارئه وناشره، إنه ولي ذلك والقادر عليه.


    بسم الله الرحمن الرحيم


    الحمد لله على ما ظهر من نعمه وبطن، وقرُب من سابغ مننه وشطن، وصلاته على نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم-خير من ظعن وقطن، وعلى آله وصحبه أهل الذكاء والفِطن، وتابعيهم بإحسان ما تمسك أثريٌ بالسنن، أما بعد:

    فإن من أعظم ما يشرح الصدور، ويطبع على النفس السرور، ويرفع العزيمة، ويزيد في الشكيمة، بل ويورث الاعتبار، ويجنب الاغترار: النظر في سير الأخيار، وذكر تراجم الأبرار؛ فإن قصص الأولين جميلة، وأخبارهم جليلة، وآثارهم أصيلة؛ في ظلال تلك السير عبر ودروس، وفي تأملها شحذ للهمم والنفوس، فيها تطييب للخاطر، وتبصرة للناظر، إنهم قوم عرفوا الله حق المعرفة فأطاعوه، وأبصروا سُبل الشيطان فعصوه وخالفوه.
    قال أبو القاسم محمد بن يوسف المدني في»تاريخ بلخ» معددا فضائل قصص الأولين:

    «فيه إحياء ذكر الأولين والآخرين من علمائها، والطارئين عليها، فإن ذكرها حياة جديدة، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا.
    وتصورهم في القلوب، ومعرفة أفعالهم، وزهدهم وورعهم، وديانتهم وانصرافهم عن الدنيا، واحتقارهم لها، وصبرهم على شدائد الطاعات والمصائب في الله، فيتخلق الناظر بأخلاقهم، ويتعطر السامع بأحوالهم؛ فالطبع منقاد، والإنسان معتاد، والأذن تعشق قبل العين أحياناً.

    ولما كان سبب النجاة الاستقامة في الأحوال والأفعال ولا يتم ذلك إلا بسائق وقائد، كصحبة الصالحين أو سماع أحوالهم، والنظر في آثارهم، عند تعذر الصحبة حيث تتصور النفس أعيانهم، وتتخيل مذاهبهم، لأنك لو أبصرت لم يبق عندك إلا التذكر والتخيل، وكان السمع كالبصر، والعينان كالخبر، وإن كان بينهما بون، ولكن إن لم يكن وابل فطل، سيما وعند ذكر الصالحين تتنزل الرحمة» ا هـ([1]).
    قال محمد بن يونس-رحمه الله-: «ما رأيت للقلب أنفع من ذكر الصالحين»ا هـ([2]).
    قال أبو العباس المقري التلمساني-رحمه الله- في أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض: «وقال الإمام المواق في كتابه المسمى «سند المهتدين» عن شيخه المنتوري بسنده إلى أبي العباس بن العريف قال: كنت في مجلس أستاذي أبي علي الصدفي أقرأ عليه الحديث فقرأ يوما الحديث ثم أغلق الكتاب وجعل يحكي حكايات الصالحين فوقع في نفسي: كيف يجيز الشيخ أن يقطع حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ويحكي الحكايات؟ قال: فما تم لي الخاطر حتى نظر إليَّ الشيخ شزرا وقال: يا أحمد الحكايات جند من جنود الله يثبت الله بها قلوب العارفين من عباده.
    قال: فما بقي في جسدي شعرة إلاّ قطر منها العرق، فلما رآني دهشت، قال لي: يا أحمد أين مصداق ذلك في كتاب الله؟ قلت: الشيخ أعلم، قال: قوله تعالى: «وكلا نقص عليك من أنباء الرسل»» ا هـ([3]).
    وجاء في كتاب الورع لأبي عبدالله أحمد بن حنبل -رحمه الله- من رواية المروزي([4]): »ذَكَرْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْفَضْلَ وَعُرْيَهُ، وَفَتْحَ الْمَوْصِلِيِّ وَعُرْيَهُ وَصَبْرَهُ؛ فَتَغَرْغَرَتْ عَيْنُهُ وَقَال: رَحِمَهُمُ اللَّه كَانَ يُقَالُ عِنْدَ ذِكْرِ الصَّالِحِينَ تَنْزِلُ الرَّحْمة» ا هـ.
    قال شيخ الاسلام ابن تيمية -رحمه الله-في رسالته «الصفدية»: » فتارة يكون المعلوم محبوبا يلتذ بعلمه وذكره كما يلتذ المؤمنون بمعرفة الله وذكره؛ بل ويلتذون بذكر الأنبياء والصالحين ولهذا يقال: «عند ذكر الصالحين تنزل الرحمة»، بما يحصل في النفوس من الحركة إلى محبة الخير والرغبة فيه والفرح به والسرور واللذة» .ا هـ([5]).
    قال الشيخ صالح آل الشيخ -حفظه الله-: «ينبغي لك -أيها الطالب-أن تحرص على قراءة التراجم؛ لأنها تجمع العقول، وتطرد الملل والكسل، وهذا في طبيعة الإنسان.
    لهذا كان الزهري وغيره إذا انتهى الدرس، قال: «هاتوا لنا من أخباركم، هاتوا لنا من أشعارنا، فإن للقلب أحماضا»، أو كما قال»ا هـ([6]).
    وتحقيقا لما سبق بيانه، واغتناما لما يسره الله بامتنانه، من تكرم شيخنا الحبيب الأزهر -حفظه الله-، في منتداه المنير المُزهر، بإعلان مسابقة التصفية الأولى، حيث وقع اختياري على الكتابة في ترجمة علم غير مشهور، وكوكب دريٌ أفل نوره على مر الدهور، دفع إليه ما خطه يراع علامة الجزائر الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمه الله- حين قال:
    » ولكن هذا المغرب العربي رغم التجاهل والتناسي من إخوانه المشارقة، كان يبعث من رجال السيف والقلم من يُذكرون به ويشيدون باسمه، ويلفتون نظر إخوانهمالمشارقة إلى ما فيه من معادن العلم والفضيلة» ا هـ([7])
    وقول رفيق دربه، ونائبه في حربه العلامة محمد البشير الإبراهيمي -رحمه الله-:
    «فالدولة الرستمية، والدولة الصنهاجية، والدولة الزيانية جرت في العناية بنشر العلم وتسهيل وسائله وتشجيع أهله شوطًا لم تقصر فيه عن شأو دولة الخلافة بالشرق، وتيهرت وقلعة حماد والمسيلة وبجاية وطبنة وقسنطينة أخرجت للعالم الإسلامي من أئمة العلم في الدين والدنيا، وفحول البلاغة من الشعراء، وفرسان المنابر من الخطباء، من كان الشرق يقف أمامهم مبهوتًا من العجب، وناهيكم بتلمسان في العهد الزياني فقد سايرت بغداد في عنان واحد في هذا الميدان»([8]) اهـ.
    زيادة على ما اشتركت فيه مع المترجم له من اتحاد الوطن، والجوار في السكن، وسميته «الغَيْثُ النَدِي فِي تَرْجَمَةِ الإِمَامِ الدَاوُدِي».
    وقبل الشروع في المقصود، نستمد العون من المعبود، على حصول الهدف المنشود، والتيسير لإتمام البحث المرصود، شاكرا من ترجم للداودي قبلي، وهم بين مقل ومستكثر، وقد اقتصرت مما ذكروه على عيونه دون حشوه، وسمينه دون غثه، وسأذكر في بحثي هذا -إن شاء الله- ما يكفي ويشفي مع الاختصار وطرح التكرار، والاقتصار على ما يجمل به التذكار، والله وحده الهادي الى سبيل الأبرار، وطريق الأخيار.


    1) اسمه ونسبه:
    هو الإمام أبو جعفر أحمد بن نصر بن سعيد الداودي المسيلي وقيل البسكري مولدا، التلمساني وفاة، الأسدي نسبا، المالكي مذهبا.
    والملاحظ في هذا المقام أن الكثير ممن ترجم للداودي -رحمه الله-خلط بينه وبين غيره، وغلط في ضبط اسمه ونسبته([9])، مما حصل منه هضم لحق الداودي ونسبة أقواله إلى غيره، وتجلية لهذه الأغلاط والأوهام، وحفظا لكلام الداودي الإمام، نذكر عالمين كثر الخلط بينهما وبين الداودي المترجم له -رحمه الله- هما:
    1- أحمد بن نصر الداودي المكنى بأبي حفص المتوفى سنة 307 هـ، خلط بينه وبين الداودي المترجم له الزركلي فجعلهما واحدا، وقد ذكره صاحب شجرة النور الزكية للتمييز بينه وبين أحمد بن نصر بن زياد الهواري المتوفى سنة 319 هـ فقال: «وفي المالكيين القرويين من يشبهه وهو أحمد بن نصر الداودي المتوفى سنة 307 هـ» ا هـ([10]).
    2- أبو الحسن عبدالرحمن بن محمد بن المظفر البوشنجي الداودي الشافعي المتوفى سنة 467 هـ، وقد غلط محققوا الذخيرة للقرافي فعزوا الكثير من أقوال الداودي المترجم له إلى الداودي الشافعي، وهذا غلط فاحش كما ذكره وساق أمثلة على ذلك صاحب كتاب موسوعة الإمام الداودي -رحمه الله-([11]).
    كما يحسن بنا أن نلفت النظر إلى التحريف الكبير الذي وقع في اسم الداودي المالكي الذي تحرف الى الدَاوُري والدُؤَادي والدَارُوردي وغيرها([12]).

    2) مولده :
    أ. تاريخ ولادته:

    لم أجد -فيما اطلعت عليه من المصادر-العام الذي ولد فيه الإمام الداودي -رحمه الله- بالتحديد، لكن يمكن أن نستنتج تاريخ ولادته تقريبا، إذا علمنا أن من أقرانه الذين اشترك كثير من تلاميذ الداودي في الأخذ عنه، هو الإمام أبو الحسن القابسي([13]) الذي كانت ولادته سنة 324 هـ، كما أنه روى عن شيخه ابراهيم بن عبدالله القلانسي (ت 359 هـ) ([14]).
    فلا يبعد أن تكون ولادة الداودي في العقد الثالث أو الرابع من القرن الرابع([15]).

    ب. أصله ومكان ميلاده:
    اختلف من ترجم للإمام الداودي-رحمه الله- في أصله ومكان ميلاده على قولين:
    القول الأول :أنه من المسيلة وقد جزم بنسبته إليها القاضي عياض -رحمه الله- حيث قال: « أصله من المسيلة» ا هـ([16]).
    ونسبه ابن خير الإشبيلي إلى المسيلة فقال: »أبو جعفر أحمد بن نصر الداودي الفقيه المالكي من أهل المسيلة» ا هـ([17]).
    وتبعهما على ذلك صاحب كتاب أعلام الفكر والثقافة ([18]) ومحقق كتاب الأموال ([19]) للإمام الداودي -رحمه الله-.
    القول الثاني:
    أنه ولد ببسكرة بواحة تسمى «ليانة» تبعد حوالي مائة كم شرقي مدينة بسكرة في الطريق إلى خنشلة.
    قال القاضي عياض رحمه الله: «أصله من المسيلة، وقيل من بسكرة» ا هـ([20]).
    وقال الدكتور يحيى البوعزيزي: «أصله من مدينة المسيلة ومن مواليدها، وقيل من مواليد واحة ليانة بأعمال بسكرة حيث يوجد له مسجد ومقبرة يحملان اسمه »ا هـ([21]).
    ونسبه محققوا كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى للقاضي عياض إلى بسكرة بقولهم: «الداودي: هو أحمد بن نصر شارح البخاري، وهو أبو جعفر الأسدي التسكري- ولعله تصحيف من البسكري- التلمساني توفي بتلمسان سنة أربعين وأربعمائة» ا هـ([22]).
    وكذلك صحفه أبو عبد الله محمد بن عبدالباقي الزرقاني المالكي (ت 1122 هـ) في شرحه على المواهب اللدنية حين قال:
    « الداودي" أحمد بن نصر اليشكري، أبو جعفر الأسدي الطرابلسي» ا هـ([23]).
    والصواب: البسكري فلعله وهم ونسبه إلى اليشكري نسبة إلى يشكر بن بكر بن وائل، أما الداودي فيرجع نسبه إلى قبيلة بني أُسد إلى دودان بن أسد.
    وتردد بعضهم في أصله كما فعل ذلك محمد بن الحسن الثعالبي الفاسي (ت 1376 ) حيث قال:


    «أبو جعفر مسيلي أو بسكري الأصل، وسكن طرابلس، ثم نزل تلمسان، وبها توفي» اهـ([24]).
    ورغم أن هذا الخلاف لا ينبني عليه كثير أثر ([25])، إلا أنه عند التحقيق والنظر، يترجح لي والله أعلم أنه بسكري الأصل بناءً على القرائن والشواهد التالية
    1. قال الأديب الباحث زهير الزاهري اللياني (ت 1999 م)-أحد تلاميذ الإمام عبدالحميد بن باديس والملقب بعميد الملتقيات الوطنية- عن الإمام الداودي -رحمهما الله-: «وهو لياني المولد بسكري الإقامة مسيلي الإمارة تلمساني المدفن» ا هـ([26]).
    وقد حدثني أخي الكبير طارق سماحي -وفقه الله-أن الشيخ ابن مبارك التواتي -رحمه الله- حدثه أنه حضر مع الشيخ زهير الزاهري -رحمه الله- محاضرة لأحد الأزهريين، فذكر أن أول شارح لصحيح البخاري من المشارقة فغضب الشيخ زهير، وبعد انتهاء المحاضرة ذهب إلى المحاضر وعقَّب عليه قائلا: أن أول شارح لصحيح البخاري هو الداودي، وأن ابن حجر ينقل عنه في فتح الباري وغيره، وأنه من منطقتي يعني من ليانة بسكرة؛ فسلم له الأزهري بذلك.
    1. وجود بعض الآثار والمسميات التي تشير إلى أن أصل الداودي -رحمه الله- من بسكرة، ومن ذلك وجود مقبرة لأهله في ليانة، ومسجد جامع ببسكرة يسمى بالداودي الى وقتنا الحاضر.
    قال الشيخ زهير الزاهري -رحمه الله-: « ولأهله مقبرة ببسكرة مثل ليانة، ومسجد جامع ببسكرة» ا هـ([27]).
    كما حدثني بعض من أثق به أنه توجد منطقة زراعية شاسعة في «ليانة» تسمى «الداودية».
    1. لعل الذين ترجموا للإمام الداودي وجزموا بنسبته إلى المسيلة لا يتعارض مع كونه من بسكرة، إذا علمنا أن التقسيمات الإدراية آنذاك لم تكن كما هي اليوم؛ حيث كانت المسيلة والزاب-بسكرة- كلها تحت حكم العبيديين، وكانت بسكرة تابعة اقليميا إلى المسيلة، ويشهد لذلك ما جاء في كتب التاريخ في ترجمة جعفر بن علي بن أحمد بن حمدان الأندلسي حيث قال فيه الذهبي -رحمه الله-: «صاحب المسيلة وأمير الزاب من أعمال افريقية» ا هـ([28]).
    وقد مدحه ابن هانئ الأندلسي فقال:
    خليلي أين الزاب مني وجعفر ::: وجنات عدن بنت عنها وكوثر([29])
    1. قال الشاعر الناشئ شارف عامر في قصيدته المشهورة عن بسكرة :
      «واليانة السكرى مرابع نخبة ::: عدد هنا الثوار والعلماء
      والداودي يصوغ زبده فكره ::: بتواضع وصديقه استحياء
    إلا أن الثابت أن أصله من قرية ليانة كما أفادنا الشيخ الزهير الزاهري، وهل استنتجه من كون أن أول من استوطن ربوع اليانة هي قبيلة بني أسد؟» ا هـ ([30]).
    وبناءً على ما سبق يترجح أن الإمام أحمد بن نصر الداودي -رحمه الله- لياني المولد بسكري الإقامة مسيلي الإمارة.

    3/ نشأته وطلبه للعلم:
    »من المؤكد أن الداودي -رحمه الله- عاش في القرن الرابع الهجري وخاصة في النصف الثاني منه إلى بداية القرن الخامس الهجري- وشهد طرفا من أحداثه الكبرى، خاصة أيام الدولة العبيدية، وما كان بينها وبين أهل المغرب من صراع امتد إلى سنوات طويلة، وانتهى بخروج العبيديين من المغرب إلى مصر سنة 362 هـ، ثم حكم الدولة الصنهاجية التي كانت تدين بالولاء لهم في عهودها الأولى، ثم ما كان من خروجها عنهم، ورجوعها إلى المذهب السني، والدعوة للخلافة العباسية ببغداد أيام المعز بن باديس» ا هـ([31]).
    ومن المعلوم بداهة أن كل إنسان وليد بيئته وابن محيطه، يتأثر بعدد من العوامل المحيطة به، وتتشابك عدد من الظروف في تكوين شخصيته، يؤثر فيه المركوب والمأكول فضلا عن المعقول والمنقول.
    والداودي كغيره تأثر بالفتن المتلاطمة، والإحن المتراكمة، التي كانت في عصره، فنشأ في عائلة متدينة متوسطة من أصول عربية هاجرت من الجزيرة العربية؛ حيث ولد في ليانة كما سبق تقريره، ثم أقام ببسكرة، ونشأ بها أتم إنشاء وأزكاه، وأنبته الله أحسن النبات وأوفاه، فتلقى فيها مبادئ العلوم، وأحسن في نصب ركائز المعقول والمفهوم، وكانت مخايل النجابة عليه في صغره لائحة، ودلائل الذكاء في صباه واضحة، وبعد أن بلغ أشده، واستوى عوده، انتقل إلى المسيلة حاضرة العلم آنذاك، وفيها سمع منه ابن ميمون الطليطلي، ثم يمم إلى طرابلس الغرب، فحط بها عصا الترحال، وعقد العزم على تحقيق الآمال، خصوصا أنها كانت زاخرة بالعلماء، وآهلة بالأدباء، زيادة على من يمر بها من أهل المغرب والأندلس إلى المشرق للحج وطلب العلم، من أصحاب الأسانيد العالية، والسماعات الغالية، فبقي فترة في مرحلة الطلب، ثم تصدر إلى التدريس والإملاء، فأملى بها كتابه «النامي في شرح الموطأ» كما سيأتي بيانه في مؤلفاته.

    وفي هذه الفترة كان له دور فعال في إعلان النكير على الدولة العبيدية([32])، التي ألزمت الناس بالتشيع، وأجلبت بخيلها ورجلها على علماء المالكية، بسجنهم وتعذيبهم وقتلهم([33])حيث كان صداعا بالحق لا يخاف في الله لومة لائم، فأفتى بكفر من يخطب للعبيديين ويدعو لهم يوم الجمعة، وأنكر على علماء القيروان مكوثهم تحت حكمهم وسلطانهم، وخوفا من سطوة العبيديين خرج من طرابلس متجها الى تلمسان، « مع أواخر القرن الرابع الهجري حيث بدأت تتبلور معالم مدرسة مالكية قوية النفوذ، وذلك باحتضانها لشخصية لامعة في مجال الفقه المالكي، قامت بدور حاسم في إرساء قواعد المذهب بهذه المدينة»([34]) ساعده في ذلك الأمن والاستقرار الذي تميزت به تلمسان التي كانت خارج سلطة العبيديين، فألف بها كتبا كثيرة انكب عليها أهلها بالمدارسة والاستفادة، ولعل أهمها كتابه الجليل «النصيحة في شرح صحيح البخاري».

    ...يتبع في الحلقة المقبلة مع مباحث: (شيوخه، تلاميذه، وفاته).

    ([1]) من مقال لفهد الجريوي من ملتقى أهل التفسير (بحثت عنه فيما تيسر لي فلم أجده).

    ([2]) صفة الصفوة، لابن الجوزي، (1/18).

    ([3]) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض، للمقري، (1/22).

    ([4]) الورع، للامام أحمد، (1/86).

    ([5]) الصفدية، لابن تيمية، (2/269).

    ([6]) الوصايا الجلية للاستفادة من الدروس العلمية، لصالح آل الشيخ، ص52.

    ([7]) ابن باديس : حياته وآثاره، (4/144).

    ([8]) آثاره، (5/117).

    ([9]) يدخل هذا في فن جليل، ونوع نبيل من أنواع علوم الحديث، الذي هو معرفة المتفق والمفترق من الأنساب والألقاب، من لم يتقنه من المحدثين كثُر عثاره، وانطفأت أنواره، وهو سهل ميسر على من يسره الله عليه.

    ([10]) شجرة النور الزكية في طبقات المالكية، لابن مخلوف، (1/123).

    ([11]) موسوعة الامام العلامة الداودي في اللغة والحديث والتفسير والفقه، للدكتور عبد العزيز الصغير دخان، (1/46).

    ([12]) المصدر السابق، (1/49).

    ([13])الإمام، الحَافِظُ، الفَقِيْه، العَلاَّمَةُ، عَالِمُ المَغْرِب، أَبُو الحَسَن عَلِيُّ بنُ مُحَمَّدِ بنِ خَلَف المَعَافِرِيُّ، القَرَوِيُّ، القَابسِيُّ، المَالِكِيُّ، صَاحِب المُلَخَّصِ.
    كَانَ عَارِفاً بِالعِلل وَالرِّجَالِ، وَالفِقْهِ وَالأُصُوْلِ وَالكَلاَمِ، مُصَنِّفاً يَقِظاً دَيِّناً تَقِيّاً، وَكَانَ ضَرِيْراً، وَهُوَ مِنْ أَصحِّ العُلَمَاء كُتُباً.
    انظر سير أعلام النبلاء (17/162).

    ([14])سيأتي الكلام على ترجمته في مبحث شيوخه ص16.

    ([15]) ظهرت لي أثناء البحث بعض القرائن الأخرى التي تفيد ولادته قبل ذلك فراجعها في حاشية ص17.

    ([16])ترتيب المدارك، للقاضي عياض، ص 634.

    ([17]) فهرسة ابن خير الإشبيلي، ص 76.

    ([18]) أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، للدكتور يحيى البوعزيزي، ص 30.

    ([19]) تحقيق كتاب الأموال، لرضا محمد سالم شحادة، ص 29.

    ([20]) ترتيب المدارك، للقاضي عياض، ص 634.

    ([21]) أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة، للدكتور يحيى البوعزيزي، ص 30.

    ([22]) كتاب الشفا بحقوق المصطفى للقاضي عياض رحمه الله دار الفيحاء عمان-، (2/216).

    ([23]) شرح المواهب اللدنية على الشمائل المحمدية، (2 /202).

    ([24]) الفكر السامي، (2/147).

    ([25]) فائدة التحقيق في هذا المبحث أنه الباعث لي على الكتابة في ترجمة هذا العلم إذ أنه ابن بلدتي وبلديُ الرجل أعلم به من غيره، وإن كان قد قيلت في الجرح والتعديل لمن كانا متعاصرين، ولكن قد يكون لها وجه بأن يكون بلدي الرجل أحفظ لعلمه وأحرص على نشر فضله من غيره.

    ([26]) نقله عمران حميم-أصلحه الله ورده إلى جادة الصواب- في رساالته لنيل الماجيستير بعنوان: "آراء الإمام الداودي رحمه الله في باب المعاملات من خلال المعيار المعرب للونشريسي" من مقال للشيخ زهير الزاهري بعنوان" ليانة عبر التاريخ" نشرته جريدة الشعب العدد 11065.

    ([27]) المصدر السابق.

    ([28]) الأنساب، للسمعاني، (10/69).

    ([29]) نفح الطيب، للمقري، (4/43).

    ([30]) مدونة ليانة على الأنترنت: http://liana-dz.blogspot.com/2015/12/blog-post_98.html.

    ([31])موسوعة الإمام العلامة الداودي في اللغة والحديث والتفسير والفقه، للدكتور عبدالعزيز الصغير دخان، (1/15).

    ([32]) الدولة العبيدية نسبة إلى أبي القاسم عبيدالله بن محمد بن الحسين، قيل أن نسبه ينتهي إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه، بدأ حكم بني عبيد عام 297 هـ بعدما تغلبوا على الأغالبة واستمر لـ(86) سنة قاموا فيها بإلزام الناس بالمذهب الرافضي فثارت في وجوههم ثورات تزعمها أبو يزيد مخلد بن كيداد الإباضي سنة 332 هـ واستمرت إلى أن رحل المعز بالله إلى القاهرة عام 362 هـ وأوكل أمر افريقيا إلى بني زيري.

    ([33]) قال أبو الحسن القابسي-نقلا عن شيوخه الذين أدركهم-: «إن الذين ماتوا في دار البحر-سجن العبيديين- بالمهدية من حين دخل عبيدالله الى الآن أربعة آلاف رجل في العذاب، ما بين عالم وعابد ورجل صالح» اهـ (معالم الإيمان في معرفة أهل القيروان، لأبي زيد عبد الرحمن الأنصاري الأسيدي الدباغ، (2/34)).

    ([34]) من مقال بعنوان «المدرسة المالكية في حاضرة تلمسان حتى منتصف القرن السابع» للدكتور محمد بن معمر .

    التعديل الأخير تم بواسطة أبوعبدالرحمن عبدالله بادي; الساعة 2020-07-28, 05:42 PM.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
يعمل...
X