إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الصّحبة والصّداقة... آلام وآمال. [ نسخة مصحّحة].

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الصّحبة والصّداقة... آلام وآمال. [ نسخة مصحّحة].

    بسم الله الرّحمن الرّحيم.

    الصّحبة والصّداقة... آلام وآمال.


    كثيرة هي الألفاظ الخالية من مدلولاتها في زماننا هذا، وكثيرة هي الكلمات البعيدة عن حقائقها كذلك: إنّي أحبّك في الله، أخي في الله، أعزّ أصدقائي، أحبّ المقربين إِليّ... وما إلى ذلك من أمثال هذه الكلمات العظيمة الشأن، الجليلة القدر الرفيعة المنزلة، هي كلماتٌ وألفاظ لا تكاد تفارق لسان الكثير من الناس، لكن الحقيقة المُرَّة أنها خالية من معانيها العظام، إنما يقولها من يقولها جهلا بها وبما تحمله، فتجد بعد ذلك زوال هذه المعاني في أول صراع على الدنيا وأول سوء تفاهم بينهما، فيَسقط القناع وتنجلي الحقيقة.

    عبد الله؛ إن الصحبة والصداقة من مستلزمات عيش الإنسان في الدنيا، ومن رام العيش بلا صديق ضاقت عليه الدنيا وتكدَّرت عليه أجواؤها، لذا فعلى العبد إن رزقه الله بأحباء وأصدقاء أن يحافظ عليهم ويسعى في إدامة صحبتهم.

    اعلم أخي الكريم أنه قد سُمِّي الصاحب صاحبا لملازمته لمن صحبه ومقاربته، قال ابن فارس: " الصاد والحاء والباء أصل واحد يدل على مقارنة شيء ومقاربته"[1] ، ولا يكون الصاحبان صاحبين إلا إذا تلاءما وتوافقا؛ يقول ابن فارس أيضا: " وكل شيء لائم شيئا فقد استصحبه"[2] ، واعلم كذلك أنَّ الصاحب لا يسمى صاحبا ما لم ينتفع صاحبه بصحبته، قال أبو هلال العسكري: "الفرق بين الصاحب والقرين أن الصحبة تفيد انتفاع أحد الصاحبين بالآخر، ولهذا يستعمل في الآدميين خاصة"[3] ، ولْتعلم أنَّ أصل الصاحب والصحبة في اللغة الحفظ، فكيف يكون الصاحب صاحبا ولا يحفظ أسرار أخيه، وكيف يكون الصاحب صاحبا ولا يحفظ أخاه عن الوقوع في المحظورات والمحرمات، فيكون خير معين له على نفسه وشيطانه، وكيف لا يحفظه كذلك عن المصائب والمكاره، يقول أبو هلال: "... وأصله في العربية الحفظ ومنه يقال: صحِبك الله وسِر مصاحبا أي محفوظا، وفي القرآن: "وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ" [الأنبياء: ظ¤ظ£]؛ أي يُحفظون، وقال الشاعر:

    وصاحبي من دواعي الشّرّ مصطَحَب"[4] .

    وأما الصداقة فهي مصدر الصّديق، ولا يسمى الصّديق صديقا إلا إذا صدق صاحبه النصيحة والمودة، قال في العين: " والصداقة مصدر الصديق وقد صادقه مصادقة أي يصدقه النصيحة والمودة"[5] ، وقال في المصباح المنير: "والصديق المصادق وهو بَيِّن الصداقة، واشتقاقُها من الودِّ والنصح"[6] ، وقال في التاج: "والصداقة: إمحاض المحبة. وقال الراغب: الصداقة: صدق الاعتقاد في المودة، وذلك مختص بالإنسان دون غيره"[7] .

    فهذه هي حدود الصحبة والصداقة لغة، ومنها يعلم مدى صعوبة تحققها وأنه يعز وجود صورتها في زماننا هذا، فهي معانٍ ثقيلة قليلٌ من يدريها كثيرٌ من يدَّعيها، وما درى المسكين أنه دونها خرط القتاد، يقول ابن حزم رحمه الله: "حد الصداقة الذي يدور على طرفَيْ محدودِه هو أن يكون المرء يسوءه ما يسوء الآخر ويسرُّه ما يَسرُّه، فما سفل عن هذا فليس صديقا، ومن حمل هذه الصفة فهو صديق"[8] ، وقال أبو هلال عند تفريقة بين الصداقة والخلّة: " أن الصداقة اتفاق الضمائر على المودّة، فإذا أضمر كل واحد من الرجلين مودّة صاحبه فصار باطنه فيها كظاهرِه سُمِّيا صديقين"[9] . "وجمهور الناس اليوم معارف ويندر منهم صديق في الظاهر، وأما الأخوة والمصافاة فذلك شيء نسخ فلا تطمع فيه"[1] .

    وليعلم الأخ الكريم أنه - كما مرَّ- ينبغي على من كان له أصدقاء وأصحاب أن يحافظ عليهم ويسعى لجلب أسباب مودتهم ومحبتهم، ومنها:

    1-القيام بالحقوق العامة: من إفشاء السلام ورَدِّه وعيادة المريض واتِّباع الجنائز وإجابة الدعوة وتشميت العاطس ونصرة المظلوم وغيرها.

    2- لين الجانب: فعلى قدر سهولة الرجل ولينه مع إخوانه تدوم الصداقة وتزداد قوة، فينبغي على من أراد دوام أحبابه وعدم نفورهم عنه أن لا يكون غليظا شديدا، كثير اللّوم صعب التلاؤم، وبالمقابل عليه أن يكون سمحا طيِّبا لَيِّن الجانب سلس الانقياد، يقول الله تعالى: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ" الآية [آل عمران: ظ،ظ¥ظ© ]، وقد ورد في الحديث: "حرُم على النار كل هيِّن ليِّن سهلٍ قريبٍ من الناس"[11] .

    3- الصفح عن العثرات والتجاوز عن الزلات: يقول تبارك وتعالى: "وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ" [آل عمران: ظ،ظ£ظ¤ ]، قال السعدي: "وهذا إنما يكون ممن تحلّى بالأخلاق الجميلة، وتخلّى عن الأخلاق الرذيلة، وممن تاجر مع الله، وعفا عن عباد الله رحمة بهم، وإحسانا إليهم، وكراهة لحصول الشر عليهم"[12] ، ومن أراد دوام الوُدِّ فعليه بالصفح فكما قيل: "تناس مساوئ الإخوان، يدم لك ودّهم"[13] ، وقال الماوردي في أدب الدنيا والدين: " إن من حق الإخوان أن تُغفر هفوتهم، وتُستر زلتهم؛ لأن من رام بريئا من الهفوات، سليما من الزلات، رام أمرا معوزا، واقترح وصفا معجزا. وقد قالت الحكماء: أيُّ عالم لا يهفو، وأيُّ صارم لا ينبو، وأيُّ جواد لا يكبو. وقالوا: من حاول صديقا يأمن زلَّتَه ويدوم اغتباطه به، كان كضالِّ الطريق الذي لا يزداد لنفسه إتعابا إلا ازداد من غايته بعدا. وقيل لخالد بن صفوان: أي إخوانك أحب إليك؟ قال: من غفر زللي، وقطع عللي، وبلَّغني أملي"[14] .

    4- محاولة إصلاح العيب بالتي هي أحسن: فلا يعني قولنا بضرورة الصفح والتجاوز أن لا يبالي المرء بأخيه ويتركه في غَيِّه، بل يسعى في إصلاحه وإقامة اعوجاجه، قال الماوردي: "...فإنَّ كثرة العتاب سببٌ للقطيعة، واطِّراحُ جميعِه دليلٌ على قلة الاكتراث بأمر الصديق. وقد قيل: علة المعاداة قلة المبالاة. بل تتوسط حالتا تركه وعتابه فيسامح بالمتاركة ويستصلح بالمعاتبة، فإن المسامحة والاستصلاح إذا اجتمعا لم يلبث معهما نفور، ولم يبق معهما وُجد"[15] .

    5- البشر وطلاقة الوجه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم "لا تحقرنَّ من المعروف شيئا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق"[16] ، "فالبشاشة إدام العلماء وسجِيَّة الحكماء، لأن البِشر يطفيء نار المعاندة ويحرق هيجان المباغضة، وفيه تحصينٌ من الباغي ومنجاةٌ من الساعي، ومن بَشَّ للناس وجها لم يكن عندهم بدون الباذل لهم مَا يملك"[17] ، و"السلام وحسن البِشر ربما زرعا المودة في القلوب"[18] . قال ابن مفلح: "وإذا جلست مجلس علم أو غيره فاجلس بسكينة ووقار وتلق الناس بالبشرى والاستبشار، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: من الدهاء حسن اللقاء"[19] .

    6- المشاورة: يقول الله تبارك وتعالى: "وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ" [الشورى: ظ£ظ¨]، يقول الشيخ السعدي رحمه الله:" " وَأَمْرُهُمْ " الديني والدنيوي " شُورَى بَيْنَهُمْ " لا يستبد أحد منهم برأيه في أمر من الأمور المشتركة بينهم، وهذا لا يكون إلا فرعا عن اجتماعهم وتوالفهم وتواددهم وتحاببهم وكمال عقولهم، أنهم إذا أرادوا أمرا من الأمور التي تحتاج إلى إعمال الفكر والرأي فيها، اجتمعوا لها وتشاوروا وبحثوا فيها، حتى إذا تبيَّنت لهم المصلحة، انتهزوها وبادروها"[20] ، يقول ابن العربي: "الشورى ألفةٌ للجماعة ومِسبارٌ للعقول وسبب إلى الصواب، وما تشاور قوم إلا هدوا"[21] ، والمشاورة رسالة من الصديق إلى صديقه بأنه يثق فيه ويلتمس فيه الخير، فهي من دواعي تقوية المحبة وجلب التآلف، ومانعة من حدوث الخلاف والشقاق، كما هي دليل على صدق المودة والمحبة كما أشار إلى ذلك السعدي رحمه الله عند تفسيره للآية السابقة.

    7- قضاء حوائجهم وخدمتهم: يقول ابن حبان: "والإخوان يعرفون عند الحوائج كما أن الأهل تُختبَر عند الفقر، لأن كل الناس في الرخاء أصدقاء، وشر الإخوان الخاذل لإخوانه عند الشدة والحاجة، كما أن شر البلاد بلدة ليس فيها خصب ولا أمن"[22] . قال مجاهد رحمه الله "صحبت ابن عمر، وإني أريد أن أخدمه، فكان هو يخدمني"[23] .

    8- التزاور: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "زر غِبّا تزدد حبا"[24] ، فمن أعظم الأسباب الجالبة للمودة هذه الزيارة الخفيفة، فهي دليل على الاهتمام وانشغال البال بذاك الصديق، فتُوطِّد العلاقات وتساهم في ترابطها وتماسكها.

    9- التهادي: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تهادوا تحابوا"[25] ، فهذا إرشاد من النبي عليه الصلاة والسلام لسبب من الأسباب الجالبة للمحبة، ووعد كذلك وعهد وصدق، أن من أهدى صديقه نال المحبة، وترسَّخت معانيها بينهما.

    10- تجنب الحسد وإظهارِه: فمن وجد من نفسه حسدا لإخوانه فليكتمه وليجاهد نفسه على التخلص منه، وإياه أن يظهره لإخوانه فإنه سبب القطيعة والتباغض، مناف للأخوة والمحبة، قال شيخ الإسلام رحمه الله: "والمقصود أن الحسد مرض من أمراض النفس وهو مرض غالب فلا يخلص منه إلا قليل من الناس ولهذا يقال: ما خلا جسد من حسد لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه"[26] .

    11- الاعتراف بالفضل والشكر عليه: يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يشكر الناس لم يشكر الله"[27] ، وكم اعترف النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار بالفضل على رؤوس الأشهاد في أحاديث كثيرة، فينبغي للمرء أن يعترف لأخيه بتفضله عليه وأن يشكره عليه فهي من أسباب الود وجلب المحبة، قال ابن حبان: " الواجب على المرء أن يشكر النعمة ويحمد المعروف على حسب وسعه وطاقته إن قدر فبالضِّعف وإلا فبالمثل وإلا فبالمعرفة بوقوع النعمة عنده مع بذل الجزاء له بالشكر وقوله جزاك الله خيرا، فمن قال له ذلك عند العدم فكأنه أبلغ في الثناء. وقال: أنشدني علي بن محمد:

    علامة شكر المرء إعلان حمده ... فمن كتم المعروف منهم فما شكر
    إذا ما صديقي نال خيرا فخانني ... فما الذنب عندي للذي خان أو فجر
    ولكن إذا أكرمته بعد كفره ... فإني ملوم حيث أكرم من كفر"[28] .


    12- كتمان السر: فكتمان السر عنوان الأمانة وباعث على الثقة وجالب لحسن الظنّ، فيثمر توثيق عرى المحبة بين الناس، والعكس بالعكس، فإفشاء الأسرار دليل الخيانة، باعث على التناحر والتباغض وسقوط الثقة وسوء الظن. أخبر المبارك بن فضالة عن الحسن رحمه الله قال: " سمعته يقول: إن من الخيانة أن تحدث بسر أخيك "[29] .

    13- إحسان الظن: وذلك بحمل ما يصدر منهم على أحسن المحامل، وتكلف المخارج لهم إلى أبعد الحدود، قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه -: "وضع أمر أخيك على أحسنِه حتى يأتيك منه ما يغلبك، ولا تظُنَّنَّ بكلمة خرجت من أخيك المسلم شرا، وأنت تجد لها في الخير محملا"[30] ، وكثير من النزاعات بين الأحباب ما هي إلا محض تخرُّصاتٍ وظنونٍ فاسدة يقذفها الشيطان في القلوب، فتحل محل الود منها، فتصيبه في مقتل.

    14- التودد بالكلام الطَّيِّب: ومن طِيب الكلام ما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال: "إذا أحب الرجل أخاه فليخبره أنه يحبه"[31] ، وجاء أيضا "إذا أحب أحدكم أخاه في الله فليُبيِّن له، فإنه خير في الألفة وأبقى في المودة"[32] ، وغيره من الكلام الطيب الذي من شأنه جلب المودة وإبقاءها، وبالمقابل يجب الحذر من سيِّء الكلام وقبيحِه؛ ومنه المراء والجدال؛ الذي يعود بالقطيعة والتباغض بين الأحباب، يقول الله تبارك وتعالى: "وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا" [الإسراء: ظ¥ظ£] .

    وجماع هذا كلِّه وغيرِه: حسن الخُلُق في معاملة الخَلق، فحسن الخلق جمع أنواع البر الكثيرة، بل "البر حسن الخلق" كما قال النبي صلى الله عليه وسلم[33] .

    "وجماع الخُلق الحسن مع الناس: أن تصل من قطعك بالسلام والإكرام، والدعاء له والاستغفار، والثناء عليه والزيارة له، وتعطي من حرمك من التعليم والمنفعة والمال، وتعفو عمَّن ظلمك في دم أو مال أو عرض، وبعض هذا واجب وبعضه مستحب" كما قاله شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله[34] ، وقريب من هذا؛ قول بعضهم وهو يعدِّد علامات حسن الخلق: "أن يكون [الإنسان] كثير الحياء، قليل الأذى، كثير الصلاح، صدوق اللسان، قليل الكلام، كثير العمل، قليل الزَّلل، قليل الفضول، بَرًّا وَصولا، وَقورا صبورا، شكورا رضيّا، حليما رفيقا، عفيفا شفيقا، لا لعّانا ولا سبَّابا، ولا نمّاما ولا مغتابا، ولا عجولا ولا حقودا، ولا بخيلا ولا حسودا، باشًّا هاشًّا، يحب في الله ويبغض في الله، ويرضى في الله ويغضب في الله، فهذا هو حسن الخلق"[35] .

    فهذا بعض ما يلزم الصاحب التحلي به تجاه صاحبه، لتدوم صحبتهما وصداقتهما، ومن رام صديقا دون أن يتحلى بهذه الأخلاق ويعامل بها غيره؛ فقد رام المحال ودعا على نفسه بالعزلة ونفور الناس عنه وهجرهم إياه.

    وليعلم الأخ الفاضل أن أكثر السلف على استحباب المخالطة مع الصبر على أذى الخلق والإصلاح قدر الإمكان والتحلي بالأخلاق الفاضلة التي تقدَّم ذكرها، والتخلي عن ضدها مما يعظم جُرمُها، وذلك لفوائد المخالطة الكثيرة والعظيمة التي تفوت بالعزلة والانكفاف عن الناس، فـ"من السّلف من آثر العزلة لفوائدها كالمواظبة على العبادة والفكر وتربية العلم، والتخلص من ارتكاب المناهي التي يتعرض الإنسان لها بالمخالطة كالرياء والغيبة والسكوت عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومسارقة الطبع الأخلاقَ الرديئة والأعمال الخبيثة من جلساء السوء إلى غير ذلك.

    وأمّا أكثر السلف فذهبوا إلى استحباب المخالطة واستكثار المعارف والإخوان والتآلف والتحبب إلى المؤمنين والاستعانة بهم في الدين تعاونا على البر والتقوى، وإنَّ فوائد العزلة المتقدمة يمكن نيلها من المخالطة بالمجاهدة ومغالبة النفس. وبالجملة فللمخالطة فوائد عظيمة تفوت بالعزلة.

    فإن قلت: ما هي فوائد المخالطة والدواعي إليها؟ فاعلم: أنها هي التعليم والتعلُّم، والنفع والانتفاع، والتأديب والتأدُّب، والاستئناس والإيناس، ونيل الثواب وإنالته في القيام بالحقوق، أو اعتياد التواضع، أو استفادة التجارب من مشاهدة الأحوال والاعتبار بها"[36] .

    فعلى المرء أن يتحلى بالأخلاق الفاضلة ويعاشر الناس بقدر الحاجة، ويتخير منهم من كان متحلِّيا بما ذكرنا من أسبابٍ جالبةٍ للمحبة، ويبتعد عن فضول المخالطة السالكة بالعبد إلى المنكرات والمنهِيَّات، فمن السلف من آثر العزلة لأجل ما تصير إليه الخلطة من هذه الآفات، وهذا حق إن لم يجد المرء الصحبة الصالحة التي تعينه على الخير وتنهاه عن الشر، وعلى هذا تتنزل آثار السلف في ذمِّهم للخلطة والله أعلم، أما إن كان للعبد أصدقاء يحملون اسم الصداقة ومُسمَّاها، ورسم الأخوة ومعناها، يبذلون له ومن أجله الغالي والنفيس - وإن كان هذا قليل الوجود إلا أن السّعي إلى تحقيقه من كل الأطراف بالتَّحلِّي بما سبق ذكره وغيره مما ذُكِر في مدوَّنات العلماء؛ يجعله ممكن الوجود -، فليعضض عليهم بالنواجذ فإنهم –كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه- زينة في الرّخاء عُدَّة في البلاء[37] ، ولا يخفى على العبد أنَّ البشر غير معصومين؛ فمن رام صديقا بلا عيب فلا إخاله إلا وقد خرج من الدنيا وحده بلا صديق، بل ولا يسلم له حتّى أقرب الناس إليه: زوجته وأولاده، فعلى المرء الصَّفح والصَّبر والنُّصح، والصدق كذلك فلا يدَّعي ما ليس يعطي، وليحرص وهو يذكر تلك الألفاظ التي ذكرناها في بداية المقال كـ : أعز أصدقائي وغيرها، أن يكون قد عقل معناها وأوفاها حقها من التطبيق والعملِ بمقتضاها، فلا يجمع بين التقصير والكذب أو بالأحرى التشبع بما لم يعط، فلا يَغُرُّ الغير بما ليس فيه، فيُعظِم له الصدمة إذا خالف ما خرج من فيه.

    هذا والله أعلم وما قصدت إلا الاصلاح ما استطعت، فهي نفثة مصدور وشهقة مغموم، وفي النفس حرقة وألم من الوضع الذي صرنا إليه من فقدان صور المحبة والصداقة الحقيقية، وانتشار أضدادها بين أصحاب المنهج الواحد السّويّ[38]، ممن هم أعظم الناس تمسُّكا بسنة نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، وما عسانا إلا أن ندعوا الله جل في علاه أن يصلح أحوالنا وأن يجمع كلمتنا إنه وليُّ ذلك والقادر عليه، وعلى الإنسان التفاؤل والعمل على الإصلاح بدءً بالنفس بمحاسبتها وتقويم اعوجاجها، وبصلاح الفرد صلاح الجمع. وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين وصلى الله على نبيِّنا محمد وآله وصحبه أجمعين.


    وسبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك.




    أبو أمامة أسامة بن الساسي لعمارة.
    عين الكبيرة . سطيف . الجزائر .



    المصادر والمراجع:

    1 - معجم مقاييس اللغة لابن فارس 3/335.
    2- المصدر نفسه 3/335.
    3 - الفروق اللغوية لأبي هلال العسكري 283-284.
    4- المصدر نفسه 284.
    5 العين للفراهيدي 5/56.
    6 - المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للفيومي 335.
    7 - تاج العروس من جواهر القاموس للزبيدي 26/9.
    8 - الأخلاق والسير في مداواة النفوس لابن حزم 42.
    9- الفروق لأبي هلال 285.
    10- الآداب الشرعية والمنح المرعية لابن مفلح 3/581.
    11 - أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه برقم 3938، وصححه الألباني كما في صحيح الجامع الصغير وزيادته 1/600.
    12 - تيسير الكريم الرحمن للسعدي 148.
    13 - بهجة المجالس وأنس المجالس ابن عبد البر 1/154.
    14- أدب الدنيا والدين 1/179.
    15 - المرجع نفسه 1/178.
    16 - أخرجه مسلم عن أبي ذر رضي الله عنه برقم 2626.
    17- روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان 75.
    18 - بهجة المجالس وأنس المجالس ابن عبد البر 1/216.
    19 - الآداب الشرعية لابن مفلح 3/556.
    20- تيسير الكريم الرحمن للسعدي 759.
    21- تفسير القرطبي 16/37.
    22 - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان 247.
    23- حلية الأولياء وطبقات الأصفياء لأبي نعيم 3/285.
    24 - رواه الطبراني في المعجم الكبير من حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنه برقم 14756، 14/133، وقال الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2/350: صحيح لغيره.
    25 - أخرجه البخاري في الأدب المفرد وغيره، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وحسنه الألباني كما في صحيح الأدب المفرد 221، وإرواء الغليل 6/44.
    26 - مجموع الفتاوى 10/125.
    27 - أخرجه أحمد من حديث أبي هريرة برقم 7501، ومن حديث أبي سعيد الخدري برقم 11280، وأخرجه الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري برقم 1955، وصححه الألباني كما في مشكاة المصابيح 2/911، وصحيح الجامع 2/1114.
    28 - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان 1/266-267.
    29- الصمت لابن أبي الدنيا 214.
    30 - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء 90
    31 - أخرجه أبو داود برقم 5124، والترمذي بلفظ: "إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه إياه" برقم 2392، وصححه الألباني كما في صحيح سنن الترمذي 5/392.
    32 - رواه وكيع في الزهد عن علي بن الحسين مرفوعا 612، وحسنه الألباني بمجموع طرقه، أنظر الصحيحة 3/196.
    33- رواه مسلم من حديث النواس بن سمعان رضي الله عنه برقم 2553.
    34- الوصية الصغرى لشيخ الإسلام ابن تيمية 41.
    35 - ذكره الغزّالي في إحياء علوم الدين 3/70.
    36 - موعظة المؤمنين من إحياء علوم الدين 151.
    37 - روضة العقلاء ونزهة الفضلاء لابن حبان 90.
    38 - لا يفهم أني أقصد بهذا ما يحصل بين أهل الحق وأهل الباطل من خصومة لا أبدا فإن هذا من أصول منهجنا التي نعتز بها وندين الله بها لا على طريقة الاحتوائيين والمميعين، وإنما أقصد ما يحصل من أبناء المنهج الحق تجاه بعضهم البعض مما قد يعود سلبا على الدعوة السلفية.

  • #2
    جزاكم الله خيرا ونفع بكم.

    تعليق


    • #3
      بارك الله فيك أخي أسامة نسأل الله أن يحسن أخلاقنا

      تعليق


      • #4
        جزاكما الله خيرا أخوي الكريمين على مروركما.

        تعليق


        • #5
          بارك الله فيك أخي أسامة، ونفع الله بك الإسلام والمسلمين.
          اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا اتباعه، وأرنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه
          وسيم بن أحمد قاسيمي -غفر الله له-

          تعليق


          • #6
            آمين وإياك أخي وسيم.

            تعليق

            الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
            يعمل...
            X