إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ترك تسوية الصّفوف زمن الوباء

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ترك تسوية الصّفوف زمن الوباء

    بسملة

    ترك تراصّ الصّفوف زمن الوباء



    إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
    ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون﴾،
    ﴿يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً﴾،
    ﴿يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وقولوا قولاً سديداً يصلح لكم أعمالكم ويغفر لكم ذنوبكم ومن يطع الله ورسوله فقد فاز فوزاً عظيماً.
    أما بعد، فإنّ أصدق الحديث كتاب الله، وأحسنَ الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم​، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
    أمّا بعد: فإنَّ تَسوية الصفوف وما يتعلق بها من إتمام الصّفوف وتراصِّها، وتَعديلها، وإتمام الصف الأول فالأول وإكماله، وسدّ الخلل ونحو ذلك، هي من المسائل الّتي أجمع عليها العلماء، واتّفق على مشروعيّتها الفقهاء والأئمة، وتواترت فيها الأدلّة النّقليّة والعمليّة، وليست ممّا يطرح للنّقاش ولا ممّا ينظر فيه للرّأي. غير أنّنا وبسبب هذا الوباء (كورونا) الّذي انتشر في بلاد المسلمين، وسائر أقطار المعمورة، وجدنا أنفسنا أمام نازلة جديدة، طلب معها الكثير من أهل الاختصاص من أطبّاء، وولاّة أمور أن تقام الصّلاة مع تباعد ظاهر للأجساد، وفرج كبيرة في الصّفوف، وقد جرى العمل على ذلك بالفعل في بعض بلدان العجم، فثار لأجلها نقاش طويل أقحم فيه كثير من الأغمار أنفسهم -رغم توافر العلماء وظهور فتاويهم- وهذا ممّا كدنا نألفه في وسائل التّقاطع الاجتماعيّ هذه -والله المستعان-.
    لأجل هذا أحببت أن أكتب هذه الكلمات، أجمع فيها شتات المسألة، وأوضّح فيها أقوال العلماء المجتهدين، وأبيّن أدلّتهم، وأنشر حججهم، عسى أن يكون فيها ردع لمن تهوّك، وغلق لباب الجدل أمام من فتحه بغير حقّ – واللهّ الموفّق -.
    وقبل الشّروع في المقصود لابدّ من الإشارة لمباحث مهمّة:
    1- الإجماع على مشروعيّة تسوية الصّفوف:
    ودون الخوض في صورة التّسوية المطلوبة، وجمع شروطها الّتي استفاضت في كتب أهل العلم، لابدّ أولاّ أن ننبّه على أنّ مشروعيّة هذا الفعل في صلاة الجماعة هو من سنن الإسلام الظّاهرة التّي أجمع عليها علماء المسلمون؛ فهذا الإمام ابن عبد البر يقول في تسوية الصفوف: "هو أمر مُجتمَع عليه، والآثار عن النبي عليه السلام​ كثيرة فيه"(1)، وقد حكى الإجماع أيضا على سنيتها القرطبي فقال: "وهو من سنن الصلاة بلا خلاف"(2)، لأجل هذا قال الشوكاني رحمه الله​: "لا شكَّ أن تسوية الصفِّ والتراصَّ وإلْزاق الكعاب بالكعاب سُنَّة ثابتة، وشريعة مستقرَّة"(3).
    2- أدلّة تسوية الصّفوف كثيرة متواترة:
    هذا والأدلّة على مشروعيّة تسوية الصّفوف كثيرة متواترة، لا يكاد يجهلها طالب علم، صغيرا كان أو كبيرا، فمن ذلك ما رواه الشّيخان عنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه​ عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ , فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصَّفِّ مِنْ تَمَامِ الصَّلاة"(4).
    وعَنْ أَبِي مَسْعُودٍ رضي الله عنه​ قَالَ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَمْسَحُ مَنَاكِبَنَا فِي الصَّلاةِ وَيَقُولُ: "اسْتَوُوا , وَلا تَخْتَلِفُوا فَتَخْتَلِفَ قُلُوبُكُمْ"(5).
    وعن النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رضي الله عنهما​ قال : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يُسَوِّي صُفُوفَنَا حَتَّى كَأَنَّمَا يُسَوِّي بِهَا الْقِدَاحَ، حَتَّى رَأَى أَنَّا قَدْ عَقَلْنَا عَنْهُ ثُمَّ خَرَجَ يَوْمًا فَقَامَ حَتَّى كَادَ يُكَبِّرُ، فَرَأَى رَجُلا بَادِيًا صَدْرُهُ مِنْ الصَّفِّ، فَقَالَ: "عِبَادَ اللَّهِ ، لَتُسَوُّنَّ صُفُوفَكُمْ أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ"(6).
    وهذه مجرّد أمثلة وإلاّ فقد ذكر ابن عبد البرّ أنّ أحاديث وآثار الباب ثابتة بالتّواتر؛ قال: "وأما تَسوية الصفوف في الصلاة فالآثار فيها مُتواتِرة مِن طرُق شتَّى، صِحاح كلُّها ثابتة في أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تسوية الصفوف، وعمل الخلفاء الراشدين بذلك بعده، وهذا ما لا خلاف فيما بين العلماء"(7).
    3- وجوب تسويّة الصّفوف:
    هذا وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في حكم التّسوية بين الاستحباب والوجوب، فإنّ الحقّ الذي عليه المحقّقون من الأئمّة هو ما دلّت عليه النّصوص الواضحة من وجوب تسوية الصفوف، ولذلك بوّب البخاري رحمه الله​ في صحيحه: (باب إثم من لا يتم الصفوف)، وأورد فيه بسنده عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الْأَنْصَارِيِّ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّهُ قَدِمَ الْمَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ؟ قَالَ: "مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلا أَنَّكُمْ لا تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ"(8)
    قال الحافظ ابن حجر في "فتح الباري" : " يحتمل أن يكون البخاري أخذ الوجوب من صيغة الأمر في قوله صلى الله عليه وسلم​ : "سوّوا صفوفكم"، ومن عموم قوله صلى الله عليه وسلم​: "صلّوا كما رأيتموني أصلّيومن ورود الوعيد على تركه، فترجح عنده بهذه القرائن أن إنكار أنس إنما وقع على ترك الواجب، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن، ومع القول بأن التسوية واجبة فصلاة من خالف ولم يسوِّ صحيحة , لاختلاف الجهتين , ويؤيد ذلك أن أنساً مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصلاة "(9)
    قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله​: "وقوله : "أَوْ لَيُخَالِفَنَّ اللَّهُ بَيْنَ وُجُوهِكُمْ" أي: بين وجهات نظركم حتى تختلف القلوب، وهذا بلا شكٍّ وعيدٌ على مَن تَرَكَ التسويةَ، ولذا ذهب بعضُ أهل العِلم إلى وجوب تسوية الصَّفِّ. واستدلُّوا لذلك بأمْرِ النبي صلى الله عليه وسلم​ به، وتوعُّدِه على مخالفته، وشيء يأتي الأمرُ به، ويُتوعَّد على مخالفته لا يمكن أن يُقال : إنه سُنَّة فقط. ولهذا كان القولُ الرَّاجحُ في هذه المسألة : وجوب تسوية الصَّفِّ، وأنَّ الجماعة إذا لم يسوُّوا الصَّفَّ فهم آثمون، وهذا هو ظاهر كلام شيخ الإِسلام ابن تيمية"(10).
    4- تسوية الصّفوف من السّنن المهجورة التّي يجب أن يشتغل طلبة العلم وأهل السنّة بنشرها:
    وإذا نظرنا إلى ما سبق بيانه من وجوب تسويّة الصّف، وما ورد فيها من نصوص كثيرة، بلغت مبلغ التّواتر، في الحثّ عليها، والنّهي عن ضدّها، والأمر بسدّ الخلل، وإتمام الصّفوف، وكذا إلى إجماع الفقهاء على مشروعيتها، ثمّ صرفنا النّظر إلى واقع المسلمين، سنلقى ولا شكّ بونا واسعا، وتناقضا رهيبا بين ما هو كائن، وما يجب أن يكون، فأكثر مساجدنا وللأسف الشّديد، لم يعد هديها على وفق ما أمرت به الشّريعة من تسويّة الصّفوف، بل إنّ غربة هذه السّنّة قد بدأت من أزمنة متقدّمة، واستمرّت طويلا، فهذا الإمام النّووي رحمه الله يقول عن زمانه: " ومِن السُّنن المهملة المَغفول عنها: تسوية الصفوف والتراص فيها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يتولى فعل ذلك بنفسه، ويُكثر التحريض عليه والأمر به"(11).
    وعلى هذا فإنّ واجب أهل السنّة المصلحين -متعلّميهم وعامّتهم- أن يسعوا في إصلاح هذا الخلل، وسدّ هذه الثّغرة، بالتزام السّنّة وبيانها للنّاس، والدّعوة إليها، حتى تعود الأمور إلى نصابها، وتستوي شعائر الدّين على أركانها.
    ترك تراصّ الصّفوف زمن الوباء:
    وبعد أن بيّنّا أهمية تسويّة الصفّ، ووجوب ذلك، وأنّ مشروعيتها من الأمور المتّفق عليها بين الفقهاء، وأن أدلّتها بلغت حدّ التّواتر، وأنّها من السّنن المهجورة الّتي يجب على المصلحين السّعي في إظهارها، فهذا أوان الشّروع في المقصود -واللّه الموفّق-.
    أوّلا- تصوّر المسألة:
    ممّا لا يخفى على أحد هذه الأيّام ما يعانيه عامّة النّاس من انتشار هذا الوباء المسمّى بكورونا، وقد قرّر الأطبّاء أنّه مرض يصيب الجهاز التّنفسيّ، وأنّه إنّما ينتقل عبر الهواء من شخص لآخر، كما بيّنوا ألاّ دواء ولا لقاح له معروفَين، وأن لا سبيل لمحاربته إلا بالوقاية.
    وقد حدّد المختصّون عدّة إجراءات وتدابير يجبّ اتّخاذها للوقاية منه، وما يعنينا منها هو وجوب تباعد النّاس في مجالسهم، وهذا ما يتعارض وما أمر الله به من وجوب تسوية الصّفوف؛ وعلى هذا فإنّ القسمة العقليّة تقتضي هذه الإشكاليّة:
    فهل تصحّ صلاة الجماعة مع تباعد الأجسام في الصفّ؟ أم أنّ الأفضل ترك الجماعة بالكلّيّة؟ أم الصّلاة بالطّريقة العاديّة رغم الخطر؟
    ثانيا: أقوال أهل العلم فيها:
    إذا ما طلب أهل السنّة رأيا في نازلة معاصرة، فلا شكّ أنّ أنظارهم ستتّجه إلى هيئة كبار العلماء، واللّجنة الدّائمة للإفتاء بالمملكة العربيّة السّعوديّة، وقد ورد على هذه الأخيرة سؤال عن هذه المسألة نصّه: "نعمل في عيادة ونصلّي جماعة في صفّ واحد متقطّع، بين الشّخص والآخر مسافة متر، والإمام أمامنا، فهل الصّلاة صحيحة؟ فكان جواب لجنة الإفتاء: " لا مانع من ذلك"(12).
    كما سار في هذا الاتّجاه أيضا مجموعة من المشايخ والعلماء، كالشّيخ سليمان الرّحيلي الّذي قال : " الأصل تراصّ الصّفوف، وعند الجمهور تكره الصّلاة في الصفّ المتقطّع، والحاجة تسقط الكراهة، وهذه الجائحة حاجة شديدة، فتجوز الصّلاة مع التّباعد، بشرط أن يكون في الصفّ أكثر من واحد"، كما كتب في فتوى ثانية: "صلاة الجماعة شأنها عظيم، ولذا جاء تغيير هيئة الصّلاة في صلاة الخوف للمحافظة على الجماعة، فمن باب أولى جواز تغيير هيئة الصفّ للمحافظة على الجماعة، فالتّباعد مشروع وليس بدعة"(13).

    هذا ولم يتيسر لي قول أحد من العلماء على خلاف ذلك، سوى عن الشّيخ عبد المحسن العبّاد الذي أفتى بأنّ صلاتهم لا تصحّ؛ لأنّهم يشبهون الّذي يصلّي منفردا خلف الصفّ، غير أنّ الشّيخ أصدر بيانا بعد ذلك ينبّه فيه على أنّه لا ينبغي التّعويل على ما قاله، وإنّما يرجع في الأمر للجهة المنوط لها الإفتاء، وهي في هذه الحال اللّجنة الدّائمة، وقد مرّ بنا رأيها(14).
    قال الشّيخ علي الرّملي حفظه اللّه معلّقا: " بعدما ذكره الشّيخ عبد المحسن العبّاد من ترك فتواه والأخذ بفتوى العلماء الّذين أجازوا الصّلاة جماعة مع التّباعد للعذر، يكون كلّ من بلغني قوله من العلماء الأكابر قرّروا جواز صلاة الجماعة بالتّباعد ودون تراصّ لوجود العذر، وجعلوا التّراصّ من الواجبات التي تسقط بالعذر في الجماعة.
    ثالثا: أدلّة جواز صلاة الجماعة بالتّباعد ودون تراصّ لوجود العذر:
    ولأنّ أغلب فتاوى العلماء قد جاءت مختصرة، وأشارت إلى الأدلّة إشارة خفيفة، دون التّفصيل فيها فقد أحببت أن أنقل أهمّ أدلّة هذه الفتاوى بشيء من التّفصيل:
    الدّليل الأوّل: الضّرورات تبيح المحظورات:
    وهذه إحدى القواعد الفقهيّة الكبرى، التّي عليها مدار أغلب الشّريعة الإسلاميّة، والمتّفق عليها بين المذاهب، وأدلّتها كثيرة لا تحصى، فمن ذلك قوله تعالى : {​ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه }​، وقوله تعالى : {​ وقد فَصَّلَ لكم ما حَرَّمَ عليكم إلا ما اضطررتم إليه }​، وقوله تعالى : {​ فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم }​، وقوله صلى الله عليه وسلم​: " لا ضرر ولا ضِرار"(15) وغير ذلك.
    فمن قال بجواز التّباعد لم يشرعه ابتداء، وإنّما أجازه للضّرورة، ولما يمكن لتسوية الصّفوف أن يسبّبه من انتشار الوباء، وما يترتّب على ذلك من هلاك الأنفس، وحفظ النّفس ولا شكّ أعظم ضرورة بعد حفظ الدّين.
    الدّليل الثّاني: ما لا يدرك كلّه لا يترك جلّه
    وهذا أيضا من أهمّ المبادئ التّي أقرّها الشّرع، وهي من القواعد الدّارجة على لسان الفقهاء، وأدلّتها كثيرة، كقوله تعالى: {​ فاتّقوا الله ما استطعتم }​، وقوله صلى الله عليه وسلم: "وما أمرتكم به فأتوا منه ما استطعتم"(16)، وغير ذلك.
    ولاشكّ أنّ ترك بعض واجبات الجماعة، أو مستحباتها -بحسب الخلاف-، أولى من تركها بالكلّية.
    الدّليل الثالث: القياس على سقوط واجبات الصّلاة بالعجز
    وقد ثبت في الحديث أنّ أركان الصّلاة تسقط بالعجز، فما بالك بما هو دونها في الحكم، فقد جاء في الحديث الصّحيح : "صلّ قائما فإن لم تستطع فقاعدا فإن لم تستطع فعلى جنب"(17).
    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله​: "وَإِذَا كَانَ الْقِيَامُ وَالْقِرَاءَةُ وَإِتْمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالطَّهَارَةِ بِالْمَاءِ وَغَيْرِ ذَلِكَ يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ فَكَذَلِكَ الِاصْطِفَافُ وَتَرْكُ التَّقَدُّمِ. وَطَرَدَ هَذَا بَقِيَّةَ مَسَائِلِ الصُّفُوفِ كَمَسْأَلَةِ مَنْ صَلَّى وَلَمْ يَرَ الْإِمَامَ وَلَا مَنْ وَرَاءَهُ مَعَ سَمَاعِهِ لِلتَّكْبِيرِ وَغَيْرِ ذَلِكَ"(18).
    الدّليل الرّبع: القياس على الجمع للمطر والخوف ونحوه من الأعذار.
    فعن ابن عبّاس رضي اللّه عنه قال: "جمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الظّهر والعصر، والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر، فقيل لابن عبّاس: ما أراد إلى ذلك؟ قال: أراد أن لا يحرج أمّته"(19).
    فالنّبيّ صلى الله عليه وسلم قد أسقط شرط أداء الصّلاة في وقتها –على مذهب الجمهور-، لمصلحة الجماعة، فمن باب أولى أن تسقط بعض شروط هذه الجماعة لمصلحتها.
    الدّليل الخامس: القياس على صلاة الخوف:
    قال تعالى : {​ وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصّلاة فلتقم طائفة منهم معك، وليأخذوا أسلحتهم، فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم، ولتأت طائفة أخرى لم يصلّوا فليصلّوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم.. }​ الآية.
    فإن كان تغيير هيئة الصّلاة بأكملها قد شرع لأجل المحافظة على الجماعة، فمن باب أولى أن تصلّى الجماعة للعذر بتغيير صفة الصفّ.
    الدّليل السّادس: القياس على فروع مشابهة:
    فالمكتبة الإسلاميّة مليئة بالفروع الفقهيّة الّتي أفتى فيها العلماء، بجواز مخالفة الواجب في الصّلاة للعجز، فمن ذلك:
    - جواز صلاة المنفرد خلف الصفّ إذا لم يوجد غيره(20).
    - جواز الصّلاة أمام الإمام عند عجزه عن غيره(21).
    - صلاة المريض جماعة وهو جالس، مع قدرته على القيام لو صلّى منفردا(22).
    - تقديم الاصطفاف على سدّ الخلّة، في حال وصول اثنين متأخّرين(23).
    ومثل هذه الفروع في كتب الفقه كثيرة لا تكاد تحصى، والقياس في جميعها جليّ ظاهر لكلّ من شمّ رائحة الفقه، فضلا عمّن نال ملكته.
    رابعا: الإجابة عن الاعتراضات:
    هذا وبعد اطّلاعي على كلام المخالفين لهذه الفتوى، فإنّي وجدت أكثرهم يستدلّ بالأصل، كما أنّهم أثاروا اعتراضَين اثنين:
    الاعتراض الأوّل: أنّها بدعة:
    وهذا رغم انتشاره انتشارا واسعا في مواقع التّواصل، إلاّ أنّي لم أجد قائلا به ممّن يعتبر قوله، وهذا كاف في ردّه.
    كما أنّي أقول: إنّ هذا ليس من باب البدعة في شيء، فلا أحد تعبّد للّه بهذا الفعل ابتداء، ولا أجازه أصلا، وإنّما قالوا به للضّرورة والعجز فقط.
    الاعتراض الثّاني: أنّها صلاة منفرد خلف الصّفّ.
    وهذا قول العلاّمة العبّاد الذي نهى عن الاستناد إليه بعد ذلك، وهو مبنيّ على قول الحنابلة ببطلان صلاة المنفرد خلف الصّفّ، غير أنّه بالرّجوع إلى كتب الحنابلة لا نجدهم يجعلون صورة مسألتنا من هذا القبيل، بل إنّهم يجعلون الفرجة من باب الانفراد في حال واحدة وهي أن يكون الصفّ يسار الإمام، ومقدار الفرجة بقدر ثلاثة نفر، سواء كان الّذي يلي الفرجة شخص واحد أو أكثر(24).
    أما أصحاب سائر المذاهب فهم لا يرون بطلان صلاة الفذّ، بل ويفرّقون بين مسألة الاصطفاف، ومسألة الفرجة في الصفّ، وهو الحقّ، فإنّ الأولى واجبة والثّانية مستحبّة كما رجّحه شيخ الإسلام(25)، واللّه المستعان.

    وصلّى اللّه على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه وسلّم.


    ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

    1- الاستذكار (28/2).
    2- المُفهِم شرح مسلم (4 / 123).
    3- السيل الجرار المتدفِّق على حدائق الأزهار (1 / 158).
    4- رواه البخاري ( 690 ) ومسلم ( 433)، وفي رواية للبخاري ( 723 ): "سَوُّوا صُفُوفَكُمْ، فَإِنَّ تَسْوِيَةَ الصُّفُوفِ مِنْ إِقَامَةِ الصَّلاةِ".
    5- رواه مسلم (432).
    6- رواه البخاري ( 717 ) ومسلم (436).
    7- الاستذكار (288/2).
    8- رواه البخاري (724).
    9- فتح الباري ().
    10- "الشرح الممتع" (3/6).
    11- إعانة الطالبين (2 / 28).
    12- فتوى رقم: (28068)، الصّادرة بتاريخ: (17/09/1441هـ)، بإمضاء المشايخ: عبد العزيز آل الشّيخ، صالح الفوزان، محمّد آل الشّيخ، وعبد السّلام السّليمان.
    13- كلا فتوتي الشّيخ موثّقتين في حسابه الشخصي بـ "تويتر".
    14- بيان للشّيخ عبد المحسن العبّاد مؤرّخ في (06/10/1441هـ).
    15- صحيح ابن ماجة (1909).
    16- البخاري (7288)، ومسلم (1337).
    17- البخاري (1050)
    18- مجموع الفتاوى (23/ 396).
    19- مسلم (705).
    20- مجموع الفتاوى (23/406).
    21- مجموع الفتاوى (23/406).
    22- الشّرح الممتع لابن عثيمين (4/339).
    23- الفتاوى الكبرى(5/348).
    24- كشّاف القناع (1/488).
    25- الفتاوى الكبرى(5/348).
    .
    التعديل الأخير تم بواسطة مراد قرازة; الساعة 2020-06-03, 07:38 PM.

  • #2
    جزاك الله أخي مراد على هذا الجمع الطيب والبحث المسدد،ولنا عبرة بما قاله الشيخ العباد في مثل هذا، وأنا دائما أقول: أتركوا المسائل الكبيرة للكبار.
    وفق الله كل طالب حق صادق لما يحبه ويرضاه.

    تعليق


    • #3
      جزاك الله خيرا، وجعل ما كتبته في موازين حسناتك.

      تعليق


      • #4
        بارك الله فيك أخي مراد.

        تعليق


        • #5
          جزاكم الله خيرا شيخنا وأحسن إليكم، وأسأل الله أن يلهمنا رشدنا ونلزم غرز الاكابر.
          وبارك الله في الاخوة على تعليقاتهم وتشجيعهم .

          تعليق


          • #6
            جزاك الله خيرا

            تعليق


            • #7
              ما شاء الله جزاك الله خيرا أخي.

              تعليق


              • #8
                جزاك الله خيرا أخي الكريم على طرح هذا الموضوع الجيد..

                عندي إشكال في تسمية مسألة التباعد "ضرورة"، ولعل الأوفق تسميتها "حاجة"!
                قال البركتي رحمه الله: " الحاجة ما يفتقر الإنسان إليه مع أنه يبقى بدونه، والضرورة ما لا بد له في بقائه ". [قواعد الفقه ص 257]
                وعلى كل حال، فقد قرر الفقهاء قاعدة أن الحاجة تُنزَّل منزلة الضرورة.

                ولعل مَن خالف في المسألة لم تتحقق له الحاجة لهذا الفعل!
                فيقال: إن الحاجة أو الضرورة يستعان في تقديرهما بأهل الاختصاص لقول الله سبحانه: (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون)، وهم يذكرون ما يترتب عليهما من مصالح أو مفاسد، ثم المفتي يفتي بناء على كلامهم.

                وقد ذكر مجمع الفقه الإسلامي أنّ مِن شروط المفتي: "الرجوع إلى أهل الخبرة في التخصصات المختلفة لتصور المسألة المسؤول عنها، كالمسائل الطبية والاقتصادية ونحوها". [قرار رقم 153 (2/17)]

                قال ابن القيم رحمه الله: "ولا يتمكن المفتي ولا الحاكم من الفتوى والحكم بالحق إلا بنوعين من الفهم:
                أحدهما: فهم الواقع والفقه فيه، واستنباط علم حقيقة ما وقع بالقرائن والأمارات والعلامات، حتى يحيط به علمًا.
                والنوع الثاني: فهم الواجب في الواقع، وهو فهم حُكْم اللَّه الذي حَكَم به في كتابه أو على لسان رسوله -صلى اللَّه عليه وسلم- في هذا الواقع، ثم يطبق أحدهما على الآخر؛ فمن بَذَلَ جهده واستفرغ وُسْعه في ذلك لم يعدم أجرين أو أجرًا؛ فالعالم مَنْ يتوصل بمعرفة الواقع والتفقه فيه إلى معرفة حكم اللَّه ورسوله". [إعلام الموقعين (2/165)]

                ومن القواعد التي يمكن الاعتماد عليها في المسألة: المشقة تجلب التيسير. وهذه القاعدة من بين القواعد الكلية الكبرى.
                ومن القواعد أيضا: إذا ضاق الأمر اتسع، وإذا اتسع ضاق.
                ولكن، يجب أن لا يتسع الحكم لمن ليس في محل حاجة أو ضرورة، فيعطى حكمهما.
                ومن القواعد: إذا زال الخطر عاد الحظر.

                والله أعلم، والرد إليه أسلم.

                تعليق


                • #9
                  جزاك الله خيرا أخي مراد على جمعك وتذكيرك بأقوال العلماء في هذه المسألة المهمة.
                  التعديل الأخير تم بواسطة أبو صهيب منير الجزائري; الساعة 2020-08-17, 09:25 AM.

                  تعليق

                  الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
                  يعمل...
                  X