إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

امتحن فامتنع أن يجيب: ( إخوة الإمام أحمد رحمهم الله بحق)

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • امتحن فامتنع أن يجيب: ( إخوة الإمام أحمد رحمهم الله بحق)

    بسم الله الرحمن الرحيم


    امتحن فامتنع أن يجيب
    ( إخوة الإمام أحمد رحمهم الله بحق)




    الحمد لله الذي وفّق عبادا له للثبات على الحق زمن المحن العظيمة بفضل منه ورحمة، ولحكمة بالغة أرادها الله فبصبر الصادقين يظهر الحق ويمحق الباطل ويرفع أهل الصبر والثبات ويذل أهل الباطل بحوله وقوّته عزوجل، والموّفق من صبر كصبرهم وسار على هديهم، فكلما زاد الإيمان زاد البلاء وظهر الصبر والثبات على الحق وبالحق، فقد بوّب البخاري رحمه بباب يحمل هذه المعاني :(باب: أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).
    وعند أحمد رحمه الله في مسنده: عن أبي عبيدة بن حذيفة، عن عمته فاطمة أنها قالت: أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم نعوده في نساء، فإذا سقاء معلق نحوه يقطر ماؤه عليه من شدة ما يجد من حر الحمى، قلنا: يا رسول الله، لو دعوت الله فشفاك، فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن من أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم»
    (1)
    وممن روى هذا الحديث امتحن بامتحان صعب وابتلاء شديد فكان صبره ثباتا لأهل السنة بعده، وسببا في ظهور الحق في مسألة مسّت عقيدتهم في حق الله عزوجل ألا وهي مسألة: ( القول في كلام الله عزوجل بأنه مخلوق)، فقد امتحن الإمام أحمد فصبر وأظهر الحق بخلاف كثير من عاصره لم يثبت وخاف على نفسه فقال بقول السلطان ومن لبسوا عليه من رؤوس أهل البدع أنذاك، وهناك جمع من العلماء امتحنوا وصبروا وكثير منّا لا يعرفهم، ولعلّ بعض المسلمين يظن بأنّ الوحيد الذي صبر في هذه المحنة هو الإمام أحمد لاشتهار قصّته وشدة محنته وعلو مقامه بين العلماء حتّى قال الأوزاعي رحمه الله:" لم أزل أسمع الناس يذكرون أحمد بن حنبل بخير ويدمونه على يحيى بن معين وأبي خيثمة غير أنه لم يكن من ذكره ما كان بعد ما امتحن فلما امتحن، ارتفع ذكره في الآفاق، ولولا ما حصف المعتصم ودعا بعم أحمد بن حنبل ثم قال للناس تعرفونه؟ قالوا: نعم هو أحمد بن حنبل، قال فانظروا إليه أليس هو صحيح البدن؟ قالوا: نعم. ولولا ذلك لكنت أخاف أن يقع شر لا يقام له، فلما قال قد سلمته إليكم صحيحا هدأ الناس وسكنوا."(2)

    وفائدة المقال هو ذكر بعض الأعلام الذين ثبتوا في محنة القول: بخلق القرآن، وهم بحق إخوة الإمام أحمد رحمهم الله جميعا، سأذكرهم بحول الله وقوته بالروايات التي ذكرها علماء التراجم والتّاريخ كأبي العرب القيرواني في كتابه المحن الذي خصص جزءا بذكر هؤلاء وغيره من العلماء من ذكروا هؤلاء الأعلام في مدوّناتهم كابن بطة في الإبانة الكبرى، إضافة إلى وصول القارئ الكريم إلى بعد الفوائد من خلال النظر في تراجم ورثة الأنبياء:

    أوّلا: عفان بن مسلم أبو عثمان
    قال أبو العرب: "حدثني عبد الله بن الوليد عن محمد بن وضاح عن يحيى بن سلمة البغدادي قال لما دعي عفان يعني ابن مسلم ليمتحن عرض عليه قبل الفتنة فقيل له إنا قد أمرنا أن نجري عليك أربعمائة درهم في الستر وعشرين قفيزا من قمح إن أجبت إلى ما رأي أمير المؤمنين يعنون الواثق في القرآن فقال عفان إن لم أقل تعطوني شيئا قالوا له كذا أمرنا إن قلت أعطيناك وإن لم تفعل لم نعطك فقال عفان اقطعوها فقد قطعها الله ووالله لقد لقيت ثمانين شيخا فما سمعت أحدا منهم تكلم بشيء من هذا وكان عفان زاهدا رحمة الله عليه لو جاءه صاحب له فيجيئه برمانة أو بجزرة بقل ما قبلها وقد كان محتاجا إليها وما كان يملك شيئا.."
    (3)
    قال أبو العرب: "وحدثني أحمد بن محمد قال حدثنا موسى بن الحسن قال أول من امتحن في خلق القرآن عفان بن مسلم فقال له إسحاق بن إبراهيم يا أبا عثمان قال له ما تريد قال كتب إلي أمير المؤمنين أن أمتحنك قال في أي شيء قال تزعم أن القرآن مخلوق قال ما أقول ثم قرأ {قل هو الله أحد} حتى ختمها إذ لا أقول قال الله عز وجل {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} {وكلم الله موسى تكليما} إذا لا أقول هذا الكفر بالله فقال له إذا تقطع أرزاقك قال عفان قال الله تبارك وتعالى {وفي السماء رزقكم وما توعدون} أما لك باب لا وقفت عليك أبدا قال فما أقام إلا أياما حتى مات..."(4)
    قال البغدادي: " أخبرنا أبو منصور محمد بن عيسى بن عبد العزيز البزاز بهمذان، قال: حدثنا أبو الفضل صالح بن أحمد التميمي الحافظ، قال: سمعت القاسم بن أبي صالح، يقول: سمعت إبراهيم يعني: ابن الحسين بن ديزيل، يقول: لما دعي عفان للمحنة، كنت آخذا بلجام حماره، فلما حضر عرض عليه القول، فامتنع أن يجيب، فقيل له: يحبس عطاؤك، قال: وكان يعطى في كل شهر ألف درهم، فقال: {وفي السماء رزقكم وما توعدون}، قال: فلما رجع إلى داره، عذلوه نساؤه، ومن في داره، قال: وكان في داره نحو أربعين إنسانا، قال: فدق عليه داق الباب، فدخل عليه رجل شبهته بسمان أو زيات، ومعه كيس فيه ألف درهم فقال: يا أبا عثمان ثبتك الله كما ثبت الدين، وهذا في كل شهر."(5)

    ثانيا: أبو نعيم الفضل بن دكين
    قال البغدادي: "أخبرنا ابن رزق، قال: أخبرنا عثمان بن أحمد، قال: حدثنا حنبل بن إسحاق، قال: سمعت أبا عبد الله، يعني: أحمد بن حنبل، يقول: شيخين كان يتكلمون فيهما ويذكرونهما، وكنا نلقى من الناس في أمرهما ما الله به عليم، قاما لله بأمر لم يقم به أحد، أو كثير أحد مثل ما قاما به: عفان، وأبو نعيم.
    قلت: يعني أبو عبد الله بذلك امتناعهما من الإجابة إلى القول بخلق القرآن عند امتحانهما، وكان امتحان أبي نعيم بالكوفة."
    (6)
    روى البغدادي في تاريخه: "قال أبو بكر بن أبي شيبة يقول: لما أن جاءت المحنة إلى الكوفة، قال لي أحمد بن يونس: الق أبا نعيم فقل له، فلقيت أبا نعيم، فقلت له، فقال: إنما هو ضرب الأسياط، قال: ابن أبي شيبة، فقلت له: ذهب حديثنا عن هذا الشيخ، فقيل لأبي نعيم، فقال: أدركت ثلاث مائة شيخ، كلهم يقولون: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، وإنما قال هذا قوم من أهل البدع، كانوا يقولون: لا بأس أن ترمى الجمار بالزجاج، ثم أخذ زره فقطعه، ثم قال: رأسي أهون علي من زري"(7)

    ثالثا: عبد الله بن عبد الله بن عبد الحكم
    قال أبو العرب: "حدثني أحمد بن محمد أنه سمع أحمد بن محمد الأشعري يقول دخن على عبد الله بن عبد الحكم بالكبريت حتى قتلوه في المحنة"
    (8)

    رابعا: إخوة عبد الله بن الحكم
    قال أبو العرب الإفريقي: "وأخذوا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم فأدخلوا الكبريت تحت ثيابه وأقعدوا على جانب ثيابه قوما فأخذت النار في ثياب محمد بن عبد الله فتنحوا عنه فهرب محمد بن عبد الله فدخل دار امرأة قالت له ادخل فإني سمعت أبي يقول المحنة أكثر من القرابة يعني المذهب.
    وقال: حدثني محمد بن عمر أو غيره أن القاسم بن عبد الله بن الحكم علق ودخن تحته حتى مات وكان ذلك في أيام أحمد بن أبي داود
    وقال قاسم بن معاوية حضرت ابن عبد الحكم الكبير أخا محمد وقد امتحن فضرب بالسوط في مسجد مصر أقل من ثلاثين في غلالة تولى ذلك منه الأصم وابن أبي داود يومئذ قاضيا أيام المأمون ..."
    (9)

    خامسا: أبو بكر بن أبي أويس
    قال أبو العرب: " قال موسى بن الحسن وسمعت أبا بكر بن أبي أويس وقد دعي إلى المحنة بالمدينة هو ومطرف بن عبد الله المديني صاحب مالك وكان ابن أبي أويس جده فلما قرئ عليهم الكتاب قال أبو بكر الكفر بالله بعد نيف وسبعين سنة ومجالسة رجال من أهل العلم يتوافدون بالمدينة فقيل له ليكن سجنك بيتك"
    (10)

    سادسا: أبو مسهر الغساني
    قال أبو العرب: "حدثني بكر قال قال موسى بن الحسن وسمعت أبا مسهر الغساني وقد أتي به إلى بغداد فوجه به المأمون إلى إسحاق بن إبراهيم فحضره بشر المريسي وثمامة بن الأشرس وعلي الداري وجماعة غيرهم أشهدهم إسحاق بن إبراهيم عليه أن يقر بكتاب المحنة الذي كتبه المأمون في خلق القرآن وإنفاء الروية وأن الجنة والنار لم يخلقا وإنفاء عذاب القبر والموازين أنها ليست بكفتين وإنفاء أن الله عز وجل في مكان دون مكان فلما قرئ عليه الكتاب قال أنا منكر لجميع ما في كتابكم هذا أبعد مجالسة مالك وسفيان الثوري وسعيد بن عبد العزيز ومشائخ أهل العلم أدعى لأكفر بالله بعد إحدى وتسعين إذا لا أقول القرآن مخلوق ولا أنكر عذاب القبر ولا الموازين أنها كفتان ولا أن الله عز وجل يرى في القيامة ولا أن الله عز وجل على عرشه وعلمه قد أحاط بكل شيء نزل بذلك القرآن وجاءت به الأخبار التي نقلها أهل العلم والصدق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن كانوا متهمين فيما نقلوا أنهم متهمين في القرآن فهم الذين نقلوا القرآن والسير عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فجر برجله وطرح في ضيق المجالس فما أقام إلا يسيرا حتى توفي فحضره من الخلق بشر لا يحصهم إلا الله عز وجل"
    (11)أبو العرب الإفريقي، المحن: (ص460).
    وعند البغدادي في تاريخه: "... قال: سمعت أحمد، يقول: رحم الله أبا مسهر ما كان أثبته، وجعل يطريه..."
    (12)
    وقال فيه أبو داود ".. قال: سمعت أبا داود سليمان بن الأشعث، وقيل له: إن أبا مسهر عبد الأعلى بن مسهر كان متكبرا في نفسه، فقال: كان من ثقات الناس، رحم الله أبا مسهر، لقد كان من الإسلام بمكان، حمل على المحنة فأبى، وحمل على السيف، مد رأسه وجرد السيف فأبى أن يجيب، فلما رأوا ذلك منه حمل إلى السجن فمات."(13)
    قال الذهبي: "..وكان أبو مسهر ممن امتحنه المأمون وأكرهه على أن يقول: القرآن مخلوق فأصر وصمم فوضعه في النطع ليضرب عنقه فأجاب وقال: القرآن مخلوق فأقيم من النطع فرجع في الحال فسجنه المأمون نحوا من مائة يوم وجاءه الأجل فمات في سنة ثماني عشرة ومائتين رحمه الله ولم يقع لي شيء من عواليه إلا بالإجازة فكاسرت..." (14)

    سابعا: العباس بن موسى بن مشكويه الهمداني
    سأنقل لإخواني مناظرته مع الواثق كما ذكرها ابن بطة رحمه الله لجمعها لفوائد عظيمة.
    قال العباس بن موسى بن مشكويه الهمداني: " أدخلت على الخليفة المتكني بالواثق أنا وجماعة من أهل العلم، فأقبل بالمسألة علي من بينهم، فقلت: يا أمير المؤمنين إني رجل مروع ولا عهد لي بكلام الخلفاء من قبلك. " فقال: لا ترع ولا بأس عليك، ما تقول في القرآن؟ فقلت: «كلام الله غير مخلوق»، فقال: أشهد لتقولن مخلوقا أو لأضربن عنقك، قال: " فقلت: إنك إن تضرب عنقي، فإنك في موضع ذلك إن جرت به المقادير من عند الله، فتثبت علي يا أمير المؤمنين، فإما أن أكون عالما فتثبت حجتي، وإما أن أكون جاهلا فيجب عليك أن تعلمني لأنك أمير المؤمنين وخليفة الله في أرضه وابن عم نبيه فقال: أما تقرأ {إنا كل شيء خلقناه بقدر} [القمر: 49]، {وخلق كل شيء فقدره تقديرا} [الفرقان: 2]، قلت: «يا أمير المؤمنين الكلية في كتاب الله خاص أم عام؟»، قال: عام. قلت: " لا، بل خاص، قال الله عز وجل: {وأوتيت من كل شيء} [النمل: 23] فهل أوتيت ملك سليمان عليه السلام؟ فحذفني بعمود كان بين يديه، ثم قال: أخرجوه، فاضربوا عنقه، فأخرجت إلى قبة قريبة منه، فشد عليها كتافي، فناديت: يا أمير المؤمنين إنك ضارب عنقي، وأنا متقدمك، فاستعد للمسألة جوابا" فقال: أخرجوا الزنديق وضعوه في أضيق المحابس، فأخرجت إلى دار العامة، فإذا أنا بابن أبي دؤاد يناظر الناس على خلق القرآن، فلما نظر إلي قال: يا خرمي قلت: «أنت والذين معك وهم شيعة الدجال» فحبسني في سجن ببغداد يقال له المطبق، فأرسل إلي جماعة من العلماء رقعة يشجعونني ويثبتونني على ما أنا عليه، فقرأت ما فيها، فإذا فيها:

    [البحر البسيط]
    عَلَيْكَ بِالْعِلْمِ وَاهْجُرْ كُلَّ مُبْتَدَعٍ ... وَكُلَّ غَاوٍ إِلَى الْأَهْوَاءِ مَيَّالِ
    وَلَا تَمِيلَنَّ يَا هَذَا إِلَى بِدَعٍ ... يَضِلُّ أَصْحَابُهَا بِالْقِيلِ وَالْقَالِ
    إِنَّ الْقُرْآنَ كَلَامُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ ... لَيْسَ الْقُرْآنُ بِمَخْلُوقٍ وَلَا بَالِ
    لَوْ أَنَّهُ كَانَ مَخْلُوقًا لَصَيَّرَهُ ... رَيْبُ الزَّمَانِ إِلَى مَوْتٍ وَإِبْطَالِ
    وَكَيْفَ يَبْطُلُ مَا لَا شَيْءَ يُبْطِلُهُ ... أَمْ كَيْفَ يَبْلَى كَلَامُ الْخَالِقِ الْعَالِي
    وَهَلْ يُضِيفُ كَلَامَ اللَّهِ مِنْ أَحَدٍ ... إِلَى الْبِلَى غَيْرُ ضُلَّالٍ وَجُهَّالِ
    فَلَا تَقُلْ بِالَّذِي قَالُوا وَإِنْ سَفِهُوا ... وَأَوْثَقُوكَ بِأَقْيَادٍ وَأَغْلَالِ
    أَلَمْ تَرَ الْعَالِمَ الصَّبَّارَ حَيْثُ بُلِيَ ... بِالسَّوْطِ هَلْ زَالَ عَنْ حَالٍ إِلَى حَالِ
    فَاصْبِرْ عَلَى كُلِّ مَا يَأْتِي الزَّمَانُ بِهِ ... فَالصَّبْرُ سِرْبَالُهُ مِنْ خَيْرِ سِرْبَالِ
    يَا صَاحِبَ السِّجْنِ فَكِّرْ فِيمَ تَحْسِبُهُ ... أُقَاتِلٌ هُوَ أَمْ عَوْنٌ لِقَتَّالِ
    أَمْ هَلْ أَتَيْتَ بِهِ رَأْسًا لِرَافِضَةٍ ... يَرَى الْخُرُوجَ لَهُمْ جَهْلًا عَلَى الْوَالِي
    أَمْ هَلْ أُصِيبَ عَلَى خَمْرٍ وَمِعْزَفَةٍ ... يُصَرِّفُ الْكَأْسَ فِيهَا كُلَّ ضَلَّالِ
    مَا هَكَذَا هُوَ بَلْ لَكِنَّهُ وَرِعٌ ... عَفٌّ عَفِيفٌ عَنِ الْأَعْرَاضِ وَالْمَالِ



    ثم ذكرني بعد أيام وأخرجني من السجن وأوقفني بين يديه، وقال: عساك مقيما على الكلام الذي كنت سمعته منك؟ فقلت: «والله يا أمير المؤمنين إني لأدعو ربي تبارك وتعالى في ليلي ونهاري ألا يميتني إلا على ما كنت سمعته مني» قال: أراك متمسكا قلت: ليس هو شيء قلته من تلقاء نفسي، ولكنه شيء لقيت فيه العلماء بمكة، والمدينة، والكوفة، والبصرة، والشام، والثغور، فرأيتهم على السنة والجماعة. فقال لي: وما السنة والجماعة؟ قلت: " سألت عنها العلماء فكل يخبر ويقول: إن صفة المؤمن من أهل السنة والجماعة أن يقول العبد مخلصا: لا إله إلا الله وحده لا شريك له وإن محمدا عبده ورسوله، والإقرار بما جاءت الأنبياء والرسل، ويشهد العبد على ما ظهر من لسانه وعقد عليه قلبه، والإيمان بالقدر خيره وشره من الله، ويعلم العبد أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه، والإيمان قول وعمل يزيد بالطاعة وينقص بالمعصية، وأن الله عز وجل قد علم من خلقه ما هم فاعلون، وما هم إليه صائرون، فريق في الجنة وفريق في السعير" وصلاة الجمعة والعيدين خلف كل إمام بر وفاجر، وصلاة المكتوبة من غير أن تقدم وقتا أو تؤخر وقتا، وأن نشهد للعشرة الذين شهد لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من قريش بالجنة، والحب والبغض لله وفي الله، وإيقاع الطلاق إذا جرى كلمة واحدة، والمسح على الخفين للمسافر ثلاثة أيام وللمقيم يوم وليلة، والتقصير في السفر إذا سافر ستة عشر فرسخا بالهاشمي - ثمانية وأربعين ميلا - وتقديم الإفطار وتأخير السحور، وتركيب اليمين على الشمال في الصلاة، والجهر بآمين، وإخفاء ، وأن تقول بلسانك وتعلم يقينا بقلبك أن خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضوان الله عليهم، والكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، والإيمان بالبعث والنشور وعذاب القبر ومنكر ونكير والصراط والميزان، وأن الله عز وجل يخرج أهل الكبائر من هذه الأمة من النار، وأنه لا يخلد فيها إلا مشرك، وأن أهل الجنة يرون الله عز وجل بأبصارهم، وأن القرآن كلام الله غير مخلوق، وأن الأرض جميعا قبضته يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، سبحانه عما يشركون. قال: فلما سمع هذا مني أمر بي فقلع لي أربعة أضراس، وقال: أخرجوه عني لا يفسد علي ما أنا فيه، فأخرجت فلقيت أبا عبد الله أحمد بن حنبل فسألني عما جرى بيني وبين الخليفة فأخبرته، فقال: لا نسي الله لك هذا المقام حين تقف بين يديه. ثم قال: ينبغي أن نكتب هذا على أبواب مساجدنا، ونعلمه أهلنا وأولادنا، ثم التفت إلى ابنه صالح، فقال: اكتب هذا الحديث واجعله في رق أبيض واحتفظ به، واعلم أنه من خير حديث كتبته، إذا لقيت الله يوم القيامة تلقاه على السنة والجماعة" (15)

    ثامنا: أحمد بن غسان
    حدثني عبد الله بن محمد قال حدثنا أحمد بن محمد بن زياد أن أحمد بن غسان الذي معلمه عبد الواحد بن زيد مات في السجن بمدينة بغداد مع أحمد بن محمد بن حنبل رحمه الله.."
    (16)
    قال الذهبي: " أحد مشايخ العابدين بالبصرة. صحب أحمد بن عطاء الهجيمي الزاهد، وبني دارا للزهاد. وكان يعظ ويتكلم على الأحوال بعد شيخه، ولكن كان يقول بالقدر، ورجع عنه. فلما كانت المحنة أيام المعتصم أبى أن يقول بخلق القرآن، فحمل إلى بغداد فحبس بها. فاتفق معه في الحبس أحمد بن حنبل، والبويطي.
    قال علي بن عبد العزيز البغوي: سمعت البويطي يقول: قلت لأحمد بن حنبل: ما أحسن كلام هذا الرجل، يعني أحمد بن غسان. قال: إنه بصري وأخاف عليه، يعني القدر، إلا أنهما سمعا كلامه، وأعجبهما هديه، وخاطباه في القدر، فرجع عنه."
    (17)
    سبحان الله ثبت في المحنة فنجاه الله داخل السجن بترك القول في القدر بمصاحبة الإمام أحمد والبويطي.
    قال أحمد بن حنبل:" ما خرجت حتى رجع أحمد بن غسان عن القدر"
    (18)

    سابعا: يوسف بن يحيى أبو يعقوب البويطي المصري الفقيه صاحب الشافعي
    قال أبو العرب: " ..والبويطي حبس أيضا في خلق القرآن أبى أن يقوله ومات في السجن ودفن ببغداد بباب الكوفة"
    (19)
    قال البغدادي: "... كان قد حمل إلى بغداد في أيام المحنة، وأريد على القول بخلق القرآن فامتنع من الإجابة إلى ذلك، فحبس ببغداد، ولم يزل في الحبس إلى حين وفاته...." (20)
    قال الربيع : "كنت عند الشافعي، أنا والمزني، وأبو يعقوب البويطي، فنظر إلينا، فقال لي: أنت تموت في الحديث، وقال للمزني: هذا لو ناظره الشيطان قطعه أو جدله، وقال للبويطي: أنت تموت في الحديد، قال الربيع: فدخلت على البويطي أيام المحنة فرأيته مقيدا إلى أنصاف ساقيه، مغلولة يداه إلى عنقه" (21)

    ثامنا: الإمام أبو سعيد محمد بن سحنون المالكي
    قال محمد بن سحنون في حديثه: " فلما وصل سحنون إلى أبي جعفر جمع له قواده ووزراءه وقاضيه ابن أبي الجواد وكان في القوم داود بن حمزة القائد فقال أبو جعفر لسحنون ما تقول في القرآن فقال سحنون أصلح الله الأمير أما شيء أبتديه من نفسي فلا ولكن الذي سمعت ممن تعلمت منه وأخذت ديني عنه فهم كانوا يقولون إن القرآن كلام الله وليس بمخلوق قال فقال له ابن أبي الجواد أيها الأمير إنه قد كفر فاقتله ودمه في عنقي وقال مثل ذلك نصر بن حمزة القائد وغيره فقال لدواد بن حمزة ما تقول يا داود قال أصلح الله الأمير قتله بالسيف راحة له ولكن اقتله قتل الحياة يؤخذ عليه الحملاء وينادى عليه بسماط القيروان لا يفتي ولا يسمع أحدا ويلزم داره ففعل ذلك أبو جعفر وترك قول من أشار عليه بقتله وأمر بأحد عشر حميلا فكان ممن تحمل به ابن علاقة وغيره ومنع الله عز وجل القوم من قتله"
    (22)

    تاسعا: عمر بن شبة بن عبيدة بن زيد أبو زيد النميري البصري
    روى البغدادي في تاريخه: " حدثني أبو علي العنزي، قال: امتحن عمر بن شبة بسر من رأى بحضرتي، فقال: القرآن كلام الله ليس بمخلوق، فقالوا له: فتقول من وقف فهو كافر؟ فقال لا أكفر أحدا، فقالوا له: أنت كافر، ومزقوا كتبه، فلزم بيته، وحلف أن لا يحدث شهرا، وكان ذلك حدثان قدومه من بغداد بعد الفتنة"
    (23)
    ومنهم من فرّ خوفا على دينه ومنهم من حبس نفسه في بيته حتى توفّاه الله

    عاشرا: أصبغ بن الفرج
    قال أبو العرب: "وحدثني أحمد بن محمد أنه سمع يحيى بن عمر يقول اختفى أصبغ بن الفرج أيام الأصم وكان قد طلبه في المحنة فاختفى منه في داره وكان إخوانه يأتونه في داره الواحد بعد الآخر وكان لا يسمع أحدا فاختفى حتى مات وكان موته سنة خمس وعشرين ومائتين"
    (24)
    ويقول القاضي عياض: " وقال أبو عمر الكندي: إن المعتصم كتب في أصبغ ليحمل في المحنة. فهرب إلى حلوان، فاستتر بها." (25)
    ذكّرت نفسي وإخواني بأعلام صبروا عند محنة عظيمة، والناظر في ترجمة كل واحد منهم إلا ويجد فوائد عظيمة، فمنهم من صبر تحت السيف ومنهم من باع الدنيا بالآخرة فعوضه الله بخير كثير في الدنيا وبثبات على الحق، ومنهم من تاب عن القدر بثباته في محنة خلق القرآن، وبمناظرة بعضهم انتشر الحق وخنس الباطل، ومنهم منع بفضل الله ورحمة منه، رحمهم الله وجعل الجنة مثواهم ونسأل أن يوفقنا أبدا ودائما للاعتقاد السليم وعلى نهج نبينا صلى الله عليه وسلم وعلى هديه أصحابه الكرام رضوان الله عليهم.
    كتبه: أخوكم أبو صهيب منير الجزائري.


    ـــــــــــــــــــــــــ
    (1) ورواه النسائي في السنن الكبرى وغيرهما والحديث صحيح كما في الصحيحة للشيخ الألباني برقم: 1165.
    (2) ابن أبي حاتم، الجرح والتعديل:(1/310)
    (3) أبو العرب الإفريقي، المحن:( ص448).
    (4) المرجع نفسه: ( ص449)
    (5) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: (14/201).
    (6) المرجع نفسه: (14/307).
    (7) المرجع نفسه: (14/307).
    (8) أبو العرب الإفريقي، المحن: (ص 273).
    (9) المرجع نفسه.
    (10) المرجع نفسه: (ص459)
    (11) المرجع نفسه: (ص460).
    (12) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: (12/350)
    (13) المرجع نفسه، والذهبي، سير أعلام النبلاء: (10/236).
    (14) الذهبي، تذكرة الحفاظ: (1/279-280)
    (15) ابن بطة العبكري، الإبانة الكبرى: (6/284-288)
    (16) أبو العرب الإفريقي، المحن: (ص461)
    (17) الذهبي، تاريخ الإسلام: (5/511).
    (18) المرجع نفسه
    (19) أبو العرب الإفريقي، المحن: (ص461)
    (20) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: (16/439).
    (21) المرجع نفسه.
    (22) أبو العرب الإفريقي، المحن: (ص464).
    (23) الخطيب البغدادي، تاريخ بغداد: (13/45)، والذهبي، تاريخ الإسلام: (6/376).
    (24) أبو العرب الإفريقي، المحن: (ص461).
    (25) القاضي عياض، ترتيب المدارك: (4/22).
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2020-04-10, 01:48 PM.

  • #2
    جزاك الله خيراً أخي أبا صهيب

    تعليق


    • #3
      وإياك أخي أبا أنس.

      تعليق


      • #4
        جزاك الله خيرا اخي منير.
        غفر الله له

        تعليق


        • #5
          وإياك أخي الحبيب عبد الله ووفقنا الله وإياكم للعلم النافع والعمل الصالح.

          تعليق


          • #6
            جزاكم الله خيرا أستاذ منير وبارك فيكم على هذه الدرة والجمع الطيب المفيد من محن وامتحان للأعلام السنة المطهرة، وهي تسليمة لمن بعدهم واتبع منهج الحق وصبر وثبت عليه ، لا تطيل علينا الكتابة من جديد يا محترم أحسن الله اليكم.
            التعديل الأخير تم بواسطة نسيم منصري; الساعة 2020-04-12, 03:13 PM.

            تعليق


            • #7
              بارك الله فيك أخي الحبيب نسيم على حسن ظنك بأخيك غفر الله له ونسأل الله أن يوفقنا للعلم النافع والعمل الصالح.

              تعليق


              • #8
                بارك الله في شيخنا الحبيب أزهر سنيقرة حفظه الله فقد نقل في حسابه على تويتر حادثة مناسبة لموضوع المقال، وقعت بين محمد بن نوح وكان من الصابرين في المحنة وأخيه الإمام أحمد التي فيها التناصح والتعاون على البر والتقوى
                توترة الشيخ:
                شهادة عظيمة من إمام جليل: قال الإمام أحمد:ما رأيت أحدا على حداثة سنه وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح،وإني لأرجو أن يكون قد خُتم له بخير،قال لي ذات يوم:يا أبا عبد الله،الله الله،إنك لست كمثلي،إنك رجل يقتدى بك،قد مد الخلق أعناقهم إليك لما يكون منك،فاتق الله واثبت. رحمه الله

                تعليق

                الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
                يعمل...
                X