إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

الذّلّ والافتقار للعزيز الجبّار.

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • الذّلّ والافتقار للعزيز الجبّار.


    بسم الله الرحمن الرحيم

    الذّلّ والافتقار للعزيز الجبّار
    الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد،


    فاعلم أن "العبادة تجمع أصلين : غاية الحب بغاية الذل والخضوع، والعرب تقول : " طريق معبَّد " أي : مذلَّل، والتعبد : التذلل والخضوع، فمن أحببتَه ولم تكن خاضعاً له : لم تكن عابداً له، ومن خضعت له بلا محبة: لم تكن عابداً له، حتى تكون محبّاً خاضعاً ."[1] ف"تمام العبودية هو : بتكميل مقام الذل والانقياد ، وأكمل الخلق عبودية : أكملهم ذلاًّ لله ، وانقياداً ، وطاعة ، والعبد ذليل لمولاه الحق بكل وجه من وجوه الذل، فهو ذليل لعزِّه، وذليل لقهره، وذليل لربوبيته فيه وتصرفه، وذليل لإحسانه إليه، وإنعامه عليه؛ فإن مَن أحسن إليك: فقد استعبدك، وصار قلبُك معبَّداً له، وذليلاً، تعبَّدَ له لحاجته إليه على مدى الأنفاس، في جلب كل ما ينفعه، ودفع كل ما يضره .".[2]
    وعبادة الرحمن غاية حبه ** مع ذل عابده هما قطبان
    وعليهما فلك العبادة دائر ** ما دار حتى قامت القطبان[3]

    و"حقيقة الفقر: أن لا تكون لنفسك، ولا يكون لها منك شيء؛ بحيث تكون كلك لله، وإذا كنت لنفسك فثمَّ ملك واستغناء مناف للفقر". ف"الفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال، وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه" [4].

    ويتحقق هذا الفقر بمعرفة عظمة الخالق عز وجل وبالمقابل ضعف المخلوق المربوب، فيثمر هذا في قلبه الفقر الذي يمنعه من معصية مولاه، ف"مَنْ كملت عظمة الحق تعالى في قلبه؛ عظمت عنده مخالفته؛ لأن مخالفة العظيم ليست كمخالفة مَنْ هو دونه. ومَنْ عرف قدر نفسه وحقيقتها؛ وفقرها الذاتي إلى مولاها الحق في كل لحظة ونَفَس، وشدة حاجتها إليه؛ عظمت عنده جناية المخالفة لمن هو شديد الضرورة إليه في كل لحظة ونَفَس. وأيضاً فإذا عرف حقارتها مع عظم قدر من خالفه؛ عظمت الجناية عنده؛ فشمَّر في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به يكون تشميره في التخلص منها، وبحسب تصديقه بالوعيد ويقينه به؛ يكون تشميره في التخلص من الجناية التي تلحق به" [5]

    ومن افتقر إلى الله جل في علاه تعلق به وبما يحب فهو "يتخلى بفقره أن يتألَّه غير مولاه الحق، وأن يُضيع أنفاسه في غير مرضاته، وأن يُفرق همومه في غير محابه، وأن يُؤْثر عليه في حال من الأحوال، فيوجب له هذا الخلق وهذه المعاملة صفاء العبودية، وعمارة السر بينه وبين الله، وخلوص الود، فيصبح ويمسي ولا هّم له غير ربه، فقد قطع همُّه بربه عنه جميع الهموم، وعطلت إرادته جميع الإرادات، ونسخت محبته له من قلبه كل محبة لسواه"[6].

    ومن أعظم العبادات التي يتحقق فيها للعبد مقام الذل والافتقار: الصلاة ف "مـن تمام خشـوع العبد لله - عز وجل - وتواضعه في ركوعه وسجوده أنَّه إذا ذلَّ لربه بالركوع والسجود، وصف ربه حينئذ بصفات العز والكبرياء والعظمة والعلو، فكأنه يقول: الذل والتواضع وَصفي، والعلو والعظمة والكبرياء وَصفك".[7]
    وكذا الدعاء فإن "سؤالَ اللهِ تعالى دون خلقه هو المتعيّن ؛ لأن السؤال فيه إظهار الذل من السائل والمسكنة والحاجة والافتقار ، وفيه الاعتراف بقدرة المسؤول على دفع هذا الضرر ، ونيلِ المطلوب ، وجلبِ المنافع ، ودرء المضارّ ، ولا يصلح الذل والافتقار إلا الله وحده ، لأنه حقيقة العبادة [8].
    وأيضا التوكل على الله تعالى والاستعانة به " فكلما ازداد القلب حبّاً لله : ازداد له عبودية ، وكلما ازداد له عبودية : ازداد له حبّاً ، وفضَّله عما سواه ، والقلب فقير بالذات إلى الله من وجهين : من جهة العبادة الغائية ، ومن جهة الاستعانة والتوكل ، فالقلب لا يصلح ، ولا يفلح ، ولا ينعم ، ولا يسر ، ولا يلتذ ، ولا يطيب ، ولا يسكن ، ولا يطمئن ، إلا بعبادة ربه وحبه ، والإنابة إليه ، ولو حصل له كل ما يلتذ به من المخلوقات : لم يطمئن ، ولم يسكن ؛ إذ فيه فقر ذاتي إلى ربه من حيث هو معبوده ، ومحبوبه ، ومطلوبه ، وبذلك يحصل له الفرَح ، والسرور ، واللذة ، والنعمة ، والسكون ، والطمأنينة .
    وهذا لا يحصل له إلا باعانة الله له ؛ فإنه لا يقدر على تحصيل ذلك له إلا الله ، فهو دائماً مفتقر إلى حقيقة : ( إياك نعبد وإياك نستعين ) .[9]
    وكذلك التوبة إلى الله تعالى، فللتوبة علاقة وطيدة بالذل والافتقار للمولى جل وعلا رجاء عفوه ورحمته، فإن العبد " يعمل الذنب فلا يزال نصب عينيه، إن قام وإن قعد وإن مشى ذكر ذنبه، فيحدث له انكسارا وتوبة واستغفارا وندما، فيكون ذلك سبب نجاته ... فيكون الذنب موجبا لترتب طاعات وحسنات ومعاملات قلبية من خوف الله والحياء منه والاطراح بين يديه منكسا رأسه خجلا باكيا نادما مستقبلا ربه..."[10]

    فالمحقق لمقام الذل والافتقار"يشهد في كل ذرة من ذراته الباطنة والظاهرة ضرورة تامة، وافتقاراً تاماً إلى ربه ووليه، ومَنْ بيده صلاحه وفلاحه، وهداه وسعادته. وهذه الحال التي تحصل لقلبه لا تنال العبارة حقيقتها، وإنما تُدرك بالحصول، فيحصل لقلبه كَسْرة خاصة لا يشبهها شيء؛ بحيث يرى نفسه كالإناء المرضوض تحت الأرجل الذي لا شيء فيه، ولا به ولا منه، ولا فيه منفعة، ولا يرغب في مثله. وأنه لا يصلح للانتفاع إلا بجبر جديد من صانعه وقيّمه، فحينئذ يستكثر في هذا المشهد ما منّ ربه إليه من الخير، ويرى أنه لا يستحق قليلاً منه ولا كثيراً. فأي خير ناله من الله استكثره على نفسه، وعلم أن قدره دونه، وأن رحمة ربه هي التي اقتضت ذكره به، وسياقته إليه، واستقل ما من نفسه من الطاعات لربه، ورآها ولو ساوت طاعات الثقلين من أقل ما ينبغي لربه عليه، واستكثر قليل معاصيه وذنوبه. فإن الكَسْرة التي حصلت لقلبه أوجبت له هذا كله، فما أقرب الجبر من هذا القلب المكسور! وما أدنى النصر والرحمة والرزق منه! وما أنفع هذا المشهد وأجداه عليه! وذرة من هذا ونَفَس منه أحب إلى الله من طاعات أمثال الجبال من المدلين المعجبين بأعمالهم وعلومهم وأحوالهم. وأحب القلوب إلى الله سبحانه: قلب قد تمكنت منه ذه الكسرة، وملكته هذه الذلة، فهو ناكس الرأس بين يدي ربه، لا يرفع رأسه إليه حياء وخجلاً من الله" [11].

    ف"سعادة العبد في كمال افتقاره إلى ربه واحتياجه إليه، أي: في أن يشهد ذلك، ويعرفه، ويتصف معه بموجب ذلك من الذل والخضوع والخشوع"[12].

    ۞ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ ۖ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ [فاطر : 15]

    "يخاطب تعالى جميع الناس، ويخبرهم بحالهم ووصفهم، وأنهم فقراء إلى اللّه من جميع الوجوه:
    فقراء في إيجادهم، فلولا إيجاده إياهم، لم يوجدوا.
    فقراء في إعدادهم بالقوى والأعضاء والجوارح، التي لولا إعداده إياهم [بها]، لما استعدوا لأي عمل كان.
    فقراء في إمدادهم بالأقوات والأرزاق والنعم الظاهرة والباطنة، فلولا فضله وإحسانه وتيسيره الأمور، لما حصل [لهم] من الرزق والنعم شيء.
    فقراء في صرف النقم عنهم، ودفع المكاره، وإزالة الكروب والشدائد. فلولا دفعه عنهم، وتفريجه لكرباتهم، وإزالته لعسرهم، لاستمرت عليهم المكاره والشدائد.
    فقراء إليه في تربيتهم بأنواع التربية، وأجناس التدبير.
    فقراء إليه، في تألههم له، وحبهم له، وتعبدهم، وإخلاص العبادة له تعالى، فلو لم يوفقهم لذلك، لهلكوا، وفسدت أرواحهم، وقلوبهم وأحوالهم.
    فقراء إليه، في تعليمهم ما لا يعلمون، وعملهم بما يصلحهم، فلولا تعليمه، لم يتعلموا، ولولا توفيقه، لم يصلحوا.
    فهم فقراء بالذات إليه، بكل معنى، وبكل اعتبار، سواء شعروا ببعض أنواع الفقر أم لم يشعروا، ولكن الموفق منهم، الذي لا يزال يشاهد فقره في كل حال من أمور دينه ودنياه، ويتضرع له، ويسأله أن لا يكله إلى نفسه طرفة عين، وأن يعينه على جميع أموره، ويستصحب هذا المعنى في كل وقت، فهذا أحرى بالإعانة التامة من ربه وإلهه، الذي هو أرحم به من الوالدة بولدها.
    { وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ } أي: الذي له الغنى التام من جميع الوجوه، فلا يحتاج إلى ما يحتاج إليه خلقه، ولا يفتقر إلى شيء مما يفتقر إليه الخلق، وذلك لكمال صفاته، وكونها كلها، صفات كمال، ونعوت وجلال.
    ومن غناه تعالى، أن أغنى الخلق في الدنيا والآخرة، الحميد في ذاته، وأسمائه، لأنها حسنى، وأوصافه، لكونها عليا، وأفعاله لأنها فضل وإحسان وعدل وحكمة ورحمة، وفي أوامره ونواهيه، فهو الحميد على ما فيه، وعلى ما منه، وهو الحميد في غناه [الغني في حمده].[13].
    "أَنَا الْفَقِيرُ إِلَى رَبِّ الْبَرِيَّاتِ..أَنَا الْمُسَيْكِينُ فِي مَجْمُوعِ حَالَاتِي
    أَنَا الظَّلُومُ لِنَفْسِي وَهِيَ ظَالِمَتِي...وَالْخَيْرُ إِنْ يَأْتِنَا مِنْ عِنْدِهِ يَأْتِي
    لَا أَسْتَطِيعُ لِنَفْسِي جَلْبَ مَنْفَعَةٍ...وَلَا عَنِ النَّفْسِ لِي دَفْعُ الْمَضَرَّاتِ
    وَلَيْسَ لِي دُونَهُ مَوْلًى يُدَبِّرُنِي..وَلَا شَفِيعٌ إِذَا حَاطَتْ خَطِيئَاتِي
    إِلَّا بِإِذْنٍ مِنَ الرَّحْمَنِ خَالِقِنَا...إِلَى الشَّفِيعِ كَمَا قَدْ جَاءَ فِي الْآيَاتِ
    وَلَسْتُ أَمْلِكُ شَيْئًا دُونَهُ أَبَدًا...وَلَا شَرِيكٌ أَنَا فِي بَعْضِ ذَرَّاتِ
    وَلَا ظُهَيْرٌ لَهُ كَيْ يَسْتَعِينَ بِهِ...كَمَا يَكُونُ لِأَرْبَابِ الْوِلَايَاتِ
    وَالْفَقْرُ لِي وَصْفُ ذَاتِ لَازِمٍ أَبَدًا...كَمَا الْغِنَى أَبَدًا وَصْفٌ لَهُ ذَاتِي
    وَهَذِهِ الْحَالُ حَالُ الْخَلْقِ أَجْمَعِهِمْ...وَكُلُّهُمْ عِنْدَهُ عَبْدٌ لَهُ آتِي
    فَمَنْ بَغَى مَطْلَبًا مِنْ غَيْرِ خَالِقِهِ...فَهُوَ الْجَهُولُ الظَّلُومُ الْمُشْرِكُ الْعَاتِي
    وَالْحَمْدُ لِلَّهِ مِلْءَ الْكَوْنِ أَجْمَعِهِ...مَا كَانَ مِنْهُ وَمَا مِنْ بَعْدُ قَدْ يَاتِي"[14].


    ــــــــــــــــــــــــــــــــ
    [1] مدارج السالكين " ( 1 / 74 ) .
    [2] مفتاح دار السعادة " ( 1 / 289 )
    [3] النونية " ( ص 35 ) .
    [4] [مدارج السالكين، (2/440)].
    [5] [مدارج السالكين(1/144،145)].
    [6] [طريق الهجرتين (ص 18)].
    [7] [الخشوع في الصلاة، لابن رجب الحنبلي، ص (34)].
    [8] [ جامع العلوم والحكم (1/ 481 )].
    [9] [ العبودية ( ص 97 )] .
    [10] مدارج السالكين (1/307_308)].
    [11] [مدارج السالكين (1/428-429)]
    [12] [مجموع فتاوى شيخ الاسلام (1/50)].
    [13] تفسير السعدي.
    [14] قصيدة لشيخ الاسلام ذكرهاابن القيم في كتابه مدارج السالكين (2/157_159)].
    أبو أمامة أسامة بن الساسي لعمارة
    عين الكبيرة . سطيف . الجزائر.
    التعديل الأخير تم بواسطة يوسف عمر; الساعة 2020-04-07, 09:26 PM.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 0 زوار)
يعمل...
X