الحمد لله وصلَّىٰ اللهُ وسلَّم وبارك علىٰ سيِّد الأولياء وعلىٰ آلهِ وأصحابهِ ومن سلك طريقهُ واهتدىٰ بهداه.
أمَّا بعدُ:
فعن أبِي هُريرة -رضِي اللهُ عنهُ- أنَّ النَّبِي ﷺ قال: "لتؤدنَّ الحقُوق إلىٰ أهلها يوم القِيامة حتَّىٰ يُقاد للشَّاة الجلحاء مِنَ الشَّاةِ القرناء". رواه مسلمٌ فِي صحيحهِ.

من فوائد الحديث:

أوَّلًا: عدلُ ربِّنا -تبارك وتعالىٰ- بأنَّهُ لا يظلم مثقال ذرَّة ومن تمام عدله حمله لعباده علىٰ تأدية الحقوق لأهلها قال سبحانهُ: {ونضعُ الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفسٌ شيئًا وإن كان مثقال حبّة من خردلٍ أتينا بها وكفىٰ بنا حاسبين}.
قال السِعدي: "يعني بذلك نفسه الكريمة فكفىٰ به حاسبا أي: عالما بأعمال العباد حافظا لها مثبتا لها في الكتاب عالما بمقاديرها ومقادير ثوابها وعقابها واستحقاقها موصلًا للعمال جزاءها".

ثانيًا: إخباره؛ بل قسمهُ ﷺ بأمر غيبيّ هو من دلائل نبوّتهِ ﷺ إذ الغيب لا يعلمهُ إلا الله قال تعالىٰ: {عالم الغيب فلا يظهر علىٰ غيبهِ أحدًا إلا من ارتضىٰ من رسول}.
قال ابنُ كثير: "هَذِه كقولهِ سبحانهُ: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيء من علمه إِلا بِمَا شاء}…وهذا يعمُّ الرسول الملكي والبشري". اهـ

ثالثًا: فيهِ الحثَّ علىٰ تأدية الحقوق وأنَّ الحقوق التي لم تؤدَّ فِي الدنيا ستؤدىٰ إلىٰ أصحابها يوم القيامة لا محالة وتأدية الحقوق والمظالم إلىٰ أهلها أمرها عظيم وتظافرت النصوص الشرعية في الحث عليها، فقد قال تبارك وتعالىٰ: {إنَّ الله يأمركُم أن تؤدُّوا الأمانات إلىٰ أهلها}.
قال الحافظ ابن كثير: "وهذا يَعُمُّ جميع الأمانات الْوَاجِبَةِ علىٰ الإنسان من حقوق اللَّهِ عزَّ وجلَّ علىٰ عبادهـ مِنَ الصلوات والزكوات وَالْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ وَالصِّيَامِ وغير ذلك مِمَّا هُوَ مؤتمن عليه لَا يَطَّلِعُ عليه الْعِبَادُ وَمِنْ حقوق الْعِبَادِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ كالودائع وغير ذَلِكَ مِمَّا يأتمنون بِهِ، وروىٰ الثوري بإسناد فيه انقطاع عن ابن عبَّاس قال في الآية: هي مبهمة للبر والفاجر، وفي الحديث: أدِّ الأمانة إلىٰ من ائتمنك ولا تخن من خانك".

رابِعًا: وفيهِ دليلٌ علىٰ حشر كل ما فِيهِ روح من دواب وحشرات يوم القيامة.
قال ابن عثيمين: وفي هذا الحديث دليلٌ علىٰ أن البهائم تُحشر يوم القيامة وتُحشر الدوابُّ وكل ما فيه روح يحشر يوم القيامة قال تعالىٰ: {وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيهِ إلا أمم أمثالكم} أمم كثيرة أمة الذر أمة الطيور أمة السباع أمة الحيّات وهكذا {إلَّا أمم أمثالكم ما فرطنا فِي الكتاب من شيء}
وكل شيء مكتوب حتىٰ أعمال البهائم والحشرات مكتوبةٌ في اللوح المحفوظ {ما فرطنا في الكتاب من شيء ثم إلىٰ ربِّهم يحشرون} وقال تعالىٰ: {وإذا العشار عطلت وإذا الوحوش حشرت}يُحشر يوم القيامة كلُّ شيء يقضي الله تعالىٰ بينهم بحكمه وعدله.

خامسًا: الجلحاء: هي الشاة الَّتِي لا قرن لها نقل ابن منظور عن الأزهري أنَّهُ قال: "الجلحاء مِنَ الشاة والبقر بمنزلة الجماء الَّتِي لَا قرن لها".
والقرناء: ظاهر معناها وأراد بهذا التشبيه -صلَّىٰ اللهُ عليهِ وسلَّم- أن القرناء إذا ناطحت الجلحاء آذتها وأنزلت بها الجراحات فيقتص الله من القرناء بأن يرد للجلحاء حقوقها.
وفِي الحديث عبرة {إنَّ فِي ذلك لعبرة لمن يخشىٰ} فعلىٰ المرء أن يتدارك ما بقي بأن يسعىٰ جاهدًا في تأدية حق الله وحقوق خلقهِ علىٰ أكمل وجه قبل {أن تقول نفسٌ يا حسرتا علىٰ ما فرطت في جنب الله وإن كنت لمن الساخرين}.