إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

تشنيف الأسماع إلى حقيقة التقليد من الاتباع

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • تشنيف الأسماع إلى حقيقة التقليد من الاتباع

    بسملة
    تشنيف الأسماع
    إلى حقيقة التقليد من الاتباع

    ------




    إنَّ الحمد لله، نحمده ونَسْتعينُه ونَسْتغفِرُه، ونعوذ باللهِ مِنْ شرورِ أَنْفُسِنا، ومِنْ سَيِّئات أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأَشْهَدُ أنَّ محمَّدًا عَبْدُه ورسولُه؛ أمَّا بعد:

    فإن مسألة التقليد والاتباع من المسائل الاصطلاحية التي اختلف فيها كثير ممن ينتسب إلى أهل السنة والجماعة فضلا عن غيرهم من أهل الأهواء. وأما ما كان غير ذلك فقد أجمعوا عليه، وعرَّف التقليد غير واحد منهم أنه لغةً مأخوذ من القلادة، أي ما جُعل في العنق. فيكون للإنسان والفرس والكلب والبُدنة التي تهدى ونحوها. قال الفرزدق:
    حلَفْتُ بربِّ مكَّةَ والمُصلَّى **** وأعناقِ الهَدِيِّ مُقلَّداتِ[1]



    ومن معانيه اللزوم؛ قال صلى الله عليه وسلم: « قَلِّدُوا الْخَيْلَ وَلَا تُقَلِّدُوهَا الْأَوْتَارَ»[2]. قال ابن الأثير رحمه الله : اجعلوا ذلك لازما لها في أعناقها لزوم القلائد للأعناق[3]. ومن معانيه التحمل؛ تقلَّد الأمر: أي احتمله؛ وكذلك تقلَّد السيف[4].
    والإقليد هو المفتاح. وفي حديث قتل ابن أبي الحُقَينِ: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها؛ هي جمع إقليد وهي المفاتيح. ابن الأعرابي: يقال للشيخ إذا افند : قد قُلِّد حبله فلا يُلتفتُ على رأيه.[5]
    إلاّ أن اللغويين اختلفوا على عكس التقليد في تعريف الاتباع؛ على معنيين. فقال الأولون : أنه الإدراك واللحوق. فيقال: اتبعت القوم ؛ إذا كانوا قد سبقوك فلحقتهم. وقال الآخرون غير ذلك؛ أن جعلوا الشيء تابعا لغيره؛ فيقال: اتبعتُ زيدا عمرا جعلته تابعا له[6]. وهذا المعنى الثاني هو ما اصطلح عليه الفقهاء فاستعملوه للترتيب والموالاة.
    أما اصطلاحا فقد تعددت عبارات الأصوليين في التعبير عن التقليد والاتباع. بل هناك من قال أنه لا فرق بينهما، وهو رأي الشاطبي رحمه الله، إذ قال: «المقلد ينظر أي مذهب أوفق لمقاصد الشرع فيتبعه»[7]. بل سمى نفسه مقلدا: «ليس إلينا معشر المقلدين، فحسبنا فهم أقوال العلماء، والفتوى بالمشهور منها»[8].
    وغير واحد مِن الفقهاء مَن وافق الشاطبي في هذا الباب. بل أن أكثرهم لا يفرق بين التقليد والاتباع. كأبي حامد الأسفراييني[9]؛ و أبي بكر الجرجاني[10]؛ وأبي المعالي الجويني صاحب كتاب التلخيص في أصول الفقه[11]. وقول الإمام الحافظ أبي سعيد الدارمي رحمه الله في رده على المريسي: «والاقتداء بالآثار تقليد، فإن كان لا يجوز في دعوى المريسي أن يقتدى الرجل بمن قبله من الفقهاء، فما موضع الاتباع الذي قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ﴾؛ وما يصنع بآثار الصحابة والتابعين بعدهم. بعد أن لا يسع الرجل استعمال شيءٍ منها إلاَ ما استنبطه بعقله في خلاف الأثر إذا بطلت الآثار وذهب الأخبار، وحرم طلب العلم على أهله. وكيف تسأل أيها المعارض بشراً عن التقليد، وهو لا يقلد دينه قائل القرآن ومُنزِله؛ ولا الرسول الذي جاء به»[12]. قال صاحب المراقي:
    علم دليله الذي تَأَصَّلا **** وهو التزام مذهب الغير بلا[13]



    وعلى طريق صاحب المراقي سارابن عرفة التونسي رحمه الله فقال: «اعتقاد جازم لقول غير المعصوم». إلاّ أن السنوسي رحمه الله قد اعترض على تعريفه[14] باعتراضين؛ أحدهما: أنه لا يخرج من التقليد عمل العامي بقول المفتي؛ لأنه إنما اعتقد وجزم بقول من ليس بمعصوم. [والخلاف في هذه المسألة قائم بين علماء الأصول]. أما الثاني أنه غير منعكس؛ لأنه يخرج منه الاعتقاد الجازم لقول المعصوم مثلاً :«إن الله موجود» ممَّا لا يصح الاستناد إليه إلى مجرد السمع.
    كما أن الواقف على تعريفات الأصوليين المتأخرين، يجد أن بعضهم سوى بين لفظتي الاتباع والتقليد في إطلاقهما على التقليد الجائز والمذموم معا. ولو كان لا يسميه اتباعًا لأطلق التقليد في الموضعين، ولكن لما أطلق لفظة الاتباع دل على أنه يُجيز إطلاقها في هذا الموضع. قال الألباني رحمه الله: «اتباعنا لقول الإمام بالتحريم في أمر ما؛ هو اتباع ليس تقليداً أو العكس نسميه تقليدا ليس اتباعا»[15]. إلاّ أنه أنكر رحمه الله التدين بالتقليد وجعله مذهبا ودينا لا يُحاذ عنه قيد شعرة، كما سيأتي بيانه.

    فإذا تبين هذا واتضح أن التقليد هو الاتباع؛ فاعلم أن جمعا كبيرا من أهل العلم خالفوهم. حين فرقوا بين التقليد والاتباع. وهو القول الوسط المبني على الدليل من الكتاب والسنة. كون قول المجتهد وفعله ليس حجة في نفسه، بل هو حجة له. إلا ما كان من قول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم أو صحبه الكرام. فلا يسمى ذلك تقليدا بل اتباعا. قال ابن عبد البر رحمه الله: «كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده. والتقليد في دين الله غير صحيح. وكل من أوجب عليك الدليل اتباع قوله فأنت متبعه؛ والاتباع في الدين مسوغ و التقليد ممنوع»[16].
    قال أبو عبد الله بن خويز منداد البصري المالكي[17] رحمه الله: «كل من اتبعت قوله من غير أن يجب عليك قوله لدليل يوجب ذلك فأنت مقلده»[18]. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :« أما التقليد المذموم فهو قبول قول الغير بلا حجة»[19]. أي بلا حجة توجب هذا القبول، وعلى هذا فكل ما أوجبت الحجة قبوله فليس تقليدا. وتعريف التقليد بما ذكره شيخ الإسلام تكاد تتفق عليه كلمة العلماء. وقد حكى ابن حزم رحمه الله الإجماع على تسمية ذلك تقليدا، فقال: «التقليد على الحقيقة إنما قبول ما قاله قائل دون النبي
    بغير برهان، فهذا هو الذي أجمعت الأمة على تسميته تقليدا، وقام البرهان على بطلانه»[20].
    و على الحد السابق، تبين أن التقليد والاتباع غير واحد والفرق بنهما جليّ بيّن. لا يحدث الخلط بينهما. ولكل منهما معنا يطلق عليه. والتقليد مذموم ليس بصحيح لما بينه وبين الاتباع الملازم لدليله التفصيلي بون. وقد عقد ابن عبد البر رحمه الله كتابا عنوانه : «فساد التقليد ونفيه؛ والفرق بين التقليد والاتباع».
    قال الألباني رحمه الله: «أما أن التقليد ليس بعلم فلأن الله تبارك وتعالى قد ذمه في غير ما آية في القرآن الكريم ولذلك تتابعت كلمات الأئمة المتمذهبين على النهي عنه وقد عقد إمام الأندلس ابن عبد البر في كتابه الجليل " جامع بيان العلم وفضله " بابا خاصا في تحقيق ذلك فقال ما ملخصه باب فساد التقليد ونفيه والفرق بين التقليد والاتباع. قد ذم الله تبارك وتعالى التقليد في غير موضع من كتابه، فقال:﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ، وروي عن حذيفة وغيره، قال: لم يعبدوهم من دون الله ولكن أحلّوا لهم وحرموا عليهم فاتبعوهم.
    وقال عدي بن حاتم: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنقي صليب فقال لي: يا عدي ألق هذا الوثن من عنقك. وانتهيت إليه وهو يقرأ "سورة براءة" حتى أتى على هذه الآية ﴿ اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ، قال: قلت: يا رسول الله إنا لا نتخذهم أربابا، قال:بلى، أليس يحلون لكم ما حرم عليكم فتحلونه، ويحرّمون عليكم ما أحل الله لكم فتحرمونه؟. فقلت: بلى، قال:تلك عبادتهم.
    وقال عز وجل ﴿وَكَذَٰلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ۞ قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَىٰ مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ ۖ ﴾فمنعهم الاقتداء بآبائهم من الاتباع فقالوا﴿إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ﴾.
    وقال الله عز وجل عائبا لأهل الكفر وذاما لهم ﴿مَا هَٰذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ ۞ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ﴾ومثل هذا في القرآن كثير من ذم تقليد الآباء والرؤساء، وقد احتج العلماء بهذه الآيات في إبطال التقليد ولم يمنعهم كفر أولئك من الاحتجاج بها، لأن التشبيه لم يقع من جهة كفر أحدهما وإيمان الآخر وإنما وقع التشبيه بين التقليدين بغير حجة للمقلَّد كما لو قلد رجل فكفر وقلّد آخر فأذنب وقلّد آخر في مسألة فأخطأ فيها، كان كل واحد ملوما على التقليد بغير حجة، لأن كل ذلك تقليد يشبه بعضه بعضا وإن اختلفت الآثام فيه، ثم روي عن ابن مسعود أنه كان يقول: «اغد عالما أو متعلما ولا تغدون إمعة فيما بين ذلك». ومن طريق أخرى أنه قال: «كنا ندعو الإمعة في الجاهلية الذي يدعى إلى الطعام فيذهب معه بآخر وهو فيكم اليوم المحقب دينه الرجال يعني المقلد».
    وعن ابن عباس قال: «ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئا برأيه ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه فيترك قوله ذلك ثم تمضي الأتباع».ثم قال ابن عبد البر: وثبت عن النبي أنه قال: تذهب العلماء ثم تتخذ الناس رؤوسا جهالا يُسألون فيفتون بغير علم فيضلون ويضلون. وهذا كله نفي للتقليد وإبطال له لمن فهمه وهُدي لرشده ولا خلاف بين أئمة الأمصار في فساد التقليد فأغنى ذلك عن الإكثار ونقله ابن القيم رحمه الله: لا يجوز الفتوى بالتقليد، لأنه ليس بعلم، والفتوى بغير علم حرام، ولا خلاف بين الناس أن التقليد ليس بعلم، وأن المقلد لا يطلق عليه اسم عالم، وكذلك قال العلامة السّيوطي أن المقلد لا يُسمّى عالما كما نقله أبو الحسن السندي الحنفي في أول حاشيته على ابن ماجه والشوكاني في " إرشاد الفحول " وقال إن التقليد جهل وليس بعلم ، وهذا يتفق مع ما جاء في كتب الحنفية أنه لا يجوز تولية الجاهل على القضاء وفسّر العلامة ابن الهمام الجاهل هنا بالمقلد. ومن هنا جاءت أقوال الأئمة المجتهدين، تتابعوا على النهي الأكيد عن التقليد لهم أو لغيرهم. فقال أبو حنيفة: « لا يحل لأحد أن يأخذ بقولنا ما لم يعلم من أين أخذناه» وفي رواية « حرام على من لم يعرف دليلي أن يُفتي بـكلامي، فإننا بشر نقول القول اليوم ونرجع عنه غدا».وقال مالك:« إنما أنا بشر أخطئ وأصيب فانظروا في رأيي فكل ما وافق الكتاب والسنة فخذوه؛ وكل ما لم يوافق الكتاب والسنة فاتركوه» وقال الشافعي:«أجمع المسلمون على أن من استبان له السّنة عن رسول الله
    لم يحل له أن يدعها لقول أحد». وقال:«كل مسألة صح فيها الخبر عن رسول الله عند نقله خلاف ما قلت فأنا راجع عنها في حياتي وبعد موتي»وقال: «كل ما قلت فكان عن النبي خلاف قولي مما يصح فحديث النبي أولى فلا تقلدوني» وقال الإمام أحمد :«لا تقلدني ولا تقلد مالكا ولا الشافعي ولا الأوزاعي ولا الثوري وخذ من حيث أخذوا». واشتهر عنهم أنهم قالوا: «إذا صحّ الحديث فهو مذهبي» إلى غير ذلك من الأقوال المأثورة عنهم. وقد ذكرت نبذة منها قليلة في مقدمة كتابي صفة صلاة النبي وفيما ذكرناه كفاية»[21].
    ثم قال رحمه الله في موضع آخر:« إذن لا نستطيع أن نقول: إن التقليد حرام، إلا إذا جُعل التقليد دينا، أما مطلق التقليد فلا يجوز تحريمه»[22]. وهذا تعبير دقيق جدا من الشيخ رحمه الله يدل على ثقب نظره؛ فالذي يَحرُم هو اتخاذ التقليد دينا لا سيما إذا علم المقلد الحق في غير ما قلده. أما أن الأصل على كل مسلم أن يكون متبعا لكتاب الله تعالى وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم على الحقيقة لا مجرد دعوى فارغة، بفهم سلف الأمة للأدلة الشرعية. قال الأوزاعي رحمه الله: «عليك بآثار من سلف وإن رفضك الناس، وإيّاك ورأي الرجال وإن زخرفوه لك بالقول، فإن الأمر ينجلي وأنت على طريق مستقيم»[23]. و هو بخلاف اتخاذ التقليد دينا.
    وقال الشيخ أبو عبد المعز محمد فركوس حفظه الله تعالى : «هذا، والعلماءُ متَّفقون على أنَّ المجتهد إذا غلب على ظنِّه الحكمُ بعد اجتهادِه لم يَجُزْ له تقليدُ غيرِه، أمَّا المسائلُ الشّرعيّةُ التي لم يحقِّقِ القولَ منها ولم يجتهد فالظّاهرُ من مذاهبِ أهلِ العلمِ عدمُ جوازِ تقليدِ غيرِه مع ضيقِ الوقتِ ولا مع سعته، لا فيما يخصّه ولا فيما يُفْتِي به؛ لأنّ التّقليدَ حكمٌ شرعيٌّ يفتقر إلى دليلٍ، والأصلُ عدمُه، ولا يلزم من جوازِه في حقِّ العامّيِّ العاجزِ عن التّوصُّلِ إلى تحصيلِ مطلوبٍ في الحكمِ جوازُ ذلكَ في حقِّ من له أهليّةُ التّوصُّلِ إلى الحكمِ وهو قادرٌ عليه، ووثوقُه به أتمّ ممَّا هو مقلّدٌ فيه، ولأنّه إذا فرضْنا جدلاً جوازَ تقليدِ غيرِه فإنّما ذلك بشرطِ أن لا يوجدَ منه اجتهادٌ في ذلك الحكمِ بنفسِه، فإنْ وُجِدَ منه اجتهادٌ تعيَّن ما صار إليه اجتهادُه وسقط التّقليدُ، كالماءِ مع التّيمُّمِ، إذ إنَّ ظنَّه أصلٌ وظنَّ غيرِه بدلٌ فلا يجوزُ المصيرُ إليه إلاَّ بدليلٍ، علمًا أنّه يجوزُ له أن ينقلَ للمستفتي مذهبَ الأئمّةِ إرشادًا إلى ذلك المذهبِ، ولا يُفْتِي هو بتقليدِ أحدٍ، كما يجوز له إذا تعذَّر عليه وجودُ دليلٍ في المسألةِ المبحوثِ عنها بعد بذْلِ الوُسْعِ واستفراغِ الطّاقةِ أن يُفْتِيَ بمذهبِ غيرِه اضطرارًا لا دينًا»[24].

    «وبهذا تعلم أنَّ المضطرَّ للتقليد الأعمى اضطرارًا حقيقيًّا بحيث يكون لا قدرةَ له ألبتَّةَ على غيره مع عدم التفريط لكونه لا قدرة له أصلًا على الفهم، أو له قدرةٌ على الفهم وقد عاقته عوائقُ قاهرةٌ عن التعلُّم، أو هو في أثناء التعلُّم، ولكنَّه يتعلُّم تدريجيًّا فهو معذورٌ في التقليد المذكور للضرورة؛ لأنه لا مندوحة له عنه، أمَّا القادر على التعلُّم المفرِّطُ فيه، والمقدِّم آراءَ الرجال على ما عَلِمَ مِن الوحي، فهذا الذي ليس بمعذورٍ»[25]. قال الشيخ ابن باز رحمه الله : «والمقصود من هذا كله أن المستفتي أو السامع ينظر ويتأمل ولا يعجل، وينظر حال المفتين وأحوالهم، وينظر ما هو أقرب إلى الخير من جهة ورعهم، ومن جهة تحريمهم الحق، ومن جهة سمعتهم الحسنة إلى غير ذلك»[26].
    قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله : «ولا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد؛ و الأمور المنصوصة في نصوص صحيحة من الكتاب والسنة لا يجوز الاجتهاد فيها لأحد حتى تُشترط فيها شروط الاجتهاد. بل ليس فيها إلا الاتباع»[27].
    أما العامي فله الأخذ بالتقليد ما لم يحسن فهم الدليل. قال تعالى :﴿ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾[28]. قال صاحب المراقي[29]:
    ولك أن تسأل للتثبت**** عن مأخذ المسؤول لا التعنت
    ثم عليه غـــــاية البيـــــــــان **** إن لــــم يـكـن عــــذر بالاكتنـان




    والمتأمل لما قد سبق؛ «يجد أن أهل الأهواء والبدع إنما استدلوا على موافقة أئمتهم والتعصب إليهم في كل قول وفعل. ثم تعدى ذلك إلى المفاخرة والتباهي بمن ينتسب إليه، والطعن والإزراء والتنفير عن الآخرين»[30]. بلا علمٍ ولا عدلٍ؛ حجتهم أن التقليد والاتباع واحدٌ. يتشرفون بتلقيب أنفسهم أنهم على الطريقة الفلانية للشيخ الفلاني. وهذا من تزيين الشيطان لهم تلك الأهواء ومن خذلان الله لهم ﴿ أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ ﴾[31].
    وما وصلوا إلى ما هم عليه إلاّ يوم أن أعرضوا عن الكتاب والسنة، حين تركوا الاجتهاد والاشتغال بالوحي ونبذوه وراء ظهورهم واستبدلوا به أقوال الرجال فلم تقم لهم أقوال الرجال مقام كلام الله. لأن أقوال الأئمة محدودة بزمنهم، وما ذلك القصور إلا لقصور حاملي الشريعة بالتقليد. بذلك خلقوا حواجز بين الأمة وبين نصوص الشريعة، وأصبح الاجتهاد في بعض الطوائف ممنوعا، بل خرج على الأمة من ينادي بلزوم التقليد وغلق باب الاجتهاد كما هو الحال عند الصوفية.
    ومن جملة القواعد المؤصلة عندهم؛ قاعدة إعتقد ولا تنتقد. فكان التقليد هو الاتباع بل عينه لا يخرج عنه مريده. لذا أُثر عنهم أن الاعتقاد ولاية والإعتراض جناية. وهذا هو المنهج الفكري للمتصوفة أن العقل لا يقبّح ولا يحسّن، وهو قاصر عن إدراك كل المدركات. وذلك لأن علوم الحقائق أمور خفية المدارك بعيدة الغور. ولكمال علاقة الاتباع، أوجب الشيخ على المريد أن « يترقى في محبة شيخه إلى حد أن يصير يتلذذ بكلام شيخه له كما يتلذذ بالجماع»[32].
    ولم يختلف الروافض الإمامية عن الصوفية في وجوب التقليد. معتمدين على حجية خبر الواحد؛ فلم يعملوا بقياس ولا اجتهاد بل الزموا عوامهم بتقليد أئمتهم ولا يخرجون عنهم. قال المرتضى الرافضي: « لا خلافَ بين الأمّة قديماً وحديثاً في وجوبِ رجوع العاميّ إلى المفتي. ومَن خالفَ في ذلك كان خارقاً للإجماع»[33]. بل جعلوا كلام أئمتهم دينا يُلزم العوام الأخذ به يَكفُر تاركه. قال الباقر: «نحن خزان علم الله، ونحن تراجمة أمر الله، نحن قوم معصومون أمر الله تعالى بطاعتنا ونهى عن معصيتنا »[34].

    فالناظر إلى ما تقدم، علم أن أغلب المقلدة إنما قلدوا أئمتهم في الأمور التي لا يسوغ لهم فيها الاجتهاد والاستنباط والاستقراء. ونقل الاتفاق أن المقلد لا علم له ولم يختلفوا في ذلك وأسموه مقلدا متبعا. أمّا وأن التقليد يكون في غير هذه المسائل، فهذا ما لم يجمع عليه واحد من أهل السنة بل الإمامية الرافضة. قال المجلسي الرافضي : «المتعبد على غير فقه كحمار الطاحونة يدور ولا يبرح»[35]. وقال آخر: «وإيّاكم والتّقليد، فإنّه مَن قلَّدَ في دينه هلكَ»[36].
    أما وأن التقليد للإمام المستوفي لشروط الاجتهاد في بعض من اجتهاداته البيّن خطؤها - وما من عالم وله زلة - خصوصا من ثبت بالدليل أن الحق مع غيره. فهو تارك لحبل الله متمسك بحبل إمامه؛ « فمن سلك هذا السبيل دحضت حجته، وظهر عليه نوع من التعصب بغير الحق، كما يفعل ذلك من يجمع الآثار ويتأولها في كثير من المواضع بتأويلات يَتبينُ فسادها، لتوافق القول الذي ينصره »[37].
    وهذا ما يراه البصير هذه الأيام للقواعد المستحدثة، التي شابه مقعدوها الإمامية والصوفية في غلوهم لأشياخهم. ومن جملة تلكم القواعد التي تلزم غيرهم باتباعهم تقليدا. قاعدة ردك لجرح العالم طعن له. والقدح في أخص أصحاب الشخص قدح فيه. وغيرها من القواعد التي
    أنشأوها خدمة لمخططهم الخبيث. لا الغاية منهم تقليدهم أو اتباعهم للعالم؛ بل إلزام غيرهم باتباع العالم وإن كان منظروها متخلفين عن إمامهم غير مستنين به. فكان فعلهم أقبح وأشنع من تقليد الصوفية لأشياخهم. والذي لا يراه العالم فضلا عن العامي العاقل. ولو أنهم بذلوا جهودهم لمعرفة الحق الراجح بالدليل من بين الأقوال والأدلة لكانوا أحق بها وأهلها.
    وخلاصة الحديث وختامه؛ أنه يجب على كل مسلم يخاف العرض على ربه يوم القيامة أن لا يحقب دينه الرجال، فلا يكون كالدمية التي يحركها المغرضون -الذين لا يخافون الله- يمنة ويسرة، ويملون عليه من القول القبيح مزينينه بالحسن والصحيح. ففارقٌ بين اتباع النص والدليل، وبين اتباع الرأي الذي هو عبارة عن سلسلة من النظر والتفكير والمماحكة بين الأدلة.
    فموارد الاتباع ليست موضعاً للاجتهاد المفضي إلى الظن بخلاف موارد التقليد. لهذا قال الشيخ أبو محمد المقدسي وبعض الشافعية: «ليس الأخذ بقوله عليه السلام تقليداً؛ لأن قوله حجة لما سبق وعرف في مواضعه، والتقليد أخذ السائل بقول من قلده بلا حجة ملزمة له يعرفها»[38].
    هذا والله تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
    وصلى الله
    وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
    أبو عبد الرحمن محمد صالحي
    -عفا الله عنه وغفر لوالديه-
    عين مران ؛ ليلة الثلاثاء ٢٠ من رمضان ١٤٤١ هجرية

    الموافق لــ : ١١ من مايو ٢٠٢٠ نصراني

    [1] - تاج العروس (٢٠٥/ ٥).
    [2] - أبو داود (٢/٣٢۹ ).
    [3] - النهاية (٤/۹۹).
    [4] - لسان العرب (٣/٣٦٦).
    [5] - لسان العرب (٣/٤٤۹).
    [6] - تهذيب اللغة ( ص ٢٧١ ).
    [7] - الموافقات (٢٨٠/ ٥).
    [8] - فتاوى الإمام الشاطبي (١١۹).
    [9] - قال رحمه الله : «قبول قول القائل بلا حجة». البحر المحيط(٦/٢٠٧).
    [10] - قال رحمه الله: التقليد: «عبارة عن اتباع الإنسان غيره فيما يقول أو يفعل، معتقدا للحقيقة فيه، من غير نظر وتأمل في الدليل، كأن هذا المتبع جعل قول الغير أو فعله قلادة في عنقه». التعريفات (١/٦٤).
    [11] - قال رحمه الله : «غير أَن الأولى فِي حد التَّقْلِيد - عندنَا - أَن نقُول: التَّقْلِيد هُوَ اتِّبَاع من لم يقم باتباعه حجَّة، وَلم يسْتَند إِلَى علم». التلخيص (٣/٤٢٥).
    [12] - نقض الدَّارمي (ص ١٦٨).
    [13] - مراقي السعود (ص٤٣).
    [14] - عمدة أهل التوفيق للسنوسي (ص١١).
    [15] - مسألة التقليد . شريط رقم (١/٣٣١) من سلسلة الهدى والنور.
    [16] - جامع بيان العلم (٢/١١٧).
    [17] - قال القاضي عياض رحمه الله، في كتابه ترتيب المدارك وتقريب المسالك لمعرفة أعلام مذهب مالك رحمه الله (٢/٢١٧) : «وقد تكلم فيه أبو الوليد الباجي. قال: إني لم أسمع له في علماء العراق بذكر. وكان يجانب الكلام جملة، وينافر أهله، حتى تعدى ذلك إلى منافرته المتكلمين من أهل السنة. وحكم على الكل بأنهم من أهل الأهواء، الذين قال مالك في مناكحتهم وشهادتهم وإمامتهم وعيادتهم وجنائزهم ما قال. رحمه الله».
    [18] - الإحكام (٢/٨٣٦).
    [19] - الدرة البهية في التقليد والمذهبية (ص ٨).
    [20] - الإحكام (٢/٨٣٦).
    [21] - بيان أن التقليد ليس علما والدليل عليه. شريط مفرغ.
    [22] - المسائل العلمية والفتاوى الشرعية ( ص ٤٣).
    [23] - الشريعة للآجري (ص ١٢٤).
    [24] - في آداب المستفتي وجوانب تعامله بالفتوى. أنظر موقع الشيخ حفظه الله تعالى.
    [25] - أضواء البيان للشنقيطي رحمه الله (٥٥٣/ ٧).
    [26] - واجب الإنسان في المسائل الخلافية. أنظر موقع الشيخ رحمه الله.
    [27] - أضواء البيان (٧/٤٦٠).
    [28] - [النحل ٤٣].
    [29] - ( ص ٤٥٦).
    [30] - الدر النضيد للشوكاني رحمه الله ( ص ٢٨-٢۹).
    [31] - [ فاطر ٨].
    [32] - إسلام المتصوفة لأبي عبد الله محمد بن الطيب الفاسي السيوطي(ص ١٣٥).
    [33] - الذّريعة (٢/٧٦٨).
    [34] -أصول الكافي كتاب الحجة (ص ١١٧).
    [35] - بحار الأنوار ( ١/٢٠٨).
    [36] - اعتقادات الإمامية ( ص ٧٢).
    [37] - الدرة البهية في التقليد والمذهبية (ص ٤٤).
    [38] - صفة المفتي والمستفتي (ص ٥٤).


    التعديل الأخير تم بواسطة أبو عبد الرحمن محمد الجزائري; الساعة 2020-05-18, 05:01 AM.
الاعضاء يشاهدون الموضوع حاليا: (0 اعضاء و 1 زوار)
يعمل...
X