المدخَلُ المُبْهِج... لدِرَاسَةِ المنهَج
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
بِسمِ الله الرَّحمَنِ الرَّحيم
إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيِّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، و بعد:
فإن العلم بأصول أهل السنة والجماعة وميزاتهم التي تميَّزوا بها عن أهل البدع والضلال، ليعتبر من أشرف العلوم، وأجلها، كيف لا؛ وبه تعرف أصول وقواعد هذا المنهج السلفي الذي هو الإسلام بالمعنى والمفهوم الصحيح، الذي تمثله الفرقة الناجية والطائفة المنصورة أهل السنة والجماعة.
ومن أحاط علمًا بأصول ومميزات أهل السنة والجماعة السلفيين يكون قد عرف سبيل المؤمنين مفصلة، ومن كان هذا حاله مع التزامه بهذه الأصول وتمسكه بها وبعده عما يخالفها، فهو من أفضل الناس وخيارهم .
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في كتابه " الفوائد" ( ص:107-110): « فالعالمون بالله وكتابه ودينه عرفوا سبيل المؤمنين معرفة تفصيلية، وسبيل المجرمين معرفة تفصيلية، فاستبانت لهم السبيلان كما يستبين للسالك الطريق الموصل إلى مقصوده والطريق الموصل إلى الهلكة، فهؤلاء أعلم الخلق وأنفعهم للناس وأنصحهم لهم، وهم الأدلاء الهداة »[ من مقدمة كتابي " أصول و مُميِّزَات أهل السنة والجماعة المستخرجة من كتب العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى"] .
و سعيًا منِّي-بجهد المقل- في بيان سبيل المؤمنين - و بخاصة في المسائل المنهجية، التي كثُر فيها الخلط و الخبط و التَّخبُّط، -سيما في هذ الأزمنة المتأخرة- كتبتُ هذه المقالة المُختصرة التي هي أشبه ما تكون بالمتون العلمية، جمعت فيها جملةً طيِّبةً من الأصول و القواعد و الضَّوابط السَّلفيَّة المتعلِّقة بالمسائل المنهجية، استخرجتها من كتب السُّنَّة بعد أن كانت مُفرَّقةً في ثناياها، لتكون كالمدخل لدراسة هذا العلم النافع، الذي تشتدُّ الحاجة إلى دراسته، و فهمه و تعلُّمه؛ يومًا بعد يوم .
فأقول مستعينًا بالله، مُفوِّضًا أمري إلى الله:
اعلم رحمك الله: أنَّنا قومٌ أعزَّنا الله بالإسلام، فمهما ابتغينا الهُدى في غيره أذلَّنا الله، وأنَّ الإسلام هو السنة، والسنة هي الإسلام ولا يقوم أحدهما إلا بالآخر، و أنَّ السُّنةَ تُفسِّر القرآن وهي دلائل القرآن، و أنَّه ليس في السنة قياس، ولا تضرب لها الأمثال، ولا تدرك بالعقول، ولا الأهواء، إنما هو الإتباع وترك الهوى .
و اعلم أرشدك الله لطاعته، أنَّ أصل أهل السنَّة: التَّمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم والاقتداء بهم وترك البدع، وترك الخصومات في الدين . [ "أصول السنة" للإمام أحمد رحمه الله ] .
و طريقتهم: اتِّباع آثار رسول الله صلى الله عليه و سلم باطنًا وظاهرًا واتِّباع سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار واتِّباع وصية رسول الله حيث قال : « عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وَسُنَّةِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ مِنْ بَعْدِي تَمَسَّكُوا بِهَا وَعَضُّوا عَلَيْهَا بِالنَّوَاجِذِ وَإِيَّاكُمْ وَمُحْدَثَاتِ الْأُمُورِ؛ فَإِنَّ كُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ »[ السلسلة الصحيحة برقم (2735) ] .
و يعلمون أن أصدق الكلام كلام الله، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه و سلم، ويؤثرون كلام الله على كلام غيره من كلام أصناف الناس، ويقدِّمون هدى محمد على هدى كلِّ أحد، وبهذا سمُّوا أهل الكتاب والسنة.
وسمُّوا أهل الجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي الاجتماع وضدها الفرقة » [ " الواسطية " لشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله ] .
* و لأهل السنة والجماعة عددٌ من الألقاب الشرعيَّة التي اشتهروا بها و صارت شعارًا لهم، كأهل الحديث، و أهل الأثر، و الغرباء، و الطائفة المنصورة، و الفرقة الناجية، و كلها أوصاف لموصوفٍ واحد، و من أشهر ألقابهم: « السلفيون »، نسبة إلى السلف الصالح وهم القرون الثلاثة المفضلة الذين شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية في قوله:« خَيْرُ النَّاسُ قَرْنِي ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ ثُمَّ الذِينَ يَلُونَهُمْ »[ أخرجه البخاري (6695)، ومسلم (2535) من حديث عمران بن حصين رضي الله عنه ].
و تسمَّى أهل السنة أصحاب الإسلام الصَّفيِّ النَّقي، بهذه الأسماء، و تلقَّبوا بهذه الألقاب ليتميَّزوا بها عن أهل الأهواء و البدع، و ذلك بعد حصول الافتراق في الأمة و صارت كلُّ فرقة تدَّعي أنها تمثل جماعة أهل الحق، و أنها على الكتاب و السنة.
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله: «إنها ألقابٌ: منها ما هو ثابتٌ بالسنَّة الصحيحة، ومنها ما لم يَبْرُزْ إلَّا في مواجهة مناهجِ أهلِ الأهواء والفِرَق الضالَّة لردِّ بدعتهم والتمييزِ عنهم وإبعاد الخُلطةِ بهم ولمنابذتهم، فلمَّا ظهرت البدعة تميَّزوا بالسنَّة، ولـمَّا حُكِّم الرأيُ تميَّزوا بالحديث والأثر، ولـمَّا فَشَتِ البدعُ والأهواء في الخُلُوف تميَّزوا بهديِ السلف، و هكذا..، و من الملاحظ أنه لو كانت الأمة في قالب الإسلام الصحيح خالية من البدع و الأهواء كما كان الصدر الأول، و مقدمة السلف الصالح لغابت هذه الألقاب المميزة لعدم وجود المناهض لها»[ " حكم الانتماء " (ص42)] .
* و الإسلامَ الذي يُمثِّله أهلُ السُّنَّة والجماعة ـ أتباعُ السلف الصالح ـ إنَّما هو الإسلام المُصفَّى مِنْ رواسب العقائد الجاهليَّة القديمة، والمُبرَّأُ مِنَ الآراء الخاطئة المُخالِفةِ للكتاب والسُّنَّة، والمُجرَّدُ مِنْ مَوروثاتِ مَناهجِ الفِرَق الضَّالَّة مِنْ أهل القِبلة كالشِّيعة الروافض والمُرجِئةِ والخوارجِ والصُّوفيَّةِ والجهميَّةِ والمُعتزِلةِ والأشاعرة، والخالي مِنَ المناهج الدَّعْوية المُنحرِفة كالتبليغ والإخوان وغيرِهما مِنَ الحركات التنظيميَّة الدَّعْويَّة أو الحركات الثوريَّة الجهاديَّة ـ زعموا ـ كالدواعش والقاعدة، أو مناهجِ الاتِّجاهات العقلانيَّة والفكريَّة الحديثة، المُنتسِبين إلى الإسلام.
فمذهبُ أهلِ السُّنَّة ـ أتباعِ السلف ـ هو الوحيدُ الذي يَصْدُق عليه الإسلامُ الصحيح في صفائه وتجريدِه وخُلُوِّه مِنْ رواسب الضلال ومناهجِ الانحراف؛ ذلك لأنَّه لا يَدخله الاختلافُ في وحدةِ أصوله العَقَديَّة والمَعارِفيَّة، ولا النزاعُ في وحدةِ مَبادِئه ومُنطَلَقاتِه العامَّة، ولا الشِّقَاقُ في مَنهجه الدَّعْويِّ وخصائصِه المُتميِّزة، سواءٌ مِنْ حيث الشمولُ والتوسُّطُ ما بين إفراط المناهج الأخرى وتفريطِها، والاعتدالُ بين الغُلُوِّ والتقصير؛ أو مِنْ حيث خُلُوُّ العقيدة والمنهج مِنَ التناقض والاضطراب الذي تنهجه الفِرَقُ الأُخرى في العلم والعمل؛ أو مِنْ حيث محاربتُه للحوادث والبِدَع المُحدَثة في الدِّين وتحذيرُه منها ومِنْ أصحابها، أو مِنْ حيث نَبذُه للتعصُّب المذهبيِّ والجمودِ الفكريِّ بغلقِ باب الاجتهاد على المؤهَّلين، أو بتمييعِه وتعميمه بجعله مفتوحًا ولو على غيرِ المؤهَّلين له أو فيما لا مَجالَ للاجتهاد فيه، أو مِنْ حيث ثباتُ أهلِ الحقِّ عليه وعدمُ اختلافهم في شيءٍ مِنْ أصولِ دِينهم، وإِنِ اختلفوا في فُروع الشريعة بناءً على ما أدَّى إليه اجتهادُهم في مسائل الفقه[ " تسليط الأضواء " لشيخنا محمد علي فركوس حفظه الله] .
* فالسلفية هي الإسلام بمعناه الصحيح، الذي جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، و أخذه عنه الصحابة الكرام رضي الله تعالى عنهم، و إذا كانت كذلك-و هي كذلك- فالانتساب إليها مشروع لا يُنكر على من فعله إذا كان انتسابه إليها صحيحًا، بل يجب قبول ذلك منه بالاتفاق فإنَّ مذهب السَّلف لا يكون إلَّا حقًّا [قاله شيخ الإسلام ابن تيمية كما في " الفتاوى " (4/149)] .
* و لا ينتسب أهل السُّنة إلى مقالة معيَّنة، و لا إلى شخص غير الرسول صلى الله عليه وسلم و سُنَّته، و لا ينتسبون إلى منهجٍ إلا لمنهج السلف الصالح الذين هم الصحابة والتابعون وتابعوهم بإحسان، سئل الإمام مالك –رحمه الله-: « مَن أهل السنَّة؟» قال: «أهل السنَّة الذين ليس لهم لقبٌ يُعرَفون به، لا جهميٌّ ولا قدريٌّ ولا رافضيٌّ» [ "الاعتصام " للشاطبي1/58)].
والواجب على المسلم الحذر من طريقة الخلف البدعية، و البعد عنها، و اتباع طريقة السَّلف المرضية فهي الأسلم و الأعلم و الأحكم، و الفرق بين الطريقتين كالفرق بين الشريعة الإسلامية الرفيعة، و بين القوانين الوضعية الوضيعة .
* و ليس للسلفية مُؤسِّس من البشر لأنها دين الله الذي أرسل به رسوله و أنزل به كتابه، بخلاف غيرها من الدعوات فكلُّها تأسَّست بعد أن لم تكن، و أئمة الدعوة السلفية و أعلامها كالإمام أحمد و ابن تيمية و محمد بن عبد الوهاب، و غيرهم، مجدِّدون للسَّلفية و ليسوا لها بمؤسِّسين .
* و عمدة أهل السنة في باب التلقي و الاستدلال، كتاب الله تعالى، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما أجمع عليه السلف الصالح، وهم يزِنون بهذه الأصول الثلاثة جميع ما عليه الناس من أقوالٍ وأعمالٍ باطنةٍ أو ظاهرة مما له تعلُّقٌ بالدين [ " الواسطية " لشيخ الإسلام].
* يحتجُّ أهل السُّنَّة بالكتاب والسنة في أبواب الدين كلِّها من غير تفريق بينهما في ذلك، فالكل عندهم وحيٌّ يوحى، و الكل عندهم حجَّة ملزمة، كما لا يُفرِّقون بين متواتر السنة و آحادها في الاستدلال على مسائل الدين كلِّها، سواء منها ما تعلَّق بالعقائد أو الأحكام، خلافًا لأهل البدع و الأهواء الذين أَنِفُوا الأخذ بأخبار الآحاد في العقائد، بدعوى أنها لا تفيد إلا مجرَّد الظن، والعقائد إنما تبنى على اليقينيَّات! و بذلك ردُّوا كثيرًا مما ثبت في السنة من عقائد الإيمان .
* يعتمدون على ما ثبت في السنة من الأحاديث دون ما لم يثبت من الروايات الضعيفة و الموضوعة، و قاعدتهم في ذلك: استدل ثم اعتقد،-و ليس العكس- و ثبِّت العرش ثمَّ انقش، ثمَّ ليس الشأن عندهم في أن تستدل، و إنما الشَّأن في أن يكون دليلُك صحيحًا و استدلالك صوابًا موافقًا لفهم السلف .
* يُعظِّمون النصوص الشرعية، و يستسلمون لها و ينقادون لما دلت عليه، و يقفون عندها و لا يتجاوزونها، و لا يتعمَّدون مُخالفتها، و لا يُعارضونها برأيٍ و لا بعقلٍ، و لا بقول عالمٍ و لا باجتهاد إمام، و يُقدِّمونها على قول كلِّ أحدٍ كائنًا من كان، و أجمعوا على أنه من استبانت له السنة لم يكن له أن يدعها لقول أحد، فهم يدورون مع الحقِّ حيث دار و يرضون به لهم و عليهم، و قاعِدتهم: إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي، و هجِّيراهم: التسليم للسُّنن، لا تُعارض برأي، ولا تُدافع بقياس، فالحجة عندهم في الأدلة و الآثار، و أقوال العلماء: يُحتجُّ لها و لا يُحتجُّ بها، و من هنا ترى أئمة السنة ينهون عن تقليدهم و يوصون أتباعهم باتِّباع الكتاب و السنة و ترك أقوالهم المخالفة لهما .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله:«فإن أهل الحق والسنة لا يكون متبوعهم إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، الذي لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحيٌ يوحى، فهو الذي يجب تصديقه في كل ما أخبر وطاعته في كل ما أمر، وليست هذه المنزلة لغيره من الأئمة، بل كلُّ أحدٍ من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -»[ " مجموع الفتاوى "(3/346)] .
* يُقدِّمون الشرع على العقل مع نفي مناقضة العقل الصريح للنقل الصحيح، فالأصل عندهم هو الكتاب والسنة، فهما أساس العلم والدِّين، ومن قواعدهم في هذا الباب:« إذا ورد النَّقل سلَّم العقل» وذلك خلافاً لأهل الأهواء والبدع الذين جعلوا عقولهم حاكمة على الشرع، جريًا على قاعدتهم الفاسدة:« إذا ورد النقل حكم العقل» .
* يقبلون الحقَّ من كلِّ من جاء به و أورده عليهم، فهو غايتهم أينما وجدوه أخذوه، و هم أسعد الناس به، لكنهم لا يلتمسونه و لا يطلبونه ابتداءً إلا من أهل الحق، و قاعدتهم في ذلك: « إنَّ هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم» ، و يردُّون الباطل و الخطأ على كلِّ من قال به، و يرفضونه و لا يقبلونه .
* يأخذون بظواهر النصوص الشرعية، من غير تأويل، ما لم يكن ثمَّة موجب لذلك، مع مُحاولة الجمع بين ما ظاهره التعارض من النصوص ما أمكن من غير تكلُّف، و إلا فالترجيح بأحد المرجحات الشرعية، مع نفي التعارض بين النصوص الشرعية في نفس الأمر .
* يأخذون بالنصوص المحكمة، ويبنون عليها دينهم وعقائدهم، و يؤمنون بالنصوص المتشابهة ويردُّونها إلى المحكمات فيفسرونها بها على طريقة الراسخين في العلم، لِتتَّفِق دلالتها مع دلالة النصوص المحكمة، و يزول ما يتبادر إلى الأذهان من التعارض؛ لأنَّهم يؤمنون بأنَّ الكل من عند الله، وما كان من عند الله فلا تناقض فيه ولا تعارض ولا اختلاف .
* يتقيَّدون بفهم السلف الصالح للنصوص الشرعية، و يُقدِّمون فهمهم للأدلة على فهمهم و على أفهام غيرهم، و الفرق عندهم بين فهم السلف وبين فهم غيرهم ممن جاء بعدهم للنصوص الشرعية: كالفرق بين السلف وبين من بعدهم في الفضل، و يقولون رأيهم لنا خيرٌ من رأينا لأنفسنا، و إذا حصل خلافٌ بين السلف في مسألة ما، على قولين أو أكثر، فإنهم يردون نزاعهم إلى الكتاب والسنة- مع اعتقادهم أن الحق لا يخرج عنهم- فيُرجِّحون في ضوء الأدلة الشرعية، و في ضوء منهج السلف ما يرونه صواباً، ولا يأتون بآراء مُحدثة، و لا يُحدِثون أقوال جديدة، لأن ذلك يؤدي إلى الفرقة والخلاف، والخروج عن فهم السلف .
* لا يقولون بقول لم يُسبقوا إليه و ليس لهم فيه سلف، و يقولون: إيَّاك أن تتكلَّم في مسألةٍ ليس لك فيها إمام : و إذا استطعت ألَّا تحكَّ رأسك إلَّا بأثر فافعل، فشأنهم الاتِّباع لا الابتداع، و الاقتداء لا الابتداء .
* شِعارُهم: قِفْ حَيْثُ وَقَفَ القوم، فَإِنَّهُم عَنْ عِلْمٍ وَقَفوا، و بِبَصرٍ نافذٍ كفُّوا، وهُم عَلَى كَشْفِها كانوا أقْوَى، وبالفضْلِ لَو كان فيها أَحْرى، فلئِن قُلتم: حَدَثَ بَعدَهُم؛ فما أَحْدَثهُ إِلا مَنْ خالفَ هَدْيَهُم، ورَغِبَ عَنْ سُنتِهم، وَلَقَدْ وصفوا منه ما يشفي، وتَكلَّموا منهُ بما يَكْفي، فما فوقهُم مُحَسر وما دُونهُم مُقصر، لقد قصرَ عَنْهُم قَومٌ فَجفَوْا وتجَاوزهُم آخرون فَغلَوْا، وَإنهم فيما بين ذلك لَعَلى هُدى مُستقَيم [ " لمعة الاعتقاد " عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله ] .
* وعلماء السلف من السابقين ومن بعدهم من التابعين أهل الخير والأثر وأهل الفقه والنظر لا يذكرون إلا بالجميل ومن ذكرهم بسوء فهو على غير السبيل، فهم أئمة الهُدى، و مصابيح الدُّجى الذين ينفون عن كتاب الله تعالى تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، من استخفَّ بهم ذهبت آخرته .
لكنهم لا يعتقدون فيهم العصمة، و لا يقلِّدونهم في خطأ، و لا يتعصَّبون لهم في باطل، إذ الحق عندهم أكبر من الرجال و أحب إليهم منهم .
* يَعرفُون الحق بدلائله لا بقائله، و يعرفون الرجال بالحق ولا يعرفون الحق بالرجال، و يتحاكمون إلى الكتاب و السنة و يرُدُّون ما تنازع فيه الناس إليهما، و ينتهجون نهج الوسطية و الاعتدال بمفهومهما الشرعي الصحيح، في شئونهم كلِّها من غير غلوٍّ و لا تمييع، و من غير إفراطٍ و لا تفريط، فهم وسطٌ بين الفرق كوسطية الأمة الإسلامية بين المِلل .
* و يلتزمون بالإسلام كلِّه، و بحاكمية الله تعالى في جميع مسائل الدين أصولًا وفروعًا، بخلاف أهل التحزب والبدع الذين هم من أشدِّ الناس مناداة بالحاكمية في الظاهر، لكنهم لا يلتزمون هذه الحاكمية في كثير من جوانب الدين، و يتحزَّبون على جوانب منه و يهملون أخرى، و يأخذون ما لهم، و يدعون ما عليهم.
* و الولاء والبراء من أصول أهل السنة، يوالون المؤمنين، و يبغضون الكافرين و يتبرءون منهم ومن عقائدهم الفاسدة، و ليست كلُّ معاملةٍ مع الكفار تعدُّ من الولاء لهم، و ليست كلُّ موالاة للكفار مُكفِّرة، و من منطلق هذا الأصل يُعاملون أهل القبلة ولاءً و براءً كلٌّ بحسبه، إذ هم مُتفاوتون في قربهم و بعدهم عن السنة .
* و لا يُعقد الولاء و البراء عند أهل السنة إلا من أجل الله ودينه و رسوله، و على عقيدة و منهج السلف، و هو الولاء و البراء الشرعي الصحيح، و متى ما عُقد الولاء و البراء على شخصٍ، أو حزبٍ، أو فكرة باطلة، أو طائفة غير طائفة أهل الحق، أو على خطأ، أو نحو ذلك، لم يكن شرعيًّا بل يكون -و الحالة هذه- حزبيَّةً مقيتة، و كذا من عكَسَ الأمر فصار يوالي من يستحقُّ العداء، و يُعادي من يستحق الولاء، أو جعل يوالي جميع الناس المنحرفين منهم و المستقيمين من غير تفريقٍ بينهم، فإنَّ هذا مناقضٌ لأصل الولاء و البراء .
* و التزام منهج الأنبياء في الدعوة إلى الله تعالى، هو سبيل أهل السنة، و إصلاح الجانب العقائدي و تصحيح العبادات من أولويات أهل السنة، و البدء بما بدأ به الأنبياء، من نشر عقيدة التوحيد و تعليمها و الدعوة إليها، و التحذير من الشرك و وسائله و مظاهره هو أساس دعوتهم و رأس أمرها، ثمَّ التدرُّج بتقديم الأهم فالمهم على ما دونه، مع مراعاة أصناف المدعوين و مراتبهم، و اعتبار الفوارق التي بينهم، و دعوة كلِّ صنفٍ من الناس بالأسلوب الذي يصلح له، و كلُّ دعوةٍ لا تقوم على هذا الأساس و لا تسلك سبيل الأنبياء في الدعوة إلى الله فمصيرها إلى الفشل .
* و الدعوة إلى الله تعالى هي أشرف الوظائف إذ هي وظيفة الرسل، و هم القُدوة في ذلك، قال تعالى: {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ}[الأنبياء: 73]، و الدُّعاة إلى الله على بصيرةٍ الذين سلكوا سبيل الأنبياء و الرُّسل هم أحسن الناس قولًا و عملًا، و هم خير الناس و أنفعُ النَّاس للناس، قال تعالى: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } [ فصلت : 33 ] .
* و الدعوة إلى الله تعالى قائمةٌ على العلم، فالعلم فيها مشترط و السبيل فيها معيَّن، قال تعالى: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي } [يوسف:108].
* و من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئًا، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئًا، و كذلك من سنَّ في الإسلام سنة حسنةً، و من سنَّ في الإسلام سنَّةً سيِّئة .
* و أساليب الدعوة توقيفية عند أهل السنة، لا يحل لأحد أن يشرع فيها ما لم يأذن به الله، فاحذر طريقة القُصَّاص و أصحاب التمثيليات و الأناشيد، و من طريقة السياسيين الذين يلهثون وراء الكراسي السائرين على قاعدة الغاية تُبرِّر الوسيلة، و في الوسائل الشرعية غُنيةٌ عن الوسائل البدعية المحدثة .
* و دعوة أهل السنة و الجماعة تقوم على الأساليب الشرعية، متمثِّلةً قوله تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، و الأصل في الدعوة الرِّفق و اللِّين فإن الرِّفق لا يكون في شيءٍ إلا زانه و لا يُنزع من شيءٍ إلا شانه، من غير إغفالٍ لأسلوب الشِّدَّة حيث تقتضيه الحكمة .
فإنَّ الحكمة قد تقتضي تغيير بعض المنكرات، و علاج بعض المخالفات بشيءٍ من الشِّدَّةِ ، فلا بأس باستعمالها بقدرها، إذ لكلِّ مقامٍ مقال ،و شواهد هذا في السنة كثيرة .
* و دعوة أهل السنة لها مقاصد شرعية عظيمة من أهمها الرجوع بالأمة إلى دين الله الحق المتمثل في كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما كان عليه السلف الصالح، و الاعتصام بحبل الله، و جمع كلمة المسلمين على ذلك .
* و الاجتماع الذي يدعوا إليه أهل السنة هو الاجتماع الذي يقوم على التصفية و التربية، و يكون بالحق و على الحق و يقود إلى الحق، تحت راية السنة و منهج السلف، و هذا هو الاجتماع المطلوب الذي ندب إليه الشرع، و ليس الذي يقوم على مثل قاعدة « نتعاون في ما اتفقنا عليه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه»، أو على غيرها من شعارات التجميع و التلفيق، التي تُلغى فيها الفوارق العقدية و المنهجية، باسم جمع الكلمة، و رأب الصدع، و توحيد الصف، فإن مثل هذا الاجتماع لا خير فيه، و لا فائدة تُرجى منه .
« وعليه، فإنَّ كُلَّ دعوةٍ إلى التَّضامن بين أفراد الأُمَّة، إذا لم ترتكز على التَّوحيد والسُّنَّة ـ إخلاصًا ومتابعةً ـ ولم يَسِرْ أصحابُها على المنهج السَّويِّ فهي دعوةٌ مَصِيرُها الفشلُ والتَّلاشي، وهي آيلةٌ إلى الانهيار والسُّقوط لا مَحالةَ؛ إذ لا تقوم وحدةُ المسلمين وصفوفِهم تحت شعاراتٍ غيرِ شرعيَّةٍ أو جوفاءَ، أو دَعَواتٍ مُخالِفةٍ للتَّوحيد مُناهِضةٍ للسُّنَّة، أو مُسايِرةٍ لأدران الوثنيَّة والبِدَع والخرافات، أو قائمةٍ على أوضار الجهل وسنن الجاهليَّة» [ " تبيين الحقائق للسالك لِتَوقِّي طُرُق الغواية وأسبابِ المهالك" لشيخنا محمد علي فركوس حفظه الله].
* و من أصول أهل السنة: اتِّباع السنة و الجماعة، و اجتناب الشذوذ و الخلاف و الفرقة، و الجماعة -عندهم- هي الحق و لو كنت وحدك، وحيث جاء الأمر بلزوم الجماعة، فإن المراد به لزوم الحق واتِّباعه، وإن كان المتمسك به قليلاً والمخالف له كثيرًا؛ فالعبرة بالحقِّ و الدَّليل لا بالكثرة، و لا بقول المتخصِّص أو الكبير أو الأعلم، فالبركة مع الأكابر، و الحق مع من جاء به، و الشذوذ: هو مخالفة الحق والأدلة، لا مخالفة الأكثرية من الناس، فعليك بطريق الهدى و لا تستوحش من قلة السالكين، و إيَّاك و طريق الضلالة و لا تغترَّ بكثرة الهالكين، فأهل السنة هم الأقلون فيما مضى و هم الأقلون فيما بقي، الذين لم يذهبوا مع أهل الإتراف في إترافهم، و لا مع أهل البدع في بدعهم، و صبروا على سنة نبيهم حتى لقوا ربهم، و قد بدأ الإسلام غريبًا و سيعود غريبًا كما بدأ، فوطِّنوا أنفسكم .
* و منهج أهل السنة من حيث هو منهجٌ، يُمثِّلُ الإسلام الصحيح الذي كان عليه النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، و هو منهجٌ معصوم؛ لأنه دين الله الذي شرعه لعباده على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس كذلك الشأن في أتباعه الملتزمين به، فهم ليسوا بمعصومين كعصمة المنهج الذي ينتمون إليه، بل يخطئون ويصيبون، فإذا أخطأ الواحد منهم ولو كان من كُبرائهم، فلا يُنسب خطؤه إلى منهج أهل السنة، بل هو قاصرٌ على صاحبه لا يتعداه، لأن منهج أهل السنة لا يتحمل أخطاء أتباعه الغير معصومين .
* و النصيحة لعموم المسلمين أفرادًا و جماعات، بالأساليب الحسنة، كلٌّ بحسبه، من صميم منهج أهل السنة، ويتأكد استعمال هذه الأساليب في النصيحة مع العلماء و ذوي الهيئات، و كذا ولاة الأمور، فيُنصح لهم بالطريقة التي تليق بمقامهم .
* يقوم أهل السنة بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على ما توجبه الشريعة الإسلامية بالطرق الشرعية، و المراتب المرعية، و الشروط الضرورية، مع مراعاة القواعد العلمية و الضوابط السُّنِّية .
* و الرَّدُّ على المخالف من أصول أهل السنة، يُبيِّنون أخطاء المخطئين من الموافقين و المخالفين، و يردون على مخالفاتهم من غير ظلمٍ و لا عدوان، بل بعدلٍ و إنصاف، كلٌّ بما يليق به، حمايةً لدين الله وذبًّا عن شريعته، و لا يرون ذلك من الغيبة المحرمة بل يعدُّونه من الجهاد في سبيل الله و ألَّفوا في ذلك الكتب الصغار و الكبار، و لم يقفوا عند نقد ضلالات أهل البدع بل تجاوزوا ذلك إلى نقد أخطاء و أغلاط علماء السنة و أئمة الدين حفاظًا على الشريعة .
قال الإمام ابن رجب رحمه الله: « وقد بالغ الأئمة الوَرِعون في إنكار مقالات ضعيفة لبعض العلماء وردِّها أبلغ الردِّ كما كان الإمام أحمد ينكر على أبي ثور وغيره مقالات ضعيفة تفردوا بها...
وسواء كان الذي بين الخطأ صغيرًا أو كبيرًا فله أسوة بمن ردَّ من العلماء مقالات ابن عباس التي يشذ بها وأُنكرت عليه من العلماء مثل المتعة والصرف والعمرتين وغير ذلك، ومن ردَّ على سعيد بن المسيِّب قوله في إباحته المطلقة ثلاثًا بمجرد العقد وغير ذلك مما يخالف السنة الصريحة ، وعلى الحسن في قوله في ترك الإحداد على المتوفى عنها زوجها ، وعلى عطاء في إباحته إعادة الفروج ، وعلى طاووس قوله في مسائل متعددة شذَّ بها عن العلماء ، وعلى غير هؤلاء ممن أجمع المسلمون على هدايتهم ودرايتهم ومحبتهم والثناء عليهم .
ولم يعدَّ أحدٌ منهم مخالفيه في هذه المسائل ونحوها طعنًا في هؤلاء الأئمة ولا عيبًا لهم ، وقد امتلأت كتب أئمة المسلمين من السلف والخلف بتبيين هذه المقالات وما أشبهها مثل كتب الشافعي وإسحاق وأبي عبيد وأبي ثور ومن بعدهم من أئمة الفقه والحديث وغيرهما ممن ادعوا هذه المقالات ما كان بمثابتها شيء كثير ولو ذكرنا ذلك بحروفه لطال الأمر جداً »[ " الفرق بين النصيحة و التعيير"] .
* و ردُّ الخطأ عند أهل السنة؛ يكون من جنس الخطأ فما كان منه سِرًّا غير مُعلنٍ و لا مُشتهرٍ نُصِح صاحبه سِرًّا من غير تشهيرٍ به، و ما كان منه معلَنًا و ذائعًا فلا يشترط الإسرار في ردِّه بل يجوز الردُّ عليه علنًا ولو كان صاحبه من علماء أهل السنة، فإنَّ علماء السنة لا يكرهون الردَّ عليهم، و بيانَ أخطائهم، بل يقبلون الحق من كلِّ من أورده عليهم، و بصدر مُنشرح، إذ لا عداوة بينهم و بين الحق، و في ذلك يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: « و قد كان أئمة السلف المجمع على علمهم وفضلهم، يقبلون الحق ممن أورده عليهم وإن كان صغيراً، و لا يكرهون ذلك بل يحبونه ويمدحون فاعله، ويثنون عليه » [" الفرق بين النصيحة و التعيير "] .
* و يفرِّق أهل السنة في معاملة المخطئ بين من كان من أهل الأهواء الذين يتبعون المتشابهات، ويؤسِّسون أصولهم على الضلالات، فيردُّون خطأه و يُشنعون به عليه، و بين من كان من علماء السنة الذين عُرفوا بتحرِّي الحق وسلامة المنهج و المعتقد، فيعتذرون له، و يصبرون عليه و يحفظون له كرامته، و يتأدَّبون في الردِّ عليه، و في بيان ذلك يقول الإمام ابن رجب رحمه الله: « و أمَّا إذا كان مرادُ الرادِّ بذلك إظهارَ عيب من ردَّ عليه وتنقصَه وتبيينَ جهله وقصوره في العلم، ونحو ذلك، كان محرَّمًا سواء كان ردُّه لذلك في وجه من ردَّ عليه أو في غيبته وسواء كان في حياته أو بعد موته.. وهذا كله في حق العلماء المقتدى بهم في الدين: فأما أهل البدع والضلالة ومن تشبه بالعلماء وليس منهم فيجوز بيان جهلهم وإظهار عيوبهم تحذيراً من الاقتداء بهم »[ " الفرق بين النصيحة و التَّعيير"] .
و يُنبَّه إلى أنَّ معاملة المخطئ من أهل السنة بما ذُكر، من الصبر عليه، و الاعتذار له، و حفظ كرامته، هو الأصل عند أهل السنة، ما لم يُظهر المُخطئ عنادًا أو إصرارًا، فإنَّ الإصرار على الأخطاء و التمادي فيها و عدم الرجوع عنها يضرُّ، و كذا عقد الولاء و البراء عليها .
* ليس كل من وقع في بدعة يسمى مبتدعًا عند أهل السنة، فقد يجتهد المجتهد سليم المعتقد و المنهج، في طلب الحق مريدًا بذلك وجه الله تعالى فيقع في بدعة خفية، أو زلة عابرة، فلا يبدِّعونه ولا يتسرَّعون في ذلك، بل ينصحونه ويُبيَّنون له الحق و يصبرون عليه، و ليس كذلك صاحب الهوى .
* و الجرح و التعديل سُنَّة سلفيةٌ ماضية لا فرق عند أهل السنة بين جرح الرواة و جرح أهل البدع و الأهواء، ولا يزال باب الجرح والتعديل قائماً ومفتوحاً ما دام هناك حقٌّ و باطل، و ما دام الصراع لا يزال قائماً بين الطائفة المنصورة ومن خالفها من أهل الضلال، ومن قال بأن باب الجرح والتعديل قد أُقفِل و أُغلِق فقد غلط غلطاً بيِّنًا .
* و الجرح منه المبهم و هو الذي لم يُبيَّن سببه، و منه المفسَّر و هو الذي بُيِّن سببه الحامل عليه، فمن كان عدلًا مُوثَّقًا لا يُقبل فيه الجرح المبهم عند أهل العلم، بل لابد من تفسير الجرح وبيان أسبابه حينئذٍ لتعارضه مع التعديل، وأما من كان مجهولًا لا يعرف عند أهل العلم فإن مثله يُقبل الجرح فيه ولو كان مجملًا ومبهمًا غير مفسَّر إن صدر من عدلٍ عارفٍ بأسبابه .
* و عند تعارض الجرح و التَّعديل، يُقدَّم الجرح المُفسَّر على التَّعديل؛ لأنَّ صاحب الجرح المُفسَّر ناقلٌ عن الأصل، و المُعدِّل مُبقٍ على الأصل؛ و القاعدة: أنَّ الناقل عن الأصل مُقدَّم على المُبقي على الأصل، و لأن الجارح بالجرح المفسر معه زيادة علم، والقاعدة: أن من علم حجة على من لم يعلم، ولأن الناقل عن الأصل مُثبتٌ للجرح، و المبقي على الأصل نافٍ له، والقاعدة أن المثبت مقدَّم على النافي،
و لا يُقدَّم التعديل المبقي على الأصل على الجرح المُفسَّر الناقل عن الأصل إلا إذا كان التعديل مفسَّرًا جامعًا لشرائط المعارضة .
* و السِّر في تقديم الجرح المفسر على التعديل، وتقديم قول الناقل عن الأصل على قول المبقي على الأصل، هو أن الجارح والناقل عن الأصل يخبر عن أمر باطن علِمَه هُو، وجهِلَه المعدِّل، فمعه زيادة علم، ومعه كذلك الحجة والبرهان على جرحه ونقلِه للمجروح عن الأصل فيجب والحالة هذه الأخذ بقوله ولو خالفه الأكثر، أو من هو أعلم منه، لأن العبرة بالحجة و البرهان لا بغير ذلك.
* و الأصل في كلام الأقران المعتبرين بعضهم في بعض هو القبول عند أهل العلم، إذا كان بحقٍّ و بحجة و برهان، إلا إذا لاح فيه البغي، و عُلم أن الدافع له هو الحسد والشحناء و عَرِي عن الأدِلة فإنه حينذاك يُردُّ و لا يُقبل، ويُطوى و لا يُروى .
* و بلدي الرَّجل أعرف بِبَلديِّه من غيره، فأهل مكة أدرى بشعابها، و أهل البيت أدرى بما فيه، و ليس المخبَر كالمعايِن، و من كان مذمومًا عند الثِّقات من أهل بلدِه مقدوحًا فيه عندهم فإنه لا ينتفع بتزكية الغرباء له، بل لا تزيده تزكياتهم له عند أئمة الحديث و الجرح و التعديل إلا ضعفًا إلى ضعفه! و وهنًا إلى وهنه! لأن ذلك يشعر بأنه يتملق لغير أهل بلده ممن لا يعرف حقيقة حاله كما يعرفها من خبره من أهل بلده [أفاده العلامة المعلمي في " التنكيل " (ص763)] .
* و لا يُقبل الجرح فيمن ثبتت سلفيته بيقين، و كان ظاهره العدالة والاستقامة إلا ببرهان واضح و حجة ظاهرة، لأن ما ثبت بيقين لا يزول بالشك و الاحتمال، و لكن بيقين مثله .
* و الأخذ بتجريح العلماء للمخالفين، المُؤيَّد بالحجج و البراهين، ليس من التقليد المعيب، و لا من التَّقديس المذموم!، بل هو اتِّباعٌ مشروعٌ و محمود، و فرقٌ بين الاتباع، و بين التَّعصُّب و التقليد .
* و الأصل في أخبار الثقات القبول عند أهل السنة، و عليها العمل، و تُبنى عليها الأحكام، بخلاف أخبار الفسَّاق و ما يُلحق بها، -كأخبار المجاهيل- فإنهم يتوقَّفون فيها، و يتبيَّنون منها، ويتثبتون من صحتها، عملًا بقوله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}[النساء:64] .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله:« ابن عمر لمَّا بلغه أن قوماً يتقفرون العلم ويقولون أن لا قدر، قال: أبلغهم أنني منهم بَراء، وأنهم مني بُرآء، لم يفتح ملف وتحقيقات وإلى آخره كما يفعل الآن أهل البدع..، لما أخبره واحد، و الثاني يسمع فقط؛ صدقه لأنه مؤمن، عدل، وثقة، وديننا يقوم على أخبار العدول، من قواعده أخبار العدول، فإذا نقل لك الإنسان العدل كلاماً فالأصل فيه الصحة، ويجب أن تبني عليه الأحكام »[ "مجموعة كتب ورسائل الشيخ" (4/344-345) ] .
* و الكلام في الرجال و نقدهم و بيان أحوالهم، هو من باب الخبر، فيُقبل فيه خبر العدل الثقة، و هو الذي جرى عليه عمل السلف، و قامت عليه كتب الرجال و الجرح و التعديل .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله : « إن أقوال أئمة الجرح والتعديل الأمناء الصادقين العادلين من باب الأخبار..، فيجب على المسلمين قبول أخبارهم عن أحوال الرجال وعن أحوال رواياتهم وعقائدهم، هذا هو الأصل »[ " عمدة الأبي "(ص584)].
و قال حفظه الله:« و كتب الحديث، حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، و كتب الرجال، قائمة على قبول أخبار الثقات » [ " عمدة الأبي "(ص485)] .
* و العالم ليس بمعصوم، لا في جرحه و لا في تعديله، و لا في اجتهاداته، وقوله في ذلك ليس بحجة، ولو كان مُتخصِّصًا في علم الجرح و التعديل!
سئل العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: بعض الشباب يقسم علماء السلفيين إلى علماء الشريعة وعلماء المنهج ، هل هذا التقسيم صحيح ؟
فأجاب حفظه الله: « غلط ، غلط هذا التقسيم ، هذا غلط ـ بارك الله فيك ـ لكن إنسان يعلم الشريعة وقد يبرز بسبب اهتمامه بالمنهج وما يناقضه ، والذين يخالفونه ، قد يكون عنده اهتمام أكثرـ بارك الله فيكم ـ وذاك الثاني عنده شيء من اهتمام وشيء من الإدراك ولكن بحكم تخصص هذا ـ يمكن ـ ولكن لا يسلَّم أيضا لهذا المتخصص بكل شيء ، لا سيما إذا عارضه آخرون ـ بارك الله فيكم -... »[ ضمن أسئلة وُجهت للشيخ ربيع بعد محاضرته التي بعنوان " الحث على المودة والائتلاف والتحذير من الفرقة والاختلاف "] .
* و على هذا؛ فمن لم يأخذ بجرحَ عالم من العلماء-ولو كان من الأكابر
- لبعض الناس، أو لم يقبل تعديله لآخرين، إذا رآه عاريًا عن الأدلة، أو مُجانبًا للصواب، أو لكونه رآى الحقَّ في خلافه، و الحجة في قول غيره، فاتَّبع الدليل و أخذ بالحجة فلا تثريب عليه، و لا يُعدُّ بذلك طاعنًا في ذلك العالم، و لا مُنتقصًا من قدره، و لا هاضمًا لمنزلته، إذا عرفَ له قدره و حفظ له كرامته .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: «قد يزكي الرجل - وهو فاضل - بناء على الظاهر ولا يعرف حقيقة ما عليه القوم، فيأتي إنسان يدرس كتبهم ويدرس واقعهم فيجد أنَّ هذا الذي زكَّاهم قد وقع في خطأ من حيث لا يدري، فزكاهم بناء على هذا الظاهر، فهذا شيء حصل للأئمّة الكبار.
فكم من إنسان زكَّاه الإمام أحمد فقال تلاميذه الذين لا يصلون إلى شيء من فضله: عرفوا ما عند هؤلاء وما فيهم من قدح وما فيهم من جرح فأسقطوهم؛ وإن كان قد زكاهم أحمد رحمه الله؟
وزكَّى الشافعي أناساً وجرحهم آخرون؛ وقدَّم جرح هؤلاء المفسر القائم على معرفة الحقيقة على أقوال الأئمة الذين زكوا بناء على ما ظهر لهم؟
لأنه قد يأتي إنسان يعني عنده طلب علم يتظاهر بالدين والنسك والأخلاق الطيبة ويلازمك أيام: فتبنيه على الظاهر.
أنا والله زكَّيتُ أناساً في هذا العام، والله لازموني، وما شاء الله تنسَّك، وكذا، وكذا، وكذا، ثم ظهر لي جرحهم، أنا إذا صلَّى معي وزكى وكذا وذكر الله وسافر معي وإلى آخره؛ أشهد بناء على ما رأيتُ، لا أزكي على الله أحداً، لكن يأتي إنسان آخر عرفه أكثر مني، كشف عنه أخطاء، وكشف عنده أشياء تقدح في عدالته، فيجرح، فيجرحه بعلم ويبرهن على جرحه بالأدلة ويفسِّر جرحه، فيُقدَّم جرحه على تعديلي، وأنا أستسلم صراحة، قَدَّم الأدلة على جرح هذا الإنسان أقول: خلاص الحق معك »[ من شريط " أسباب الانحراف وتوجيهات منهجية "].
و على هذا؛ فمن عَلمَ من حال المخالفينَ مَا خفِي على ذلك العالم الذي زكاهم فلا يجوز له بحالٍ أن يأخذ بقول ذلك العالم فيهم، و يترك ما عنده من علم و حجة، لأن الله تعالى إنما تعبَّدنا بالحقِّ و الدليل لا بأقوال الرجال .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله، عن ثناء العلامة ابن باز رحمه الله على جماعة التبليغ الذي حصل منه في أول الأمر للأسباب آنفة الذكر: «فإذا كان الشيخ ابن باز قد قضى في جماعة التبليغ على نحو مما يسمع وصدق من زكاهم بناء على ظاهر حالهم فيعذر ، ولكن من خالطهم وعرف حقيقتهم عن كثب أو درس مؤلفات شيوخهم فعرف ما فيها من ضلالاتهم لا يجوز له السكوت عنهم بل عليه أن يُحذِّر منهم كما حذر رسول الله صلى الله عليه وسلم، من أهل البدع وحذر منهم السلف الصالح .
و ميزة أهل المنهج السلفي
4 ـ أن أهل المنهج السلفي يمتازون ومنهم الشيخ ابن باز بالقولة الذهبية: « كل يؤخذ من قوله ويرد » .
فإذا كان ابن باز قد خاض معركة ضارية ـ وحاشاه ـ ضد خصوم جماعة التبليغ فلا يجوز لأي سلفي عرف حقيقتهم أن يخوض هذه المعركة محامياً عن أهل البدع مخاصماً أهل السنة ، بل يجب عليهم رد رأي الشيخ، والسَّير على سنة رسول اللـه ومنهج السلف ألا وهو التحذير من أهل البدع، وهذا أمر مجمع عليه كما حكاه ابن تيمية وغيره لا يخالفه الشيخ ابن باز أبداً، ولا يلزم أحداً بمخالفته ولا طاعة المخلوق في معصية الخالق..»[ " مجموع كتب و رسائل الشيخ ربيع " (10/319-320] .
* و لا يُؤخذ بقول العالم سواء في الجرح أو التعديل، إذا عُلم بأنه صدر تحت تأثير بطانة السوء، و عملاء أهل الفتن من المدسوسين و المندسين، فإنَّ أهل الفتن –كما قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله- يجعلون بطانة لكل شخصية مهمة، فجعلوا للشيخ الألباني بطانة، وللشيخ بن باز بطانة، وكل عالم جعلوا له بطانة ليتوصلوا إلى أهدافهم من خلال هذه البطانات[ " نصيحة لأهل اليمن "] .
و لا يخفى ما لهذه البطانات السيئة من تأثير سلبيٍّ على العالم في تصوُّر المسائل، و إدراك الوقائع، و الوقوف على الحقائق، و المعرفة بأحوال الرجال، و هذا ما أثبته العلماء، و أكَّدوه، و في ذلك يقول العلامة محمد أمان الجامي رحمه الله:« و هذه نقطة مهمة ينبغي أن ينتبه لها العاقل، الإنسان مهما يكون عالمًا و عاقلًا و لبيبًا، البطانة تؤثر فيه لأنه يثق في البطانة، يجعل فيهم الثقة، فتؤثر » [ من " شرح قرة عيون الموحدين" نقلًا عن مقال في شبكة سحاب بعنوان " تنبيه مهمٌّ جدًّا من الشيخ العلامة محمد أمان الجامي بخصوص تأثير البطانة حتى على العلماء" ] .
و صرَّح العلامة عبيد الجابري حفظه الله، بأن العالم قد يخفى عليه حال بعض أهل الأهواء فلا يتوصل إلى معرفة حقيقتهم، و لا يتخذ منهم الموقف الصحيح الذي ينبغي أن يتَّخذه منهم بسبب بطانة السوء التي تحول بينه و بين إدراك ذلك، إما بحجبها للحقائق عنه، أو بإظهار المخالف على غير ما هو عليه من الانحراف، أو غير ذلك، فقال حفظه الله: « فإن كثيرا من أهل الأهـواء يخفى أمرهم على جمهرة أهل العلم، ولا يتمكنون من كشف عوارهم، وهتك أستارهم؛ لأسباب منها :
البـطانة السَّــيِّئة : التي تحول بين هذا العـالم الجليل السني القـوي، وبين وصول ما يُهتك به سـتر ذلك اللعَّاب الماكر الغشاش الدساس - البـطـانة الســيئة - حال لا يمكن أن يصل إليه شيء، حتى أنها تحـول بينه، وبين إخوانه الذين يحبهم في الله، فلا يستطيع أن يقرأ كل شيء » [ شريط مُفرَّغ بعنوان " فقه التعامل مع أهل السنة و أهل الباطل "] .
و هذا العلامة ربيع المدخلي حفظه الله يُوجِّه ما صدر من ثناء من قبل العلامة ابن باز رحمه الله على جماعة التبليغ! و يُبيِّن بأنَّ ذلك بسبب مكر أهل البدع الذين جنَّدوا بطانةً تخدمهم عند العلامة ابن باز رحمه الله حتى أحسن الظن بهم، و فيه إثباتٌ لتأثير البطانة على العالم ولو كان في مرتبة شيخ الإسلام ابن باز رحمه الله، فقال حفظه الله:« إن الشيخ ابن باز سلفي وإمام في السلفية وموقفه من البدع وأهلها موقف سلفي وموقفه من تفرق الأمة وتحزبها سلفي.
فإن حصل منه لين موقف من جماعة التبليغ؛ فإن لذلك أسبابه من ذلك: ما أشار إليه الشيخ حفظه اللـه بقوله : « والناس فيهم بين قادح ومادح » .
ومعروف مكر أهل البدع ومنهم جماعة التبليغ فقد جندوا من يخدمهم عند الشيخ ابن باز، ممن يلبس لباس السلفية فيطنب في مدحهم ويسهل لجماعاتهم ووفودهم الدخول على الشيخ ابن باز، فتتظاهر هذه الجماعات والوفود من مشارق الأرض ومغاربها بالسلفية فيصورون له أعمالهم في صورة أعمال سلفية عظيمة، ويبالغون فيها وينفخون فيها بكل ما أوتوا من خيالات كاذبة.. ، ولا عتب على الشيخ إذا تعاطف معهم بعض تعاطفٍ بسبب ما قدموه له على الوجه الذي شرحناه، فهذا رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، يقول: « إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ ، وَإِنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ ، وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَنْ يَكُونَ أَلْحَنَ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ فَأَقْضِي لَهُ عَلَى نَحْوَ مَا أَسْمَعُ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ مِنْ حَقِّ أَخِيهِ بِشَيْءٍ فَلا يَأْخُذْ مِنْهُ شَيْئًا ، فَإِنَّمَا أَقْطَعُ لَهُ قِطْعَةً مِنَ النَّارِ »، وفي لفظ:« فَأَقْضِىَ لَهُ عَلَى نَحْوِ مَا أَسْمَعُ مِنْهُ» [متفق عليه ] .
فإذا كان هذا حال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكيف بغيره ؟! »[ " مجموع كتب و رسائل الشيخ ربيع "(10/319)] .
* و الطعن في بطانة بعض العلماء، إذا عُلم شرُّها و فسادها، و ما تنطوي عليه من سوء، ليس بطعن في العالم -نفسه- و من هنا؛ لم يعب أحد من أهل السنة على بعض كبار علماء السنة طعنهم في بطانة علماء آخرين، و لم يعترضوا عليهم بأنَّ ذلك طعن في أولئك العلماء، و هذا مشهورٌ و معروف، و فيه هدمٌ للقاعدة الباطلة المحدثة: « طعنك في بطانة العالم طعن فيه!» .
* و لا يلتفت إلى جرح المجروحين بالبدعة و الحزبية في أهل السنة، و مثله كلام المجاهيل في المعروفين بالسنة المشهورين بها، بل يُعتبر ذلك منهم طعنًا و وقيعة في أهل الأثر، و منه جرح الحدادية و المميعة في علماء السنة و دعاتها و مشايخها.
* و يكفي في ثبوت الجرح أو التعديل في الشخص، كلام الواحد الثقة المتأهِّل العالم بأسباب الجرح و التعديل و لا يشترط في قبولهما الإجماع أو قول الأكثر كما يزعمه بعضهم، و إن حصل فحسن .
* و يُزكِّي الإنسان عملُه و عقيدته و منهجه و دعوته، فإن الأرض لا تقدس أحدًا!، و تثبُت التزكية بأمور منها تنصيص العلماء على عدالة الرجل و استقامته، و كذا اشتهاره بين أهل العلم بالسنة و الدعوة إليها .
* و التزكية لا يُستفاد منها عصمة المُزكَّى، و ليست بحصانةٍ له و لا ضمانٍ له من الزَّيغ، و لا يصير بها معصومًا عن الخطأ و الانحراف، فالحيُّ لا تُؤمن عليه الفتنة، و من جُرِح بغير موجبٍ للجرح فإنَّ ذلك لا يضرُّه، و من جُرِح بحقٍّ و بحُجَّةٍ و بُرهان فإنه لا سبيل له للتخلِّص من تبعات أخطائه إلا بالتوبة النصوح منها، و لا ينفعه في ذلك لفٌّ و لا دوران، و لا تزكية فلانٍ و لا عِلَّان، فإنَّ التَّزكية لا ينتفِعُ بها من لم يكن سليم المنهج و المعتقد في نفس الأمر ولو زكَّاه من زكَّاه إحسانًا للظنِّ به، أو اغترارًا بظاهر حاله، لأنَّ تزكية المزكِّي إنَّما هي بناءً على ما يظهر له من حال الشَّخص، أو على ما يبلغه عنه من أخبار، وقد يكون المُزَكَّى على خلاف ذلك في باطنه، و لذا؛ ناسب أن يُقيِّد المزكِّي تزكيته بقوله:« أَحْسِبُه كذلك وَالله حَسِيبُهُ، وَلَا أُزَكِّي عَلَى اللَّهِ أَحَدًا » كما ثبت في السنة؛ لأنه سبحانه وحده المطَّلع على ما في قلوب العباد و بواطنهم، العليم بذات الصُّدور، الخبير بالنِّيات والمقاصد .
* و أعظم أنواع التزكية من نُصَّ على تعديله و تزكيته في القرآن و السنة و قد فاز بهذا النوع من التزكية بعد الأنبياء و الرسل عليهم الصلاة و السلام، صحابةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنهم أجمعين، فلم يحُوِجهم ربهم بعدها لتزكية أحدٍ من البشر كائنًا من كان، فمن طعن في عدالتهم كما يفعله الرافضة الأنجاس فقد رفض تزكية الله و ردها و كذَّب بها و كفى بهذا كفرًا وزندقة، و هذه إحدى ضلالات الرافضة .
* و الأحكام الدنيوية تبنى عند أهل السنة على الظواهر، وأما السرائر فيُفوَّض أمرها إلى الله، فمن أظهر الخير، و الصلاح أُحسن به الظن، و الله حسيبه فيما يبطنه، ومن ظهر منه الشر والانحراف سيئ به الظن و عومل بمقتضى ظاهره وإن ادعى سلامة سريرته، و كلُّ من أضمر دسيسة سوء و تظاهر بما ليس فيه افتُضِح و لو بعد حين، فإنَّ ما كان لله دام واتَّصل، و ما كان لغير الله انقطع وانفصل، وما لا يكون بالله لا يكون، وما لا يكون لله لا ينفع ولا يدوم، و مهما تكن عند امرئ من خليقة يخالها تخفى على الناس تعلم، و الزَّمنُ جزءٌ من العِلاج .
* و يجوز الحكم على البواطن و إن خالفتها الظواهر عند أهل السُّنَّة بالقرائن الصحيحة المعتبرة، قال تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} [آل عمران:7]، و في الحديث:«إِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمُ»[متفق عليه] .
و من ذلك اعتبار الناس بأخدانهم و جلسائهم، فمن خفيت علينا بدعته لم تخف علينا صحبته وألفته، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « الرَّجُلُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ فَليَنْظُرْ أَحَدُكُمْ مَنْ يُخَالِلُ »[ " صحيح أبي داود" للعلامة الألباني، برقم(4833)] .
* و ليس من شرط الحكم على المخالف بالبدعة عند أهل السنة اعترافه وإقراره ببدعته، إذ المبتدع غالبًا لا يعترف بانحرافه؛ ولا يعتقد ذلك في نفسه، بل تجده يرى صحة مذهبه وأنه صاحب الحق، وأن مُخالِفه هو صاحب الباطل، فالعبرة بواقع حاله و ما دلَّ عليه الدليل، لا بدعاويه !
* و السُّنِّي –حقًّا- لا يغضب لأهل الأهواء و التَّحزُّب و لا ينزعج من الكلام فيهم، و لا يتضايق من الردود عليهم، و لا يلتمس لهم الأعذار فيما انتُقد عليهم و لا يُسوِّغ لهم و لا يحمل كلامهم الظاهر في البطلان على المحامل الحسنة، فإن فعل شيئًا من ذلك فهي قرينة على أنه منهم .
* و ليس كل مخالفةٍ يخرج بها الرجل من السنة، و لكن من خالف أصلًا من أصول أهل السنة التي أجمعوا عليها، أو أغرق في المخالفة في الجزئيات أو جعل يعقد الولاء و البراء على أخطائه و إن قلَّت أو صغُرت، أو ابتدع في الدين ما لم يأذن به الله .
* و الحكم بالبدعة على من ظاهره السنة، و إخراجه من السلفية شديد و ليس هو لكلِّ أحد، فاحذر من تشغيبات الحدادية .
و لا يقتصر التحذير و الهجر على المبتدع الخارج عن السنة، فقد يُعامل بهما أو بأحدهما، الرجل ولو كان سلفيًّا إذا استدعى الأمر ذلك، فلا يلزم من التحذير التبديع، و ليس كلُّ من حُذِّر منه فلكونه من أهل البدع الخارجين عن السنة، بل قد يُحذَّر منه أو يُهجر لأسباب دون ذلك .
قال العلامة ربيع المدخلي حفظه الله: « الجرح يتضمن التحذير، و.. التَّحذير لا يكون إلَّا من المجروحين سواء كان الجرح بكذب، أو فسق، أو كفر، أو ببدعة، كل هؤلاء يشملهم الجرح ويشملهم التحذير » [ من " مجموعة الكتب و الرسائل" (9/84 إلى 86)]، فافهم هذا و احذر من شبهات أهل التمييع .
* و يُفرِّق أهل السنة بين الإطلاق والتعيين في الحكم على المخالفين، كما يُفرِّقون بين القول و قائله، وبين الفعل وفاعله، فليس كلُّ قولٍ أو فعلٍ يكون كُفرًا أو بدعةً يُحكم على قائله أو فاعله بذلك إلا بعد توفر الشروط و انتفاء الموانع و إقامة الحجة، قال تعالى: { وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}[النساء: 15] .
و يُستثى من إقامة الحجة في التبديع: المسائل الظاهرة و الواضحة، فلا يشترط في الحكم على المُخالف فيها –بالبدعة- إقامة الحجة، لأن ظهورها و وضوحها يقوم مقام ذلك، كما أفاده العلامة ربيع المدخلي حفظه الله و نقله عن السلف في رسالته " إقامة الحجة " .
* و يُفرِّق أهل السنة بين صريح قول القائل وبين لازم قوله الذي يلزم من كلامه، فيعتبرون منطوق كلامه الذي تلفَّظ به قولًا له وينسبونه إليه، سواء كان حقًّا أم باطلًا، بخلاف لازم قوله الذي يلزم من كلامه فإنهم لا ينسبونه إليه ولا يُعدُّونه من قوله إلَّا إذا ذُكِر له فالتزم به، كما يُفرِّقون بين اللازم من كلام الله ورسوله، وبين اللازم من كلام غيرهما .
* و اقتصادٌ في سبيلٍ و سنَّة خيرٌ من اجتهادٍ في خلاف سبيلٍ و سنَّة، و ما ازداد صاحب البدعة اجتهادًا إلا ازداد من الله بعدًا، و لا يُقبل قولٌ إلا بعمل، و لا يستقيم قول و عمل إلا بنية، و لا يستقيم قول و عمل و نية إلا بموافقة السنة[ " شرح اعتقاد أهل السنة و الجماعة" اللالكائي(10/53) عن أبي بن كعب رضي الله عنه، ] .
فأحسن الأعمال ما كان خالصًا صوابًا، و الخالص ما كان لله، و الصواب ما كان موافقًا للسنة، قال تعالى: {وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ} [النساء: 125]، و لا صلاح للعمل إلا بهذين الشَّرطين، فمتى ما اختل واحدٌ منهما لم يُقبل العمل و رُدَّ على صاحبه و الناس في هذين الأصلين على مراتب .
* و العبادة اسمٌ جامعٌ لكلِّ ما يحبُّه الله و يرضاه من الأعمال و الأقوال الظاهرة و الباطنة، و الأصل في العبادات المنع إلا بدليل و توقيف، لقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ} [الشورى:21]، و لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها؛ فما لم يكن يومئذٍ دينًا لا يكون اليوم دينًا، و خير الهدى هدى رسول الله صلى الله عليه وسلم، و شرُّ الأمور محدثاتها ، و كل محدثة بدعة .
* و البدعة ما أُحْدِثَ في الدين على خلاف ما كان عليه النبي صلى الله عليه و سلم وأصحابه، و هي طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشرعية يُقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله تعالى، و منها المكفرة و المفسِّقة، و الحقيقية و الإضافية، و القولية و الفعلية، و هي شرُّ الأمور ، و كلها ضلالة و إن رآها الناس حسنة، و هي أحبُّ إلى إبليس من المعاصي فإنَّ المعاصي يُتاب منها، و البدعُ لا يُتاب منها .
* و شعار أهل البدع: ترك انتحال اتِّباع السلف [" فتاوى ابن تيمية"(4/155)]، و علامتهم: الوقيعة في أهل الأثر، فاحذرهم، و إيَّاك و ما يُزخرفونه من القول، و ما يُلبِّسون به من الشُّبه، و اعلم بأنَّ أشدهم خطرًا من كان متستِّرًا، مُتظاهرًا بخلاف ما يُبطن، و من كان إلى أهل السنة أقرب .
* و أهل السُّنَّة يُحبون السنة و أهلها، و يُبغضون البدعة و أهلها، و يُبايِنون أهل البدع والأهواء، و يهجرونهم ويُحذِّرون منهم و لا يُجالسونهم لاسيما الدُّعاة منهم، حتى يتوبوا إلى الله تعالى من بدعهم وضلالاتهم، تأديبًا لهم وزجرًا، و حماية للمسلمين من شبهاتهم، و أدوائهم و أمراضهم .
و هذا هو السبيل الصحيح لحماية الأصِحَّاء من أهل السنة من الوقوع في فتنتهم، و أمَّا التساهل معهم وحسن الظن بهم، والركون إليهم فهو أوَّل خطوة في طريق الضلال .
* و الشدَّة على أهل البدع ليست بمذمَّة، بل هي منقبة يُحمد صاحبها؛ و هي طريقة للسلف معروفة في معاملة أهل الأهواء و البدع، و إنَّما يذمُّ سالكَها من أَصابه داء التمييع، و تلوَّث بدخنه .
* و تجوز مداراة أهل البدع عند الحاجة سيما إذا كانت لهم الشوكة، و لا تجوز مداهنتهم بحال، و فرقٌ بين المداراة و المداهنة .
* و الصلاة خلف كلِّ برٍّ وفاجرٍ من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، و يجوز للرَّجل أن يُصلِّي خلف من لم يعلم منه بدعة ولا فسقًا باتِّفاق الأئمة، وليس من شرط الائتمام أن يعلم المأموم اعتقاد إمامه، و لا أن يمتحنه فيقول: ماذا تعتقد؟! بل يصلي خلف المستور الحال، ولو صلى خلف مبتدع يدعو إلى بدعته أو فاسق ظاهر الفسق وهو الإمام الرَّاتب الذي لا يمكنه الصلاة إلا خلفه، كإمام الجمعة والعيدين والإمام في صلاة الحج بعرفة ونحو ذلك، فإن المأموم يصلي خلفه عند عامة السلف والخلف، ومن ترك الجمعة والجماعة خلف الإمام الفاجر فهو مبتدع عند أكثر العلماء والصحيح أنه يصليها ولا يعيدها فإن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يصلون الجمعة والجماعة خلف الأئمة الفجار ولا يعيدون .[" شرح الطحاوية " (ص574-576) ] .
* و من أظهر بدعة وفجورًا لا يُرتَّب إمامًا للمسلمين؛ فإنه يستحقُّ التَّعزير حتى يتوب، فإن أمكن هجره حتى يتوب كان حسنًا، وإذا كان بعض الناس إذا ترك الصلاة خلفه وصلى خلف غيره أثر ذلك في إنكار المنكر حتى يتوب أو يُعزل أو ينتهي الناس عن مثل ذنبه، فمثل هذا إذا ترك الصلاة خلفه كان في ذلك مصلحة شرعية و لم تفت المأموم جمعة ولا جماعة، و أما إذا كان ترك الصلاة خلفه يفوت المأموم الجمعة والجماعة فهنا لا يترك الصلاة خلفه إلا مبتدع مخالف للصحابة رضي الله عنهم .
وكذلك إذا كان الإمام قد رتبه ولاة الأمور ليس في ترك الصلاة خلفه مصلحة شرعية فهنا لا يترك الصلاة خلفه بل الصلاة خلفه أفضل فإذا أمكن الإنسان أن لا يُقدِّم مُظهرًا للمنكر في الإمامة وجب عليه ذلك، لكن إذا ولَّاه غيره ولم يمكنه صرفه عن الإمامة، أو كان لا يتمكَّن من صرفه عن الإمامة إلا بشرٍّ أعظم ضررًا من ضرر ما أظهر من المنكر فلا يجوز دفع الفساد القليل بالفساد الكثير ولا دفع أخف الضررين بحصول أعظمهما، فإن الشرائع جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها بحسب الإمكان فتفويت الجمع والجماعات أعظم فسادًا من الاقتداء فيهما بالإمام الفاجر لا سيما إذا كان التخلف عنها لا يدفع فجورًا فيبقى تعطيل المصلحة الشرعية بدون دفع تلك المفسدة [ " المصدر السابق " (ص576-577) ] .
* و الترحم على أهل البدع و الصلاة عليهم جائزٌ عند أهل السنة، ما دام أنهم في دائرة الإسلام، ولا يتنافى ذلك مع هجرهم وتحذير الناس منهم، غير أنه يُستحبُّ لمن كان من ذوي العلم و الفضل و المكانة ترك الصلاة عليهم زجرًا للناس عن سلوك سبيلهم، أو التأسي بهم في ضلالهم .
* و لا تجوز المحاماة عن أهل البدع و الجدال عنهم لمن عرف حالهم، و لا الدفاع عنهم أو الاعتذار لهم، أو مناصرتهم، فمن فعل ذلك أُلحق بهم و لا كرامة.
* و أتباع المبتدع يختلفون في سببِ اتِّباعهم له، بين جاهل بحاله مخدوع به، لا يعرف حقيقة ما عليه متبوعه من الضلال و الزيغ، و بين من عرف حقيقة ما عليه متبوعُه من الانحراف، ومع ذلك ناصره ودافع عنه، وردَّ أقوال علماء السنة فيه، تعصُّبًا له، ولاختِلاف دافع هؤلاء وهؤلاء في اتباعهم للمبتدع ودفاعهم عنه، فرَّق أهل السنة في معاملة الفريقين، فألحقوا الفريق الثاني بالمبتدع في الحكم والمعاملة، بينما أفتوا بالصبر على أصحاب الفريق الأول، مع الاجتهاد في تبصيرهم و بيان الحق لهم .
* و أهل السنة في مخالطة المبتدعة قسمان: سُنِّي قويٌّ متمكِّن فهذا يخالط المبتدعة لدعوتهم و إقامة الحجة عليهم لا غير، و سُنِّيٌّ ضعيف فهذا ليس له إلا الهجر، حماية لنفسه من شبهاتهم، و المبتدعة قسمان: دعاة للبدعة و رؤوس فيها، فهؤلاء يهجرون و لا كرامة، و مبتدعة غير دعاة أو مُلبَّس عليهم فهؤلاء هم الذين يخالطهم السُّنِّيُّ القوي لقصد دعوتهم و تبصيرهم من غير مصاحبة منه لهم .
[ " أصول و مميزات أهل السنة مستخرجة من كتب الشيخ ربيع" (ص229/232)]
* و على السُّنِّيِّ عُمومًا أن يجتنب مناظرة أهل البدع و مجادلتهم، لما في ذلك من المخاطر التي يُخشى عليه منها، فلا يُؤمن على منهج المناظِر و المُجادِل من الضياع و الفساد، حيث جعله عُرضةً لذلك بمجادلة أهل الشبه، و من هنا حذَّر العلماء من ذلك أشدَّ التحذير، قال أبو قلابة الجرمي رحمه الله: «لا تجالسوا أهل الأهواء ولا تجادلوهم فإني لا آمن أن يغمسوكم في الضلالة، أو يلبسوا عليكم في الدين بعض ما لبس عليهم »، و قال الإمام أحمد رحمه الله في مقدمة رسالته " أصول السنة ": « و كل بدعة فهي ضلالة، وترك الخصومات والجلوس مع أصحاب الأهواء، و ترك المراء والجدال والخصومات في الدين » .
* و من تاب من ضلالة و بدعةٍ دعا الناس إليها فيلزمه مع التوبة الإصلاح و البيان، لقوله تعالى: { إِلا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ }[ البقرة: 160]، و لا يُتسرَّع في الحكم بصحة توبة المبتدع إذا تظاهر بها، و لنا أُسوةٌ بما فعله أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه مع صبيغ بن عسل العراقي .
و ليس كلُّ توبة يتظاهر بها المبتدع تكون مقبولة؛ لأنَّ للتوبة شروطًا لا تصحُّ إلَّا بها، كما أنَّ لها علامات تدلُّ على صحَّتها و على صدق صاحبها، فإذا تخلَّفت بعض هذه الشروط، أو لم يظهر على التائب علامات الصدق، أو حف توبتَه قرائنَ تدلُّ على مراوغته و تلاعبه، و عدم صدقه، فتوبته مشكوك فيها، و لا بأس على من لم يرفع بها رأسًا، و لم يُعط التائب أحكامها، فإنَّ أهل البدع أصحاب مكر .
و قد كان العلامة ربيع حفظه الله يُشكك في توبة و تراجع كثير من المخالفين- أدعياء السلفية و لم يقبل كثيرًا من التراجعات المدعاة منهم، لما كان يقوم عنده من قرائن تدلُّ على عدم صدقهم في توبتهم، و اسمع إليه يقول مُحذِّرًا من الاغترار بتوبة بعض الأدعياء التي دلت الدلائل على عدم صدقهم فيها:« هناك علامات لصدق التوبة العملية تُذهب الريبة..، هناك أمور تدلُّ على صدقه، و قد تكون قرائن على كذبه، فإذا كانت هناك قرائن تدلُّ على صدقه فيُشجَّع، و إذا كان هناك قرائن تدلُّ على دعواه فقط، فهذا يجب أن يتيقَّظ له السَّلفيُّون؛ لأنه قد يكون مُخادعًا، لأن الآن عصر السياسة و النفاق و التقية، شاعت الأحزاب، و لا يتمكنون من تضييع الشباب السلفي و صدهم عن المنهج السلفي إلا بادِّعاء السلفية، أو الرجوع عن الأخطاء المضادة للمنهج السلفي ».
* و يبعث الله على رأس كلِّ مائة سنة من يُجدِّد لهذه الأمة أمر دينها، و لا يكون المجدِّد إلا من أهل السنة، إذ إنَّ أهل البدعة هم سبب بعث المجدد بما يُحدثونه في الأمة من عقائد باطلة و مناهج منحرفة و عبادات بدعية، فلا يكون المُجدِّد – و الحالة هذه- منهم .
* و احرِص أيُّها السُّنِّيُّ على الجليس الصالح و الصديق الناصح، الذي يكون لك مرآةً، كما تحرص على الزوجة الصالحة التي تكون لك فراشًا، فإنَّ الصاحب ساحِب، و المرء على دين خليله، و اعلم أن صديقك من صدقك لا من صدَّقك .
* و الأخوَّة بين المسلمين عامة و بين أهل السنة خاصة فرض لازم يجب تحقيقها و المحافظة عليها و البعد عن كل ما قد يكون سببًا في ضعفها أو زوالها، قال صلى الله عليه وسلم: « لاَ تَقَاطَعُوا وَلاَ تَدَابَرُوا وَلاَ تَبَاغَضُوا وَلاَ تَحَاسَدُوا وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوانًا كَمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ »[ متفق عليه]، و إنما يُحافظ على الأُخوَّة بطاعة الله و الاستقامة على شرعه، و لا يحلُّ لمسلمٍ أن يهجر أخاه فوق ثلاث في أمور الدنيا إلا ما كان من أجل الدين كهجر أهل الأهواء و البدع، فهو باقٍ ما دام مقتضاه قائمًا .
* و الهجر من الأحكام الشرعية وهو نوعٌ من العقوبة والتعزير والتأديب في حقِّ من جاهر بالبدعة أو المعصية، وقد مضت الصحابة والتابعون وأتباعهم وعلماء السنَّة على هذا مجمعين متَّفقين على معاداة أهل البدعة و مهاجرتهم .
و لا تتحقق مصلحة السَّلفي في دينه إلا بهُجران أهل الشبه والضلال، وفراره منهم كما يفرُّ من المجذوم و الأسد، و الحذر منهم، و من الركون إليهم .
* و الهجر نوعان: هجرٌ وقائي، و هو الهجر الذي يُنظر فيه إلى مصلحة الهاجر.
و هجرٌ تأديبي: و هو الهجر الذي يُنظر فيه إلى مصلحة المهجور، و غيره من عموم الناس .
و لا ينبغي حصر المصلحة المقصودة بالهجر في مصلحة المهجور، و إهمال مصلحة الهاجر، فإنَّ مصلحة السُّنِّيِّ عند أهل السنة أولى بالمراعاة من مصلحة المبتدع المخالف؛ لأن مراعاة مصلحة السُّنِّي فيها حفظٌ لرأس مال أهل السُّنَّة، ومراعاة مصلحة المهجور المخالف فيها طلبٌ للربح، وحفظ رأس المال مُقدَّمٌ على طلب الربح، و تتحقق مصلحة السني في وقاية نفسه من شبهات المهجور، و السلامة من شرِّه، و النجاة من مصايده .[ " أصول و مميزات أهل السنة مستخرجة من كتب الشيخ ربيع" (ص234)] .
قال الإمام ابن عبد البر رحمه الله: « وأجمع العلماء على أنه لا يجوز للمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث، إلا أن يكون يخاف من مكالمته وصلته ما يفسد عليه دينه، أو يولد به على نفسه مضرة في دينه أو دنياه، فإن كان كذلك، فقد رخص له في مجانبته وبعده، وربَّ صرم جميل خير من مخالطة مؤذية »[ " التمهيد"(6/127) ] .
* و الاجتهاد لا يُحرِّم الاجتهاد، و لا يُنقض بالاجتهاد، و الاختلاف ليس بحجة لأحد، و قول المجتهد في المسائل الخلافية ليس بحجة على مجتهد آخر، بل الحجة في النص و الإجماع، فلا اجتهاد مع النَّص، و من خالف نصَّا أو إجماعًا متيقَّنًا و جب الإنكار عليه، و لا يُقال: لا إنكار في مسائل الخلاف؛ لأن مسائل الخلاف منها ما يسوغ فيها الاختلاف، و منها ما لا يسوغ فيها الاختلاف .
فالمسائل القطعية الثابتة بالدليل القطعي من الكتاب أو السنة أو الإجماع لا مساغ للاجتهاد فيها، فهذه يُنكر فيها على المُخالف .
و أما المسائل التي لم يكن فيها كتابٌ و لا سنة و لا إجماع ثابت فللاجتهاد فيها مساغٌ، و لا يُنكر على من عمل بها مجتهدًا أو مُقلِّدًا، و لا يُهجر و لا يُبدَّع، ففرقٌ بين مسائل الخلاف و مسائل الاجتهاد[ بمعناه في " القواعد الفقهية المستخرجة من كتاب إعلام الموقعين "(ص 378 إلى 396) لشيخنا الدكتور عبد المجيد جمعة حفظه الله ] .
* و أخطاء أهل البدع لا تُسمى اجتهادات، و لا يوصف أصحابها بالمجتهدين، كما يفعله من يُحامي عنهم تهوينًا من شأن ضلالاتهم، بل هي أباطيل و انحرافات، تُنكر عليهم و يُشنَّع بها عليهم [ " جهود العلامة ربيع المدخلي حفظه الله في نقض شبهات الحزبيين عن منهج النقد عند أهل السنة السلفيين" (ص195)] .
* و باب الاجتهاد لا يزال مفتوحًا فيما يسوغ فيه الاجتهاد، و لكن ليس لكلِّ أحد، و إنما لمن جمع آلاته و حصَّل شروطه، مع سلامة الأصول، و صلاح النية .
* و الفتوى أمرها مُضيَّق، و التجاسر عليها غير محمود، وَ قد كَانَ السَّلَفُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ يَكْرَهُونَ التَّسَرُّعَ فِي الْفَتْوَى، وَيَوَدُّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ أَنْ يَكْفِيَهُ إيَّاهَا غَيْرُهُ .
* و لا يُتوصَّل إلى مراتب المجتهدين و المفتين إلا بالعلم، فاحرص على نيله، و شمِّر عن ساعد الجدِّ لتحصيله، بالرحلة و الصبر، و السهر، و ثني الركب عند حملته، فخُذه عن أهله، و لا تأخذه إلا من سُنِّيٍّ متأهِّل.
* و اعلمْ -رحمكَ اللهُ- أَنَّهُ يجبُ على كلِّ مسلمٍ تَعَلُّمُ أربعِ مسائلَ؛ الأُولى: العِلْمُ؛ وهوَ معرفةُ اللهِ، ومعرفةُ نبيِّهِ، ومعرفةُ دينِ الإسلامِ بالأدلةِ. الثانيةُ: العملُ بهِ. الثالثةُ: الدعوةُ إليهِ. الرابعةُ: الصبرُ علَى الأَذى فيهِ.
والدليلُ قولُه تعالَى: {وَالْعَصْرِ إِنَّ الْأِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ}، قالَ الشافعيُّ رحمَهُ اللهُ تعالَى: « لوْ مَا أَنْزَلَ اللهُ حُجَّةً عَلَى خَلْقِهِ إلاَّ هذِه السُّورَةَ لَكَفَتْهُمْ »، وقال البخاريُّ رحمَهُ اللهُ تعالى في " صحيحه ": « بابٌ العلمُ قبلَ القولِ والعملِ »، والدليلُ قولُه تعالَى: {فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ}[محمد:19]، فبدأَ بالعلمِ قبلَ القولِ والعملِ[ " ثلاثة الأصول" لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ] .
* و الناس بحسب معرفة الحقِّ والعمل به ثلاثة أقسام؛ لأن العبد إمَّا أن يكون عالمًا بالحقِّ أو جاهلًا به، والعالم بالحقِّ، إمَّا أن يكون عاملًا بموجبه أو مخالفًا له، فهذه أقسام المكلفين لا يخرجون عنها ألبتة .
فالعالم بالحقِّ العامل به هو المنعم عليه، وهو الذي زكَّى نفسه بالعلم النافع والعمل الصالح وهو المفلح، والعالم به المتبع هواه هو المغضوب عليه، والجاهل بالحق هو الضال [ " مدارج السالكين " (1 /11)].
* و العلم: حياة القلوب، و به تُسقى شجرة الإيمان، فإنَّ « الشجرة لا تبقى حية إلا بمادة تسقيها وتنميها، فإذا قُطع عنها السَّقي أوشك أن تيبس، فهكذا شجرة الإيمان في القلب إن لم يتعاهدها صاحبها بسقيها كل وقت بالعلم النافع والعمل الصالح والعود بالتذكر على التفكر والتفكر على التذكر، وإلا أوشك أن تيبس » .
[ " إعلام الموقعين " (1/205)] .
* و العلم : ما قام عليه الدليل والنافع منه ما جاء به الرسول؛ لأنه إمَّا نقل مصدقٌ عن معصوم، وإمَّا قولٌ عليه دليل معلوم [ ابن تيمية " مجموع الفتاوى " (6/388)، و (13/329)] .
و هذا هو العلم الذي ورِثَه العلماءُ عن الأنبياء، و هو ما كان فيه قال، حدثنا، ومثل هذا العلم لا يكون وعاؤه إلا الأطهر فالأطهر من القلوب والأزكى فالأزكى من النفوس، والناس فيه متفاوتون بحسب صفاء القلوب ونقاوتها، فمحلُّه القلوب الطاهرة النقية، والنفوس الطيبة الزكية، والصدور التي شرحها الله للعلم و الإيمان، فعلى قدر صفاء المحلِّ و طهارته تكون قابليته، و على قدر قابليَّته يكون نصيبه من ميراث النُّبُوَّة، فالله أعلم حيث يجعل رسالته، قال صلى الله عليه وسلم:« يَحْمِل هذا العِلَم من كل خَلَف عُدُولَه يَنْفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين »[ صححه العلامة الألباني في المشكاة (248)] .
* و العدول هم العلماء الربانيون و هم ورثة الأنبياء، ففي الحديث: « إنَّ العُلَمَاءَ وَرَثَةُ الأنبِيَاء »[ صححه الألباني في " صحيح الجامع" برقم (6297) ] ، و ليس كلُّ من سُمِّي عالمًا، و نُسب إلى العلم يُعتبر من ورثة الأنبياء، حتى يُنظر في ميراثه ماذا ورِث و عن من ورث، فاحذر من المتعالمين و أنصاف المتعلمين، و إيَّاك و الأدعياء الذين يتشبهون بالعلماء و ليسوا منهم .
فقد قيل : إنما يفسد الناس نصف متكلم، ونصف فقيه، ونصف نحوي، ونصف طبيب، هذا يفسد الأديان وهذا يفسد البلدان، وهذا يفسد اللسان، وهذا يفسد الأبدان »[ " الرد على البكري" (2/731) لشيخ الإسلام رحمه الله ] .
* و العلم ليس بكثرة الرواية والكتب، ولكن العالم هو من يخشى الله و يعمل بعلمه، و يتبع الكتاب والسنة و ما عليه سلف الأمة، ومن خالف الكتاب والسنة فهو صاحب بدعة وإن كان كثير الرواية والكتب [ أصله في " شرح السنة " للبربهاري رحمه الله ] .
* و ليس من العلم النافع: علم الكلام المذموم! بل هو جهلٌ، بل الجهل خيرٌ منه! فاحذره و أهله،قال الإمام الشافعي رحمه الله: « لو أن رجلا أوصى بكتبه من العلم لآخر وكان فيها كتب الكلام لم تدخل في الوصية لأنه ليس من العلم »أي: النافع [ " السير للذهبي"(10/30)] .
و قال أبو يوسف صاحب أبي حنيفة رحمهما الله: « العلم بالكلام هو الجهل، والجهل بالكلام هو العلم »[ " شرف أصحاب الحديث" رقم(2)] .
و الله أعلى و أعلم .
و إلى هنا أكون قد أتيت على الحلقة الأولى من حلقات هذا المقال، أسأل الله تعالى أن ينفع به .
فمن وقف على خطإٍ أو سبق قلم، فلينبهني عليه مشكورًا، جزاه الله خيرا .
تنبيه:
جُلُّ ما ذُكر في المقال مأخوذ من نصوص أئمة السنة و مُقتبسٌ من مصنفاتهم، إما بلفظه أو بمعناه، و الكثير منه مُضمَّن في كتابي " أصول و مُميِّزَات أهل السنة والجماعة المستخرجة من كتب العلامة ربيع بن هادي المدخلي حفظه الله تعالى"، و كذا في المقالات المنشورة، و قد قمت بعزو كثير منه إلى مصادره، و لم أنشط على عزو البعض الآخر و هو معلوم و مشهور..، و سأفعل ذلك إن شاء الله تعالى عند جمع حلقات المقال في رسالة -إذا يسَّر الله ذلك- ، مع تدعيم ذلك بالشواهد و الفوائد .
و آخر دعوانا أن الحمد لله ربِّ العالمين .............يتبع إن شاء الله تعالى .
تعليق