<بسملة1>
المزاح
-ما يكره منه وما يباح-
فإن الله تعالى أرسل نبيه محمدا ﷺ متمما لمكارم الأخلاق، فهي أبهى ما تجمل به الصالحون، وخير ما تحلى به العالِمون والمتعلِّمون، حتى غدا شعارهم الذي به يعرفون، فأَوْلَوْهُ سبق العناية والرعاية.
فكان الطالب يُوصَى بالأخذ من أدب شيخه وسمته قبل الأخذ من علمه، كما أوصت أم الليث ولدها -وقد جمَّلته وطيَّبته-: «خذ من أدب مالك وسمته قبل أن تأخذ من علمه»، وقال حبيب بن الشهيد لابنه: «يا بنيَّ، اصحب الفقهاء والعلماء وتعلم منهم وخذ من أدبهم؛ فإن ذلك أحب إليّ من كثير من الحديث». [تذكرة السامع والمتكلم (5)].
وأوصى آخر ابنه: «يا بني لأن تتعلم بابًا من الأدب أحب إليّ من أن تتعلم سبعين بابًا من أبواب العلم»، وقال شبيب: «اطلب الأدب فإنه زيادة في العقل، ودليل على المروءة» [شرح منظومة الآداب للحجاوي (60)].
وقال ابن المبارك: «لا ينبل الرجل بنوع من العلم مالم يزين عمله بالأدب»، وكان ابن سيرين يقول -مزدر نفسه-: «نحن إلى كثير من الأدب أحوج منا إلى كثير من العلم» [تذكرة السامع والمتكلم (5)] يقول هذا وهو في زمانه!!، فلعمري ما نحن قائلون في هذا الزمان؛ التي أصبحت فيه هذه القيم من التراث الذي يُقرأ في الكتب والمصنفات، ولا يلتزم به إلا القلة من أهل الدين والمروءات.
ولهذا كان السلف إذا أَتَوُا الرجلَ ليأخذوا عنه العلم، نظروا إلى سمته وهديه وحاله ثم أخذوا عنه، لأنَّ فاقد الشيء لا يعطيه، والإناء ينضح بما فيه.
وإنَّ هذا الأمر ليتأكد على من كان قدوة للناس معلِّمًا لهم، حتى لا يؤتى العلم من قبله، فيسيئ إليه-إلى العلم- قبل أن يسيء لنفسه، فعليه «أنْ يصون العلم كما صانه علماء السلف ويقوم له بما جعله الله تعالى له من العزة والشرف» [تذكرة السامع والمتكلم (11)].
وهكذا السلفي الذي يمثل منهاج النبوة، ويعكس خلق السلف والصُّحبة، عليه أن يُعنى بهذا الباب أشدَّ العناية، وأنْ يكون نَبِهًا من أهل الكياسة والفطانة، فهو هدف ومرمى لأهل الرماية ممن شُغْلُهُم تتبُّعُ العثرات -ومع الأسف- نسبتها لهذا المنهج وأئمته.
وإنَّ مما تساهل فيه بعض إخواننا -ولا أقول بعض عوامِّنا- إطلاق اللسان وإرساله يعبث كيف شاء، مكثرا به المزاحَ مبالغا فيه، موردا نفسه بذلك الموارد، فإنَّ ما تقرر عادة أنَّ من أطلق لسانه صَعُبَ عليه أن يملكَ أمرَه ويحكمَه، قال ابن رجب -رحمه الله- بعد حديث النبي ﷺ لمعاذ: «.. وهل يكب الناس في النار إلا على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم» [الترمذي (2616) وقال حسن صحيح]، «هذا الحديث يدل على أن كف اللسان وضبطه وحبسه هو أصل الخير كله، وأن من ملك لسانه، فقد ملك أمره، وأحكمه وضبطه» [جامع العلوم والحكم (274)]، ولا يفهم من هذا أنَّ المزاح مقتصر على هذا العضو فحسب، وإنما هو الغالب فيه، خاصة «وأنه أمير البدن إذا جنى على الأعضاء شيئا؛ جنت، وإذا عف عفت»، [الصمت لابن أبي الدنيا (59)].
لذا كان من المستحسن عرض هذه الخصلة على ميزان الهدي الذي «هو الميزان الأكبر وعليه تعرض الأشياء -على خُلُقِهِ وسيرته وهديه- فما وافقها فهو الحق وما خالفها فهو الباطل» كما قال ابن عيينة -رحمه الله- [تذكرة السامع والمتكلم (5)]، نحاول من خلال ذلك إبراز بعض القيود والضوابط المهمة، التي يميَّز بها بين المكروه منه والمباح، راجين من الله تعالى العون والسداد.
والمزاح في أصل اللغة هو الدُّعابة، وهو نقيضُ الجِدِّ [لسان العرب (2/593)]، وقيل هو المباسطة إلى الغير على جهة التلطف والاستعطاف، دون أذية. [تاج العروس (7/117)].
والمزاح إذا كان من باب ترويح النفس من المداعبة والمباسطة والتلطف بشرطه وضبطه، وخلا من المحاذير الشرعية في ذاته، أو ما يترتب عليه من المفاسد، فقد دلّ الهدي على مشروعيته، بل قد يقال باستحبابه لما فيه من تأليفٍ بين القلوب وتقويةٍ للروابط مع الأهل والأولاد والأصحاب، قال القاري: «صرَّح العلماء بأنَّ المزَاح -بشرطه- من جملة المستحبَّات» [مرقاة المفاتيح (9/3722)]، وقيل لسفيان بن عيينة: المزَاح هُجنة. فقال: «بل سنَّة، ولكن الشَّأن فيمن يُحسِنه، ويضعه مواضعه» [اللطائف والظرائف (151)].
فقد كان النبي ﷺ يمازح أصحابه، فعن أبي هريرة قال: قالوا: يا رسول الله، إنك تداعبنا، قال: «إني لا أقول إلا حقا»[رواه الترمذي (1990) وقال:«هذا حديث حسن»] وفي حديث ابن عمر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله ﷺ: «إنِّي لأمزح، ولا أقول إلَّا حقًّا».[الطبراني (13443) وصححه الألباني]
ومن مزاحه ﷺ ما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: كان النبيُّ ﷺ أحسنَ الناسِ خُلُقًا، وكان لي أخٌ يُقالُ له أبو عُمَيرٍ -قال: أحسِبُه- فَطيمٌ، وكان إذا جاء قال: «يا أبا عُمَيرٍ، ما فعَل النُّغَيرُ؟ نُغَرٌ كان يَلعَبُ به». [البخاري (6129) ومسلم (2150)].
قال ابن حجر: «وفيه جواز الممَازَحة، وتكرير المزْح، وأنَّها إباحة سنَّة لا رخصة، وأنَّ مُمَازَحة الصَّبي الذي -لم يميِّز- جائزة، وتكرير زيارة الممْزُوح معه، وفيه ترك التَّكبُّر والتَّرفُّع، والفرق بين كون الكبير في الطَّريق فيتَوَاقَر، أو في البيت فيَمْزَح». [فتح الباري (10/584)].
وعن أنس -رضي الله عنه- أنَّ النبيَّ ﷺ احتضن زاهرًا -رضي الله عنه- مِن خلفه وجَعَل يقول: «مَن يشتري العبدَ»، فقال: يا رسولَ الله، إذًا واللهِ تَجِدني كاسدًا، فقال النبي ﷺ: «لكن عندَ الله لستَ بكاسِد»، أو قال: «لكن عندَ الله أنتَ غالٍ». [رواه أحمد (12648)].ففيه ممازحة النبيّ ﷺ زاهرًا والتحرَّيج عليه في السوق.
وكان الصحابة -رضي الله عنهم- يَتمازحون فيما بَيْنهم قال بكرُ بن عبد الله المُزنيُّ: «كان أصحابُ النبي ﷺ يَتبادَحون بالبِطِّيخ، فإذا كانتِ الحقائقُ كانوا هُم الرِّجال» [رواه البخاريُّ في الأدب المفرد (266) بإسناد صحيح].
وعلى هذا أهلُ العلم من سلَف هذه الأمَّة وخلفها يُمازِحون أحيانا؛ فقد سأل رجلٌ الشَّعبيَّ: ما اسمُ امرأَة إِبليس؟ فقال: ذاك نِكاحٌ ما شهدْناه.
وهكذا مَنْ حضرنا مجالسه مِنْ مشايخنا؛ يمازحون طلابهم أحيانا وينقلون الأخبار الطريفة يلطفون بها من جو الدرس قليلا، وكان شيخنا الشيخ عبد المحسن العباد -حفظه الله- يذكر قصة السكران الذي ذهب السكر بعقله، وفيها أنه يبول في يديه ويقول: {الحمد لله الذي أنزل من السماء ماء طهورا}، ينقلها عن شيخه الشيخ محمد الأمين الشنقيطي -رحمه الله-، فإن هذا مما يستحسن خاصة في بعض الدروس التي تكون مادتها دسمة، وتحتاج إلى شيء من التركيز وشدة الانتباه.
فعلى ما ورد وشاكلته يكون المزاح من قبيل المشروع المرغب فيه أحيانا، أما إذا تلبس بمحرم من المحرمات أو أدَّى إلى مفسدة من المفاسد -على الغير أو النفس- فقد يأخذ حكم هذا المحرم وهذه المفسدة، وأخفُّ أحواله أن يندرج في المكروهات التي يترفع عنها طلاب العلم -على وجه الخصوص-.
قال النَّوويُّ -رحمه الله-: «اعلم أنَّ المزَاح المنهيَّ عنه، هو الذي فيه إفراط ويُداوَم عليه، فإنَّه يُورث الضَّحك، وقسوة القلب، ويُشغل عن ذكر الله، والفِكْر في مهمَّات الدِّين، ويؤول في كثيرٍ من الأوقات إلى الإيذاء، ويُورث الأحقاد، ويُسقط المهابة والوَقار، فأمَّا ما سَلِم مِن هذه الأمور، فهو المباح الذي كان رسول الله ﷺ يفعله على النُّدرة؛ لمصلحة تَطْيِيب نفس المخَاطب ومؤانسته، وهو سنَّةٌ مستحبَّة». [الأذكار (1/326)].
قيل لسفيان بن عيينة: المزَاح هُجنة. فقال: «بل سنَّة، ولكن الشَّأن فيمن يُحسِنه، ويضعه مواضعه» [اللطائف والظرائف (151)].
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: «المتحدث بأحاديث مفتعلة ليضحك الناس أو لغرض آخر عاص لله ورسوله، وقد روى بهز بن حكيم عن أبيه عن جده عن النبي ﷺ قال: «إن الذي يحدث فيكذب ليضحك القوم ويل له ويل له ثم ويل له»، وقد قال ابن مسعود: «إن الكذب لا يصلح في جد ولا هزل»، ولا يَعِدُ أحدكم صبيَّهُ شيئا ثم لا ينجزه، وأما إن كان في ذلك ما فيه عدوان على مسلم وضرر في الدين فهو أشد تحريما من ذلك، وبكل حال ففاعل ذلك مستحق للعقوبة الشرعية التي تردعه عن ذلك». [مجموع الفتاوى (32/256)].
- وأول ما ينبغي أن يجتنبه المازح وأعظمه أن يكون المزاح برأس مال المسلم -بدينه وعقيدته-، فدين المرء لا مجال فيه للمزاح واللعب، وقد يؤدي هذا إلى تضييعه والخروج به من دائرة الإسلام -والعياذ بالله-، قال سبحانه: {ولئن سألتهم ليقولن إنما كنا نخوض ونلعب قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤون لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم} [التوبة:65]، قال السعدي -رحمه الله-: «فإن الاستهزاء بالله وآياته ورسوله كفر مخرج عن الدين لأن أصل الدين مبني على تعظيم الله وتعظيم دينه ورسله، والاستهزاء بشيء من ذلك مناف لهذا الأصل ومناقض له أشد المناقضة». [تفسير السعدي (342)].
ويلحق بهذا ما تعلق ببعض شرائع الدين ومصطلحاته التي لا هزل فيها ولا مزح، كالطلاق والعتاق والنكاح، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-قال: قال رسولُ الله ﷺ: «ثلاثٌ جِدُّهنَّ جِدٌّ، وهَزْلهنَّ جِدٌّ: النِّكاح، والطلاق، والرَّجْعة».[أبوداود (2194) والترمذي (1220) وحسنه الألباني].
- ويتجنب المازح الوقوع في الكذب المحرَّم لإضحاك الآخرين، فقد كان رسول الله يمازح أصحابه ولا يقول إلا حقا، وقال ﷺ فيما صح عنه: «ويل للذي يحدِّث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ثم ويل له». [أبوداود (4990) والترمذي (2315) وقال: «حديث حسن»]، وفي هذا وعيد شديد -نسأل الله السلامة والعافية-.
قال المناوي -في الحكمة من تكرار الويل في هذا الحديث-: «كرره إيذاناً بشدة هلكته، وذلك لأن الكذب وحده رأس كل مذموم وجماع كل فضيحة، فإذا انضم إليه استجلاب الضحك الذي يميت القلب ويجلب النسيان ويورث الرعونة كان أقبح القبائح، ومن ثم قال الحكماء: إيراد المضحكات على سبيل السخف نهاية القباحة» [فيض القدير (6/368)].
وقال رسولُ الله ﷺ: «أنا زعيمٌ ببيْت في رَبَض الجنة لِمَن ترَك المراءَ وإن كان محقًّا، وببيت في وسطِ الجنة لمن ترَك الكذب وإنْ كان مازحًا، وببيت في أعْلى الجنة لمن حَسَّنَ خُلقَه» [رواه أبو داود (4800) وحسنه الألباني].
- كما يتجنب المازح السخرية والاستهزاء والازدراء بالآخرين وكذا التنابز بألقابهم فهذا مما حرمه المولى -جل وعلا-أصالةً فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.[الحجرات:11].
- وليحذر المازح من أذيِّة الآخرين وتخويفهم وترويعهم في مزاحه والنبي ﷺ يقول: «لا يحل لمسلم أن يروع مسلماً» [رواه أبو داود (5004) وصححه الألباني]. يروعه على أي حال من الأحوال ولو على سبيل المزاح، خاصة ممن ثبت عجزه ومرضه؛ لأنّ هذا المزاح الثقيل قد يسبب له ضررا زائدا من حيث يظن المازح أنه بفعله هذا قد يخفف عليه، خاصة إذا صحب ذلك استعمال أدوات خطيرة قد تلحق الضرر الكبير بالآخر، وفي هذا يقول النبي ﷺ: «لا يُشيرُ أحدُكم على أخيه بالسلاح، فإنَّه لا يَدْري لعلَّ الشيطان يَنزِع في يده فيَقع في حُفرة من النار» [رواه البخاري (7072) ومسلم (2617)].
قال خالد بن صفوان: «يصكُّ أحدُكم صاحبَه بأشدَّ مِن الجندل، ويَنشَقُه أحرقَ مِن الخردل ويُفرِغ عليه أحرَّ مِن المِرْجَل، ثم يقول: إنما كنتُ أمازحك!» [أدب الدنيا والدين (310)].
وقد ابتلي المسملون ببعض البرامج التلفزيونية التي جمعت أنواعا من المحاذير الشرعية، تحت غطاء الترفيه والتسلية والمزاح، والأشد من ذلك والأقبح أن يرتبط بث هذه البرامج بشهر العبادة والقرآن، والله المستعان.
- وليحرص المازح على ألا يسرق متاع غيره ممازحا له فقد ورد النهي عن النبي ﷺ من ذلك: «لا يأخُذنَّ أحدُكم متاعَ صاحبه جادًّا ولا لاعبًا، وإذا وجد أحدُكم عصا صاحبه فلْيردُدْها عليه». [رواه أحمد (17184) وغيرُه بإسناد صحيح].
قال الزركشيُّ في المنثور (2/ 380): «إذا أخَذ مال غيرِه مازحًا ولم يقصدِ السرقة حَرُم عليه».
- كما ينبَّه المازح على عدم التشبه بالنساء في مزاحه، كما يفعله بعض خفاف العقول والأحلام -نسأل الله السلامة والعافية- فعَن أَبي هُرَيرَةَ -رضي الله عنها-قَالَ: «لعن رسولُ اللَّهِ ﷺ الرَّجُلَ يلبسُ لِبْسَةَ المرأة، والمرأة تلبس لِبْسَةَ الرَّجُل» [رواه أبو داود (4098)]
وقالت ِعَائِشَةُ -رضي الله عنها-: «لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ الرَّجُلَةَ مِنْ النِّسَاءِ» [رواه أبو داود (4099)].
قال المناوي -رحمه الله-: «فيه كما قال النووي: حرمة تشبه الرجال بالنساء وعكسه؛ لأنه إذا حرم في اللباس ففي الحركات والسكنات والتصنع بالأعضاء والأصوات أولى بالذم والقبح، فيحرم على الرجال التشبه بالنساء وعكسه في لباس اختص به المشبه، بل يفسق فاعله للوعيد عليه باللعن». [فيض القدير " (5 / 343)].
- وإن مما يجب أن يراعيه المازح في مزحه معرفة قدر نفسه، فإنْ كان من أهل القدر والعلم بالغ في حفظ لسانه وزِنَةِ أفعاله؛ حفظا لهيبته ورعاية لجَنَابه وإكراما لما يحمله،قيل: «احذر فلتات المزاح، فسَقْطَة الاسترسال لا تُقَال» [محاضرات الأدباء 1/346].
وقال بعض الحكماء: «مَن كثُر مزاحُه زالتْ هيبته»، وقال ابن جماعة تنبيها على هذا الملحظ -أثناء حديثه على ما يجب أن يلتزمه العالم في نفسه ومجلسه-: «ويتَّقي المزاح وكثرة الضحك فإنه يقلل الهيبة ويسقط الحشمة، كما قيل: من مزح استخف به ومن أكثر من شيء عرف به». [تذكرة السامع والمتكلم (19)].
-كما عليه-المازح- أن يراعي قدر غيره، فإن البعض -هدانا الله وإياه- يمزح مع الكل بدون اعتبار، فللعالم حقه وقدره، وللكبير مكانه ومنزلته كذلك، وكلٌ يعامل على حسَبِهِ ومكانته، وعليه أنْ يتجنب مزاح الأحمق والسفيه الطائش خاصة في المجامع العامة أمام الناس؛ لأنه قد يصيبك بدائه فتوصف بوصفه، قال سعيد بن العاص لابنه: «يا بُنَيَّ، لا تُمَازِح الشَّريف، فيحقد عليك، ولا تُمَازِح الدَّنيَّ، فيجترئ عليك». [الصمت لابن أبي الدنيا (211)].
- كما يجب على المازح أن يراعي مكان مزحه، فيعرف قداسة مكان العبادة ومجالس العلم، ويميّز بين المجالس العامة التي يحضرها الحاضر والبادي والتي تجمع أعيان الناس وكبارهم، وبين غيرها أما إذا خلا بين خواصِّه وأهله وأولاده كان له شأن آخر وحال مغاير فيه شيء من الانبساط والمداعبة والمزاح.
- وعلى المازح أن يراعي وقت مزاحه كذلك، فإن ذلك مما لا يصلح وقت الأحزان والمآتم، ولا وقت الجدِّ والنوازل، قال الشاعر:
ألا رُبَّ قولٍ قد جرى من مُمَازح *** فساق إليه الموت في طَرْف الحبلِ
فإنَّ مِزَاحَ المرءِ في غيرِ حينِه *** دليلٌ على فرطِ الحَمَاقةِ والجهلِ
- ثم يجدر التنبيه في آخر هذه التنبيهات إلى أمر هو من الأهمية بمكان، وما أخرناه إلى لهذا القصد من البيان، إضافة إلى تعلُّقه بجميع ما تقدم من التبيهات؛ وهو عدم الإكثار من المزاح والمبالغة فيه، وعليه تحمل الآثار الواردة في ذمِّه والنهي عنه، من مثل قولهم: «اتقوا المزاح، فإنه يذهب المروءة»،
وقال الشاعر:
ولا تمزحْ فإنَّ المزحَ جهلٌ *** وبعضُ الشَّرِّ يبدؤُه المزَاحُ
فهو كالمِلْح إذا زاد أفْسَد، وفي هذا يقول أبو الفتح البُستي:
أعد طبعَك المكْدُود بالهمِّ راحة *** قليلًا وعلِّله بشيء من المزْحِ
فإن كثرته بذرة العداوة وإيغار الصدور وأول أسباب القطيعة والنفور، كما أنَّ كثرته تسقط قدرَ الشخص وتكسر هيبته، وقد قيل: «المزاح يأكُل الهيبة كما تأكُل النارُ الحطب».
وقال بعض الحكماء: «مَن كثُر مزاحُه زالتْ هيبته، ومَن كثُر خِلافُه طابتْ غُيبتُه».
لذا قال سعد بن أبي وقاص: «اقتصر في مزاحك، فإن الإفراط فيه يُذهب البهاء، ويجرّئ عليك السفهاء» [أدب الدنيا والدين (310)].
قال المرتضى الزبيدي: «قال الأئمَّة: الإكثار منه، والخروج عن الحدِّ، مخلٌّ بالمروءة والوَقَار، والتَّنزُّه عنه بالمرَّة والتَّقبُّض، مخلٌّ بالسُّنَّة والسِّيرة النَّبويَّة المأمور باتِّباعها والاقتداء، وخير الأمور أوسطها» [تاج العروس 7/117].
هذا ما تيسر إبرازه وجمعه من كلام أهل العلم والفضل في هذه الخصلة التي اتضح أنها ذو حدين، وتحمد بشرطها وضبطها، وتذم بالتعدي والإفراط فيها، فالعاقل من عرف ذلك والتزمه ونأى بنفسه عما يرديه ويسوءه، فاللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، والحمد لله رب العالمين.
كتبه: أبو أحمد عبد الله سنيقرة
صبيحة يوم الاثنين
لتسعة عشر بقت من شهر رمضان 1440
لتسعة عشر بقت من شهر رمضان 1440
تعليق